خروج مصر من تيران واكتمال الحاجز
لا يمكن النظر إلى بيع تيران وصنافير على أنه مجرد صفقة بين مصر والسعودية، وإنما هو قرار إسرائيلي لإزاحة الدولة المصرية من المضيق وفتح الباب لسيطرة الإسرائيليين على البحر الأحمر
مضيق تيران هو النقطة الأخيرة في الحاجز الذي وضعه الغرب المسيحي لشق قلب العالم الإسلامي وفصل المسلمين في أفريقيا عن المسلمين في آسيا، وبتدويل المضيق وإنهاء السيطرة المصرية عليه يكتمل الفصل التام لأول مرة منذ قرون طويلة ويمتد بطول البحر الأحمر وحتى مضيق باب المندب الذي تم تدويله وانتزاعه من قبضة الدول العربية.
لا يمكن النظر إلى بيع تيران وصنافير على أنه مجرد صفقة بين مصر والسعودية، وإنما هو قرار إسرائيلي لإزاحة الدولة المصرية من المضيق وفتح الباب لسيطرة الإسرائيليين على البحر الأحمر، وتغيير الواقع الاستراتيجي من قدرة مصر على حصار الكيان الصهيوني إلى تمكين الصهاينة من حصار مصر والعرب.
رغم أن اتفاقيات كامب ديفيد تنص على حرية الملاحة الإسرائيلية في مضيق تيران فإن بقاء الجزيرتين في حوزة الدولة المصرية يشكل تهديدا في حالة نقض الاتفاقية أو تجدد الصراع بين مصر والكيان الصهيوني، كما أن استمرار ملكية مصر للجزيرتين يهدد المشروعات الإسرائيلية لتحويل طريق التجارة الدولية من قناة السويس إلى ميناء إيلات (أم الرشراش المحتلة).
تدويل مضيق تيران هو المرحلة الثالثة في الحاجز الصهيوني الذي بدأ باحتلال فلسطين ثم الاستيلاء على أم الرشراش للوصول إلى خليج العقبة ولكن لم يكن هذا التمدد كافيا لإنهاء السيطرة العربية الإسلامية على البحر الأحمر بدون إبعاد مصر عن جزيرتي تيران وصنافير وإنهاء السيطرة المصرية على مدخل خليج العقبة.
حقبة الحروب الصليبية
كان البحر الأحمر بحيرة إسلامية مغلقة، محاطة بأراضي المسلمين من كل جانب، ومحرم على غير المسلمين دخوله، وبسبب الموقع الجغرافي في قلب الكرة الأرضية كانت الدول المطلة عليه تعيش في ثراء ورغد العيش حيث كانت تجارة العالم تصب في موانئ البحر الأحمر.
كانت مصر هي مركز التجارة الدولية، وكان ميناء عيذاب (يقع في جنوب مثلث حلايب) هو أهم ميناء في العالم، يستقبل السفن القادمة من الهند والحبشة وأفريقيا، ويتم نقل التوابل والمنتجات بالقوافل حتى أسوان وقوص ومن هناك تحملها المراكب في النيل إلى القاهرة والإسكندرية.
بسبب البحر الأحمر أصبحت الدولة المصرية قوة اقتصادية وسياسية كبيرة، بجانب قوتها العسكرية، في فترات الحكم الفاطمي والأيوبي والمملوكي، وكان لصعيد مصر أهمية كبرى بسبب التجارة التي أحيت حركة النقل البري والنيلي، ونتج عن هذا الثراء ازدياد العمران في جنوب وشمال مصر.
هذه الأهمية للبحر الأحمر دفعت الصليبيين للوصول إليه، وتكدير الأمن به، وكانت أول محاولة عدوانية قام بها الصليبيون ( 579 هـ 1183م ) التي قام بها قائد قلعة الكرك الصليبية أرناط بإنزال السفن المحملة بالمقاتلين في العقبة واحتلال تيران وصنافير لتأمين حركة السفن الصليبية.
هاجم أرناط ميناء عيذاب، ونزل الصليبيون إلى البر وتوغلوا في الطريق بين عيذاب وقوص، وقتلوا من وجدوه من المصريين ، ثم عادوا إلى البحر وأغرقوا سفن الحجاج ثم توجهوا إلى ساحل جدة يقصدون مكة لنبش قبر النبي صلى الله عليه وسـلم إلا أن السفن الحربية للدولة الأيوبية لحقتهم وأمسكت بهم وعادت بهم أسرى، وطهرت البحر الأحمر والجزر منهم.
كان عدوان أرناط على السواحل المصرية والحجاز من أسباب انتقام صلاح الدين الأيوبي بعدها في حطين ( 583 هـ 1187 م ) وتأمين البحر الأحمر والقضاء على مملكة القدس الصليبية وتحرير بيت المقدس من الاحتلال الذي دام قرنين ووضع نهاية للحاجز الصليبي.
والعدوان الثاني على البحر الأحمر كان مع بداية الحملات الاستعمارية وقدوم البرتغاليين في بداية القرن السادس عشر وكان هدفهم ضرب السيطرة الإسلامية على التجارة فسيطروا على المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، واحرقوا السفن التجارية في المحيط الهندي وبحر العرب، وتجرأوا ودخلوا البحر الأحمر وقصفوا عدن بالمدافع، وتوجه القائد البرتغالي الفونسو البوكيرك لنبش قبر الرسول في مكة ولكن العواصف والرعد والبرق ردت الحملة ودفعتها للفرار.
واستمر السعي الغربي للسيطرة على البحر الأحمر وتفكيك السيطرة الإسلامية عليه ونجحوا في تدويل باب المندب لكن التركيز الأكبر كان منصبا على وضع الحاجز في شمال البحر الأحمر بالقوة المسلحة فكانت فكرة زرع "إسرائيل" كخنجر يقطع اليابسة ويصل بين البحرين الأبيض والمتوسط.
فكرة الحاجز
من الحقائق التاريخية أن من يحكم مصر يحكم الشام، ومن يحكم الشام يحكم مصر، وكان الخطر يأتي من هذه المنطقة البرية الضيقة التي تفصل بين البحرين الأبيض والأحمر، وبعد ظهور الإسلام كان من يحكم مصر والشام يحكم الحجاز وأرض الحرمين.
وبعد فشل الحاجز الصليبي فكروا في وضع الحاجز اليهودي، وقد أشار تيودور هرتزل في يومياته إلى أنه بدأ يطرح فكرة زرع إسرائيل كدولة حاجز في فلسطين في لقاءاته مع ملوك وقادة أوربا لإقناعهم بأن إقامة "إسرائيل" في هذه المنطقة ليست مصلحة لليهود فقط وإنما لصالح إستراتيجية الغرب لتفكيك الأمة الإسلامية وشق القلب الصلب للكتلة العربية التي تمثل قوة العالم الإسلامي.
ونجحت جولات هرتزل في تبني الدول الأوربية لفكرة الحاجز ضمن خطط تقسيم الوطن العربي، وتم بلورة هذه الأفكار والاتفاق عليها في المؤتمر الاستعماري الذي عقد في لندن ( 1905 - 1907 ) الذي شاركت فيه الدول الاستعمارية: إنجلترا وفرنسا وإسبانيا والبرتغال وهولندا وبلجيكا وإيطاليا، ووجهت الدعوة للمفكرين الاستراتيجيين ولعلماء التاريخ والجغرافيا وكل التخصصات لوضع إستراتيجية أوربية للسيطرة على العالم.
خرج عن المؤتمر الاستعماري ما عرف بـ "وثيقة كامبل" نسبة إلى هنري كامبل بنرمان رئيس الوزراء البريطاني في ذلك الوقت، وحسب نص التوصية دعا المؤتمر إلى " إقامة حاجز بشري قوي غريب على الجسر البري الذي يربط أوربا بالعالم القديم ويربطهما معاً بالبحر الأبيض المتوسط بحيث يشكل في هذه المنطقة وعلى مقربة من قناة السويس قوة عدوة لشعب المنطقة وصديقة للدول الأوربية ومصالحها".
وثائق المؤتمر موجودة في الأرشيف البريطاني ومضمون الوثيقة منشور في أبحاث ودراسات عديدة، وسبب السرية التي فرضت على هذه الوثيقة أنها كاشفة وفاضحة لما تم من تخطيط في بداية القرن العشرين والذي ترتب عليه تفكيك العالم لصالح الهيمنة الغربية.
الفرنسيون والإنجليز
لم يكن هرتزل أول من طرح فكرة الحاجز اليهودي، وأول من طرحها نابليون؛ فمصر هي القوة التي أفسدت مخططات الصليبيين وطردتهم من الشام ومنعت وضع الحاجز الصليبي، ولذلك حدث تعديل في التفكير بالسعي لاحتلال مصر والسيطرة على التهديد الذي يقف أمام الحاجز، فكانت الحملات الصليبية على مصر بدلا من الشام ولكن استطاع المصريون الصمود وأسروا لويس التاسع ولكن مع الوقت وبسبب الفساد والانهيار العسكري وضعف الحكم المصري نجح نابليون في احتلال مصر.
لقد جاء نابليون لفرض الحاجز بالقوة، وحمل معه فكرتان الأولى هي شق قناة السويس لقطع اليابسة وقطع الطريق البري الذي كان يمتد من المغرب وحتى الهند وإنهاء احتكار مصر للتجارة الدولية، وكانت الفكرة الثانية هي جلب يهود العالم الى فلسطين لاقامة دولة لهم ولذلك ما أن استقر له الأمر في مصر توجه إلى فلسطين، وأصدر الإعلان الشهير الذي يطالب فيه يهود العالم للقدوم إلى فلسطين لكن أحلامه تبددت مع عجزه عن دخول عكا وتفشي الطاعون في جنوده فعاد خائبا.
ورغم طرد الفرنسيين من مصر ظلوا يعملون على تنفيذ قناة السويس ولم ييأسوا، حتى نجح ديليسبس في إقناع الخديوي سعيد بحفر القناة، ولكن مع بقاء سيناء وفلسطين في أيدي المسلمين لم يتحقق الفصل الكامل، ولكن القناة بعد حفرها كانت هي الباب الذي دخل منه الإنجليز واحتلوا مصر، وهنا كانت الضربة التي سيطروا منها على العالم الإسلامي كله ووضعوا الحاجز الإسرائيلي، وحواجز سايكس بيكو التي قسموا بها بلاد المسلمين إلى وحدات صغيرة.
كانت إستراتيجية الغرب ومعهم الإسرائيليين واضحة، ولكن لم يكن في الجانب العربي المسلم إستراتيجية مقابلة، فنجحوا في جلب يهود العالم وأقاموا لهم كيانا في 1948 ثم أزاحوا الجيش المصري من صحراء النقب في 1949 واحتلوا أم الرشراش، لكن بقي مضيق تيران غير خاضع لهم.
لقد تنبه المصريون لأهمية المضيق فأغلقوه منذ عام 1950 في عهد حكومة الوفد، واستمر الإغلاق بعد 1952، وكان خضوع المضيق للسيطرة المصرية هو سبب حروب 56 و67 ، وحوله كانت ترتيبات كامب ديفيد لضمان حرية الملاحة للإسرائيليين ومنع الجيش المصري من التواجد في شرم الشيخ والمنطقة (ج).
اليوم بخروج مصر من مضيق تيران وتحويله إلى ممر دولي ( الدور السعودي مجرد محلل) يكتمل الحاجز ويتحقق الحلم الصليبي الصهيوني بدون إطلاق رصاصة واحدة، ويسيطر الإسرائيليون على كل البحر الأحمر وليس فقط خليج العقبة، وسيبدأ الكيان الصهيوني في مشروعاته لنقل التجارة الدولية عبر ميناء إيلات، وفرض هيمنة صهيونية على كل المنطقة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق