بقلم الدكتور محمد موسى الشريف
المشرف العام على موقع التاريخ
هذا موضوع مهم وخطير؛ خاصة في هذا الوقت الذي تموج فيه بعض البلاد العربية بالتغيير المفاجئ والقوي والسريع، وأعني بالتوافق المجتمعي أن يجتمع كثير من الناس في كل بلد إسلامي على كلمة سواء فيها حد أدنى من التوافق على ثوابت لا يصح الاختلاف فيها ولا التنازع حولها، وإنما قلت ذلك لأن البلاد التي تحررت من الطغيان تموج بالخلافات التي تكاد تعصف بها، وبعض البلاد العربية التي لم تتعرض للتغيير ولا الثورة أيضاً تموج بالخلافات وتعصف بها النـزاعات، وهذا خطر كبير على كل تلك المجتمعات فلابد من التدارك قبل أن نخسر كثيراً.
أركان التوافق الاجتماعي :
في كل بلد هنالك أركان يعتمد عليها المجتمع - بعد الله سبحانه وتعالى - وهي:
1. الحكام.
2. العلماء.
3. الدعاة.
4. التجار.
5. الوجهاء.
6. الإعلاميون.
أما العلماء والحكام فهم أولياء الأمور الذين وردوا في قول الله تعالى: (ياأيها الذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم) وقد فسر كثير من المفسرين (وأولى الأمر) بأنهم العلماء والحكام، وهما أشد أركان المجتمع تأثيراً فيه.
ثم يأتي من بعد ذلك الدعاة إلى الله تعالى الذين هم صِمَام الأمان في كل مجتمع، وهم الذين مدحهم الله -تعالى- في كتابه بقوله سبحانه (ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صلحاً وقال إنني من المسلمين).
ثم يأتي بعدهم الإعلاميون الذين يؤثرون في المجتمع أشد التأثير بما يبثونه فيه من أخبار وقصص وأعلام وتمثيليات وعواطف وأشواق وآمال وآلام، ولهم تأثير منتشر لا يُنكر في التفاز والقنوات الفضائية والإذاعات والجرايد والمجلات إلى آخر تلك الوسائل.
ومن بعدهم يأتي وجهاء المجتمع ورواده من أطباء ومهندسين ومحامين ومدرسين وغيرهم من الموظفين من غير الفئات الماضية، وتأثيرهم منبعث من صلتهم بالمجتمع وأفراده كلٌّ في مجاله.
ومن بعدهم يأتي التجار ورجال الأعمال من غير الفئات السابقة بما لهم من أثر بالغ في إثراء المجتمع وإغنائه وقيام المشاريع النافعة فيه.
أما غير هؤلاء المذكورين فهم تبع - في العادة- لمن ذكرتهم.
ـ هذه الأركان إن اجتمعت في أي مجتمع على حد أدنى من التوافق كان ذلك من سعادة هذا المجتمع وعناية الله تعالى به.
ما هو الحد الأدنى المطلوب في التوافق الاجتماعي؟
الحد الأدنى المطلوب في التوافق الاجتماعي هو التالي، في ظني وتصوري، والله أعلم :
1. الإسلام هو العقيدة التي يجب اعتقادها والتمسك بها لقوله تعالى: (ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخسرين) وإذا وجد في أي مجتمع إسلامي طوائف من غير المسلمين فهي خاضعة لحكم الإسلام السمح فلا ظلم واقعاً عليها ولا حيف ولا مصادرة لحقوق.
2. أحكام الإسلام هي التي يجب أن يحتكم إليها أفراد المجتمع من المسلمين، وفي ذلك قال تعالى :(فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) وقال تعالى : (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم)
3. الإسلام له اليد العليا، وهو الموجه الأوحد في جميع الجوانب الحاكمة للمجتمع وذلك في الجوانب السياسية والإعلامية والاقتصادية … إلخ.
4. محاربة الفساد الخلقي، والسلوك السيء، فليس في المجتمع الإسلامي مكان للفواحش والموبقات، ولا يسمح فيه بإساءة استعمال الحريات.
فإذا اتفق أركان المجتمع على ذلك المذكور آنفاً عاش المجتمع في أمان ورضا وسكينة وطمأنينة، وأما إذا اختلف أركان المجتمع فيحصل الفساد في المجتمع بقدر ما يحصل من خلاف بين أولئك ونزاع وشقاق.
أما الخلافات التي يمكن تجاوزها في هذا التوافق المجتمعي فهي - على سبيل المثال-:
1. الخلافات الفقهية المعتبرة بين الفقهاء، فمن سلك من الناس سبيلاً له فيه سند فقهي معتبر ولو خالف فيه الآخرين فلا ينبغي التشنيع عليه ولا التشهير.
2. الخلافات الناشئة عن سوء الفهم لنصوص شرعية أو تاريخية وليس عن قصد المخالفة للكتاب والسنة ولا إرادة الفساد في المجتمع فهذه الخلافات يُنصح أصحابها ويُبين لهم الحق لكن بدون تشنيع أيضاً وبدون تشهير لأن هؤلاء أصحاب نيات حسنة وإن ساءت أعمالهم.
3. بعض المعاصي التي يقترفها الشخص ولا يعلنها ولا يروج لها بل هي بينه وبين الله تعالى فإنه ينصح ويوعظ لكن لا يُشَهّر به ولا يشنّع عليه ولا يُفضح بسببها.
ـ ولو سار المجتمع على هذا النحو لنشأ فيه توافق مجتمعي رائع جليل يُحافظ به على بنية المجتمع وتماسك أفراده.
ـ ولا يطمعنّ طامع أبداً أن يسود هذا التوافق جميع طبقات المجتمع المذكورة آنفاً بل سيبقى أشخاص كثيرون خارج هذا التوافق، رافضين له، وتلك طبيعة أي مجتمع بشري، لكن حسبنا أن نصل في هذا التوافق إلى الأغلبية التي هي نصف المجتمع فصاعداً، إن صنعنا هذا فقد تجاوزنا القنطرة وحللنا العقدة في أي مجتمع.
كيفية عمل هذا التوافق:
يمكن البدء بهذا التوافق في المجتمعات التي فيها وئام بين الحكام وسائر أفراد المجتمع، وهذه هي الصورة المثالية للتوافق أي أن يدعو الحكام الآخرين إلى عقد هذا التوافق المجتمعي، وهناك أمثلة على هذه المجتمعات، التي يمكن أن يبدأ فيهما هذا التوافق بدعوة الحكام إليه وهو المجتمع المصري في وضعه الراهن، والمجتمع السعودي فيما يعرف بجلسات الحوار التي تنعقد فيه بين الفينة والأخرى بشرط أن يُحْسن اختيارُ المتحاورين وأن يمثلوا أركان التوافق المجتمعي وأن يخرجوا بوثائق مكتوبة.
أما المجتمعات التي ليس بين حكامها وسائر أفرادها وئام فينبغي أن يدعو العلماء الدعاة وسائر أفراد المجتمع لتحقيق هذا التوافق، ولا ينبغي أن يُتوقف طويلاً مع الرافضين بل من استجاب لهذا التوافق فحيّهلا به، ومن رفض فليُبحث عن غيره.
أما الشيعة في المجتمعات الخليجية والطوائف غير الإسلامية في المجتمعات العربية فيمكن أن تُدعى إلى التوافق المجتمعي لكن بشرط أن تخضع للأركان الأربعة التي سبق أن ذكرتها آنفاً، أما شعائر تلك المذاهب والطوائف، والحقوق الاجتماعية التي لهم فيعطونها على مقتضى أحكام الشرع المطهر فلا مجاملة ولا ظلم، والشريعة وأحكامها تسع الجميع، ولا تحيف على أي أحد.
كيفية إقامة كيان يعبر عن التوافق المجتمعي :
في ذلك طرائق وأمثلها أن تختار كل فئة من الفئات التي تكوِّن أركان التوافق المجتمعي بضعة أفراد يمثلونها في مجلس أعلى منتخب، وإما أن يُختار هؤلاء من قبل الحكام، أو يحصل توافق عليهم بصورة من صور التوافق المعروفة، والأفضل والأمثل هو الخيار الأول.
وهذا المجلس التوافقي -إن صح التعبير- يضع الخطوط العريضة للحد الأدنى من التوافق، مع الخوض في التفصيلات الكفيلة بضبط مساره، ويناقش ما يمكن عده مقبولاً وما لا يمكن، إلى أن يخرج بوثيقة تكون ممثلة لجميع أركان هذا المجتمع، ويمكن طرح ذلك في استفتاء شعبي فإذا صوت عليه 50% فأكثر من الشعب صار ذلك ملزماً للناس أجمعين، والإلزام هنا أدبي إلى أن تتبنى تلك الوثيقة الدولة عن طريق مجالسها التنفيذية والتشريعية والقضائية.
ولئن قال قائل: إن تكوين مجالس على هذا الوجه إنما هو برلمان آخر، فأقول لا ليس الأمر كذلك؛ لأن البرلمان قد ينحصر فيه التمثيل ببعض أركان التوافق الاجتماعي، ثم إن البرلمان له مهام رقابية وتشريعية ليست من اختصاص مجلس التوافق هذا.
هذه بعض الأفكار والتصورات الأولية في مسألة التوافق المجتمعي، وحسبي أني طرقت هذا الباب، وبدأت هذه المسألة، التي لا زالت بحاجة إلى نظر فاحص، وإنضاج وتحسين، والله أعلم.
المصدر : موقع التاريخ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق