الأحد، 3 يوليو 2016

سر التحول التركي الكبير

سر التحول التركي الكبير



شريف عبد العزيز

ـ ليس في عالم السياسة المعاصرة مبدأ ثابت منذ قيام الدولة الحديثة في القرن السابع عشر الميلادي حتى اليوم سوى مبدأ " البرجماتية " أو " النفعية " . فهو المبدأ الرئيسي الذي قام عليه النظام الدولي ، واكتسب منه النظام كل صفاته وخصائصه الكائنة ، وغير البرجماتية من مبادئ ومثل وقيم ، ما هي إلا أكاذيب و شعارات براقة لاستهلاك الإعلامي ، يستعبد باسمها الشعوب ، وتحتل بها الدول ، وتنتهك بها السيادة الوطنية للجماعات . لذلك لا شيء مستغرب في عالم السياسية ، فلا علاقات دائمة ، ولا عداوات دائمة ، فقط مصالح دائمة .

ـ من هذا المنطلق القيمي يتضح لنا خرافة ما يسمى الراديكالية في عالم السياسة ، فلا مكان لأصحاب الأفكار الثابتة والمقدمات السابقة والعقائد الحاكمة والمبادئ والقيم ، في عالم لا تحكمه إلا المصلحة . ومن هنا نستطيع أن نفهم سر التحول التركي الكبير الذي جرى هذا الأسبوع في سياستها الخارجية والتي تشبه إلى حد كبير من يقوم بتجرع السمّ ، وقبول ما ظل يرفضه باستعلاء واعتزاز لفترة طويلة .

ـ تركيا هذا الأسبوع تقدم على خطوتين جريئتين في سياساتها الخارجية بإعادة العلاقات الطبيعية مع خصمين لدودين تراشقت معهما لفترة طويلة بدرجة وصلت إلى حافة الهاوية . وفجأة إذ بكل هذه العداوات تتبخر وتتلاشى بصورة جعلت عموم الناس والشعوب المقهورة ، وكل من ينظر إلى تركيا نظرة إجلال وإكبار ، ويعتبرها معقل الحريات ونصرة المظلومين في المنطقة ، جعلتهم في حالة اندهاش كبرى ، بعد أن نالتهم من السلطان " أردوجان " صدمة هائلة لم يكن أشد المتشائمين منهم يتوقعها .
فلماذا أقدمت تركيا على التراجع والتطبيع مع إسرائيل وروسيا مرة أخرى؟
نستطيع أن نلخص التراجع التركي في كلمتين وهي " الأكراد " و" الاقتصاد "
ـ فالأكراد وحلمهم في إقامة دولة كردستان الكبرى كان بمثابة الهاجس الأخطر في عقل الساسة الأتراك بجميع أطيافهم من اليمين إلى اليسار . هذا الهاجس تحول في غضون العامين الأخيرين إلى حقيقة شبه واقعة بفضل الدعم الأمريكي والروسي والدولي الكبير لآمال وطموحات الأكراد ، ومن ثم فقد حاول الساسة الأتراك محاولات مستميتة ومضنية من أجل فك هذه الشراكة الخطيرة بين الأكراد وسادة النظام الدولي الخبيث ، دون جدوى حتى عبر الأكراد غرب الفرات على الجسور البرمائية الأمريكية في مطلع شهر يونيو متجاوزين به آخر وأخطر خطوط تركيا الحمراء . ومن ثم لم يبق للأتراك سوى تجرع السمّ !!

ـ فقد راجت شائعات حول اقتراب موعد التصالح بين تركيا وإسرائيل خلال السنوات الثلاث أو الأربع الماضية،واستمرت المفاوضات بين الدبلوماسيين الأتراك والإسرائيليين، بدرجات متفاوتة من الشدة، مع حديث عن اختراقات وشيكة. ولكن لأن تأثير وزارتي الخارجية في كلا البلدين  محدود في السياسة الخارجية، فكان الأمر متروكا للقادة، وبدا أن نتنياهو وأردوجان غير مهتمين بالتقارب. 
ولكن مع التغيرات الإقليمية الجارية بدا أن الأتراك سيوقعون هذا الاتفاق لا محالة ، وذلك لعدة أسباب :
1 ـ فشل نهج أنقرة في الشرق الأوسط بعد سعيها لقيادة المنطقة مع اتساع رقعة الثورات العربية، ورغبتها في تأسيس مثلث سني يضم مصر والسعودية ،وكان وصول الإخوان للحكم في مصر وليبيا مؤشرا مبدئيا على نجاح الرؤية التركية ، ولكن بعد الإطاحة بحكم أول رئيس مدني منتخب في مصر في صيف 2013 تبخرت الطموحات التركية شيئا فشيء ، وأصبحت علاقة أنقرة سيئة بالرياض، أبو ظبي، القاهرة، تل أبيب، وبغداد، وبعبارة أخرى، كل العواصم الكبرى في المنطقة. وعندما دفع أردوجان داود أوغلو للتنحي من رئاسة الوزراء في 5 مايو الماضي، بدا أوغلو كبش الفداء الذي ضُحي به لعزلة تركيا الإقليمية ، وعندما صرح المتحدث باسم الحكومة، نعمان كورتولموش للصحفيين منذ أسابيع  "أنه بات من الضروري إجراء تغييرات في السياسة الخارجية لتركيا على أربعة محاور، من ضمنها وأهمها المحور السوري - العراقي، إضافةً إلى كل من الاتحاد الأوروبي، وإسرائيل وروسيا "ويتعلق الأمر بتغيير كبير في إستراتيجية وأهداف الدبلوماسية التركية بقدر ما يتعلق بـ"ترشيق" لهذه الإستراتيجية، عبر اعتماد تكتيكات مرحلية يمكن وصفها بأنها أكثر "نعومة" وأقل "صدامية"  كان هذا يعني أن تركيا مقبلة على تحول دراماتيكي في سياساتها الخارجية .
2 ـ تطورات الملف السوري والذي دفع باتجاه التحميل المتزايد والضغط الكبير على تركيا ، فالأتراك مُطالبون حاليَا ببذل قصارى جهدهم لإدارة تدفق أعداد اللاجئين الكبيرة، الذين بلغ عددهم ما يقرب من ثلاثة ملايين. ومواجهة تمدد المليشيات الكردية الانفصالية ، ويبدو أن الأكراد هم من دفع تركيا إلى إسرائيل مُجددا. فالإسرائيليون يسعون منذ فترة طويلة للحفاظ على إستراتيجية شد الأطراف من خلال بناء علاقات وثيقة مع الجماعات والدول غير العربية في الشرق الأوسط لتخفيف العزلة الإقليمية عن تل أبيب. وكان هذا هو المنطق وراء علاقات إسرائيل مع تركيا .
فقد دعَم الإسرائيليون طويلا الاستقلال الكردي في العراق، وهي القضية التي تستخدم عادة لترويع لأنقرة وإفزاعها، ولكن ليس بقدر كبير بالنظر إلى العلاقات الوثيقة بين حزب العدالة والتنمية ومسعود بارزاني، رئيس حكومة إقليم كردستان. ولكن مع ظهور "فدرالية كردية " شمال سوريا، والتي تعرف أيضا باسم "روجافا" أو كردستان الغربية، على طول شريط يمتد من منطقة عفرين على الحدود مع إقليم هاتاي في تركيا في الغرب إلى الحدود مع بلدة "سيزر" التركية في الشرق، وجد الأتراك أنفسهم في ورطة تاريخية .
وحتى الساعة لم يعلن أكراد سوريا دويلتهم على كل تلك الأرض بعد، فلا تزال جيوب منها خاضعة لسيطرة مجموعات الثوار، قوات النظام، أو مقاتلي "تنظيم الدولة"، ولكنها ليست سوى مسألة وقت. ويريد الأتراك الحيلولة دون أي تلويث إسرائيلي في المنطقة أو إعلان دعم للتطلعات الانفصالية الكردية السورية، ولهذا قرروا لملمة الأمور مع تل أبيب . والأهم من ذلك أن الأتراك يعتقدون بأن تجاوز الخلاف مع الإسرائيليين، سوف يدفع راعي "كردستان السورية"؛ أمريكا ، لأن تصغي لقلقهم من الطموحات الانفصالية للأكراد.وقد ساعدت أمريكا على إنشاء دويلة إرهابية على حدود تركيا الجنوبية، والتي يمكن ربطها بالأجزاء التي تقطنها أغلبية كردية في جنوب شرق تركيا، وهي الآن تحت هجوم من الجيش والشرطة التركية ردا على إرهاب حزب العمال الكردستاني وتفجيراته المتتالية في عموم تركيا .
ويبدو في هذه الرؤية تحديدا أن الأتراك قد تعلموا من التجربة المصرية ، عندما ضغط الإسرائيليون على واشنطن من أجل دعم النظام المصري الجديد بعد شهور من الفتور والتمنع بسبب أحداث 3 يوليو وما تلاها من مجازر وانتهاكات واسعة لحقوق الإنسان .
3 ـ الاقتصاد كان من بين أسباب التراجع التركي الأخير ، حجم التجارة بين تركيا وإسرائيل يبلغ اليوم نحو 6 مليار دولار، حيث أصبح ميناء حيفا في السنوات الأخيرة مرفأ أساسيا للبضائع التركية في الشرق الأوسط. فكل يوم، بعيدا عن ناظر الجمهور، تصعد عشرات الشاحنات المليئة على السفن في تركيا، وتنزل في حيفا وتتدحرج من هناك إلى الأردن وإلى العراق. أما المستقبل فيُتوقع أن يكون أكبر من هذا بأضعاف.
أيضا لدى الإسرائيليين الكثير من الغاز الطبيعي ولدى قبرص، أيضا، الكثير من الغاز الطبيعي. بعد إعادة ترسيم الحدود البحرية مع مصر بصورة مريبة والتي بموجبها تنازلت مصر على معظم ثروتها الغازية لصالح الطرفين !! وكانت هناك إشارات على مدار السنة إلى أن المفاوضات لإيجاد حل للمشكلة القبرصية وإعادة توحيد الجزيرة، واعدة. وبدا أن الصفقة مع إسرائيل مرتبطة بطفرة الغاز القادمة في شرق البحر الأبيض المتوسط. وبعض الغاز الإسرائيلي مخصص للتصدير، ونقله في أنبوب عبر تركيا هو الإمكانية الأرخص والأكثر ربحا، ولكن في العلاقة بين الجانبين توجد فضائل اقتصادية أخرى، وفقا لما أورده، فاقتصادهما يكمل أحدهما الآخر أيضا في التكنولوجيا العليا، في الصناعة، في الزراعة وفي السياحة.
هذا بالنسبة للجانب الإسرائيلي ، أما بالنسبة للجانب الروسي فالأمر لا يختلف كثيرا ، فثمة قواسم مشتركة في الحالتين الروسية والإسرائيلية دفعت الأتراك لانتهاج سياسة الرجوع عدة خطوات أو تصفير المشاكل مع الروس بعد شهور من التوتر والصراع المكتوم .فقد أعرب أردوجان في رسالة خاصة لبوتين عن أسفه الشديد لما حدث" في 24 نوفمبر 2015، حيث أُسقطت طائرة روسية على طول الحدود التركية السورية، مما أدى إلى وفاة الطيار. وأدى الحادث إلى انهيار العلاقات بين البلدين، ورد بوتين بفرض عقوبات على تركيا ، وهي العقوبات التي أضرت بالاقتصاد التركي كثيرا .
ففي تقرير نشره موقع "روسيا اليوم" في فبراير الماضي ذكر أن حجم التبادل التجاري بين البلدين قد انخفض إلى 23 مليار دولار.وبالتالي يبدو مفهوما أن تركيا تعاني من هذه العقوبات. وقد كشف السفير الروسي في تركيا، أندري كارلوف، أن رجال الأعمال الأتراك قد خسروا عقودا في روسيا بسبب أزمة العلاقات . وكان للعقوبات تأثير خطير في صناعة السياحة في تركيا. فوفقا لرويترز، تراجع عدد السياح إلى تركيا إلى "أكبر انخفاض له خلال 22 عاما على الأقل في شهر مايو، مع غياب السياح الروس بنسبة أكثر من 90 في المائة" . 

وبالطبع روسيا تضررت هي الأخرى بشدة من جراء الخلاف مع تركيا ، لذلك لم يكن مستغربا الاستجابة الروسية السريعة للمبادرة التركية ، ففي تصريحات تلفازية بعد مكالمة بوتين معزيا أردوجان في هجمات مطار اسطنبول، صرَح الرئيس الروسي قائلا: "طلبت من الحكومة الروسية بدء عملية تطبيع التجارة العامة والعلاقات الاقتصادية مع تركيا " . 
وروسيا ليست في وضع أحسن، فقد قلصت النفقات العامة على البرامج الاجتماعية بنحو 10 في المائة، بسبب تراجع الأسعار العالمية للنفط وما تبع ذلك من تراجع كذلك في أسعار الغاز الطبيعي المُصدَّر إلى الخارج. فمن المعروف أن عوائد النفط والغاز كانت تُغذّي ميزانية الدولة الروسية بأكثر من 50 في المائة من إيراداتها.وأصبح كثير من الاقتصاديين الروس يحذرون في الفترة الأخيرة من أن الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في روسيا قد تتفاقم أكثر خلال الأعوام القليلة المقبلة، حيث لم تعُد الحكومة قادرة على الإنفاق  بدرجة لائقة على البرامج الاجتماعية ودعم الفقراء ومحدودي الدخل بسبب تراجع إيراداتها من تصدير النفط والغاز. ولكن هذا لم يمنعها من زيادة الإنفاق العسكري في مشروع الموازنة الحكومية لعام 2016 بـأكثر من خمس مرات مقارنة بالإنفاق الحكومي على البرامج الاجتماعية.

وغير الاقتصاد ، فإن الروس هم الفاعل الأهم في الملف السوري بتداخلاته الكثيرة وتفاصيله المتشابكة ، وأصل الخلاف الروسي التركي كان بسبب الملف السوري ورغبة الروس في إبقاء نظام الأسد ، ولكن تطور الأحداث السورية ودخول الروس على خط دعم الأكراد ، بعد الاسناد الجوي الكبير الذي قام به الروس لعمليات المليشيات الكردية الانفصالية في شمال سوريا وافتتاح مكتب رعاية مصالح للأكراد في موسكو في شهر فبراير الماضي ، والتبني العلني للمطالب الكردية ، كلها أمور عجلت بدفع الأتراك نحو المصالحة مع الروس .

ـ تركيا ماضية قدما في رفع سقف التنازلات وتجرع السمّ ، ولن تبالي بأي خطوط حمراء في سبيل تحقيق مصالحها والحفاظ على أمنها القومي ، فالخطر الكردي أصبح حقيقة واقعة لا مجرد هواجس وطموحات ، والساسة الأتراك قد أدركوا متأخرين أن رمانة ميزان النظام الدولي بكل خبثه ووحشيته وعنصريته وانتهازيته هي الكيان السرطاني المسمى بدولة إسرائيل ، وأن من أراد أن يرضى عنه سادة النظام الدولي الوحشي لابد أن يدفع الحلوان لكاهن النظام ، عندها تنفتح كل المغاليق ، وتحل كل الأزمات. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق