الخميس، 13 أغسطس 2015

من يخسر لعبة الشرق الكبرى؟

من يخسر لعبة الشرق الكبرى؟



لماذا قلنا من يخسر ولم نقل من يكسب، هذه أحد مفاصل مسارات الأحداث الكبرى في الشرق الإسلامي اليوم، فالكسب يمكن تحقيقه في جولات أخرى لمحاور ودول المنطقة، لكن الخسارة اليوم قد تعني سقوطا مروعا لهذه الدولة أو تلك إن لم يكن إيذانا بذوبانها.
ما تعيشه المنطقة هو بالضبط سيناريو لعبة الكراسي التي يدور عليها اللاعبون ويجلسون عند كل جرس إنذار، ويخرج عندها أحد اللاعبين خاسرا وتتم تصفيته، وهو الذي كان في الجولة الماضية أحد عناصر تصفية العنصر السابق.


الحرب على داعش (تنظيم الدولة الإسلامية) تبدو عنوانا ضخما تمارس تحته حروب ميدانية شرسة بالوكالة عسكرية أو سياسية أو مخابراتية عميقة للغاية، فيما يدخل التنظيم منعطفا أكبر يعتقد فيه مريدوه أنهم في لحظة قيام خلافتهم العظمى، وتصفية كل خصومهم من المدرسة السنية الكبرى "المرتدة" وإخضاع جغرافيتها لهم، وإقامة دار التوحيد الكبرى بحسب تصورهم العقائدي الخاص.
"الحرب على داعش تبدو عنوانا ضخما تمارس تحته حروب ميدانية شرسة، فيما يدخل التنظيم منعطفا أكبر يعتقد فيه مريدوه أنهم في لحظة قيام خلافتهم العظمى، وتصفية خصومهم من المدرسة السنية الكبرى "المرتدة" وإخضاع جغرافيتها لهم"
فيما تصعد احتمالية كبيرة جدا، وهي أن تنظيم الدولة قد استنفد الفترة الزمنية له في لعبة الأمم ومخابرات الأطراف المتعددة، وأن لحظة تصفيته قد تكون قريبة، فيما يبقى السؤال الكبير هل يُصفى التنظيم أم يتشظى ويلقى على كرسي جديد في لحظة صعبة.

إن إشكالية المجموعات المسلحة الموغلة في الانحراف العقائدي المتطرف والمضطربة في ميدان تنظيمها العسكري والمطاردة من القوات الغربية المحتلة ومن مصالح الروس وإيران والنظام الرسمي العربي أنها لا تخلق لجسمها قاعدة تثقيف صلبة، ولا تأمينا فكريا ولا سياسيا، وتظل طريدة معرضة للحظة تشظٍ أو انهيار أو اختراق، لأنها لم تطرح في الأصل هدفا مركزيا، أو مرحليا لوطن قومي لأي شعب مسلم يعاني من احتلال أو اضطهاد.

ولكنها حلقة في دوامة فكرية وعسكرية تبحث عن الأرض المحروقة أو بقاء أرض تحترق حتى تُخترق هذه الجماعة أو التنظيم ذاته، وما يشهده الشرق الإسلامي من تصدع للقاعدة واستخدام داعش في محاربتها ونقض مناطقها درس تاريخي لمآلات الفوضى العسكرية والسياسية في المقاومة، والتي تتخذ من التطرف الديني قاعدة تنظير لا منهج الجهاد المستقيم لحق المضطهدين، وفقهه الدقيق لمصالح المسلمين.

ومع أن الملا عمر -وهو من القيادات البارزة التي ولدت في الشرق بعد سايكس بيكو فطن لهذه الفوضى مبكرا وقاد من غرفة جبلية نائية مشروع مقاومة تاريخي هزم الأميركيين والناتو والمخابرات الإقليمية والعربية معا ومات على ذلك- حاول أن يعزل مشروعطالبان الإسلامي للشعب الأفغاني عن فوضى التكفير القاعدي واضطرابها السياسي إلا أنه لم ينجح في ذلك.

ولعل حاجة المقاومة للحاضن الوطني الاجتماعي وما عاناه الشعب الأفغاني من ويلات الحروب، وغياب الرؤية الإسلامية السياسية للمصالح الضرورية للشعب الأفغاني، والحاجة الضرورية لتأمين استقرار سياسي بعد الانسحاب العسكري الغربي إثر الهزيمة، وتحويل هذا النصر لمشروع سياسي كانت أحد أهم أسباب فشل طالبان اليوم الذي يتزامن مع انشطارات كبرى وحرب داعشية خطيرة ضدها.

كما أن عدم حسم قيادات القاعدة البناء الفكري لها، واستقطابأفغانستان لكتل متهجنة من الغلو حوّل القاعدة من مفهوم شرعي وهو دفع الصائل الدولي أو المقاومة الإسلامية الدولية للمشروع الغربي الاستعماري إلى صراع محلي مفتت مع جنود وشرطة ودوائر خدمات حكومية في عمليات راح ضحيتها مدنيون كثر، وساخت أقدام القاعدة فيها، ثم هي اليوم تسقى من ذات الكأس بأيدي داعش.

إن فهم مصير هذه الجماعات وكيف تحول واقعها مع الزمن، وكيف ضربت من الداخل، وكيف تسقط اليوم مشروع طالبان إن لم تغير الحركة منهجيتها وتقرأ الواقع السياسي هو أحد معالم لعبة الشرق ودور فوضى التكفير للسلفية الطائفية، لا السلفية العلمية الراشدة في مثل هذه الأحداث الكبرى في الشرق الإسلامي، وهي مادة دراسة خصبة لا يفي معها كتاب واحد، فضلا عن مقال.
"تركيا العدالة تخطط لأن تنتهي العملية العسكرية إلى ضرب إستراتيجي لمشروع دويلة كوباني وميلشيا صالح مسلم المدعوم من الأسد وإيران، وقهر داعش عن حدودها، وفتح مساحة كبيرة للثوار في حدود تركيا وإقامة المنطقة الآمنة"
وحرب داعش الدولية اليوم من مهامها استثمار هذه التناقضات والفوضى وميدان المعركة لكل طرف يختلف عن الطرف الآخر، وكل يستخدم هذا المصطلح فيما تبدو مسارات اللعبة في هذه الاتجاهات، والتي سيحسمها من يجلس على الكرسي ويطرد الآخر:

1- إن أول محور واضح المعالم هو الغرب بقيادة الولايات المتحدة، وشراكة موسكو الجديدة بعد صفقة الغرب مع إيران، وقواعد الحرب لديه واضحة وهي تثبيت نظام العراق الطائفي، وتسوية الملف السوري بعيدا عن آمال الشعب وبشراكة مع الأسد أو بديل يفرزه النظام بمعادلة جديدة.


وعليه فإن خطة كيري لافروف الأخيرة تمهد لهذا السياق، وفي ذات الوقت لدى الغرب خشية من تطور فوضى داعش خارج كل الحسابات وتغيير قواعد اللعبة الأصلية، وبالتالي تسقط خلاصات التوافق الإقليمية الكبرى مع إيران في فوضى غير خلاقة لواشنطن الأقرب اليوم لإيران وجماعاتها المذهبية من أي وقت مضى.

2- المحور الثاني هو تركيا العدالة، وقد يسندها عمق ميداني للثورة السورية ومحور خليجي محدود لم ينضج بعد موقفه، وهنا قلنا تركيا العدالة لأن تركيا ليست واحدة في مثل هذا المضمار الخطير، فللمعارضة تصوراتها وإن ساندت المعارضة القومية أردوغان في القرار الحكومي العسكري لمواجهة تهديدات الأمن القومي.

لقد قررت تركيا خوض المغامرة الصعبة، ولكن بمساحة دقيقة من استثمار اضطراب المحور الآخر، لتخلق لها فرصة عبور واختراق تاريخي لا يمكن أن يُضمن.

لكن القاعدة التي اتخذتها أنقرة هي أن التقدم هو البديل الوحيد أمام مراقبة الوضع حتى لا تغرق تركيا وتُدحرج لها حربا داعش والـ"بي كي كي".

ولذلك فإن تركيا العدالة تخطط لأن تنتهي العملية العسكرية إلى ضرب إستراتيجي لمشروع دويلة كوباني ومليشيا صالح مسلم المدعوم من الأسد وإيران، وقهر داعش عن حدودها، وفتح مساحة كبيرة للثوار في حدود تركيا وإقامة المنطقة الآمنة.

وقد وجدت تركيا إعلان الحرب على داعش هو بوابة الدخول الوحيدة لتغيير قواعد اللعبة لصالحها، والتي كان الغرب يرفضها بقوة، فيما سيغض الطرف عنها اليوم أمام تسهيلات تركية عسكرية مهمة له في العراق، والذي اتضح فيها أن الغرب يخفي حقيقة عجز كامل النظام ومليشيات الحشد الطائفي عن إيقاف داعش فيه.

ولذلك فإن توجيه مواقف المحاور على الأرض سيكون دقيقا جدا ومختلفا في بعض مساراته عن عناوين التحالف الفضفاضة، وستترك للمخابرات العسكرية صياغتها، وليس لغة الإعلام والتصريحات السياسية.
"يسعى المحور الغربي والروسي مع إيران لنزع أكبر دعم من تركيا لعمليات نوعية ضد جبهة النصرة وأحرار الشام، فيما تقصف قواتهم تشكيلات مختلفة من الثورة السورية تحت مسمى حرب داعش، خاصة جيش الفتح، فلا معتدلين لدى هذا المحور إلا مفارز لا تُذكر تحارب داعش تنسيقا مع النظام"
ويسعى المحور الغربي والروسي مع إيران إلى نزع أكبر دعم من تركيا لعمليات نوعية ضد جبهة النصرة وأحرار الشام، فيما تقصف قواتهم تشكيلات مختلفة من الثورة السورية تحت مسمى حرب داعش، خاصة جيش الفتح، فلا معتدلين لدى هذا المحور إلا مفارز لا تذكر تحارب داعش تنسيقا مع النظام.

وليس من المتوقع فتح أنقرة هذه المساحات للغرب بل العكس، فمن صالحها ترسيخ المنطقة الآمنة ووضعها تحت قوة ثورية مأمونة، لكن الميدان في ظل هذه الحسابات لا يضبط بمستوى دقيق كما يظن البعض، بل تفتح بعض الجغرافيا وتختلط بعض المواقع، ولكن يبقى الخيار هو نجاح أنقرة في تنفيذ المنطقة الآمنة على الأرض، واضطرار الغرب للقبول بها وتأمين سلاح الجو التركي لها.

فهل هذا يعني مقابل ذلك فتح نار القصف والاجتياح من التحالف الغربي الإيراني على مناطق السنة ومدن التمرد الوطني في العراق؟ نقول نعم بوضوح، وإدارة هذا الواقع الصعب جدا تتطلب موازنات صعبة وترجيح خيارات الضرورات لتأمين العبور من هذه المرحلة بسلامة أهلها بأكبر قدر ممكن من المفاوضات السياسية بين العشائر والأطراف المختلفة وتحييد الحشد الطائفي عنها.

أما الخليج العربي فهو قوة دعم يتنازعه كلا المحورين، ورغم وضوح أين تقف مصالحه -حيث إن نجاح الترويكا الغربية الإيرانية يعني وضع موقفه الداخلي والجغرافي في مهب الريح ولذلك مساندة وتطبيق ما طلبه جون كيري كارثة جلية- فإن الخليج العربي اليوم ليس محورا واحدا أبدا، والانقسام بين الرؤيتين موجود بقوة لدرجة الشراكة الكاملة لطرف منه مع كامل الترويكا.

وهنا يأتي دور حسابات المنطقة في لعبة الكراسي الدوارة، هل تدور مع هذا المحور حتى يسقط الكرسي المستهدف ثم يسقطك، أم تشارك مع المحور الآخر لتخلق قواعد لعبة لتأمين سوريا المستقلة والعراق العربي لضمان أمنهما وأمنك قبل أن تحتفل تل أبيب وطهران بتقسيم أرضك!
المصدر : الجزيرة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق