الأحد، 2 أغسطس 2015

أردوجان وأوباما، ومن ضحك على الآخر؟

أردوجان وأوباما، ومن ضحك على الآخر؟



شريف عبدالعزيز
السياسة بمفهومها الغربي ــ العلماني ــ لا تعترف بما يسمى الأيديولوجية ، فهي العدو اللدود للعبة السياسية ، التي لا تعترف بالعلاقات الدائمة أو العداوات الدائمة ، فقط المصالح الدائمة ، فالنفعية أو البرجماتية هي التي تتحكم في مسارات اللعبة الدولية.

والأيديولوجية تقف حائلا دون إتمام كثيرا من الصفقات والعلاقات الدولية ، لذلك فكل نظام سياسي في العصر الحديث قام على الأيديولوجية لم يكتب له الصمود في عالم برجماتي متوحش لا يقبل إلا بالمردودات النفعية والمصالح المتوقعة .

هذه الحقيقة أدركها قادة حزب العدالة والتنمية التركي وهم يؤسسون لحزبهم الجديد بعد أن تم حل حزبهم القديم ــ حزب الرفاه ــ بعد الانقلاب العسكري عليه سنة 1995 بسبب النفس الأيديولوجي الواضح للراحل الكبير نجم الدين أربكان.
فجاء تلاميذ أربكان بنهج مغاير لأستاذهم ، وأصبح الحزب الجديد حزبا قوميا محافظا في عهد أردوجان ، بعد أن كان إسلاميا أمميا في عهد أربكان . ووضع أردوجان في هذا الإطار يجيب على كثير من التساؤلات ، ويحل كثيرا من الاشكاليات التي تثار على مواقف أردوجان الأخيرة .

فسلسلة الأحداث والتغيرات الدولية الإقليمية شهدتها المنطقة في الأشهر الأخيرة أدت إلى تعميق ريبة تركيا من وجود مؤامرة دولية لتوريط تركيا في وحل سوريا بالدخول في حرب مفتوحة وبرية مع داعش بسوريا ، والعمل على تحجيم نفوذها في المنطقة بمثل هذه المواجهات العسكرية التي تؤدي لكثير من الخسائر الداخلية والخارجية ، مما حدا بالأتراك لرفض هذه المشاركة وربطها بإقامة منطقة عازلة في شمال سوريا ، وهو ما كانت أمريكا ترفضه بشدة.

فسياسة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحكومته شهدت في الأشهر الأخيرة تراجعاً واضحاً في المنطقة، في ظل انحصار نفوذ قوى الثورات العربية التي دعمتها تركيا في العالم العربي، مقابل صعود تيار ما بات يعرف بـ"الثورات المضادة" المعادي لها بشكل واضح ، كان أبرز تجليات هذا التراجع في «الفشل الكبير» الذي تلقته أنقرة بحصولها على 60 صوتاً فقط من أصل 193 دولة هم أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة، في التصويت الذي جرى لمنح مقاعد غير دائمة لخمس دول جديدة في مجلس الأمن الدولي قبل عدة أشهر.

ثم الضربة الموجعة في الانتخابات البرلمانية والتي حقق فيها الحرية العدالة أسوأ نتائجه منذ عشر سنوات ، وفقد الأغلبية اللازمة للانفراد بتشكيل الحكومة، وتعتمت الأجواء السياسية في تركيا بصورة استحضرت شبح التوترات في الثمانينيات والتسعينيات .
ثم كانت ثالثة الأثافي بسيطرة الأكراد في سوريا على أجزاء كبيرة في شمال سوريا ، وجاء انتصار الأكراد في تل أبيض التي كان يسيطر عليها تنظيم الدولة ليمنحهم فرصة لربط ثلاثة جيوب كردية مع بعضها البعض في دويلة "روجوفا"، التي أفرزتها التغيرات التي تشهدها خريطة الشرق الأوسط. ورئيسها أكرم حسو هو رئيس ما يسمى بـ"المجلس التنفيذي لمقاطعة الجزيرة ، وبالنظر إلى حجم مكتبه والمسؤوليات التي يتولاها، ينظر الأكراد والأتراك على حد السواء إلى أن أكرم حسو رئيس دولة وليس قائد كردي محلي ، فهو يتحدث عن سياسات اقتصادية وضرائب على التصدير وجنود يحرسون الحدود وفرض النظام والقانون وتوفير الأمن لأبناء الدولة.

ومن ثم كان القرار المثير الذي أتخذه أردوجان بالتعاون مع التحالف الدولي في قتال داعش بسوريا ، وفتح قاعدة أنجيرليك الجوية لطائرات التحالف لقصف مواقع داعش في شمال سوريا ، وذلك في أعقاب تفجير مدينة سروج التركية والذي خلّف أكثر من 30 قتيلا كرديا . هذا القرار الذي اعتبره الإسلاميون وأنصار الثورات في المنطقة بأنه خيانة عظمى للثورة السورية ، وللدين الإسلامي قبلها ، إذ كيف يقبل أردوجان ما ظل يعارضه ويمتنع عن المشاركة فيه لأسباب كثيرة ساقها وساقها رجال حكومته وحزبه في مواطن كثيرة ، بأن التورط في سوريا سيصب في صالح بشار وجنوده !! .

أردوجان كما قلنا قوميا محافظا ، وليس إسلاميا أمميا ، لذلك فقضايا الأمن القومي عنده ، تحتل المكان الأول في أجندة الأولويات ، فهو لا يريد أن يكرر أخطاء سلفه أربكان ، بالدخول في إطار الأيديولوجية الذي يمنعه من التورط في مثل هذه الحروب.

فقيام كيان كردي في شمال سوريا يمثل أسوأ كوابيس الأمن القومي التركي ، فدويلة " روجوفا " المزعومة أقيمت على 10% فقط من سوريا ، في حين أن مثل هذه الدويلة لو امتدت إلى تركيا فستلتهم 40% من جنوب تركيا . لذلك فالمسألة الكردية هي خط أحمر متوهج ليس في السياسة التركية فحسب ، ولكن في المجتمع التركي ككل . فهي المسألة التي لا تقل نقاشا أو مجادلة . ومن ثم كان القرار الذي لا مناص منه.

الاتفاق الذي أبرمه أردوجان مع أباوما والذي اعتبره كثير من المراقبين بأنه تراجع وتنازل من أردوجان أمام الضغوط الأمريكية على تركيا من أجل الدخول في الحرب ضد داعش ، وأنه دليل على تراجع نفوذ تركيا في المنطقة وخضوع أردوجان للإرادة الأمريكية التي تريد قتال داعش بالوكالة الإقليمية ، هذا القرار بالمشاركة من وجهة النظر السياسية المحضة مليئ بالفوائد والمنافع لحزب العدالة والتنمية وزعيمه أردوجان .

فالهدف الرئيسي للمشاركة التركية : قتال داعش ، ولكن الأهداف الحقيقة أهم وأكبر من ذلك ، ومن أهمها :
إقامة منطقة عازلة في الشمال السوري ، فقد نقلت صحيفة "وول ستريت جورنال" عن مسؤولين أتراك وأميركيين أن الاتفاق على السماح للطائرات الأميركية باستخدام القواعد التركية لضرب مسلحي تنظيم الدولة الإسلامية يمهد الطريق لإنشاء منطقة حظر جوي، بحكم الأمر الواقع، في شمال سوريا ، ويعتمد التفاهم الأخير على الجيش الحر المدعوم من الغرب للمساعدة في السيطرة على منطقة عازلة على طول الحدود التركية، وقد تعهدت تركيا باستخدام الطائرات المقاتلة F-16 للمساعدة في طرد مقاتلي تنظيم داعش من منطقة آمنة بطول حوالي 55 ميلا وعمق 25 ميلا ، وإذا استطاع الثوار من السيطرة على هذه المنطقة، فسوف تكون محمية من قبل الضربات الجوية للتحالف، وعلى هذا يمكن للاجئين السوريين وعددهم ما يقرب من مليوني شخص يعيشون في تركيا، العودة إلى بلدهم ، وبالتالي يخف الضغط الكبير على الاقتصاد والداخل التركي من جراء استقبال هذا العدد الضخم من اللاجئين. في حين يصرَ مسؤولون أمريكيون على أن الصفقة لن تؤدي إلى إنشاء منطقة حظر الطيران، إذ إن هذا سوف يحتاج إلى دعم من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، حيث من المرجح أن تعارض روسيا والصين ذلك .ولكن القوة العسكرية عادة ما تفرض سياسة الأمر الواقع .

ومنها أيضا إجهاض الطموحات الكردية المتصاعدة نحو تأسيس دويلة كردية في المنطقة ، بتوجيه ضربات مكثفة ضد موقع حزب العمال الكردي في سوريا وذراعه العسكري الاتحاد الديمقراطي الكردي ، وهو ما برهنت عليه سير العمليات القتالية ، ففي كل ضربة توجهها الطائرات التركية لمواقع داعش ، توجه عشر ضربات إلى موقع حزب العمال الكردستاني في سوريا ، مما دعا بحزب العمال لإعلان وقف عملية السلام الجارية منذ عدة سنوات ، والعودة لاستهداف قوات الأمن التركية، مما ينذر بعودة الحقبة المؤلمة المليئة بالدماء والتفجيرات في الثمانينيات والتسعينيات من القرن المنصرم . ورغم ارتفاع تكلفة هذا الخيار إلا إنه يمثل من وجهة نظر العسكرية التركية حلا جذريا وقضاء مبرما على الطموحات الكردية .

ومنها أيضا تجاوز أزمة الانتخابات التركية الأخيرة والتي شهدت تراجعا لحزب العدالة والتنمية ،وصعودا لحزب الشعوب الكردي ، والذي حصل على نسبة 13% من مقاعد البرلمان ، مما أفقد العدالة والتنمية الأغلبية اللازمة لتشكيل الحكومة منفردا ، والأهم من ذلك أجهض طموحات أردوجان نحو كتابة دستور جديد للبلاد يتم تغيير شكل النظام السياسي في البلاد من برلماني إلى رئاسي . فجاءت المشاركة في العمليات القتالية بسوريا والاستهداف المباشر للأكراد بسوريا لتثير حفيظة الأكراد في تركيا وتعيد أجواء التوتر والشك المتبادل ، وبالفعل دعا حزب الشعوب الكردي البرلمان لجلسة طارئة لمناقشة الضربات التركية للأكراد في سوريا ، مما أوقع الحزب ورئيسه تحت مقصلة الاتهامات الداخلية بالتآمر على أمن الدولة ، والتعاون مع منظمة ما زالت تركيا تعتبرها منظمة إرهابية ، وهذا التوتر الداخلي سيدفع حتما ناحية انتخابات جديدة مبكرة، بعد أن أصبحت مشاورات التحالف بين الأحزاب خاصة العدالة والشعوب في خبر كان ، انتخابات سيكون أكبر الخاسرين فيها هو حزب الشعوب الكردي لظهوره بمظهر الحركة الانفصالية ، والمساند لحزب العمال الشيوعي الارهابي الذي عاد لاستهداف قوات الأمن التركية ، في حين سيكون حزب العدالة والتنمية هو أكبر الفائزين بظهوره بمظهر حامي حمى الأمن القومي التركي ، والرجل القوي المدافع عن الثغور التركية والذي حقق المعادلة الصعبة بالجمع بين القومية التركية ، والتقليدية المحافظة .

أوباما استغل انفجار مدينة سروج التركية لانتزاع موافقة أردوجان على المشاركة في القتال ضد داعش ، ولكن الحقيقية أن أردوجان نفسه هو استغل الحادث لفرض منطقة عازلة في شمال سوريا، منطقة ينقل إليها العبء الثقيل لمليوني لاجئ سوري بأراضيه ، وتكون قاعدة للثوار السوريين للقتال ضد الأسد ، وقاعدة إجهاض متقدمة للأطماع والطموحات الكردية بدويلة روجوفا المزعومة هناك .

فالواقع أن أردوجان هو الذي ضحك على أوباما ، وليس أوباما هو الذي ضحك عليه ، والنتائج على الأرض في الأيام المقبلة ستكشف عن ذلك جليا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق