الحكومات الخفية
طلعت رميح
فالظواهر التي تجتاح الدولة الحديثة في المرحلة الأخيرة،باتت جد مختلفة ولم تعد المفاهيم الكلاسيكية المستقرة صالحة لتفسيرها،سواء في الدول الديمقراطية أو في دول العالم الثالث.
لقد انقلب الحال أو حدث انقلاب.
فلم تعد الدول المتمتعة بالديمقراطية على وضعها القديم من سيطرة وهيمنة المجتمعات على أجهزة الدولة الخفية.
لقد تغلبت أجهزة الدول –خاصة الخفي منها بسبب ما اكتسبته من خبرات طويلة وعوامل استقرار -على دور المجالس التشريعية المنتخبة ومختلف أشكال التنظيمات المدنية والمجتمعية.
صارت الأجهزة الخفية المسنودة إلى قوة الشركات العملاقة هنا أو هناك، هي الأقوى في موازنات القرار،وإلى درجة أن أصبحت تدير حركة المجتمعات، وبما باتت تمسك به من أدوات صناعة وتشكيل الرأى العام والسيطرة عليه وتوجيهه إلى ما تريد أو إلى ما قررت أجهزة الدول –والشركات الكبرى-وما أضاع قوة وقدرة الرأي العام.
لم تعد المجتمعات كيانا قادرا بآلياته الداخلية المستقلة –القديمة-على تحديد خيارات الشعوب وفرض إرادتها وحماية مصالحها والدفع بمن يمثلها في المجالس التشريعية أو الإدارات السياسية.
وفي العالم الثالث، باتت الحكومات الخفية أكثر قدرة وقوة وهيمنة وسيطرة على المجتمعات بأدوات وآليات جديدة، بما استفادته من خبرات أجهزة الدول الديمقراطية.
نقلت الحكومات الخفية في العالم الثالث تلك الخبرات -آليات السيطرة على المجتمعات- وأعادت توظيفها وفق الملامح الديكتاتورية الخاصة بتلك الدول.
لقد أصبحت أجهزة الدولة الحديثة –أو ما يسمى بالدولة العميقة- في وضعية القدرة والخبرة والسيطرة، على نحو جعلها تتحكم في صناعة الرأي العام،وفق آليات متنوعة بلا حصر.
لقد رأينا كيف أدارت مجموعة المحافظين الجدد المجتمع الأمريكي بآليات الخوف خلال غزو واحتلال أفغانستان والعراق.
ورأينا كيف استعاد بوتن سطوة وسيطرة الدولة العميقة والحكومة الخفية في روسيا.
ورأينا وتابعنا كيف أدارت أجهزة الدولة الإيرانية تحت سطوة المعممين،لإنفاذ قراراتها بشأن نتائج الانتخابات الرئاسية،فأحضروا نجاد إلى الرئاسة حيث كان مطلوبا التشدد، وجلبوا الرئيس الحالي إذ تقرر التفاوض مع الغرب.
واليوم نرى ونتابع كيف تجري عمليات الثورة المضادة في دول الربيع العربي عبر آليات خفية تغير توجهات المجتمعات وتنقلها من الارتباط بالثورات إلى الوقوف ضدها،فئة تلو أخرى.
وفي ذلك تبدو سيطرة الحكومات الخفية على أجهزة الإعلام واحدة من أخطر أدوات العصر التي مكنت أجهزة الدول من التحكم في مواقف وآراء وتوجهات المجتمعات وتحريكها من طريق إلى طريق.
غير أن أعمال التفجير والاغتيال وتشكيل التنظيمات الإرهابية أو اعتماد أدوار شركات أمنية خاصة أو اختراق التنظيمات،كلها أمور ملاحظ استخدامها ضمن أدوات الدولة الخفية في إدارة حركة المجتمعات وتغيير توجهات الرأي العام.
وقد كان طبيعياً أن يصل الحال حداً خطيراً في العالم الثالث.
ففي تلك الدول التي حققت الاستفادة من تجارب أجهزة الدول المتقدمة في التحكم في مجتمعاتها وإدارتها بآليات مجتمعية لم تكن هناك نفس درجة المقاومة التي واجهتها ولا تزال المجتمعات الديمقراطية، إذ تمارس دورها في مجتمعات هي ذاتها في وضع أضعف من المجتمعات الغربية التي كانت قد نجحت في كبح جماح أجهزة الدول ووضعها تحت سيطرتها. وهو ما جعل استمرار النظم المستبدة أكثر احتمالا،كما هو ما مكنها من التصدي لعمليات الإطاحة بها عبر التظاهرات السلمية والديمقراطية.
لقد رأينا في منطقتنا عالماً خفياً كامل الإخفاء وحاسماً في إدارة حركة المجتمعات على نحو حاسم.
لقد تشكلت داعش ونهضت في حالة من القوة التي مكنتها من السيطرة على تلك المساحات الهائلة وسط اتهامات بين العديد من أجهزة الدول الخفية بالمسؤولية عن تشكلها وتسليحها دون أن يعرف الناس شيئا حقيقيا، وظهرت أفلام الذبح وأساطير الأشخاص في إخراج هوليودي لا يتوفر إلا لأجهزة الدول القوية المتمرسة.
وقد عاشت مصر عامين كاملين تحت سطوة ما سمي بالطرف الثالث أو اللهو الخفي، وشمل الأمر وقوع مذابح أثرت وغيرت مواقف قطاعات سكانية من ثورة يناير.
وشهد اليمن عالماً سحرياً من الألاعيب، إذ خاض الجيش اليمني ستة حروب ضد الحوثيين وفي الحرب السابعة اكتشف اليمنيون أن رئيسهم متحالف مع من كان يحاربهم وأنه هو صاحب القرار الأعلى لديهم. وهكذا جرت أخطر أعمال الانقلاب بسهولة ويسر للحوثيين وأزلام صالح،حتى دخلوا العاصمة ووصلوا حد السيطرة على كل المحافظات دون مواجهة من أحد.
وفي سوريا، دفع النظام الجمهور للإمساك بالسلاح.دفعه دفعا وسهل عمليات الحصول عليه،كما أسهمت أجهزة الدولة السورية الخفية في تشكيل تنظيمات مسلحة لتشويه الكفاح الشعبي المسلح، في تكرار للسيناريو الذي جرى في الجزائر بمساهمة أجهزة استخبارات عربية ودولية ما بعد نجاح الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الانتخابات التشريعية.
يحتاج علم الاجتماع لمراجعة مبدعة لبعض المسلمات التي ارتاح إلى صحتها سابقاً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق