كيف انتهى البغدادي سريعًا؟!
محمد جلال القصاص
باحث دكتوراة علوم سياسية
السؤال لا ينصرف للبغدادي وحده، بل: ويتجه لتجربة أخرى مرت من قريب ولم تعط حقها من الدراسة، وهي تجربة الحركة الإسلامية في الجزائر في نهاية القرن العشرين. انتشرت على مساحة واسعة من الأرض الجزائرية ولقيت تأيديًا كبيرًا من عوام المسلمين في شرقها وغربها، ثم انحسرت فجأة، ولم تلق حظها من الدراسة والتحليل. فقط علق عليها اثنان (أبو مصعب السوري، وعطية الله الليبي) وغلب على التعليق سرد الأحداث التي عايشوها والنكير على تصرف الغلاة دون استفاضة في البحث عن الأسباب الرئيسية التي أدت إلى تشريد الحركة الإسلامية في الجزائر حتى لم تظهر ثانية في الحراك الجماهيري المعاصر. ولو أننا بذلنا جهدًا في فهم التجربة الجزائرية ونشر تفاصيلٍ عن أسبابها. ولو أننا نهتم بدراسة وتحليل مثل هذه الظواهر.. في مرحلة الكمون ومرحلة البناء ومرحلة الديناميكية والفعل، لما تكررت مرة بعد مرة.
الذي قضى على "خلافة" البغدادي هو التكفير، أو بالأدق الإصرار على حسم كل خلاف وإقامة كيان لا خلاف فيه.. كيان غاية في التوحد، حتى في أدق التفاصيل، عمل "التكفيرُ والإصرار على الحسم" كسكين حاد داخل التنظيم، فأدى إلى تفتيته وإيغار صدر من بقي فتفرق شملهم وركبهم عدوهم، ومضوا مثلًا للآخرين. وهنا لابد من إبراز عدد من الحقائق التي تقف بوضوح على ظهر الأحداث منذ الجهاد الأفغاني إلى اليوم:
أولها: وجود فئة غلقة متشنجة لا تقبل الخلاف مطلقًا، فقد كان بين العرب الأفغان من يكفر طالبان نفسها واشتهرت رسالة بعنوان (كشف شبهات المقاتلين تحت راية من أخل بأصل الدين)، ورد على هذه الرسالة أبو مصعب السوري بصوته وقلمه، ورد عليهم- كذلك- أبو قتادة وأبو محمد المقديسي وحدثت مشاجرة فكرية حول تفاصيل لا يهتم بها عوام المسلمين ولا خواصهم، اللهم فئة من الشباب حدثاء الأسنان هم الذين أخرجوها وأصروا على الحسم فيها تبعًا لرؤاهم الشخصية.
التكفير استخدم- ويستخدم- كأداة لتبرير الانقضاض على الخصوم. ما يعرف بالتغلب. وهو مبدأ شائع بين الصحويين، ويأخذ درجات متفاوتة حسب ما يتاح في أيديهم من أدوات |
ثانيها: أن التكفير ينبع من عند الجاميين وليس فقط من عند القطبيين. فمع أن هؤلاء يظهرون الولاء التام للحكام إلا أن منهجيتهم هي هي بأم عينها منهجية التكفير. نقطة الارتكاز التي يتكئ عليها الجاميون هي عدم قبول الخلاف، أو الإصرار على الحسم، وما يتبع ذلك من تسفيه للمخالف والثورة عليه بما أمكن، فحين لا يكون بأيديهم إلا المنابر الخطابية فإنهم يمطرون من خالفهم، وإن كان منهم، بألسنة حداد؛ وحين يكون بأيديهم سلاح يَقتلون. وقد وُجدوا بين الحركة الجزائرية في التسعينات (فتش عن جمال زيتوني، وخليفته عنتر الزوابري، وهما نقطة الانحراف الرئيسية في التجربة الجزائرية) ووجدوا بين جماعة البغدادي (فتش عن أحمد عمر الحازمي).
ثالثها: أن التكفير استخدم- ويستخدم- كأداة لتبرير الانقضاض على الخصوم. ما يعرف بالتغلب. وهو مبدأ شائع بين الصحويين، ويأخذ درجات متفاوتة حسب ما يتاح في أيديهم من أدوات، فالدعويون حين يختلفون، أو بالأحرى حين يريدون الانفصال والاستقال عن غيرهم، يبدأ في السب والشتم والغيبة والنميمة وقد يصل الأمر إلى التعدي على الأعراض بدعوى (النهي عن المنكر) وبدعوى (محاربة المبتدعين) (اسقاط اللافتات الكاذبة). والمسلحون يتحدثون عن (كفر بواح) ومن ثم يقاتلون، كما فعلت جماعة البغدادي مع جماعة الجولاني، وكما فعلوا مع جماعة حطاب (مجموعة بداخلهم كانت تكفِّر البغدادي وتهيء لانقلاب عقدي).
رابعها: المطرد في قيام العَصَبيَّات (وليس العصابات) ومن ثم الدول هو التسامح والسعي للتجميع أيًا كانت طبيعة الدولة القائمة. وهو من مبشرات هلاك الموجودين الآن. فلا دولة بلا تسامح وسعي للم الشمل إذ أن الإصرار على الحسم يؤدي إلى تفتيت وانقسام داخلي وكل من يخرج بشجارٍ أو فصلٍ وعزلٍ تنتهي مصالحه ومن ثم مكاسبه وأحلامه فيجلس حولها يرمي عليها أو يتربص بها، ويخاف من بالداخل أن يصيبه ما أصابهم فيحتاط لنفسه. وينتهي في الغالب بصراع داخل الكتلة التي لا تتسامح، أو لاتتبنى إطارًا واسعًا يتناسب مع طبيعة الناس وتنوعهم.. يأكل بعضهم بعضًا.. ينشغلون بالحسم الداخلي وحماية المصالح الشخصية. ثم ينفجر مشهدهم.. أو يتهاوى فجأة كما حدث مع البغدادي ورفاقه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق