ديـك تشيني هو الرئيس
محمد يوسف عدس
لستُ صاحب هذه العبارة ، وإنما هي عبارة أطلقها نيلسون منديلا ليصف بها حقيقة العلاقة بين "جورج دبليو بوش" الرئيس الرسمي للولايات المتحدة الأمريكية ، وبين نائبه الرسمي " ديك تشيني " .. وقد تحولت إلى عنوان كتاب من تأليف مراقب ومحلل سياسي نافذ البصيرة هو "جون نيكولز" الصحفي والكاتب السياسي المتميز .. أعرف أن له عدة كتب أخرى .. ألّف بعضها منفرداً وبعضها مع آخرين .. وهو يحرص في كتابته على تحرى الحقيقة والبحث عن المعلومات في مصادرها الصحيحة .. تحليلاته دقيقة ، فإذا كتب أذهلتك بساطته وصراحته .. يقول: "يعلم الناس أن "جورج دبليو بوش" يحتاج إلى من يُعنى بأمره ، لا لأنه غبيّ ولكن لأنه مستهتر..".
لقد عجب الناس وتساءلوا: كيف تسنّى لهذا الابن – وحياته تكاد تخلو من أي خبرة أو إنجاز ذي قيمة – أن يقود أعقد نظام للحكم أقامه الإنسان في التاريخ ..؟!
للإجابة عن هذا السؤال المحيّر يسوق إلينا المؤلف حكاية شاب يئس من حياته وأراد أن يتخلص منها بأسلوب درامي، فتسلل إلى الساحة الخضراء جنوبي البيت الأبيض وأطلق من مسدسه على جناح الرئيس الأمريكي عدة رصاصات ، فعاجله الحرس برصاصة أصابت ركبته وتمت السيطرة عليه .. كان لابد من إخطار الرئيس ونائبه على الفور، فتوجه رجال الأمن السري تجاه مقر الرئيس فماذا وجدوا .. !؟ كان ديك تشيني مستغرقاً في العمل بمكتبه .. منهمكاً في إعداد خطاب سياسي .. محاطاً بأجهزة كمبيوتر وهواتف متواصلة الرنين، ومن حوله مساعدوه يتحركون بنشاط ملحوظ .. منظر مدير عام لمؤسسة كبرى .. اعتاد على إنجاز مهام جادة بروح متحفزة .. في نفس الوقت ذهب رجال الأمن ليجدوا الرئيس بوش يمارس تدريباته البدنية اليومية في قاعة الألعاب الرياضية ..!
ويعلّق "جون نيكولز" على هذا المشهد بقوله : "ولم لا ..؟ لقد كان الرجل رئيساً بالاسم فقط، أما ديك تشيني فهو المسؤول الأول .. الذي يقوم بعمل الرئيس .. إنه صاحب السلطة الحقيقي" ...
البحث عن وصيّ للعرش:
لا شك أن بوش الأب كان يعلم مواطن الضعف عند ابنه، لذلك كان يبحث له عن شخص يسدّده ويسانده، ويكون مسئولاً عن تسيير حكومته، وقد أفضى إلى ابنه عن مكنون صدره، وأكّد له أنه من الضروري لنجاحه إيجاد الرجل القادر على سبر أغوار الشخصيات، واختيار أنسبها للإدارة الجديدة، وبيّن له مواصفات هذا الرجل .. ومن أهمها: أن يكون قوىّ الصّلة باليمين الصاعد المسيطر على الحزب الجمهوري، وأن يكون على علاقة وثيقة بالمؤسسات الاقتصادية التي ترتبط مصالحها بالحزب الجمهوري، وعلى رأس كل هذا أن يكون موالياً ولاءً مطلقاً لعائلة بوش ...
ولابد أن حاسة الاستشعار المتميزة عند "ديك تشيني" كانت في حالة استنفار، فأسرع بتقديم نفسه في اللحظة المناسبة على أنه المنقذ الذي تتوافر فيه كل الشروط المطلوبة .. وشرح للأب القلق ما يمكن أن يفعله فاقتنع الأب .. وأصبح تشيني مرشحاً كنائب للرئيس المقبل.. وفي أثناء جولات بوش الانتخابية سنة 2000م كانت تصدر منه أحياناً تصريحات عفوية تكشف عما يدور في عقله حيث قال: "أنا لم أختر "ديك" بسبب فوزه في انتخابات "وايومنج" (اسم دائرته الانتخابية) ثلاث مرات للكونجرس ولكن لأنه – بلا شك – قادر على أن يكون رئيساً" ...
لم يضيّع تشيني وقتاً ، فبينما كان بوش الابن ينتظر ما تسفر عنه نتيجة التحقيقات في إعادة فرز أصوات الناخبين بفلوريدا ، كان تشيني منهمكاً في عملية اختيار أعضاء الإدارة الجديدة ، حيث حشد فيها كل الشخصيات القديمة الذين عملوا معه واستراح إليهم أثناء عمله وزيراً للدفاع في إدارة بوش الأب ، من أمثال: "رامسفيلد" و "سكوترليبى" وغيرهم .. لقد بنى الإدارة كلها بنفسه .. وكان لابد من توفير مكان لمنافس قديم هو "كولين باول" صاحب الشهرة الجماهيرية وبطل حرب الخليج (1991) ، وهي شهرة لا يتمتع بمثلها أحد غيره من أعضاء الإدارة ، ولعل تشيني أراد أن يحدث شيئاً من التوازن والمصداقية لدى الجماهير وأمام الإعلام.. على أن يتخلّص منه في مرحلة قادمة .. (وهذا ما حدث بالفعل سنة 2004م)...
يقول المؤلف تعليقاً على ذلك: "كان بوش يُستشار دائماً في اختيارات تشيني للأشخاص.. ولكن أيّ استشارة؟ .. إنها مجرد إجراء شكلي للحصول على توقيع للرئيس ، الذي لم يكن ليفهم أبعاد ومرامي هذه الاختيارات في تحقيق خطط تشيني وأهدافه .. لقد كان تشيني يقوم بعمليات تغيير متواصلة دون ضجيج ، امتدت إلى صميم النظام القضائي بل إلى جهاز الاستخبارات المركزية، فوضع فيهما شخصيات من الموالين لسياسة الجناح اليميني في الحزب الجمهوري .. لذلك يرى بعض المراقبين أن ما يقوم به تشيني إنما هو ثورة أو انقلاب هادئ ولكنه عميق الأثر في تشكيل السياسة الأمريكية.. لكي (تتوافق مع توجّهات اليمين المتطرف للهيمنة على الحياة الأمريكية وعلى العالم بأسره لزمن طويل قادم، ولتحقيق رؤية تشيني الإمبريالية التي تبلورت في مشروعه "القرن الأمريكي")...
صفر كبير !
خلال الحملة الانتخابية لسنة 2000م كان القلق يبدو على بوش الصغير فيضطرب عندما يُسأل عن السياسة الخارجية ، فهو يجهل هذا المجال جهلاً مطبقاً، وقد بدا هذا واضحاً في برنامج يسمى "كويز" بتليفزيون بوسطن يديره المذيع "آندى هيللر" الذي سأل بوش عن أسماء رؤساء عدد من الدول التي لا تخلو نشرة إخبارية من ذكرها ، فلم يعرف من هذه الأسماء شيئا ً.. وانتهت الحلقة بصفر كبير لكل إجابات بوش ...
بعد هذه الواقعة خضع بوش شهراً كاملاً لبرنامج تعليمي أشرف عليه تشيني لتعريف الرئيس المقبل بالعالم الخارجي .. وضعوا له الخرائط والمصورات ، ومع ذلك ظل بوش متخبطاً في فهم هذا العالم الخارجي .. وظل جهله ينضح في كلامه وعباراته الخاطئة ونطقه لأسماء الدول زمناً طويلاً...
قد يهون كل هذا أمام المواجهة التليفزيونية التي جرت بين المتنافسين على الرياسة "آل جور" و "بوش" فقد قال بوش : "إنني لا أريد أن أضع قواتنا في كل أركان الدنيا طوال الوقت .. ولا أريد أن أقوم بدور شرطيّ العالم .. وسوف أكون شديد الحرص على أن تستخدم القوات المسلحة في بناء الأمة" .. أكثر من هذا عندما بدأ "آل جور" يشرح كيف أن الولايات المتحدة تحتاج إلى رفع درجة مسئوليتها القيادية في هذه الفترة الفريدة من تاريخ العالم خصوصاً بعد انهيار الإتحاد السوفييتي ، هب بوش معارضاً بقوة فقال: "لا .. أنا لا أعتقد أن هذا هو ما ينبغي أن يحدث .. أن نذهب حول العالم فنقول هذا ما ينبغي أو لا ينبغي أن تفعلوه .. أنا لا أعتقد أن دور أمريكا هو أن نذهب إلى دولة ما ونقول لها نحن نفعل هذا وعليكم أن تفعلوا مثلنا"...
يقول جون نيكولز: لقد فعل بوش عكس ما وعد به كله: فقد أرسل القوات الأمريكية تحارب في أفغانستان والعراق، وهدّد دولاً أخرى بالتدخل العسكري .. وفى أعقاب حادثة الهجوم على برجيْ التجارة العالمى بنيويورك كان يهدد دول العالم كله بقوله إما أن تكونوا معنا أو ضدنا ، ومن يتخلف عنا يتحمل وزر تخلفه .. وهو الذي تتدخل إدارته في إعادة تشكيل الشعوب والسياسات والثقافات في دول الشرق الأوسط ..!!!
ويفسر لنا جون نيكولز اللغز حيث يقول: "إن مشكلة الأمريكيين الذين تابعوا مشهد المواجهة التليفزيونية كانوا ينظرون إلى بوش ويركّزون عليه .. بينما هو وجه العملة الخاسرة الذي قدمه الجمهوريون إلى الشعب الأمريكي لتضليله .. فالوجه الحقيقي الكاسب هو "ديك تشيني" وليس بوش .. والعيب الثاني في الناس أنهم كانوا يركّزون أكثر مما ينبغي على ما يقوله بوش، ولم يلتفتوا بما فيه الكفاية إلى ما كان يقوله تشيني في نفس الوقت، حيث قال بالحرف الواحد: "إن القوات الأمريكية لن تنتشر في الكرة الأرضية كقوات لحفظ السلام .. ولكن كمحاربين"!... وظل تشيني يطلق التصريحات في هذا الاتجاه ، حتى جاءت فرصته المواتية لحرب العراق .. بل الأحرى أن نقول إنه هو الذي صنع الفرصة وحرّض على الغزو وأعدّ له عدّته ...
أسلحة الدمار الشامل:
اختمرت أفكار الغزو في رأس " ديك تشيني " مبكراً أثناء حرب الخليج سنة 1991م وتبلورت في خطة عرفت باسم "عملية العقرب" بل فكر فيما سيترتب على الغزو من غنائم وأسلاب فضمّنها في خطة سرية أخرى سماها "سياسة الطاقة للولايات المتحدة" اعتبرت بترول العراق الذي يمثل 10% من احتياطي بترول العالم جزءاً من الممتلكات الأمريكية ...
ولكي يقدّم للعالم مبررات للحرب تدخل بطريقة غير مسبوقة للتأثير على تقارير المخابرات المركزية CIA .. فكثرت زياراته – على غير عادة مألوفة – لهذه المؤسسة ، وأبْدى لهم تأفّفه من عدم تجاوبهم مع إدعاءاته بشأن أسلحة الدمار الشامل ، واليورانيوم الذي حصل عليه صدام حسين من النيْجر [حسب زعمه] ، وعلاقة الرجل بالقاعدة – قال لهم: "لماذا لا تدعّم مخابراتكم ما نعرف أنه قائم هناك".. فاضطر رجال المخابرات للرضوخ لرغبات تشيني الجامحة .. ولُفّقت التقارير ...!!
فاق تشيني الجميع في خصوصية تميّز بها ، وهي أنه استطاع دائماً أن يبرهن على استعداده للتضحية بكل المبادئ في سبيل طموحاته .. وخدمة من يتوسم فيهم أن يساعدوه على تحقيقها .. وفي هذا تكمن عبقرية تشيني وجاذبيته عند أولئك الذين يمسكون بمفاتيح السلطة في كل موقع ...
حرفة اكتساب السلطة:
عمل تشيني لفترة طويلة قريباً من مواقع السلطة العليا وكانت تسيطر عليه رغبة عارمة في أن يكون صاحب سلطة مثلهم .. إلا أن طموحات المطالب بالعرش تحطّمت على صخرة الحقائق الأمريكية القاسية.. فهو يعلم أنه لا ينتمي إلى عائلة ذات اسم كبير، ويفتقر إلى العلاقات العائلية الواسعة كما يفتقر إلى الارستقراطية ووسامة الطلعة المطلوبة للبروز .. ومن ثم وطّن نفسه على قبول حقيقة أن المركز الأول في البيت الأبيض أمل مستحيل ، غير أنه لم يفقد الأمل مطلقاً أن يحظى بمركز (الوصيّ على العرش) بضربة من ضربات الحظ ..!!
"يفهم ديك تشيني أكثر من غيره دقائق حرفة اكتساب السلطة"، ويعرف كيف يستخدم أساليبه الميكافيلية في إزاحة الشخصيات السياسية المتقدمة عليه في السلطة ، فإذا أصبح المنصب شاغراً جاءته الفرصة للتقدم إليه ... فعل هذا عندما كان رئيساً لهيئة موظفي البيت الأبيض في عهد إدارة الرئيس "جيرالد فورد" .. حيث تآمر مع صديقه "رامسفيلد" على إزاحة كيسنجر "مستشار الأمن القومي"، ثم تآمرا على إزاحة روكلفر نائب الرئيس ونجحا في مسعاهما .. واكتسب تشيني ثقة الرئيس فورد فأسند إليه إدارة حملته الانتخابية سنة 1976 ففشلت الحملة وسقط فورد ، الذي اعترف فيما بعد أنه أخطأ خطأً فاحشاً بالتخلي عن نائبه روكلفر .. وكان يجب أن يعترف بخطأ آخر عندما أسند إدارة حملته الانتخابية إلى تشيني ، فهذا الرجل قد يتقن العمل السري ولكنه كثيراً ما يفشل في التحديات العلنية ، حيث يتحكم الهوى والتعصبات والمصلحة الشخصية في أحكامه وتقديراته ...
الجذور والنشأة:
في حياة ديك تشيني كثير من الادعاءات وإنكار الحقائق والتفاخر بإنجازات لم يحققها .. ومن هذه الادعاءات أنه دأب على نسبة نفسه إلى ولاية "وايومنج" التي رشح نفسه عنها عدة مرات في مجلس النواب وفي الكونجرس .. وهو في الحقيقة لم يولد في هذه الولاية ولم يكن له سكن بها كما تشترط قوانين الترشيح للانتخابات.. ولكن أصدقاء له من ذوى الثروة والنفوذ يسّروا له أمور السكن والتسجيل والدعاية الانتخابية في الولاية ...
وقد بحث "جون نيكولز" هذه النقطة فلم يجد لشجرة أسرة تشيني جذوراً في هذه الولاية.. فهم ينتمون إلى مهاجرين بريطانيين من "البيوريتان" الذين استقروا في نيو إنجلند .. ولم يكن لهم نصيب مع المغامرين الذين اقتحموا الغرب الأمريكي وصنعوا لأنفسهم ثروات ومزارع واسعة ، بل قنعوا بالعمل موظفين صغاراً في الحكومة والبنوك ...
كان تشيني أكبر أخوة ثلاثة ، ولد ونشأ في" لينكولن" وظل فيها حتى بلغ سن المراهقة .. وكان أبواه من الأتباع المخلصين للحزب الديمقراطي ، فلما وُلد ابنهما هذا في 30 يناير سنة 1941 أسموه "ريتشارد بروس تشيني" وقد وافق هذا التاريخ عيد ميلاد الرئيس "فرانكلين روزفلت" فكانت مناسبة سعيدة للأبوين .. لكن "ديك" هجر الولاء السياسي لأبويه في وقت مبكر والتحق بالحزب الجمهوري .. ورغم حب الأبوين لديك إلا أنهما لم يكونا راضيين عن اختياره السياسي .. هذه النقلة للحزب الجمهوري وهو حزب الأثرياء ومصالح النخبة من رجال المال والأعمال تكشف عن رغبة مبكرة عند ديك تشيني للانفصال عن طبقته ومبادئها الليبرالية ..كما تكشف عن تطلّعاته إلى الثروة والسلطة.
تغيرت أحوال الأسرة بعد الانتصار الساحق للجمهوريين بفوز "دوايت أيزنهاور" عام 1953 بعد غياب عن السلطة لعقدين من الزمن ، فاضطرت إلى النزوح إلى ولاية "وايومنج" لتستقر في بلدة صغيرة اسمها "كاسبر" وهي ولاية غنية بالبترول ومعامل التكرير .. ولعل هذا المجتمع البترولي هو الذي فتح عيني ديك تشيني الصغير على سحر الطاقة وما يحيطها من ثروة وقداسة ونفوذ.
ويلاحظ "جون نيكولز" أن ديدن تشيني في كل مسيرة حياته أن يكون مسانداً لنجمِ ما من وراء ستار .. فهو دائماً ما يقف خلف المسرح يدعّم الممثل في أداء دوره ويلقّنه ، بينما الممثل هو الذي يواجه الجماهير ويتفاعل معهم ...
الفشل في الدراسة الجامعية:
أبرز ما في تشيني اعتداده الظاهر بنفسه وعدم خجله من عرض مواهبه وقدراته على الآخرين بكلام لبق، ومن ثم حظي برضا رجل البترول الجمهوري "توم ستروك" فلما تخرج من المدرسة الثانوية في خريف 1959 ساعده الرجل على الالتحاق بجامعة ييل ، ولكن تشيني فشل في دراسته لأنه سلك نفس مسلكه في المدرسة الثانوية الذي اتّسم بالتراخي في التحصيل الأكاديمي والاستغراق في الأنشطة الاجتماعية والرياضية ، غير أن الدراسة الجامعية كانت تحتاج إلى جهد أكبر ومثابرة لم يعتد عليها تشيني ..
لم يكن تشيني مهتمّاً بأي مادة دراسية تُقدّم في جامعة ييل، اللهم إلا مادة واحدة لفتت نظره فمنحها شيئاً من الاهتمام .. إنها مادة " الدراسات الدولية والعلوم السياسية " التي كان يقوم بتدريسها بروفسور "د.هـ برادفورد وسْترفيلد" ..
رأي وسترفيلد:
كان وسترفيلد في ذلك الوقت متحمّساً لانخراط أمريكا في صراع الحرب الباردة ويحبذ التدخل لإسقاط الحكومات الأجنبية لترجيح كفة الغرب ضد الاتحاد السوفييتي ، وكانت هذه الأفكار تروق لتشيني ولم ينطفئ إعجابه بها رغم مرور أكثر من أربعين سنة عليها ، وكانت هذه الأفكار نفسها هي التي سيطرت على عقله وهو يخطط لغزو العراق وإسقاط صدام حسين .. وظل تشيني ينسب الفضل في هذه التوجهات إلى بروفسور "وسترفيلد" ، ثم تأتي المفارقة هنا في أن الأستاذ غيّر موقفه مع مرور الزمن وفشل التجربة الأمريكية في فيتنام واكتساب حكمة السنين ، بينما التلميذ المنبهر لا يزال يردد نفس الأفكار التي عفا عليها الزمن ...
وكالعادة ذهب جون نيكولز يتحرّى الحقيقة عند الطرف الأصلي (عند وسترفيلد).. وفي هذا يقول: "معظم أساتذة الجامعة يسرّهم أن يتذكرهم طلابهم السابقون فيما عدا وسترفيلد مع ديك تشيني .. فقد بدأ يسمع في الثمانينات عن عضو في الكونجرس من الجناح اليميني في الحزب الجمهوري ، دائم الذكر لاسمه وهو يتحدث عن الأفكار التي أثّرت في عقيدته السياسية .. ولكن وسترفيلد لم يكن سعيداً بذلك على الإطلاق .. ومن ناحية أخرى لم يستطع أن يتذكر شخصاً بهذا الاسم بين طلابه القدامى .. ثم يعلق قائلاً: "إن كلامي في الماضي عن الحرب الباردة كانت له ظروفه الخاصة ولم أكن أدرك آنذاك أنها أفكار خاطئة وغير عملية فلما تبين لي تغيرت وجهة نظري" .. وهكذا تحول وسترفيلد إلى المعسكر المضاد لأفكار تلميذه ، التي تجمدت فلم تتطور مع مرور الزمن، ولا استطاع هو أن يستوعب الواقع المتغير في هذا العالم.
يقول وسترفيلد: "إنني لا أفهم رؤية تشيني لعالم اليوم .. وما أفهمه منها لا أتفق معه فيها.. إن ديك تشيني على النقيض من فكرتنا عن عالم اليوم كما نفهمه للأسف .. ومن الواضح أن بوش يعتمد عليه كلّية .. إنه رجل يفضل العمل من وراء ستار .. ولكني أرى تأثيره على بوش كبيراً .." .
وأثناء الحملة الانتخابية الأخيرة قال وسترفيلد: "إنني أريد حقيقةً هزيمة بوش وتشيني ، وأشعر أن هذه الإدارة لا تريد أن تعمل في تعاون مع العالم .. وهذا هو المقترب الخاطئ الذي تسلكه أمريكا .. إن بلادنا أمامها عمل كثير يجب إنجازه لإعادة بناء مصداقيتها في العالم .." وهو لا يرى أي أمل في تشيني حيث يقول: "إنه شخص غير قابل للإصلاح .. ويبدو أنه مصمم على المضيّ في طريقه مهما صادمته حقائق الواقع .. إنه لأمر يدعو إلى القلق"...
النهوض بعد الانهيار:
اضطر تشيني إلى الانسحاب من جامعة "ييل" لفشله في الدراسة بها ثم تكرر فشله مرة أخرى في جامعة "نيوهافن" فعاد إلى "وايومنْج" .. وأخذت حالته الاجتماعية تتدهور حتى اضطر للالتحاق بالعمل في مشروع مد خطوط القوى الكهربائية بالولاية كأي عامل يدوى بسيط ..
وفي سنة 1962 وقد بلغ الواحدة والعشرين من عمره أُلقي القبض عليه متلبّساً بقيادة سيارة وهو تحت تأثير الخمر .. فسُحبت رخصة قيادته لمدة ثلاثين يوماً وتم تغريمه مائة وخمسين دولاراً .. ولكنه ظل يقع في نفس المخالفة .. فلما تكرر اصطدامه مع الشرطة والقانون بدأ يتنبه إلى حالته والمصير الذي يمكن أن ينتهي إليه .. في هذه الأثناء كانت صديقته "لين فنْْسنْت" التي تعرّف عليها وصاحبها خلال الدراسة الثانوية تواصل دراستها الجامعية بنجاح في جامعة "كولورادو" .. فلما فاتحها صديق لهما بأن تشيني يريد الزواج منها قالت له باستنكار: "أنا لن أربط حياتي بعامل في خطوط القوى الكهربائية" ...
لعل هذه الصدمة هي التي أيقظت روح التحدي في نفس تشيني فهب يستأنف دراسته بجامعة "وايومنج" وتزوج من "لين" سنة 1964 قبل أن يتخرج بعام واحد ، ثم حصل على الماجستير في العلوم السياسية .
خلال هذا كله لم يقطع تشيني صلته أو نشاطه بالحزب الجمهوري بل أخذ يطوّر علاقاته مع شخصيات مهمة تمهيداً للدخول في اللعبة السياسية.. وكان يساعده في ذلك "دارين مورتون" و "جو ماير" و"ألان سمبسون" فكان مورتون يتحمّل دفع شيكات حملاته الانتخابية ويؤكد لمراسلي الصحف المتشككين في انتماء تشيني لولاية "وايومنج": إنه ابن وايومنج البار.. وفي مقابل هذه المساعدات سخّر تشيني نفسه مدافعاً قوياً عن مصالح أصدقائه الذين كانوا يسيطرون على صناعة الطاقة في الولاية ...
عمل تشيني لفترة قصيرة رئيساً لهيئة موظفي البيت الأبيض في إدارة جيرالد فورد، فلما هُزم فورد في الانتخابات عاد تشيني سنة 1976 يرشح نفسه لمجلس النواب ، ثم تخلى عن المجلس سنة 1989 ليعمل وزيراً للدفاع في إدارة جورج بوش الأب ، فلما خسر بوش أمام بل كلينتون في انتخابات الرئاسة للفترة الثانية خرج تشيني مرة أخرى ليعمل مديراً عاماً لشركة هاليبارتون ، التي ارتبط اسمه بها ارتباطاً وثيقاً منذ عام 1995، وإن كانت صلته بهذه الشركة أسبق من هذا التاريخ بزمن طويل .. وبقيت حتى يوم الناس هذا ...
المظهرية والتهرب من الخدمة العسكرية:
يلفت "جون نيكولز" نظر قرائه إلى ملاحظات مثيرة في سيرة حياة ديك تشيني السياسية فقد سجل عليه خلال خمس سنوات فقط بين 1995 و 2000م أنه تخلف عن الإدلاء بصوته الانتخابي 24 مرة في انتخابات محلية وفيدرالية مما يشير إلى ضعف إيمانه بجدية العملية الديمقراطية.. كذلك ثبت من سلوكه وتصريحاته أنه لا يكنّ أي احترام لمجلس النواب أو الكونجرس .. وإنما كان مضطراً للانغماس في هذه اللعبة لأنه لا يوجد طريق آخر لتحقيق هدفه في الوصول إلى قمة السلطة ..
كذلك يسجل "جون نيكولز" على تشيني تهرّبه من الخدمة العسكرية أثناء الحرب الفيتنامية ، حيث كانت نعوش الجنود القتلى تأتي إلى الوطن بالمئات .. لم يشأ أن يفعل كما فعل كلينتون مثلاً الذي أعلن معارضته لهذه الحرب القذرة ، وانضم إلى صفوف المعارضة الوطنية التي انطلقت في كل مكان .. أما تشيني فقد استقر خلف أعذار: الدراسة والزواج والإنجاب وظل ينتحل الأعذار لتأجيل التجنيد حتى انتهت الحرب .. وكان عليه بعد أن رشحه بوش الأب – وزيراً لدفاعه – أن يقف أمام الكونجرس ليجيب عن سؤال: لماذا امتنع عن أداء الخدمة العسكرية ؟ فكان رده: "لاشك أني كنت سأشعر بالسعادة أن أقوم بذلك لو طُلب مني .." ولكنه اعترف لصديق له هو الصحفي "جورج سى ولسون" قائلاً: "كان لديّ أولويات أخرى في الستينات أهم من الخدمة العسكرية ..!".
ومن باب المظهرية واكتساب الشهرة التحق تشيني بجامعة "وسْكونْسنْ" لدراسة الدكتوراه واتخذ من ذلك مدار أحاديث عن طموحاته العلمية ، وبعد أن أحدثت الواقعة آثارها الدعائية انسحب من الدراسة بزعم أنه لم يكن ينقصه سوى تقديم الرسالة لولا أن اعترضتها الوظيفة .. وببحث هذه الواقعة تبين لجون نيكولز زيف ادعاءات تشيني الذي تقدم لدراسة الدكتوراه ثم انسحب منها.. فالجامعات ومراكز البحث والدراسة ليست هي المجالات التي تجتذب تشيني وتبرز مواهبه فإن له مجالات أخرى بعيدة كل البعد عن الدراسة الأكاديمية ...
وظيفة حامل حقيبة:
كان حاكم ولاية "ويسكونسن" "دارين نويلز" من الرعيل المعتدل ذي الشهرة والمكانة في الحزب الجمهوري .. وقد كان يجمع حوله الشباب ممن يتوسم فيهم مواهب يمكن أن تفيد الولاية في المستقبل ، ومن ثم اتجهت قرون الاستشعار عند تشيني إلى هذا الرجل حتى استطاع أن يلتحق بمجموعته ، وكالعادة لم يثبت تشيني نجوميته في هذه المجموعة إنما تميز بمثابرته وحضوره واستماتته في أن يقوم بأي عمل مهما كان متواضعاً .. ولذلك لم يخجل من وظيفة حامل حقيبة "دارين نويلز" في سفرياته داخل الولاية ، فماذا كانت تحتوى هذه الحقيبة ..؟..
كانت الحقيبة مليئة بشارات للدعاية الحزبية .. وكانت مهمة تشيني أن يمر على جميع الحاضرين للاستماع إلى خطاب حاكم الولاية ويتأكد أن كل شخص قد ثبّت الشارة على صدره.
الغريب أن وظيفة حامل الحقيبة هي التي وضعت تشيني في المكان المناسب في الوقت المناسب .. فقد حدث في ذلك الوقت أن انتصر الجمهوري الشاب اللامع "بل ستيجر" .. على منافسة الديمقراطي كنائب للولاية ، وانتقل إلى واشنطن وكان يحتاج إلى بعض المساعدين ، وكان تشيني هو الاختيار الرابع بعد اعتذار ثلاثة من المرشحين، فرحّب متحمساً للانتقال إلى واشنطن، وبذلك كانت سنة 1968 هي نهاية دراسته الجامعية وأول رحلة له في قطار السلطة...
دونالد رامسفيلد:
عندما انتقل تشيني إلى واشنطن كان قد بلغ السابعة والعشرين من عمره، فوجد قرناءه مستقرين في وظائف سياسية مرموقة .. أما هو فقد جاء تابعاً يتعلم .. فأخذ يتلفت حوله علّه يجد شخصاً مناسباً يتعلق بأهدابه ليصعد به سريعاً إلى هدفه .. حتى وقع انتباهه على "دونالد رامسفيلد" فهو أكبر منه بتسع سنوات و من عائلة غنية .. نشأ في ضواحي شيكاغو ، و كان ناجحاً في دراسته ، نجماً في أنشطته الرياضية .. كان مختلفاً تماماً عن تشيني ، فقد تطوع في القوات البحرية .. وفي الخمسينات عمل مساعداً لرجل الكونجرس "روبرت جريفين" ثم حظي بمقعد في مجلس النواب ..
وعندما وصل تشيني إلى واشنطن كان رامسفيلد يقضى فترته الثالثة في الكونجرس .. اشتهر بلباقته وبجرأته الخشنة .. فهو لا يتورع عن التصادم مع المخالفين له في الرأي .. بعكس تشيني قليل الكلام .. المتحفظ الذي يؤثر المواربة والإنكار والتستّر. فلا غرابة أن يتطلع إليه تشيني بحسد ويتابعه حيثما توجّه ، إلا أنه لم يحظ باهتمام رامسفيلد .. وبدلاً من الانصراف عنه تقدّم إليه تشيني وعرض خدماته عليه ، فخيّب رجاءه .. ولكن تشيني ليس من دأبه اليأس فأخذ يتربص حتى جاءته فرصته المواتية، بمحض الصدفة (مرة ثانية).. فقد رأى على مكتب معلّمه "بل ستيجر" رسالة من رامسفيلد يخبره فيها أن الرئيس نيكسون قد أسند إليه إدارة مكتب جديد في البيت الأبيض لمساعدة المحتاجين اقتصادياً ، ويطلب مشورته في إنشاء هذا المكتب وطريقة عمله .. وهكذا هبطت على تشيني فرصة سانحة ، فقد تطوّع بكتابة مذكرة مفصلة، فلما بلغت رامسفيلد وجد توقيع ديك تشيني عليها .. فتمهل بعض الوقت ثم استدعاه ومنحه وظيفة مساعده الخاص ..
وكانت هذه نقلة أخرى كبيرة وضعت أقدامه لأول مرة في البيت الأبيض مهبط أحلام تشيني .. من هذه النقطة توثّقت علاقة الرجلين لتستمر ثلاثين عاماً .. كان رامسفيلد هو البطل في مقدمة المسرح طليق اللسان متألقاً ومن خلفه تشيني يكتب له ويلقّنه .. إنه دوره التقليدي لم يفارقه حتى سنة 2000م، عندما لاحت أمامه فرصة عمره النادرة ليرشح نفسه نائباً للرئيس بوش الابن .. عند هذه النقطة وكز تشيني صديقه الحميم رامسفيلد فألقاه جانباً، وقفز هو إلى المركز الذي قضى عمره يتطلع إليه...
استمرار الحرب:
هذه الحالة العقلية التي تسيطر على تفكير تشيني وتدفعه بقوة خفية لحرب المستضعفين في الأرض، لم تأت محض صدفة، ولا علاقة لها بواقعة 11 سبتمبر سنة 2001م، ولا بأي أحداث أخرى، فقد بدأت نذرها واضحة في وقت مبكر عندما كان تشيني وزيراً للدفاع وانهار الاتحاد السوفييتي .. وظن الناس أنه لم يعد هناك معنى لاستمرار سباق التسلح ذي التكاليف الباهظة .. وتوقع الأمريكيون أن تتحول بلايين الدولارات المخصصة للبنتاجون إلى تمويل الاحتياجات الإنسانية .. ومن هؤلاء سناتور "إدوارد كنيدي" الذي قدّر ما يمكن توفيره من إنفاقات البنتاجون بما يقرب من 210 مليارات دولار سنوياً .. يمكن استخدامها في مجالات التنمية الإنسانية في أمريكا وحول العالم .. وبذلك يتغير المناخ العالمي المتوتر الذي يدفع إلى التطرف والإرهاب ...
لقد أتيحت لديك تشيني فرصة نادرة لاختيار الاتجاه الإيجابي لكي يقود الولايات المتحدة ومن ورائها العالم بأسره بعيداً عن حافة الحرب النووية .. بعيداً عن المتلاعبين بمخاوف شعوب الأرض وأن يهيئ المناخ الصحي لتنظر الشعوب بعضها إلى بعض كجيران متعاونين على هذا الكوكب المشترك ، لكن تشيني نبذ هذا الاختيار .. وبدأ يفصح عن مخططاته ، فأكد أن العقود القادمة ستكون عقود حروب ضارية .. وقال: "إن أمريكا لن تتخلى عن دور شرطي العالم رغم انهيار الاتحاد السوفييتي" .. وقال مرة أخرى في خطاب له أمام مجلس الشئون العالمية: "أنا لا أعتقد أن فكرة التهديد العسكري للمصالح الأمريكية كانت من اختراع الحزب الشيوعي فقط ، ولسوف تبقى الفكرة بعد زواله".
في عقيدة ديك تشيني عنصران لا ينفصمان مَنْ جهلهما يصعب عليه أن يفهم هذا الرجل أو يدرك مدى خطره على أمريكا وعلى العالم: العنصر الأول هو استمرار الحرب في ظل مشروعه "القرن الأمريكي".. وذرائع الحرب متوافرة ، فإذا انكشف زيفها جاء بذرائع جديدة .. ولن يصعب على ديك تشيني شيء ، فمن أبرز خصائصه أنه لا يعبأ بالواقع ولا يبدأ بالحقائق، إنما هو يتخيل ما يريد أن يكون ثم يلوي ذراع الحقائق لتتواءم مع ما تخيّله مهما كان جموحه .. وهكذا يأتي الواقع وفقاً لما تخيله ...
أما العنصر الثاني فهو السيطرة المطلقة على مصادر البترول في بلاد المسلمين واستنزافها لصالح شركات السلاح والبترول الأمريكية .. وقد تبلورت هذه العقيدة عملياً في علاقته المصيرية بشركة هاليبارتون ...
هاليبارتون :
عندما سقط بوش الأب في انتخابات الرياسة أمام بل كلينتون أدرك أن هذه هي نهايته السياسية، أما وزير دفاعه ديك تشيني فقد غاب عن الساحة السياسية خمسة أعوام ابتداءً من سنة 1995 ثم عاد إليها في منصب أخطر مع بوش الابن سنة 2000، خلال هذه السنوات الخمس تولى فيها إدارة شركة هاليبارتون بمرتب سنوي بلغ 44 مليون دولار ..
فلا عجب أن تكون هاليبارتون والشركات التابعة لها أول من دخل العراق مع القوات الغازية ، لتقديم خدمات لوجستية وإصلاح مرافق حيوية دمرتها الحرب .. دخلت بلا إجراء مناقصات ولا منافسات "ولا يحزنون" وفرضت أسعاراً فلكية مستفزة على خدماتها ، أثارت ضجة إعلامية وجدلاً عنيفاً في الكونجرس .. ولا تنتهي القصة عند هذا الحد .. ففي عهد إدارة تشيني لهاليبارتون توسعت معاملاتها بالخارج توسعاً هائلاً استطاعت من خلاله أن تلتف حول الإجراءات القانونية للتهرب من دفع ملايين الدولارات ضرائب مستحقة عليها للحكومة الأمريكية.
وفي عام 2003 – وديك تشيني في قمة السلطة – وافق الكونجرس "بدفع قويّ منه" على اعتماد 87 مليار دولار إضافية لمواصلة احتلال العراق فكم كان نصيب هاليبارتون من هذا المال السائب ؟ حصلت هاليبارتون على حق إعادة بناء صناعة البترول في العراق ، واستهلّت بتحصيل 37.5 مليون دولار لإطفاء حرائق الآبار.. وفي خريف نفس العام بلغت أرباح هالبيارتون ما يزيد على سبعة مليارات دولار، ارتفعت إلى أحد عشر ملياراً في ربيع 2004، ولم يتوقف النهب عند هذا الحد فقد مكّن تشيني هاليبارتون من توقيع عقود مع البنتاجون قيمتها 105 مليارات دولار تحصلها خلال العقد القادم . وقد علق على هذا سناتور "واكسمان" فقال: "إننا نعلم أن هاليبارتون حصلت على معاملة خاصة جداً .. ولكن الذي نريد أن نعرفه هو: لماذا.. ؟؟" .
ورغم أن تشيني أنكر صلته بهذه العملية وأنه قطع كل علاقاته مع هاليبارتون وتخلّص من كل مصالحه المالية معها ، فإن سناتور "فرانك لوتنبرج" يدلل بالوثائق على أن علاقات تشيني بالشركة لا تزال قائمة وأنه لا يزال يحصل على مئات آلاف الدولارات منها سنوياً وهي مبالغ تفوق في قيمتها مرتبه من البيت الأبيض..!
شهادة نيلسون مانديلا:
خلال وجود تشيني بالكونجرس كان يصوّت مع قلّة من عتاة اليمينيين ضد كل مشروع إنساني . وقد رصد له جون نيكولز خمسة وعشرين حالة في هذا المجال ، وكلها مشروعات قوانين تتصل بحقوق الإنسان وتنقية البيئة ومصالح العمال والمستضعفين والمحتاجين .. وكان هذا الموقف مقصوداً لأن تشيني كان حريصاً دائماً على أن يبعث بإشارة متصلة للقوى الرجعية في الحزب الجمهوري: إنني رجلكم المناسب القادر على خدمة مصالحكم وخططكم.
ومن بين المشروعات التي صوّت ضدها : مشروع قرار لدعم الجهود السلمية لإنهاء التفرقة العنصرية والإفراج عن نيلسون مانديلا ورفاقه .. ولم ينس مانديلا هذا الموقف لتشيني، ففي لقاء صحفي مع "جون نيكولز" قال له: "كثير من الأمريكيين يدهشون لأنك تبدى مشاعر ُودّية لرئيس جمهوري .. والجمهوريون معروفون بعنصريتهم .. فأجاب مانديلا قائلاً: ولكني لست متحمساً لوزير دفاعه، ولست سعيداً أبداً بمستر تشيني هذا .. إنه ديناصور من العصور البالية .. وهو رجعي عقيم الفكر"..
وفي لقاء آخر تحدث معه عن غزو العراق فقال مانديلا: "إن بوش الصغير أُسيئ نصحه.. والذي فعل هذا هو تشيني نائب الرئيس .. إن تشيني لم يشأ أن يجعل الرئيس بوش منتمياً إلى العصر الحديث" ..
ويتساءل جون نيكولز: ما الذي جعل مانديلا يتخذ هذا الموقف من تشيني، وهو الذي اشتهر بالتسامح وسعة الصدر، وهو الذي عفا عن سجّانيه وغفر لأعدائه.. ؟ يقول مانديلا: "يعلم الجميع أن أغلبية أعضاء الكونجرس قد صوّتوا للإفراج عنى إلا تشيني الذي وقف معارضاً .. قد أستطيع أن أغفر له هذا ، ولكني لا أستطيع أن أتغاضى عنه هو شخصياً فهو لم يتغير أبداً .. أنا لست قلقاً بسبب سجله التاريخي في التصويت .. وإنما قلق بسبب سلوكه ومواقفه في القرن الجديد .. إننا أمام رجل ليس محافظاً فقط بل رجعي متخلف .. والمشكلة الأكبر هنا ليست في جورج بوش الابن وإنما في" ديك تشيني" فهو الرئيس الفعلي للولايات المتحدة..!! "