طبخة خرائط المنطقة في طور التنفيذ
إذا صح أن «الطبخة» أوشكت على النضوج وأن أوان رسم خرائط جغرافية المنطقة قد حان، فلا ينبغي أن ننسى أن الشعوب العربية هي وحدها التي ستصنع تاريخها.
(1)
يبدو اننا بصدد الانتقال من الحديث عن إعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط إلى محاولة تنزيل التشكيل الجديد على الأرض، برغم انه لا تتوافر لدينا أدلة كافية عن العلاقة بين توقيع اتفاق الولايات المتحدة والدول الكبرى مع إيران، وبين المرحلة التي نحن بصدد الدخول فيها، إلا اننا لا نستطيع ان نغفل دلالة تتابع التحركات التي نحن بصددها مباشرة بعد توقيع ذلك الاتفاق.أبرز هذه التحركات التي تتفاعل الآن تمثلت في ما يلي:
ـ دخول تركيا على خط المواجهة العسكرية ضد تنظيم «داعش» وضد «حزب العمال الكردستاني» في الوقت نفسه، وقبولها فتح قاعدة «انجرليك» في جنوب تركيا لطائرات التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة.وفى مقابل هذه الخطوة، فإن تركيا حققت أحد أهدافها المهمة التي تمثلت في الاستجابة لمطلبها إقامة منطقة عازلة داخل الأراضي السورية، (بطول مئة كيلومتر) تشكل منطلقا لعناصر معارضة نظام الأسد.
ـ في حين ألقت تركيا بثقلها على جبهة الحرب، فإن جهدا مثيرا للاهتمام برز على جبهة السلام النسبي في المنطقة. إذ شهدنا على ذلك الصعيد تحركات سعودية وروسية وأميركية عدة. وجاءت الإشارة العلنية الأولى حين زار الأمير محمد بن سلمان ولي ولي العهد السعودي روسيا واجتماعه مع الرئيس بوتين في بطرسبورغ في شهر حزيران الماضي.
وبعد ذلك عقد اجتماع في الدوحة لوزراء خارجية الولايات المتحدة وروسيا والسعودية، ورتب اجتماع آخر في موسكو لوزير الخارجية السعودي مع نظيره الروسي.
في الوقت ذاته، فوجئنا بخبر زيارة علي مملوك رئيس المخابرات السورية للرياض، وزيارة وزير الخارجية السوري وليد المعلم لسلطنة عُمان، التي استقبلته لأول مرة منذ 4 سنوات.
كما تسربت أنباء عن زيارة قام بها لموسكو الجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني.
ـ بالتوازي مع ما سبق، شهدت سلطنة عُمان في بداية هذا الأسبوع اجتماعات لبحث الأزمة في اليمن، حيث توجه إليها ممثلون عن «أنصار الله» (الحوثيون) والرئيس السابق علي عبد الله صالح، للالتقاء هناك مع المبعوث الدولي اسماعيل ولد الشيخ.
وفيما فهمت، فإن الهدف الأساسي لتلك الاجتماعات هو ترتيب وقف إطلاق النار في اليمن والبدء في الانتقال إلى حل سياسي للأزمة.
حدث ذلك في الوقت الذي صرح فيه وزير الخارجية السعودي عادل الجبير بأن الحوثيين فصيل سياسي في اليمن له حقه في الوجود والمشاركة.
في الوقت ذاته، عقد بعض قيادات «حزب المؤتمر» اجتماعات في القاهرة لتشكيل لجنة تحضيرية للمؤتمر العام للحزب وانتخاب رئيس جديد له بديلا عن علي عبد الله صالح، وينتظر ان يعقد المؤتمر خلال الشهر المقبل إما في عدن أو في تعز.
ـ قبل زيارة سلطنة عُمان، شهد اليمن تطورا داخليا مهما، حيث تم إخراج الحوثيين من عدن وفتح مطار المدينة الذي بدأ باستقبال الطائرات تحت حراسة قوات التحالف.
وبرغم ان الأوضاع لم تستقر تماما في المحافظة، إلا أن التقارير تحدثت عن تحرير لحج وتقدم قوات المقاومة الشعبية التوافق صوب تعز وأبين ومأرب. وهناك خشية من وصول المواجهات إلى صنعاء قبل التوصل إلى حل سلمي يوقف القتال، لأن من شأن ذلك إغراق العاصمة في بحر من الدماء والدمار.
(2)
على صعيد آخر، أعلنت الأمم المتحدة في منتصف شهر تموز ان الأطراف الليبية وافقت على مسودة الاتفاق لحل الأزمة السياسية في البلاد، وان ممثلي تلك الأطراف قاموا بالتوقيع على اتفاق السلام الذي تم التوصل إليه في «الصخيرات» ــ المنتجع المغربي ــ برعاية مبعوث الأمم المتحدة برناردينو ليون. إلا أن هذه لم تكن نهاية المطاف، لأن الخلافات ظهرت بين الفرقاء بعد التوقيع. ففي طبرق، حيث توجد الحكومة ومجلس النواب ومجموعة «الكرامة» التي يقودها اللواء خليفة حفتر، تبين ان ثمة انقساما بين فريقين، أحدهما مع الحل السياسي وممثلو هذا الفريق هم الذين وقعوا على اتفاق الصخيرات، أما الفريق الثاني فإنه رفض التوقيع وانحاز إلى الحل العسكري وضرورة استمرار المواجهة بالسلاح، ودعا أنصاره إلى إلغاء البرلمان وتشكيل مجلس عسكري لإدارة البلاد بقيادة اللواء حفتر. وهذا الانقسام تكرر في الطرف المقابل المسيطر على طرابلس، والذي تمثله مجموعة فجر ليبيا.
إذ في حين وافقت بعض فصائله على الحل السياسي، في مقدمتها رئاسة «حزب العدالة» والبناء الذي ينسب إلى «الإخوان المسلمين»، فإن مجموعات أخرى من الثوار رفضت الوثيقة وتمسكت بالاحتكام إلى الحسم العسكري.وهو ما حدث أيضا في مصراتة التي تعد إحدى القلاع الأساسية للثورة.
التطور الأهم في ليبيا حدث في «دورته» التي عرفت تقليديا بأنها إحدى قلاع التطرف وكان لتنظيم «داعش» حضوره الظاهر فيها. ذلك ان مجموعات الثوار وفى المقدمة منهم «كتيبة شهداء بوسليم» اشتبكوا مع أنصار «داعش» بعدما قاموا بقتل أحد أبرز الشخصيات العامة في درنة ــ الشيخ ناصر العكر ــ الأمر الذي أدى إلى استنفار مجتمع درنة وتلاحمهم مع الثوار. فاصطف الجميع في مواجهة مسلحة ضد أنصار «داعش» في شهر حزيران الماضي.
وخلال أربعة أيام قاموا بدحرهم وإخراجهم تماما من المدينة، بعدما قتلوا منهم عددا غير قليل واعتقلوا نحو 300 شخص من الدواعش، بينهم عشرة من المصريين (المعلومات الأخيرة تحدثت عن توسط بعض أعضاء برلمان طبرق لإطلاق سراح المصريين المعتقلين).
وجدير بالذكر في هذا الصدد ان أهالي درنة شكلوا من بينهم مجلس شورى الثوار، الذي تولى قيادة حملة مطاردة عناصر تنظيم «داعش».
(3)
ثمة قواسم مشتركة بين تلك المشاهد المتناثرة من أبرزها ما يلي:ـ إن الدول الثلاث ـ سوريا واليمن وليبيا ـ هبت عليها رياح التغيير التي ضربت العالم العربي في العام 2011 وأسقطت النظم التي كانت قائمة فيها.
وما تعرضت لها جراء ذلك يصنف ضمن الانتكاسات التي تعرضت لها دول «الربيع العربي»، وكان إجهاض الأمل في التغيير من أبرز أهدافها.
ـ إن عملية الإجهاض أسهمت فيها عناصر الداخل وقوى الثورة المضادة في العالم العربي بأكثر مما أسهمت فيها التدخلات الخارجية، حتى التدخلات الإيرانية كانت لها ضروراتها الاستراتيجية في سوريا، كما كانت بمثابة «ورطة» استدرجهم إليها الحوثيون.
ـ برغم أن الصراع في جوهره كان سياسيا بين قوى الثورة والثورة المضادة، إلا أن الحرب ضد الإرهاب كانت الذريعة التي أعلنت لإطلاق شرارتها، وهو ما حدث في الدول الثلاث التي أشرت إليها، كما حدث في أقطار عربية أخرى. والوضع القائم في ليبيا نموذجي في التدليل على ذلك. فحركة «الكرامة» التي يقودها اللواء حفتر والتي تلقى دعما وتأييدا من بعض الدول العربية، رفعت شعار الحرب على الإرهاب في البلاد. إلا أن مجلس شورى ثوار درنة حين نجح في طرد جماعة «داعش» بسجلها المعروف في الإرهاب، وشرع في مطاردتهم خارج المدينة التي ساءت سمعتها بسببهم، فإن الذي لاحقهم واعترض طريقهم كانت عناصر جماعة «الكرامة» التي ادعت في البداية انها تحارب الإرهاب.
ـ إن النظام العربي عجز عن ان يقوم بدور احتواء الصراعات التي وقعت في كل قطر، الأمر الذي اقتضى تدخلا دوليا من جانب الأمم المتحدة، وهو ما لم يحقق المراد منه حتى الآن، وهو ما استدعى تدخلات الدول الكبرى والإقليمية والدولية لإنقاذ الموقف. تشهد على ذلك الاجتماعات والمشاورات التي سبقت الإشارة إليها.
ـ بعد مضي نحو أربع سنوات على الصراع الداخلي، فإن المواجهات المسلحة عجزت عن حسم الموقف في الدول الثلاث، الأمر الذي أدى إلى انهاك الجميع فضلا عن الخراب الذى حل بكل بلد جراء الاحتكام إلى السلاح. لذلك لم يكن هناك مفر من اللجوء إلى الحل السياسي الذي يستهدف التوصل إلى حلول وسط ترضي الأطراف المتصارعة بما فيها عناصر الثورة المضادة.
ـ بعد التوقيع على الاتفاق النووي بين المجموعة التي تقودها الولايات المتحدة وبين الإيرانيين، وحسم «الصداع» الذي سببه للجميع البرنامج النووي الإيراني طوال 12 عاما، فإن الأجواء صارت مواتية للنظر في بقية الملفات العالقة في المنطقة. ليس حرصا عليها أو محبة في أهلها، ولكن لتهدئة الأوضاع فيها والانصراف إلى التحدي الأكبر الذي يشغل واشنطن، المتمثل في تعاظم دور الصين وتطلعاتها في شرق آسيا.
(4)
لا نبالغ إذا خلصنا من تلك القرائن إلى أن أوان تنفيذ الخرائط الجديدة قد حل، وأن السؤال الذي بات مطروحا على الجميع هو كيف سيكون شكلها. وأغلب الظن أن الاجتماعات والمشاورات الحاصلة الآن، والتي أشرت إلى بعضها تحاول الإجابة على ذلك السؤال، من ثم فليس بمقدورنا أن نتعرف على مصير الرئيس بشار الأسد مثلا بعدما ظل إسقاط نظامه هدف الصراع المستمر منذ أربع سنوات.
وفى هذه الحالة، هل ستظل سوريا دولة واحدة بعد انسحاب جيش الأسد للدفاع عن الغرب المرشح ليكون حصة العلويين ودولتهم؟ ثم إن هناك قائمة طويلة عن الأسئلة بعضها يتعلق بانفصال جنوب اليمن وحصة الحوثيين في السلطة، والبعض الآخر يخص مصير اللواء حفتر في ليبيا ووحدة الأراضي الليبية، وليس معروفا كيف يكون وضع الأكراد الذين يتعاظم دورهم في المنطقة، وفى أي اتجاه ستمضي العلاقات العربية ــ الإسرائيلية والعلاقات الخليجية ــ الإيرانية...إلخ.
الأسئلة المثارة لا تتعلق بالجغرافيا، لأن الأهم فيها يخص التاريخ. ذلك ان المواطن العربي الذي ألف الحدود الراهنة التي استقرت طوال مئة عام (منذ سايكس ــ بيكو) ليس مشغولا كثيرا بتلك الخرائط، إذ إن مشكلته الكبرى تتمثل في افتقاده إلى الحرية والعدل الاجتماعي وشوقه إلى التقدم والتنمية.
وهي الملفات المستبعدة في الاجتماعات التي تعقد والخرائط التي ترسم.
وهي ذاتها الملفات التي تصدرت لائحة تطلعات «الربيع العربي»، والتي استنفرت قوى الثورة المضادة فحشدت حشودها وشنت حملتها الشرسة لإجهاضها.
لست مع الذين يقولون ان «الربيع العربي» فشل، لكنني أزعم أنه ووجه بحرب ضروس وتلقى ضربات موجعة أصابت الأمل المعقود عليه بانتكاسات متتالية.
وقد سرى عليه ما حل بثورات التاريخ من انتكاسات وخبرات، ومن ثم خسرت الشعوب العربية جولة في مسيرتها نحو المستقبل، ولم تخسر معركتها لأجل الحرية والعدل والتقدم.
وهو ما ينبغي أن نظل نراهن عليه برغم الانسداد المخيم على الأفق وبرغم الظلام الكثيف الذي يحجب أبواب المستقبل.
ولئن حرمنا من ان نجني ثمار «الربيع»، فإن أحدا لا يستطيع أن يمنعنا من أن نحلم به.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق