(أنا كنت من أعظم الناس تأليفا لقلوب المسلمين، وطلبا لاتفاق كلمتهم، واتباعا لما أمرنا به من الاعتصام بحبل الله) ابن تيمية
بقلم أ.د. حاكم المطيري
3 شوال 1437هـ
8 يوليو 2016م
أولى ابن تيمية قضية وحدة الأمة وجمع الكلمة عناية كبيرة في كتبه ورسائله وممارساته، فقد رأى أثر التنازع بين طوائفها ومذاهبها، كيف أدى إلى سقوطها أمام الغزو الخارجي، وإلى كسر شوكتها، وسكون ريحها وذهابها، سواء أمام الحملات الوثنية المغولية شرقا، أو الحملات الصليبية غربا، ولا يمكن معرفة أهمية دور ابن تيمية واجتهاداته الفقهية في معالجة هذه الأزمة إلا بمعرفة حال الأمة وطوائفها ومذاهبها في القرنين الخامس والسادس الهجري، حيث باتت كتب العقائد والفقه طافحة في الحكم على المخالف بالكفر، كما قال أبو المظفر طاهر بن محمد الإسفراييني الشافعي المتوفى سنة 471 هـ في كتابه "التبصير في الدين" بعد أن ساق عقائد أهل السنة وخلط فيها آراء متكلميهم في دقائق المسائل: (وأن تعلم أن كل من تدين بهذا الدين الذي وصفناه من اعتقاد الفرقة الناجية فهو على الحق وعلى الصراط المستقيم، فمن بدعه فهو مبتدع، ومن ضلله فهو ضال، ومن كفره فهو كافر.. فجاء من هذه الجملة: أنا لا نبدع إلا من بدعنا، ولا نضلل إلا من ضللنا، ولا نكفر إلا من كفرنا، وقد أنصف القارة من رماها).[1]
وقد بين ابن تيمية بطلان هذه القاعدة من أصلها -كما سيأتي- وأن الحكم بالكفر حق لله، لا يجوز فيه المقابلة بالمثل!
وقد شاعت هذه الآراء في عصور العصبية كما رصد ذلك ابن الجوزي: (وقال ابن الجوزي في كتابه السر المصون: رأيت جماعة من العلماء أقدموا على تكفير المتأولين من أهل القبلة، وإنما ينبغي أن يقطع بالكفر على من خالف إجماع الأمة، ولم يحتمل حاله تأويلا، وأقبح حالا من هؤلاء المكفرين قوم من المتكلمين كفروا عوام المسلمين وزعموا أن من لا يعرف العقيدة بأدلتها المحررة فهو كافر، وهذا مخالف للشريعة، فإنها حكمت بإسلام أجلاف العرب والجهال).[2]
ومن هؤلاء أبو المظفر الإسفراييني فقد قال بعد سرده لدقائق مسائل المتكلمين: (وأن تعلم أن كل ما يجب معرفته في أصول الاعتقاد يجب على كل بالغ عاقل أن يعرفه في حق نفسه معرفة صحيحة صادرة عن دلالة عقلية لا يجوز له أن يقلد فيه، ولا أن يتكل فيه الأب على الابن ولا الابن على الأب، ولا الزوجة على الزوج بل يستوي فيه جميع العقلاء من الرجال والنساء).[3]
وكذا خاض الفقهاء في عصور التقليد -قبل ابن تيمية- في هذا الباب بناءً على عبارات مطلقة للأئمة في كفر وفسق أهل البدع، ورد شهاداتهم، بل وقتلهم، وقد بيّن ابن تيمية بطلان ذلك كله -كما سيأتي بيانه كما قال ابن رشد عن مذهب مالك: (وأما أهل الأهواء الذين هم على الإسلام العارفين بالله غير المنكرين له مثل القدرية والأباضية وما أشبههم ممن هو على غير ما عليه جماعة المسلمين.. فأولئك يستتابون أظهروا ذلك أو أسروه فذلك سواء.. فهم يستتابون وإلا ضربت رقابهم.. قول مالك في أهل البدع: الأباضية والقدرية وجميع أهل الأهواء إنه لا يصلي عليهم... وهذا في مثل القدرية والأباضية والمعتزلة وشبههم).[4]
وقالوا في رد شهادتهم: (..."وبدعة وإن تأول كخارجي وقدري" قال ابن عرفة: شهادة المبتدع ساقطة لأنه كافر أو فاسق.
وقال ابن القصار: ولو كان عن تأويل غلط فيه.
وقال ابن الحاجب: ولا يعذر بجهل وتأويل كالخارجي والقدري).[5]
وعند الحنفية: (وأما المبتدع فكان أبو حنيفة لا يرى الصلاة خلف المبتدع، قال أبو يوسف: أكره أن يكون إمام القوم صاحب بدعة أو هوى. وعن محمد: لا تجوز الصلاة خلف الرافضة والجهمية والقدرية).[6]
وزاد ابن نجيم الحنفي فقال: (وأما الصلاة خلف الشافعية فحاصل ما في المجتبى أنه إذا كان مراعيا للشرائط والأركان عندنا فالاقتداء به صحيح على الأصح ويكره، وإلا فلا يصح أصلا، ولا خصوصية للشافعية بل الصلاة خلف كل مخالف للمذهب كذلك).[7]
وفي حاشية ابن عابدين الحنفي: (أهل الأهواء إذا ظهرت بدعتهم بحيث توجب الكفر فإنه يباح قتلهم جميعا، إذا لم يرجعوا ولم يتوبوا، وإذا تابوا وأسلموا تقبل توبتهم جميعا، إلا الإباحية والغالية والشيعة من الروافض والقرامطة والزنادقة من الفلاسفة لا تقبل توبتهم بحال من الأحوال، ويقتل بعد التوبة وقبلها، لأنهم لم يعتقدوا بالصانع تعالى حتى يتوبوا ويرجعوا إليه).[8]
وكذا من شيوخ الشافعية من كفر أهل البدع مطلقا، كما ذكره النووي عن الفوراني ورده فقال: (مات شخص فقال ابنه لست أرثه لأنه كان كافرا، فسئل عن كفره فقال كان معتزليا أو رافضيا، فيقال له لك ميراثه وأنت مخطىء في اعتقادك، لأن الاعتزال والرفض ليس بكفر. هكذا قاله القفال والبغوي والروياني وغيرهم.
قال الفوراني: ومن شيوخنا من يكفر أهل الأهواء؛ فعلى هذا يحرم الميراث.
قلت: هذا الوجه خطأ والصواب المنصوص والذي قطع به الجمهور أنا لا نكفرهم).[9]
وكذا منهم من رد شهادتهم مطلقا: (وفرقة منهم الشيخ أبو حامد ومن تابعه حملوا النص على المخالفين في الفروع، وردوا شهادة أهل الأهواء كلهم، وقالوا هم بالرد أولى من الفسقة).[10]
وكذا ذكر مثله ابن مفلح الحنبلي عن الحنابلة في شأن أهل البدع: (وذكر ابن عقيل عن الأصحاب تكفير من خالف في أصل كخوارج ورافضة ومرجئة).[11]
وذكر المرداوي في الإنصاف هذا الخلاف، فقال: (وقال المجد أيضا: الصحيح أن كل بدعة كفرنا فيها الداعية فإنا نفسق المقلد فيها، كمن يقول بخلق القرآن، أو بأن ألفاظنا به مخلوقة، أو أن علم الله مخلوق، أو أن أسماءه تعالى مخلوقة، أو أنه لا يرى في الآخرة، أو أن يسب الصحابة رضي الله عنهم تدينا، أو يقول إن الإيمان مجرد الاعتقاد، وما أشبه ذلك، فمن كان عالما في شيء من هذه البدع يدعو إليه ويناظر عليه فهو محكوم بكفره.
نص الإمام أحمد رحمه الله صريحا على ذلك في مواضع.
قال واختلف عنه في تكفير القدرية بنفي خلق المعاصي على روايتين.
وله في الخوارج كلام يقتضي في تكفيرهم روايتين.
نقل حرب: لا تجوز شهادة صاحب بدعة).[12]
وقال أيضا: (وقال في الفصول في الكفاءة في جهمية وواقفيه وحرورية وقدرية ورافضية إن ناظر ودعا كفر وإلا لم يفسق، لأن الإمام أحمد رحمه الله قال يسمع حديثه ويصلى خلفه.
قال: وعندي أن عامة المبتدعة فسقة، كعامة أهل الكتابين كفار مع جهلهم.
قال: والصحيح لا كفر، لأن الإمام أحمد رحمه الله أجاز الرواية عن الحرورية والخوارج.
وذكر ابن حامد أن قدرية أهل الأثر كسعيد بن أبي عروبة والأصم مبتدعة، وفي شهادتهم وجهان، وأن الأولى أن لا تقبل، لأن أقل ما فيه الفسق.
وذكر جماعة في خبر غير الداعية روايات.
الثالثة إن كانت مفسقة قبل وإن كانت مكفره رد.
واختار الشيخ تقي الدين -شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله لا يفسق أحدٌ).[13]
وهو الاختيار الذي سيكون له أكبر الأثر في معالجة هذه الفتنة التي عمت وطمت وفرقت الأمة في مساجدها وجوامعها، وبقدر أهمية الحفاظ على الإسلام عند ابن تيمية من البدع والانحراف؛ كانت المحافظة على وحدة الأمة السياسية مع وجود الاختلاف لا تقل أهمية وخطورة، فقال: (إن الله أمر بالجماعة والائتلاف، ونهى عن البدعة والاختلاف وقال: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء}، وقال النبي ﷺ: "عليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة"، وقال: "الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد"، وقال: "الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم والذئب إنما يأخذ القاصية والنائية من الغنم"، فالواجب على المسلم إذا صار في مدينة من مدائن المسلمين أن يصلي معهم الجمعة والجماعة، ويوالي المؤمنين ولا يعاديهم، وإن رأى بعضهم ضالا أو غاويا وأمكن أن يهديه ويرشده فعل ذلك وإلا فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها).[14]
وقال في رسالته إلى أصحابه وهو في سجنه : (وتعلمون أن من القواعد العظيمة التي هي من جماع الدين : تأليف القلوب، واجتماع الكلمة، وصلاح ذات البين، فإن الله تعالى يقول : {فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم}، ويقول: {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا}، ويقول: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم}، وأمثال ذلك من النصوص التي تأمر بالجماعة والائتلاف، وتنهى عن الفرقة والاختلاف، وأهل هذا الأصل: هم أهل الجماعة، كما أن الخارجين عنه هم أهل الفرقة، وجماع السنة : طاعة الرسول، ولهذا قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة "إن الله يرضى لكم ثلاثا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أموركم").[15]
ولهذا عدّ تفريقها بناء على الانتماءات من البدع المحرمة، فقال: (من البدع: التفريق بين الأمة وامتحانها بما لم يأمر الله به ولا رسوله: مثل أن يقال للرجل: أنت شكيلي أو قرفندي. فإن هذه أسماء باطلة ما أنزل الله بها من سلطان، وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ﷺ، ولا في الآثار المعروفة عن سلف الأئمة لا شكيلي ولا قرفندي، والواجب على المسلم إذا سئل عن ذلك أن يقول: لا أنا شكيلي ولا قرفندي؛ بل أنا مسلم متبع لكتاب الله وسنة رسوله.
بل الأسماء التي قد يسوغ التسمي بها مثل انتساب الناس إلى إمام كالحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي، أو إلى شيخ كالقادري والعدوي ونحوهم، أو مثل الانتساب إلى القبائل: كالقيسي واليماني، وإلى الأمصار كالشامي والعراقي والمصري، لا يجوز لأحد أن يمتحن الناس بها، ولا يوالي بهذه الأسماء ولا يعادي عليها، بل أكرم الخلق عند الله أتقاهم من أي طائفة كان...
وأولياء الله الذين هم أولياؤه: هم الذين آمنوا وكانوا يتقون، فقد أخبر سبحانه أن أولياءه هم المؤمنون المتقون وقد بين المتقين.. {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون}، {ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون}، فقد أخبر سبحانه أن ولي المؤمن هو الله ورسوله وعباده المؤمنين، وهذا عام في كل مؤمن موصوف بهذه الصفة سواء كان من أهل نسبة أو بلدة أو مذهب أو طريقة أو لم يكن، وقال الله تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض}..
فكيف يجوز مع هذا لأمة محمد ﷺ أن تفترق وتختلف، حتى يوالي الرجل طائفة ويعادي طائفة أخرى بالظن والهوى بلا برهان من الله تعالى! وقد برأ الله نبيه ﷺ ممن كان هكذا.
فهذا فعل أهل البدع؛ كالخوارج الذين فارقوا جماعة المسلمين واستحلوا دماء من خالفهم، وأما أهل السنة والجماعة؛ فهم معتصمون بحبل الله.
وأقل ما في ذلك أن يفضل الرجل من يوافقه على هواه وإن كان غيره أتقى لله منه، وإنما الواجب أن يقدم من قدمه الله ورسوله، ويؤخر من أخره الله ورسوله، ويحب ما أحبه الله ورسوله، ويبغض ما أبغضه الله ورسوله، وينهى عما نهى الله عنه ورسوله، وأن يرضى بما رضي الله به ورسوله، وإن يكون المسلمون يدا واحدة؛ فكيف إذا بلغ الأمر ببعض الناس إلى أن يضلل غيره ويكفره، وقد يكون الصواب معه وهو الموافق للكتاب والسنة، ولو كان أخوه المسلم قد أخطأ في شيء من أمور الدين؛ فليس كل من أخطأ يكون كافرا ولا فاسقا، بل قد عفا الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان، وقد قال تعالى في كتابه في دعاء الرسول ﷺ والمؤمنين: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا}، وثبت في الصحيح أن الله قال: "قد فعلت"...
وكيف يجوز التفريق بين الأمة بأسماء مبتدعة لا أصل لها في كتاب الله ولا سنة رسوله ﷺ ؟!
وهذا التفريق الذي حصل من الأمة؛ علمائها ومشائخها، وأمرائها وكبرائها؛ هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليها، وذلك بتركهم العمل بطاعة الله ورسوله، كما قال تعالى: {ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء}.
فمتى ترك الناس بعض ما أمرهم الله به وقعت بينهم العداوة والبغضاء، وإذا تفرق القوم فسدوا وهلكوا، وإذا اجتمعوا صلحوا وملكوا؛ فإن الجماعة رحمة والفرقة عذاب، وكل من كان باغيا، أو ظالما، أو معتديا، أو مرتكبا ما هو ذنب؛ فهو قسمان: متأول، وغير متأول؛ فالمتأول المجتهد: كأهل العلم والدين، والذين اجتهدوا، واعتقد بعضهم حل أمور واعتقد الآخر تحريمها،كما استحل بعضهم بعض أنواع الأشربة وبعضهم بعض المعاملات الربوية، وبعضهم بعض عقود التحليل والمتعة، وأمثال ذلك؛ فقد جرى ذلك وأمثاله من خيار السلف؛ فهؤلاء المتأولون المجتهدون غايتهم أنهم مخطئون، وقد قال الله تعالى: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا}، وقد ثبت في الصحيح أن الله استجاب هذا الدعاء).[16]
وقد رأى ابن تيمية كيف أفضت العصبيات المذهبية بين أهل المذاهب الفقهية الأربعة المشهورة، وما حصل بينهم من اقتتال وإكفار بعضهم بعضا، كما حدث بين الشافعية والحنفية في خراسان وكان ذلك من أسباب سقوطهم أمام الغزو المغولي، فألف رسالته (رفع الملام عن الأئمة الأعلام)، وقال في مقدمتها: (فيجب على المسلمين -بعد موالاة الله ورسوله ﷺ-: موالاة المؤمنين كما نطق به القرآن، خصوصا العلماء الذين هم ورثة الأنبياء الذين جعلهم الله بمنزلة النجوم يهتدى بهم في ظلمات البر والبحر، وقد أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم، إذ كل أمة قبل مبعث محمد ﷺ فعلماؤها شرارها إلا المسلمين فإن علماءهم خيارهم، فإنهم خلفاء الرسول في أمته، والمحيون لما مات من سنته، بهم قام الكتاب وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا، وليعلم أنه ليس أحد من الأئمة المقبولين عند الأمة قبولا عاما يتعمد مخالفة رسول الله ﷺ في شيء من سنته، دقيق ولا جليل، فإنهم متفقون اتفاقا يقينيا على وجوب اتباع الرسول وعلى أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله ﷺ، ولكن إذا وجد لواحد منهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه فلا بد له من عذر في تركه).[17]
وقال عن هذه الرسالة: (وقد بينا هذا في رسالة "رفع الملام عن الأئمة الأعلام"، وبينا أن أحدا من أئمة الإسلام لا يخالف حديثا صحيحا بغير عذر، بل لهم نحو من عشرين عذرا، مثل أن يكون أحدهم لم يبلغه الحديث؛ أو بلغه من وجه لم يثق به، أو لم يعتقد دلالته على الحكم؛ أو اعتقد أن ذلك الدليل قد عارضه ما هو أقوى منه كالناسخ؛ أو ما يدل على الناسخ وأمثال ذلك.
والأعذار يكون العالم في بعضها مصيبا فيكون له أجران، ويكون في بعضها مخطئا بعد اجتهاده فيثاب على اجتهاده وخطؤه مغفور له؛ لقوله تعالى {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا}، وقد ثبت في الصحيح أن الله استجاب هذا الدعاء وقال : "قد فعلت"، ولأن العلماء ورثة الأنبياء، وقد ذكر الله عن داود وسليمان أنهما حكما في قضية وأنه فهمها أحدهما؛ ولم يعب الآخر؛ بل أثنى على كل واحد منهما بأنه آتاه حكما وعلما، فقال: {وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين... ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما}..).[18]
وقال أيضا: (وأهل الإسلام متفقون على هذا الأصل سنيهم وبدعيهم كلهم متفقون على وجوب اتباع ما بلغه الرسول عن الله، وعلى الاستدلال بالقرآن والسنة المعلومة المفسرة لمجمل القرآن، وأما المخالفة لظاهر القرآن فمن الخوارج من نازع فيها وهو فاسد من وجوه كثيرة، ومن رد نصا إنما يرده إما لكونه لم يثبت عنده عن الرسول، أو لكونه غير دال عنده على محل النزاع، أو لاعتقاده أنه منسوخ ونحو ذلك، كما قد بسطت الكلام فيه على ما كتبته في "رفع الملام عن الأئمة الأعلام"، وبينت أعذارهم في هذا الباب، وإن كان الواجب هو اتباع ما علم من الصواب مطلقا).[19]
وقال أيضا دفاعا عن أبي حنيفة الذي كان بعض أهل الحديث يطعن فيه: (ومن ظن بأبي حنيفة أو غيره من أئمة المسلمين أنهم يتعمدون مخالفة الحديث الصحيح لقياس أو غيره فقد أخطأ عليهم وتكلم إما بظن وإما بهوى).[20]
كما دعا إلى موالاة أهل الإيمان جميعا، وحذر من (حال أهل العصبية من المنتسبين إلى فقه وزهد: الذين يوالون بعض الشيوخ والأئمة دون البعض، وإنما المؤمن من يوالي جميع أهل الإيمان، قال الله تعالى {إنما المؤمنون إخوة}، وقال النبي ﷺ"المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه"، وقال "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر"، وقال عليه السلام "لا تقاطعوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا"..).[21]
وقد اجتهد ابن تيمية في معالجة فتنة التعصب المذهبي، حيث بلغ من عصبية المذاهب أن صار في كل مسجد وجامع جماعات وأئمة لكل مذهب، يصلون وحدهم بإمامهم، وصار لكل مذهب قضاته، وافترقت الأمة بمساجدها ومحاكمها، بعدد مذاهبها، وهو ما لم يكن في القرون الثلاثة الأولى مع اختلاف فقهاء الصحابة ومن بعدهم في الفتوى فقد ظلت مساجدهم وجماعاتهم واحده، وكذلك ولاتهم وقضاتهم مع اختلافهم، وقد تصدى ابن تيمية لبيان صحة صلاة أهل كل مذهب خلف المخالف، وهي إحدى آثار تلك الحقبة التي كان التعصب المذهبي أبرز مظاهرها، والتي سيكون ابن تيمية أحد ضحاياها، فقال: (مسألة: في أهل المذاهب الأربعة: هل تصح صلاة بعضهم خلف بعض؟ أم لا؟ وهل قال أحد من السلف إنه لا يصلي بعضهم خلف بعض؟ ومن قال ذلك فهل هو مبتدع؟ أم لا؟ وإذا فعل الإمام ما يعتقد أن صلاته معه صحيحة، والمأموم يعتقد خلاف ذلك، مثل أن يكون الإمام تقيأ أو رعف، أو احتجم، أو مس ذكره، أو مس النساء بشهوة أو بغير شهوة، أو قهقه في صلاته، أو أكل لحم الإبل، وصلى ولم يتوضأ، والمأموم يعتقد وجوب الوضوء من ذلك، أو كان الإمام لا يقرأ البسملة، أو لم يتشهد التشهد الآخر، أو لم يسلم من الصلاة، والمأموم يعتقد وجوب ذلك فهل تصح صلاة المأموم والحال هذه؟ وإذا شرط في إمام المسجد أن يكون على مذهب معين فكان غيره أعلم بالقرآن والسنة منه وولي. فهل يجوز ذلك؟ وهل تصح الصلاة خلفه؟ أم لا؟
الجواب: الحمد لله نعم، تجوز صلاة بعضهم خلف بعض، كما كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان، ومن بعدهم من الأئمة الأربعة يصلي بعضهم خلف بعض، مع تنازعهم في هذه المسائل المذكورة وغيرها، ولم يقل أحد من السلف إنه لا يصلي بعضهم خلف بعض، ومن أنكر ذلك فهو مبتدع ضال، مخالف للكتاب والسنة، وإجماع سلف ...
ومع هذا فكان بعضهم يصلي خلف بعض، مثل ما كان أبو حنيفة وأصحابه، والشافعي وغيرهم يصلون خلف أئمة أهل المدينة من المالكية، وإن كانوا لا يقرءون البسملة لا سرا ولا جهرا، وصلى أبو يوسف خلف الرشيد وقد احتجم، وأفتاه مالك بأنه لا يتوضأ، فصلى خلفه أبو يوسف ولم يعد.
وكان أحمد بن حنبل يرى الوضوء من الحجامة والرعاف، فقيل له: فإن كان الإمام قد خرج منه الدم ولم يتوضأ تصلي خلفه؟ فقال: كيف لا أصلي خلف سعيد بن المسيب، ومالك.
وبالجملة فهذه المسائل لها صورتان: إحداهما: أن لا يعرف المأموم أن إمامه فعل ما يبطل الصلاة، فهنا يصلي المأموم خلفه باتفاق السلف، والأئمة الأربعة، وغيرهم.
وليس في هذا خلاف متقدم، وإنما خالف بعض المتعصبين من المتأخرين: فزعم أن الصلاة خلف الحنفي لا تصح، وإن أتى بالواجبات؛ لأنه أداها وهو لا يعتقد وجوبها، وقائل هذا القول إلى أن يستتاب كما يستتاب أهل البدع أحوج منه إلى أن يعتد بخلافه، فإنه مازال المسلمون على عهد النبي ﷺ وعهد خلفائه يصلي بعضهم ببعض، وأكثر الأئمة لا يميزون بين المفروض والمسنون، بل يصلون الصلاة الشرعية، ولو كان العلم بهذا واجبا لبطلت صلوات أكثر المسلمين، ولم يمكن الاحتياط، فإن كثيرا من ذلك فيه نزاع وأدلة ذلك خفية، وأكثر ما يمكن المتدين أن يحتاط من الخلاف، وهو لا يجزم بأحد القولين. فإن كان الجزم بأحدهما واجبا فأكثر الخلق لا يمكنهم الجزم بذلك، وهذا القائل نفسه ليس معه إلا تقليد بعض الفقهاء، ولو طولب بأدلة شرعية تدل على صحة قول إمامه دون غيره لعجز عن ذلك؛ ولهذا لا يعتد بخلاف مثل هذا، فإنه ليس من أهل الاجتهاد.
الصورة الثانية: أن يتيقن المأموم أن الإمام فعل ما لا يسوغ عنده: مثل أن يمس ذكره، أو النساء لشهوة، أو يحتجم، أو يفتصد، أو يتقيأ، ثم يصلي بلا وضوء، فهذه الصورة فيها نزاع مشهور: فأحد القولين لا تصح صلاة المأموم؛ لأنه يعتقد بطلان صلاة إمامه، كما قال ذلك من قاله من أصحاب أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد.
والقول الثاني: تصح صلاة المأموم، وهو قول جمهور السلف، وهو مذهب مالك وهو القول الآخر في مذهب الشافعي، وأحمد؛ بل وأبي حنيفة وأكثر نصوص أحمد على هذا.
وهذا هو الصواب؛ لما ثبت في الصحيح وغيره عن النبي ﷺ أنه قال: «يصلون لكم فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطئوا فلكم وعليهم».
فقد بين ﷺ أن خطأ الإمام لا يتعدى إلى المأموم، ولأن المأموم يعتقد أن ما فعله الإمام سائغ له، وأنه لا إثم عليه فيما فعل، فإنه مجتهد أو مقلد مجتهد، وهو يعلم أن هذا قد غفر الله له خطأه، فهو يعتقد صحة صلاته، وأنه لا يأثم إذا لم يعدها، بل لو حكم بمثل هذا لم يجز له نقض حكمه، بل كان ينفذه.
وإذا كان الإمام قد فعل باجتهاده، فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها، والمأموم قد فعل ما وجب عليه كانت صلاة كل منهما صحيحة، وكان كل منهما قد أدى ما يجب عليه، وقد حصلت موافقة الإمام في الأفعال الظاهرة.
وقول القائل: إن المأموم يعتقد بطلان صلاة الإمام، خطأ منه، فإن المأموم يعتقد أن الإمام فعل ما وجب عليه، وإن الله قد غفر له ما أخطأ فيه، وأن لا تبطل صلاته لأجل ذلك.
ولو أخطأ الإمام والمأموم فسلم الإمام خطأ، واعتقد المأموم جواز متابعته فسلم، كما سلم المسلمون خلف النبي ﷺ لما سلم من اثنتين سهوا، مع علمهم بأنه إنما صلى ركعتين. كما لو صلى خمسا سهوا فصلوا خلفه خمسا، كما صلى الصحابة خلف النبيﷺ لما صلى بهم خمسا، فتابعوه، مع علمهم بأنه صلى خمسا؛ لاعتقادهم جواز ذلك، فإنه تصح صلاة المأموم في هذه الحال.
فكيف إذا كان المخطئ هو الإمام وحده، وقد اتفقوا كلهم على أن الإمام لو سلم خطأ لم تبطل صلاة المأموم، إذا لم يتابعه، ولو صلى خمسا لم تبطل صلاة المأموم إذا لم يتابعه. فدل ذلك على أن ما فعله الإمام خطأ لا يلزم فيه بطلان صلاة المأموم). [22]
وقال أيضا وقد (سئل: هل يقلد الشافعي حنفيا، وعكس ذلك في الصلاة الوترية، وفي جمع المطر؟ أم لا؟
الجواب: الحمد لله، نعم يجوز للحنفي وغيره أن يقلد من يجوز الجمع من المطر، لا سيما وهذا مذهب جمهور العلماء، كمالك، والشافعي، وأحمد.
وقد كان عبد الله بن عمر يجمع مع ولاة الأمور بالمدينة إذا جمعوا في المطر.
وليس على أحد من الناس أن يقلد رجلا بعينه في كل ما يأمر به، وينهى عنه، ويستحبه إلا رسول الله ﷺ ومازال المسلمون يستفتون علماء المسلمين فيقلدون تارة هذا وتارة هذا.
فإذا كان المقلد في مسألة يراها أصلح في دينه أو القول بها أرجح، أو نحو ذلك، جاز هذا باتفاق جماهير علماء المسلمين، لم يحرم ذلك لا أبو حنيفة ولا مالك ولا الشافعي ولا أحمد.
وكذلك الوتر وغيره ينبغي للمأموم أن يتبع فيه إمامه، فإن قنت؛ قنت معه، وإن لم يقنت؛ لم يقنت، وإن صلى بثلاث ركعات موصولة فعل ذلك، وإن فصل؛ فصل أيضا.
ومن الناس من يختار للمأموم أن يصل إذا فصل إمامه، والأول أصح، والله أعلم).[23]
وإنما وصل الحال بالأمة إلى هذا الحد من الافتراق والعصبية المذهبية بسبب القول بوجوب اتباع كل مسلم لإمام معين، وهو ما لم يكن معروفا في القرون الثلاثة، بل نهى عن ذلك الأئمة الأربعة أنفسهم، وقد تصدى ابن تيمية أيضا لهذه البدعة في الإسلام، وأبطل القول بوجوب اتباع أحد غير النبي ﷺ، وإنما أقصى ما يمكن قوله هو جواز تقليد مذهب معين، فقال: (وسئل -رضي الله عنه-: ما تقول السادة العلماء أئمة الدين -رضي الله عنهم أجمعين- في رجل سئل إيش مذهبك؟ فقال: محمدي أتبع كتاب الله وسنة رسوله محمد ﷺ فقيل: لا، ينبغي لكل مؤمن أن يتبع مذهبا ومن لا مذهب له فهو شيطان فقال: إيش كان مذهب أبي بكر الصديق والخلفاء بعده -رضي الله عنهم-؟ فقيل له: لا ينبغي لك إلا أن تتبع مذهبا من هذه المذاهب فأيهما المصيب؟ أفتونا مأجورين
فأجاب:
الحمد لله، إنما يجب على الناس طاعة الله والرسول وهؤلاء أولوا الأمر الذين أمر الله بطاعتهم في قوله: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} إنما تجب طاعتهم تبعا لطاعة الله ورسوله لا استقلالا ثم قال: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا}. وإذا نزلت بالمسلم نازلة؛ فإنه يستفتي من اعتقد أنه يفتيه بشرع الله ورسوله من أي مذهب كان ولا يجب على أحد من المسلمين تقليد شخص بعينه من العلماء في كل ما يقول ولا يجب على أحد من المسلمين التزام مذهب شخص معين غير الرسول ﷺ في كل ما يوجبه ويخبر به بل كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله ﷺ، واتباع شخص لمذهب شخص بعينه لعجزه عن معرفة الشرع من غير جهته إنما هو مما يسوغ له ليس هو مما يجب على كل أحد إذا أمكنه معرفة الشرع بغير ذلك الطريق بل كل أحد عليه أن يتقي الله ما استطاع ويطلب علم ما أمر الله به ورسوله، فيفعل المأمور ويترك المحظور).
(وسئل عن رجل تفقه في مذهب من المذاهب الأربعة وتبصر فيه واشتغل بعده بالحديث، فرأى أحاديث صحيحة لا يعلم لها ناسخا ولا مخصصا ولا معارضا وذلك المذهب مخالف لها: فهل يجوز له العمل بذلك المذهب؟ أو يجب عليه الرجوع إلى العمل بالأحاديث ويخالف مذهبه؟
فأجاب:
الحمد لله، قد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن الله سبحانه وتعالى فرض على الخلق طاعته وطاعة رسوله ﷺ ولم يوجب على هذه الأمة طاعة أحد بعينه في كل ما يأمر به وينهى عنه إلا رسول الله ﷺ حتى كان صديق الأمة وأفضلها بعد نبيها يقول: أطيعوني ما أطعت الله فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم. واتفقوا كلهم على أنه ليس أحد معصوما في كل ما يأمر به وينهى عنه إلا رسول الله ﷺ ولهذا قال غير واحد من الأئمة: كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله ﷺ.
وهؤلاء الأئمة الأربعة رضي الله عنهم قد نهوا الناس عن تقليدهم في كل ما يقولونه وذلك هو الواجب عليهم؛ فقال أبو حنيفة: هذا رأيي وهذا أحسن ما رأيت؛ فمن جاء برأي خير منه قبلناه ولهذا لما اجتمع أفضل أصحابه أبو يوسف بمالك فسأله عن مسألة الصاع؛ وصدقة الخضراوات؛ ومسألة الأجناس؛ فأخبره مالك بما تدل عليه السنة في ذلك فقال: رجعت إلى قولك يا أبا عبد الله ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع إلى قولك كما رجعت. ومالك كان يقول: إنما أنا بشر أصيب وأخطئ فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة أو كلاما هذا معناه. والشافعي كان يقول: إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط وإذا رأيت الحجة موضوعة على الطريق فهي قولي. وفي مختصر المزني لما ذكر أنه اختصره من مذهب الشافعي لمن أراد معرفة مذهبه قال: مع إعلامه نهيه عن تقليده وتقليد غيره من العلماء. والإمام أحمد كان يقول: لا تقلدوني ولا تقلدوا مالكا ولا الشافعي ولا الثوري وتعلموا كما تعلمنا. وكان يقول: من قلة علم الرجل أن يقلد دينه الرجال وقال: لا تقلد دينك الرجال فإنهم لن يسلموا من أن يغلطوا. وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: {من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين} ولازم ذلك أن من لم يفقهه الله في الدين لم يرد به خيرا فيكون التفقه في الدين فرضا. والتفقه في الدين: معرفة الأحكام الشرعية بأدلتها السمعية. فمن لم يعرف ذلك لم يكن متفقها في الدين لكن من الناس من قد يعجز عن معرفة الأدلة التفصيلية في جميع أموره فيسقط عنه ما يعجز عن معرفته لا كل ما يعجز عنه من التفقه ويلزمه ما يقدر عليه. وأما القادر على الاستدلال؛ فقيل: يحرم عليه التقليد مطلقا وقيل: يجوز مطلقا وقيل: يجوز عند الحاجة؛ كما إذا ضاق الوقت عن الاستدلال وهذا القول أعدل الأقوال. والاجتهاد ليس هو أمرا واحدا لا يقبل التجزي والانقسام بل قد يكون الرجل مجتهدا في فن أو باب أو مسألة دون فن وباب ومسألة وكل أحد فاجتهاده بحسب وسعه فمن نظر في مسألة تنازع العلماء فيها ورأى مع أحد القولين نصوصا لم يعلم لها معارضا بعد نظر مثله فهو بين أمرين: إما أن يتبع قول القائل الآخر لمجرد كونه الإمام الذي اشتغل على مذهبه؛ ومثل هذا ليس بحجة شرعية بل مجرد عادة يعارضها عادة غيره واشتغال على مذهب إمام آخر. وإما أن يتبع القول الذي ترجح في نظره بالنصوص الدالة عليه وحينئذ فتكون موافقته لإمام يقاوم ذلك الإمام وتبقى النصوص سالمة في حقه عن المعارض بالعمل فهذا هو الذي يصلح. وإنما تنزلنا هذا التنزل لأنه قد يقال: إن نظر هذا قاصر وليس اجتهاده قائما في هذه المسألة؛ لضعف آلة الاجتهاد في حقه. أما إذا قدر على الاجتهاد التام الذي يعتقد معه أن القول الآخر ليس معه ما يدفع به النص فهذا يجب عليه اتباع النصوص وإن لم يفعل كان متبعا للظن وما تهوى الأنفس وكان من أكبر العصاة لله ولرسوله بخلاف من يقول: قد يكون للقول الآخر حجة راجحة على هذا النص وأنا لا أعلمها فهذا يقال له: قد قال الله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} وقال النبي ﷺ {إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم} والذي تستطيعه من العلم والفقه في هذه المسألة قد دلك على أن هذا القول هو الراجح فعليك أن تتبع ذلك ثم إن تبين لك فيما بعد أن للنص معارضا راجحا كان حكمك في ذلك حكم المجتهد المستقل إذا تغير اجتهاده وانتقال الإنسان من قول إلى قول لأجل ما تبين له من الحق هو محمود فيه بخلاف إصراره على قول لا حجة معه عليه وترك القول الذي وضحت حجته أو الانتقال عن قول إلى قول لمجرد عادة واتباع هوى فهذا مذموم. وإذا كان الإمام المقلد قد سمع الحديث وتركه - لا سيما إذا كان قد رواه أيضا - فمثل هذا وحده لا يكون عذرا في ترك النص فقد بينا فيما كتبناه في "رفع الملام عن الأئمة الأعلام" نحو عشرين عذرا للأئمة في ترك العمل ببعض الحديث وبينا أنهم يعذرون في الترك لتلك الأعذار وأما نحن فمعذورون في تركها لهذا القول. فمن ترك الحديث لاعتقاده أنه لم يصح؛ أو أن راويه مجهول ونحو ذلك؛ ويكون غيره قد علم صحته وثقة راويه: فقد زال عذر ذلك في حق هذا ومن ترك الحديث لاعتقاده أن ظاهر القرآن يخالفه؛ أو القياس؛ أو عمل لبعض الأمصار؛ وقد تبين للآخر أن ظاهر القرآن لا يخالفه؛ وأن نص الحديث الصحيح مقدم على الظواهر؛ ومقدم على القياس والعمل: لم يكن عذر ذلك الرجل عذرا في حقه؛ فإن ظهور المدارك الشرعية للأذهان وخفاءها عنها أمر لا ينضبط طرفاه لا سيما إذا كان التارك للحديث معتقدا أنه قد ترك العمل به المهاجرون والأنصار أهل المدينة النبوية وغيرها الذين يقال: إنهم لا يتركون الحديث إلا لاعتقادهم أنه منسوخ أو معارض براجح وقد بلغ من بعده أن المهاجرين والأنصار لم يتركوه بل عمل به طائفة منهم؛ أو من سمعه منهم؛ ونحو ذلك مما يقدح في هذا المعارض للنص. وإذا قيل لهذا المستهدي المسترشد: أنت أعلم أم الإمام الفلاني؟ كانت هذه معارضة فاسدة؛ لأن الإمام الفلاني قد خالفه في هذه المسألة من هو نظيره من الأئمة ولست أعلم من هذا ولا هذا ولكن نسبة هؤلاء إلى الأئمة كنسبة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وأبي ومعاذ ونحوهم إلى الأئمة وغيرهم فكما أن هؤلاء الصحابة بعضهم لبعض أكفاء في موارد النزاع؛ وإذا تنازعوا في شيء ردوا ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول وإن كان بعضهم قد يكون أعلم في مواضع أخر: فكذلك موارد النزاع بين الأئمة وقد ترك الناس قول عمر وابن مسعود في مسألة تيمم الجنب وأخذوا بقول من هو دونهما كأبي موسى الأشعري وغيره لما احتج بالكتاب والسنة وتركوا قول عمر في دية الأصابع وأخذوا بقول معاوية لما كان معه من السنة أن النبي ﷺ قال: " هذه وهذه سواء ". وقد كان بعض الناس يناظر ابن عباس في المتعة فقال له: قال أبو بكر وعمر فقال ابن عباس: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول قال رسول الله ﷺ وتقولون قال أبو بكر وعمر؟ وكذلك ابن عمر لما سألوه عنها فأمر بها فعارضوا بقول عمر فتبين لهم أن عمر لم يرد ما يقولونه فألحوا عليه فقال لهم: أمر رسول الله ﷺ أحق أن يتبع أم أمر عمر؟ مع علم الناس أن أبا بكر وعمر أعلم ممن هو فوق ابن عمر وابن عباس. ولو فتح هذا الباب لوجب أن يعرض عن أمر الله ورسوله ويبقى كل إمام في أتباعه بمنزلة النبي ﷺ في أمته وهذا تبديل للدين يشبه ما عاب الله به النصارى في قوله: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} والله سبحانه وتعالى أعلم والحمد لله وحده).[25]
وقال في جواز أن ينيب القاضي عنه من يخالفه في المذهب، وهي إحدى المشكلات آنذاك، بسبب العصبية المذهبية وآثارها على وحدة الأمة، فقال: (يجوز للحنفي الحاكم أن يستنيب شافعيا يحكم باجتهاده، وإن خالف اجتهاد مستنيبه، ولو شرط عليه أن يحكم بقول مستنيبه لم يجز هذا الشرط.
وأيضا: إذا رأى المستنيب قول بعض الأئمة أرجح من بعض لم يجز له أن يحكم بالمرجوح، بل عليه أن يحكم بالراجح، فكيف لا يكون له أن يستنيب من يحكم بالراجح، وإن خالف قول إمامه؟ وليس على الخلق لا القضاة ولا غيرهم أن يطيعوا أحدا في كل ما يأمر به وينهى عنه إلا رسول الله ﷺ ومن سواه من الأئمة فإنه يؤخذ من قوله ويترك فيجوز لكل من الحكام أن يستنيب من يخالفه في مذهبه ليحكم بما أنزل الله).[26]
ولهذا قرر الأصول الجامعة تجاه المذاهب والفرق والطوائف ومن ذلك:
الأصل الأول: وحدة الأمة ودينها على اختلاف فرقها، حيث يقرر بأن الإسلام هو الدين الجامع للأمة وفرقها على اختلافها، وذلك بقوله: (ما أجمع عليه المسلمون من أمور دينهم الذي يحتاجون إليه أضعاف أضعاف ما تنازعوا فيه، فالمسلمون سنيهم وبدعيهم متفقون على وجوب الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، ومتفقون على وجوب الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، ومتفقون على أن من أطاع الله ورسوله فإنه يدخل الجنة... وأمثال هذه الأمور التي هي أصول الدين وقواعد الإيمان، التي اتفق عليها المنتسبون إلى الإسلام والإيمان، فتنازعهم بعد هذا في بعض أحكام الوعيد، أو بعض معاني الأسماء أمر خفيف بالنسبة لما اتفقوا عليه).[27]
وقال أيضا في إثبات إسلام وإيمان أهل القبلة: (كل من أقر بالله فعنده من الإيمان بحسب ذلك، ثم من لم تقم عليه الحجة بما جاءت به الأخبار لم يكفر بجحده، وهذا يبين أن عامة أهل الصلاة مؤمنون بالله ورسوله، وإن اختلفت اعتقاداتهم في معبودهم وصفاته، إلا من كان منافقا يظهر الإيمان بلسانه ويبطن الكفر بالرسول، فهذا ليس بمؤمن؛ وكل من أظهر الإسلام ولم يكن منافقا فهو مؤمن له من الإيمان بحسب ما أوتيه من ذلك، وهو ممن يخرج من النار ولو كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان، ويدخل في هذا جميع المتنازعين في الصفات والقدر على اختلاف عقائدهم، ولو كان لا يدخل الجنة إلا من يعرف الله كما يعرفه نبيه ﷺ لم تدخل أمته الجنة؛ فإنهم أو أكثرهم لا يستطيعون هذه المعرفة؛ بل يدخلونها وتكون منازلهم متفاضلة بحسب إيمانهم ومعرفتهم، وإذا كان الرجل قد حصل له إيمان يعرف الله به وأتى آخر بأكثر من ذلك عجز عنه لم يحمل ما لا يطيق، وإن كان يحصل له بذلك فتنة لم يحدث بحديث يكون له فيه فتنة، فهذا أصل عظيم في تعليم الناس ومخاطبتهم بالخطاب العام بالنصوص التي اشتركوا في سماعها : كالقرآن والحديث المشهور وهم مختلفون في معنى ذلك).[28]
الأصل الثاني: المنع من الحكم على أهل القبلة بالكفر:
وقد قرر هذا الأصل في كتبه ورسائله بشكل جلي قطعي، وكان يحتج على ثبوت إيمانهم بإثبات النصوص لوصف الإيمان لمن قام بالفرائض كقوله تعالى: {قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون}، وكما في حديث: "لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن"، وقد قال الذهبي: (رأيت للأشعري كلمة أعجبتني وهي ثابتة رواها البيهقي، سمعت أبا حازم العبدوي، سمعت زاهر بن أحمد السرخسي يقول: لما قرب حضور أجل أبي الحسن الأشعري في داري ببغداد، دعاني فأتيته، فقال: اشهد علي أني لا أكفر أحدا من أهل القبلة، لأن الكل يشيرون إلى معبود واحد، وإنما هذا كله اختلاف العبارات.
قلت: وبنحو هذا أدين، وكذا كان شيخنا ابن تيمية في أواخر أيامه يقول: أنا لا أكفر أحدا من الأمة، ويقول: قال النبي ﷺ: (لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن)، فمن لازم الصلوات بوضوء فهو مسلم).[29]
ومن هنا رد ابن تيمية على من كفروا أهل البدع مطلقا، كما شاع بين مذاهب السنة الفقهية بسبب العصبية، وبين الخطأ الذي وقع فيه المتأخرون حين حملوا ألفاظ الأئمة الأربعة في كفر المخالف على الكفر المخرج من الملة، مع أنهم أرادوا كفر التأويل الذي هو معارضة النص الظاهر اجتهادا، ورد على من حكم بكفر الخوارج أو الثنتين وسبعين فرقة؛ فقال في بيان أن كل طوائف أهل القبلة في دائرة الإسلام والإيمان لا يخرجون منها ببدعهم: (ولا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله ولا بخطأ أخطأ فيه، كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة، فإن الله تعالى قال: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير}، وقد ثبت في الصحيح أن الله تعالى أجاب هذا الدعاء وغفر للمؤمنين خطأهم، والخوارج المارقون الذين أمر النبي بقتالهم، قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أحد الخلفاء الراشدين، واتفق على قتالهم أئمة الدين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، ولم يكفرهم علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وغيرهما من الصحابة، بل جعلوهم مسلمين مع قتالهم، ولم يقاتلهم علي حتى سفكوا الدم الحرام، وأغاروا على أموال المسلمين، فقاتلهم لدفع ظلمهم وبغيهم لا لأنهم كفار، ولهذا لم يسب حريمهم، ولم يغنم أموالهم، وإذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالهم بالنص والإجماع لم يكفروا مع أمر الله ورسوله بقتالهم، فكيف بالطوائف المختلفين الذين أشتبه عليهم الحق في مسائل غلط فيها من هو أعلم منهم! فلا يحل لأحد من هذه الطوائف أن تكفر الأخرى ولا تستحل دمها ومالها، وإن كانت فيها بدعة محققة، فكيف إذا كانت المكفرة لها مبتدعة أيضا! وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ، والغالب أنهم جميعًا جهال بحقائق ما يختلفون فيه).[30]
وقال أيضا في حكم عموم فرق أهل الإسلام وما اختلفوا فيه من تأويل القرآن: (فأما من كان في قلبه الإيمان بالرسول وما جاء به، وقد غلط في بعض ما تأوله من البدع، فهذا ليس بكافر أصلاً، والخوارج كانوا من أظهر الناس بدعة وقتالاً للأمة وتكفيرًا لها، ولم يكن في الصحابة من يكفرهم لا علي بن أبي طالب ولا غيره، بل حكموا فيهم بحكمهم في المسلمين الظالمين المعتدين كما ذكرت الآثار عنهم بذلك في غير هذا الموضع، وكذلك سائر الثنتين وسبعين فرقة، من كان منهم منافقًا فهو كافر في الباطن، ومن لم يكن منافقًا بل كان مؤمنًا بالله ورسوله في الباطن، لم يكن كافرا في الباطن، وإن أخطأ في التأويل كائنًا ما كان خطؤه؛ وقد يكون في بعضهم شعبة من شعب النفاق، ولا يكون فيه النفاق الذي يكون صاحبه في الدرك الأسفل من النار، ومن قال: إن الثنتين وسبعين فرقة كل واحد منهم يكفر كفرًا ينقل عن الملة، فقد خالف الكتاب والسنة وإجماع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، بل وإجماع الأئمة الأربعة وغير الأربعة، فليس فيهم من كفر كل واحد من الثنتين وسبعين فرقة، وإنما يكفر بعضهم بعضًا ببعض المقالات).[31]
وقد شرح ابن تيمية أقوال الأئمة في شأن عباراتهم في كفر أهل الأهواء، وأنهم إنما كفروا أقوالهم لا أعيانهم، حيث يقول: (مذاهب الأئمة مبنية على هذا التفصيل بين النوع والعين، ولهذا حكى طائفة عنهم الخلاف في ذلك، ولم يفهموا غور قولهم، فطائفة تحكي عن أحمد في تكفير أهل البدع روايتين مطلقا، حتى تجعل الخلاف في تكفير المرجئة والشيعة المفضلة لعلي، وربما رجحت التكفير والتخليد في النار، وليس هذا مذهب أحمد ولا غيره من أئمة الإسلام، بل لا يختلف قوله أنه لا يكفر المرجئة الذين يقولون: الإيمان قول بلا عمل، ولا يكفر من يفضل عليا على عثمان، بل نصوصه صريحة بالامتناع من تكفير الخوارج والقدرية وغيرهم، وإنما كان يكفر الجهمية المنكرين لأسماء الله وصفاته؛ لأن مناقضة أقوالهم لما جاء به الرسولﷺ ظاهرة بينة: ولأن حقيقة قولهم تعطيل الخالق، وكان قد ابتلي بهم حتى عرف حقيقة أمرهم، وأنه يدور على التعطيل، وتكفير الجهمية مشهور عن السلف والأئمة، لكن ما كان يكفر أعيانهم، فإن الذي يدعو إلى القول أعظم من الذي يقول به، والذي يعاقب مخالفه أعظم من الذي يدعو فقط، والذي يكفر مخالفه أعظم من الذي يعاقبه، ومع هذا فالذين كانوا من ولاة الأمور يقولون بقول الجهمية: "إن القرآن مخلوق وإن الله لا يرى في الآخرة وغير ذلك" ويدعون الناس إلى ذلكويمتحنونهم ويعاقبونهم إذا لم يجيبوهم، ويكفرون من لم يجبهم، حتى أنهم كانوا إذا أمسكوا الأسير لم يطلقوه حتى يقر بقول الجهمية: إن القرآن مخلوق وغير ذلك، ولا يولون متوليا، ولا يعطون رزقا من بيت المال إلا لمن يقول ذلك، ومع هذا فالإمام أحمد رحمه الله تعالى ترحم عليهم، واستغفر لهم، لعلمه بأنهم لمن يبين لهم أنهم مكذبون للرسول، ولا جاحدون لما جاء به، ولكن تأولوا فأخطئوا، وقلدوا من قال لهم ذلك، وكذلك الشافعي لما قال لحفص الفرد حين قال : القرآن مخلوق : كفرت بالله العظيم، بيّن له أن هذا القول كفر، ولم يحكم بردة حفص بمجرد ذلك؛ لأنه لم يتبين له الحجة التي يكفر بها، ولو اعتقد أنه مرتد لسعى في قتله، وقد صرح في كتبه بقبول شهادة أهل الأهواء والصلاة خلفهم).[32]
وقال أيضا في كون الحكم على المخالف بالكفر هو من شأن أهل البدع، لا أهل السنة والجماعة: (من شأن أهل البدع أنهم يبتدعون أقوالا يجعلونها واجبة في الدين، بل يجعلونها من الإيمان الذي لا بد منه، ويكفِّرون من خالفهم فيها، ويستحلُّون دمه، كفعل الخوارج والجهمية والرافضة والمعتزلة وغيرهم، وأهل السنة لا يبتدعون قولاً، ولا يكفِّرون من اجتهد فأخطأ، وإن كان مخالفًا لهم، مكفرًا لهم، مستحلاً لدمائهم، كما لم تكفِّر الصحابة الخوارج، مع تكفيرهم لعثمان وعليّ ومن والاهما، واستحلالهم لدماء المسلمين المخالفين لهم).[33]
وقال أيضا عن حرمة التكفير بالمثل: (وأئمة السنة والجماعة و أهل العلم والإيمان فيهم العلم والعدل والرحمة، فيعلمون الحق الذي يكونون به موافقين للسنة سالمين من البدعة، ويعدلون على من خرج منها ولو ظلمهم، كما قال تعالى: {كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى}، ويرحمون الخلق فيريدون لهم الخير والهدى والعلم، لا يقصدون الشر لهم ابتداء، بل إذا عاقبوهم وبينوا خطأهم وجهلهم وظلمهم كان قصدهم بذلك بيان الحق ورحمة الخلق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا..
فلهذا كان أهل العلم والسنة لا يكفرون من خالفهم وإن كان ذلك المخالف يكفرهم، لأن الكفر حكم شرعي فليس للإنسان أن يعاقب بمثله، كمن كذب عليك وزنى بأهلك ليس لك أن تكذب عليه وتزني بأهله، لأن الكذب والزنا حرام لحق الله تعالى، وكذلك التكفير حق لله فلا يكفر إلا من كفره الله ورسوله، وأيضا فإن تكفير الشخص المعين وجواز قتله موقوف على أن تبلغه الحجة النبوية التي يكفر من خالفها وإلا فليس كل من جهل شيئا من الدين يكفر، ولهذا لما استحل طائفة من الصحابة والتابعين كقدامة بن مظعون وأصحابه شرب الخمر وظنوا أنها تباح لمن عمل صالحا على ما فهموه من آية المائدة، اتفق علماء الصحابة كعمر وعلي وغيرهما على أنهم يستتابون فإن أصروا على الاستحلال كفروا، وإن أقروا به جلدوا فلم يكفروهم بالاستحلال ابتداء، لأجل الشبهة التي عرضت لهم حتى يتبين لهم الحق فإذا أصروا على الجحود كفروا).[34]
وقال عن أصول الفرق التي تعد من أهل القبلة: (والجهمية -عند كثير من السلف: مثل عبد الله بن المبارك ويوسف بن أسباط وطائفة من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم -ليسوا منه الثنتين والسبعين فرقة التي افترقت عليها هذه الأمة؛ بل أصول هذه عند هؤلاء: هم الخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية وهذا المأثور عن أحمد وهو المأثور عن عامة أئمة السنة والحديث أنهم كانوا يقولون؛ من قال: القرآن مخلوق فهو كافر، ومن قال: إن الله لا يرى في الآخرة فهو كافر، ونحو ذلك. ثم حكى أبو نصر السجزي عنهم في هذا قولين: " أحدهما " أنه كفر ينقل عن الملة. قال: وهو قول الأكثرين. و" الثاني " أنه كفر لا ينقل. ولذلك قال الخطابي: إن هذا قالوه على سبيل التغليظ.
وكذلك تنازع المتأخرون من أصحابنا في تخليد المكفر من هؤلاء؛ فأطلق أكثرهم عليه التخليد، كما نقل ذلك عن طائفة من متقدمي علماء الحديث ؛ كأبي حاتم وأبي زرعة وغيرهم، وامتنع بعضهم من القول بالتخليد، وسبب هذا التنازع تعارض الأدلة، فإنهم يرون أدلة توجب إلحاق أحكام الكفر بهم، ثم إنهم يرون من الأعيان الذين قالوا تلك المقالات من قام به من الإيمان ما يمتنع أن يكون كافرا، فيتعارض عندهم الدليلان، وحقيقة الأمر أنهم أصابهم في ألفاظ العموم في كلام الأئمة ما أصاب الأولين في ألفاظ العموم في نصوص الشارع، كلما رأوهم قالوا: من قال كذا فهو كافر، اعتقد المستمع أن هذا اللفظ شامل لكل من قاله، ولم يتدبروا أن التكفير له شروط وموانع قد تنتقي في حق المعين وأن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين، إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع، يبين هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة: الذين أطلقوا هذه العمومات لم يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه . فإن الإمام أحمد - مثلا - قد باشر " الجهمية " الذين دعوه إلى خلق القرآن ونفي الصفات وامتحنوه وسائر علماء وقته، وفتنوا المؤمنين والمؤمنات الذين لم يوافقوهم على التجهم بالضرب والحبس والقتل والعزل عن الولايات وقطع الأرزاق ورد الشهادة وترك تخليصهم من أيدي العدو بحيث كان كثير من أولي الأمر إذ ذاك من الجهمية من الولاة والقضاة وغيرهم : يكفرون كل من لم يكن جهميا موافقا لهم على نفي الصفات مثل القول بخلق القرآن، ويحكمون فيه بحكمهم في الكافر فلا يولونه ولاية، ولا يفتكونه من عدو، ولا يعطونه شيئا من بيت المال، ولا يقبلون له شهادة ولا فتيا ولا رواية، ويمتحنون الناس عند الولاية والشهادة والافتكاك من الأسر وغير ذلك، فمن أقر بخلق القرآن حكموا له بالإيمان، ومن لم يقر به لم يحكموا له بحكم أهل الإيمان، ومن كان داعيا إلى غير التجهم قتلوه أو ضربوه وحبسوه، ومعلوم أن هذا من أغلظ التجهم فإن الدعاء إلى المقالة أعظم من قولها، وإثابة قائلها وعقوبة تاركها أعظم من مجرد الدعاء إليها، والعقوبة بالقتل لقائلها أعظم من العقوبة بالضرب، ثم إن الإمام أحمد دعا للخليفة وغيره، ممن ضربه وحبسه واستغفر لهم وحللهم مما فعلوه به من الظلم والدعاء إلى القول الذي هو كفر، ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لم يجز الاستغفار لهم؛ فإن الاستغفار للكفار لا يجوز بالكتاب والسنة والإجماع، وهذه الأقوال والأعمال منه ومن غيره من الأئمة صريحة في أنهم لم يكفروا المعينين من الجهمية الذين كانوا يقولون : القرآن مخلوق وإن الله لا يرى في الآخرة، وقد نقل عن أحمد ما يدل على أنه كفر به قوما معينين، فأما أن يذكر عنه في المسألة روايتان ففيه نظر، أو يحمل الأمر على التفصيل فيقال : من كفره بعينه؛ فلقيام الدليل على أنه وجدت فيه شروط التكفير وانتفت موانعه، ومن لم يكفره بعينه؛ فلانتفاء ذلك في حقه هذه مع إطلاق قوله بالتكفير على سبيل العموم، والدليل على هذا الأصل : الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار، أما الكتاب : فقوله سبحانه وتعالى : {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به}، وقوله تعالى: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا}..).[35]
وما قرره ابن تيمية هنا هو المشهور عن سلف الأمة وأئمة أهل السنة، فقد قال سفيان الثوري إمام أهل الحديث والسنة في عصره -(ت160هـ)- في بيان اعتقاد أهل السنة: (ولا يكفرون أحدا بذنب، ولا يشهدون عليه بشرك).[36]
وكذا نقل الإمام الطحاوي - (ت 321)- في عقيدته عن إمام أهل الرأي أبي حنيفة وعن صاحبيه أبي يوسف ومحمد بن الحسن قولهم: (ولا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله، ولا نقول لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله... ونرى الصلاة على من مات منهم).
وقال أحمد بن حنبل: (ومن مات من أهل القبلة موحدا يصلى عليه، ويستغفر له، ولا تترك الصلاة عليه لذنب أذنبه صغيرا كان أو كبيرا، وأمره إلى الله عز وجل).
والذنب هنا يعم عندهم الكبائر والبدع، وكل ما دون الشرك بالله والكفر به، ولا يرون كفر من وقع منه شيء من المعاصي والبدع، ويخرج من دائرة أهل الإسلام وإيمان.
كما قال ابن تيمية: (ولهذا قال علماء السنة في وصفهم "اعتقاد أهل السنة والجماعة": إنهم لا يكفرون أحدا من أهل القبلة بذنب، إشارة إلى بدعة الخوارج المكفرة بمطلق الذنوب، فأما أصل الإيمان الذي هو الإقرار بما جاءت به الرسل عن الله تصديقا به وانقيادا له؛ فهذا أصل الإيمان الذي من لم يأت به فليس بمؤمن).[37]
ونقل إمام المحدثين محمد بن إسماعيل البخاري -(ت 256)- إجماع أئمة أهل السنة والجماعة على هذا القول فقال: (لقيت أكثر من ألف رجل من أهل العلم: أهل الحجاز ومكة والمدينة والكوفة والبصرة وواسط وبغداد والشام ومصر لقيتهم فما رأيت واحدا منهم يختلف في هذه الأشياء.. ولم يكونوا يكفرون أحدا من أهل القبلة بالذنب لقوله {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}...).[38]
الأصل الثالث: عذر المجتهد ومن قلده وإن أخطأ:
فقد ذكر ابن تيمية اختلاف الفرق في شأن من أخطأ في القطعيات؛ فقال: (قول السلف وأئمة الفتوى كأبي حنيفة والشافعي والثوري وداود بن علي وغيرهم لا يؤثمون مجتهدا مخطئا، لا في المسائل الأصولية، ولا في الفروعية، كما ذكر ذلك عنهم ابن حزم وغيره، ولهذا كان أبو حنيفة والشافعي وغيرهما يقبلون شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية، ويصححون الصلاة خلفهم، والكافر لا تقبل شهادته على المسلمين، ولا يصلى خلفه، وقالوا هذا هو القول المعروف عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الدين إنهم لا يكفرون ولا يفسقون ولا يؤثمون أحدا من المجتهدين المخطئين لا في مسألة عملية ولا علمية، قالوا والفرق بين مسائل الأصول والفروع إنما هو من أقوال أهل البدع، من أهل الكلام من المعتزلة والجهمية ومن سلك سبيلهم، وانتقل هذا القول إلى أقوام تكلموا بذلك في أصول الفقه ولم يعرفوا حقيقة هذا القول ولا غوره، قالوا والفرق في ذلك بين مسائل الأصول والفروع كما أنه بدعة محدثة في الإسلام لم يدل عليها كتاب ولا سنة ولا إجماع بل ولا قالها أحد من السلف والأئمة، فهي باطلة عقلا، فإن المفرقين بين ما جعلوه مسائل أصول ومسائل فروع لم يفرقوا بينهما بفرق صحيح يميز بين النوعين..
وقول الله تعالى في القرآن {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا}، قال الله تعالى "قد فعلت"، ولم يفرق بين الخطأ القطعي والظني، بل لا يجزم بأنه خطأ إلا إذا كان أخطأ قطعا، قالوا فمن قال إن المخطئ في مسألة قطعية أو ظنية يأثم فقد خالف الكتاب والسنة والإجماع القديم...).[39]
الأصل الرابع: إثبات حقوق الإسلام والعدل مع المخالف في القضاء والأحكام:
فقد ترتب على هذه العقيدة الإيمانية -في عدم إكفار المخالفين من أهل القبلة وإثبات إسلامهم وإيمانهم- آثارها العملية والسياسية، حيث تقررت لهم جميع حقوق المسلمين ومنع الظلم والتظالم بينهم في الحكم والقضاء، حيث يقول: (وعلى ولاة الأمر أن يمنعوهم من التظالم، فإذا تعدى بعضهم على بعض منعوهم العدوان؛ وهم قد أُلزموا بمنع ظلم أهل الذمة؛ وأن يكون اليهودي والنصراني في بلادهم إذا قام بالشروط المشروطة عليهم، لا يلزمه أحد بترك دينه؛ مع العلم بأن دينه يوجب العذاب،فكيف يسوغ لولاة الأمور أن يُمكِّنوا طوائف المسلمين من اعتداء بعضهم على بعض؛ وحكم بعضهم على بعض بقوله ومذهبه، وهذا مما يوجب تغير الدول وانتقاضها؛ فإنه لا صلاح للعباد على مثل هذا، وهذا إذا كان الحكام قد حكموا في مسألة فيها اجتهاد ونزاع معروف).[40]
وما ذكره ابن تيمية هو ما قرره أئمة أهل السنة والجماعة كما قال الإمام الشافعي في بيان ما للخوارج وأهل الأهواء من حقوق: (ولو أن قوما أظهروا رأى الخوارج وتجنبوا جماعات الناس، وكفروهم لم يحلل بذلك قتالهم، لأنهم على حرمة الإيمان، لم يصيروا إلى الحال التي أمر الله عز وجل بقتالهم فيها.
بلغنا أن عليا رضي الله تعالى عنه بينا هو يخطب إذ سمع تحكيما من ناحية المسجد: لا حكم إلا لله عز وجل!
فقال علي رضي الله تعالى عنه: "كلمة حق أريد بها باطل لكم علينا ثلاث: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله، ولا نمنعكم الفيء ما كانت أيديكم مع أيدينا، ولا نبدؤكم بقتال".
قال الشافعي: وبهذا كله نقول، ولا يحل بطعنهم للمسلمين دماؤهم، ولا أن يمنعوا الفيء ما جرى عليهم حكم الإسلام وكانوا أسوتهم في جهاد عدوهم، ولا يحال بينهم وبين المساجد والأسواق، ولو شهدوا شهادة الحق وهم مظهرون لهذا قبل الاعتقاد أو بعده وكانت حالهم في العفاف والعقول حسنة انبغى للقاضي أن يحصيهم بأن يسأل عنهم... وهكذا من بغى من أهل الأهواء ولا يفرق بينهم وبين غيرهم فيما يجب لهم وعليهم من أخذ الحق والحدود والأحكام).[41]
وعلى هذا القول أجمع أئمة أهل السنة والجماعة نظريا وعمليا، فلم يأذنوا لأحد من الخلفاء ولا الأمراء بالتعرض بالقتل أو السجن للمخالفين في الدين من المسلمين، كما فعل أحمد بن حنبل لما رفع المتوكل الفتنة، حيث نهى عن التعرض لكل من آذاه كالقاضي ابن أبي دؤاد، بل يرون وجوب العدل معهم، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ولهذا كان أهل السنة مع أهل البدعة بالعكس، إذا قدروا عليهم لا يعتدون عليهم بالتكفير والقتل وغير ذلك، بل يستعملون معهم العدل الذي أمر الله به ورسوله، كما فعل عمر بن عبد العزيز بالحرورية والقدرية، وإذا جاهدوهم، فكما جاهد علي رضي الله عنه الحرورية بعد الأعذار وإقامة الحجة –أي: لكف عدوانهم- وعامة ما كانوا يستعملونه معهم الهجران والمنع من الأمور التي تظهر بسببها بدعتهم، مثل ترك مخاطبتهم ومجالستهم، لأن هذا هو الطريق إلى خمود بدعتهم، وإذا عجزوا عنهم لم ينافقوهم، بل يصبرون على الحق الذي بعث الله به نبيه، كما كان سلف المؤمنين يفعلون، وكما أمرهم الله في كتابه، حيث أمرهم بالصبر على الحق، وأمرهم أن لا يحملهم شنآن قوم على أن لا يعدلوا).[42]
الأصل الخامس: تصحيح الصلاة خلفهم والحج والجهاد معهم:
فبناءً على إثبات إسلام أهل القبلة صحح ابن تيمية الصلاة خلف الأئمة منهم، والحج والجهاد معهم، كما هو فعل السلف وقولهم، حفاظا على الأمة ووحدتها، وحفاظا على فرائض الدين، فقال: (ومن أوجب الإعادة على كل من صلى خلف كل ذي فجور وبدعة فقوله ضعيف، فإن السلف والأئمة من الصحابة والتابعين صلوا خلف هؤلاء وهؤلاء لما كانوا ولاة عليهم، ولهذا كان من أصول أهل السنة أن الصلوات التي يقيمها ولاة الأمور تُصلى خلفهم على أي حالة كانوا، كما يُحج معهم ويُغزى معهم).[43]
وكل ذلك تعظيما لشعائر الإسلام وإقامتها وعدم تعطيلها، وحفاظا على وحدة الأمة وجماعتها من الافتراق، لا تعظيما لأمراء الجور كما توهم من رمى السلف بمداهنة الحجاج ونحوه!
وقال أيضا: (أما الصلاة خلف أهل الأهواء والبدع، وخلف أهل الفجور، ففيه نزاع مشهور، لكن أوسط الأقوال في هؤلاء أن تقديم الواحد من هؤلاء في الإمامة لا يجوز مع القدرة على غيره، فإن من كان مظهرًا للفجور أو البدع يجب الإنكار عليه ونهيه عن ذلك، وأقل مراتب الإنكار هجره لينتهي عن فجوره وبدعته... فإذا لم يمكن منع المظهر للبدعة والفجور إلا بضرر زائد على ضرر إمامته، لم يجز ذلك، بل يصلى خلفه ما لا يمكنه أن يفعلها إلا خلفه، كالجمع، والأعياد، والجماعة، إذا لم يكن هناك إمام غيره، ولهذا كان الصحابة يصلون خلف الحجاج، والمختار بن أبي عبيد الثقفي، وغيرهما الجمعة والجماعة، فإن تفويت الجمعة والجماعة أعظم فسادًا من الاقتداء فيهما بإمام فاجر، لا سيما إذا كان التخلف عنهما لا يدفع فجوره، فيبقى ترك المصلحة الشرعية بدون دفع تلك المفسدة، ولهذا كان التاركون للجمعة والجماعات خلف أئمة الجور مطلقًا معدودين عند السلف والأئمة من أهل البدع، وأما إذا أمكن فعل الجمعة والجماعة خلف البر فهو أولى من فعلها خلف الفاجر، وحينئذ فإذا صلى خلف الفاجر من غير عذر فهو موضع اجتهاد العلماء، منهم من قال: أنه يعيد لأنه فعل مالا يشرع، بحيث ترك ما يجب عليه من الإنكار بصلاته خلف هذا، فكانت صلاته خلفه منهيًا عنها فيعيدها، ومنهم من قال: لا يعيد، قال: لأن الصلاة في نفسها صحيحة...).[44]
وقد نص ابن تيمية على صحة الصلاة خلف الجهمي والرافضي والخارجي؛ إذ كلام أئمة أهل السنة والجماعة إنما هو في مثل هؤلاء، حيث قال: (وكذلك إذا كان الإمام قد رتبه ولاة الأمور، ولم يكن في ترك الصلاة خلفه مصلحة، فهنا ليس عليه ترك الصلاة خلفه، بل الصلاة خلف الإمام الأفضل أفضل، وهذا كله يكون فيمن ظهر منه فسق، أو بدعة، تظهر مخالفتها للكتاب والسنة، كبدعة الرافضة، والجهمية ونحوهم... وأما الصلاة خلف المبتدع: فهذه المسألة فيها نزاع، وتفصيل، فإذا لم تجد إمامًا غيره كالجمعة التي لا تقام إلا بمكان واحد، وكالعيدين وكصلوات الحج، خلف إمام الموسم فهذه تفعل خلف كل بر وفاجر باتفاق أهل السنة والجماعة، وإنما يدَعُ مثل هذه الصلوات خلف الأئمة؛ أهلُ البدع كالرافضة ونحوهم، ممن لا يرى الجمعة والجماعة، فإذا لم يكن في القرية إلا مسجد واحد، فصلاته في الجماعة خلف الفاجر خير من صلاته في بيته منفردًا؛ لئلا يفضي إلى ترك الجماعة مطلقًا.
وأما إذا أمكنه أن يصلي خلف غير المبتدع فهو أحسن، وأفضل بلا ريب، لكن إن صلى خلفه ففي صلاته نزاع بين العلماء، ومذهب الشافعي، وأبي حنيفة تصح صلاته، وأما مالك وأحمد، ففي مذهبهما نزاع وتفصيل، وهذا إنما هو في البدعة التي يعلم أنها تخالف الكتاب والسنة، مثل بدع الرافضة والجهمية ونحوهم، فأما مسائل الدين التي يتنازع فيها كثير من الناس في هذه البلاد، مثل "مسالة الحرف والصوت" ونحوها، فقد يكون كل من المتنازعين مبتدعًا، وكلاهما جاهل متأول، فليس امتناع هذا من الصلاة خلف هذا بأولى من العكس، فأما إذا ظهرت السنة وعلمت فخالفها أحد، فهذا هو الذي فيه النِّزاع).[45]
وقال أيضا: (أهل الحديث والسنة كالشافعي وأحمد وإسحاق وغيرهم متفقون على أن صلاة الجمعة تصلى خلف البر والفاجر، حتى أن أهل البدع كالجهمية الذين يقولون بخلق القرآن، وأن الله لا يرى في الآخرة، ومع أن أحمد ابتلي بهم وهو أشهر الأئمة بالإمامة في السنة، ومع هذا لم تختلف نصوصه أنه تصلى الجمعة خلف الجهمي، والقدري والرافضي، وليس لأحد أن يدع الجمعة لبدعة في الإمام).[46]
وهذا أوضح دليل على أن ابن تيمية يرى إثبات إسلامهم وعدم إكفارهم، وهو الصحيح عن سلف الأمة من الصحابة كعلي بن أبي طالب وسنته في الخوارج، وكذا هو قول أئمة أهل السنة والجماعة؛ إذ لا تصح الصلاة خلف الكافر بالنص والإجماع، وهذه الفرق -الخوارج والجهمية والرافضة- هي في نظر الأئمة أبعد فرق أهل القبلة عن أهل السنة والجماعة وأكثرها تطرفا، بخلاف المعتزلة والشيعة الزيدية والإباضية والمرجئة، فإذا صحت الصلاة خلف الجهمي والرافضي؛ فمن باب أولى صحتها خلف من هو أخف بدعة، وهذا أوسع باب لتوحيد الأمة ورص صفوفها؛ إذ وحدة مساجدها وصلواتها هي السبب في وحدة قلوبها وائتلافها.
ولهذا صحح ابن تيمية أيضا دعوة أهل البدع لغير المسلمين للدخول في الإسلام، وأنها خير من بقاء الكفار على شركهم ووثنيتهم حيث قال: (وقد ذهب كثير من مبتدعة المسلمين من الرافضة والجهمية وغيرهم إلى بلاد الكفار، فأسلم على يديه خلق كثير، وانتفعوا بذلك وصاروا مسلمين مبتدعين، وهو خير من أن يكونوا كفارا، وكذلك بعض الملوك قد يغزو غزوا يظلم فيه المسلمين والكفار ويكون آثما بذلك، ومع هذا فيحصل به نفع خلق كثير كانوا كفارا فصاروا مسلمين، وذاك كان شرا بالنسبة إلى القائم بالواجب، وأما بالنسبة إلى الكفار فهو خير).[47]
وكل ذلك يؤكد موقف ابن تيمية وأئمة أهل السنة والجماعة من أهل القبلة، وحفاظهم على أصل الجماعة ووحدة الأمة وانتظام أمرها، وحماية بيضتها، والجهاد مع كل من قاتل عدوها دفاعا عنها، ولا يلتفتون إلى عقيدته وبدعته؛ بل يعينونه على البر والتقوى، وينهونه عن الإثم والعدوان؛ ولهذا لم يتعطل جهاد الفتح والدفع في الثغور حتى في ظل ضعف الخلافة في أواخر القرن الرابع الهجري، الذي وصل فيه أهل الأهواء والبدع للسلطة في بغداد، والقاهرة، الشام، حيث يقرر عبد القاهر البغدادي -(ت 429)- وهو معاصر لتلك الفترة بأن كل (ثغور الروم والجزيرة وثغور الشام وثغور أذربيجان وباب الأبواب -أرمينيا- كلهم على مذهب أهل الحديث من أهل السنة، وكذلك ثغور أفريقيا والأندلس وكل ثغور بحر المغرب أهله من أهل الحديث، وكذلك ثغور اليمن على ساحل الزنج، وأما ثغور أهل ما وراء النهر في وجوه الترك والصين فهم فريقان إما شافعية وإما من أصحاب أبي حنيفة، وقد قال تعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا}، فالجهاد مع الكفرة في الثغور منهم، وليس لأهل الأهواء ثغر).[48]
فالثغور وهي حدود دولة الإسلام مع الدول المحاربة لها كانت تحمى بالجهاد الذي يقوم به المتطوعون من أهل الحديث والفقه.
فالجهاد عند أهل السنة والجماعة هو ذروة سنام الإسلام، وهو ماض عندهم إلى يوم القيامة، لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل، كما قال أحمد بن حنبل، وكما قال الطحاوي في عقيدة أبي حنيفة وأصحابه: (والحج والجهاد ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين برهم وفاجرهم إلى قيام الساعة لا يبطلهما شيء ولا ينقضهما)، وذلك لقوله تعالى في شأن أعداء المسلمين وبقاء عداوتهم وعدوانهم: {ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا} وقوله: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة}، وما زال المسلمون منذ بعثة النبي ﷺ ودخولهم في الإسلام إلى اليوم وإلى آخر الدهر وهم يتعرضون للظلم والعدوان في حال الاستضعاف، والغدر والخيانة في حال الاستخلاف، فهم في جهاد دفع أو جهاد فتح، وكما في الصحيح: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق يقاتلون لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة).
الأصل السادس: تحريم الاقتتال الأهلي والاحتراب الداخلي بين أهل الإسلام:
وقد قرر هذا الأصل بشكل جلي وبالنصوص القطعية فقال :(والأصل أن دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم محرمة من بعضهم على بعض لا تحل إلا بإذن الله ورسوله، قال النبي ﷺ لما خطبهم في حجة الوداع: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا"، وقال: "كل المسلم على المسلم حرام : دمه وماله وعرضه"، وقال: "من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فهو المسلم له ذمة الله ورسوله"، وقال: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار قيل يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه أراد قتل صاحبه"، وقال: "لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض"، وقال: "إذا قال المسلم لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما"، وهذه الأحاديث كلها في الصحاح، وإذا كان المسلم متأولا في القتال أو التكفير لم يكفر بذلك كما قال عمر بن الخطاب لحاطب بن أبي بلتعة: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق! فقال النبي ﷺ: "إنه قد شهد بدرا وما يدريك أن الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم"، وهذا في الصحيحين، وفيهما أيضا: من حديث الإفك: أن أسيد بن الحضير قال لسعد بن عبادة: إنك منافق تجادل عن المنافقين! واختصم الفريقان فأصلح النبي ﷺ بينهم، فهؤلاء البدريون فيهم من قال لآخر منهم: إنك منافق! ولم يكفر النبي ﷺ لا هذا ولا هذا، بل شهد للجميع بالجنة. وكذلك ثبت في الصحيحين عن أسامة بن زيد أنه قتل رجلا بعد ما قال لا إله إلا الله، وعظم النبي ﷺ ذلك لما أخبره، وقال "يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟ وكرر ذلك عليه حتى قال أسامة: تمنيت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ". ومع هذا لم يوجب عليه قودا ولا دية ولا كفارة، لأنه كان متأولا ظن جواز قتل ذلك القائل لظنه أنه قالها تعوذا، فهكذا السلف قاتل بعضهم بعضا من أهل الجمل وصفين ونحوهم وكلهم مسلمون مؤمنون، كما قال تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين}، فقد بين الله تعالى أنهم مع اقتتالهم وبغي بعضهم على بعض إخوة مؤمنون وأمر بالإصلاح بينهم بالعدل، ولهذا كان السلف مع الاقتتال يوالي بعضهم بعضا موالاة الدين، لا يعادون كمعاداة الكفار، فيقبل بعضهم شهادة بعض، ويأخذ بعضهم العلم عن بعض، ويتوارثون ويتناكحون، ويتعاملون بمعاملة المسلمين بعضهم مع بعض، مع ما كان بينهم من القتال والتلاعن وغير ذلك..).[49]
وابن تيمية يقرر هذا الأصل احتجاجا بالنصوص من الكتاب والسنة، وبفعل سلف الأمة وأصول أئمة أهل السنة والجماعة المنصوص عليه في كتب عقائدهم وأنهم (لا يرون السيف على أهل القبلة)؛ لشدة حرمة دماء المسلمين كما ثبتت بنصوص القرآن والسنة وإجماع سلف الأمة، ولهذه العقيدة أربعة معان عندهم، وربما اختلطت على المتأخرين حتى صارت عندهم معنى واحدا، وربما لبس بعضهم الحق بالباطل فيها مشايعة منهم لأهواء الملوك، والصحيح التفصيل فيها على النحو التالي:
المعنى الأول: حرمة سل السيف على المسلمين، وحرمة استباحة دماء المخالفين، كما تفعل الخوارج الحرورية الذين كفروا كل من خالفهم وسلوا السيف عليهم، وهذا هو المعنى المقصود عند الإطلاق، ردا على الخوارج، كما جاء في عقيدة الإمام الطحاوي عن أئمة أهل العراق من أهل الرأي أبي حنيفة وأصحابه: (ولا نرى السيف على أحد من أمة محمد ﷺ إلا من وجب عليه السيف).
وكذا قال إمام أهل الحديث في عصره سفيان الثوري: (وكل أهل هوى، فإنهم يرون السيف على أهل القبلة، وأما أهل السنة فإنهم لا يرون السيف على أحد، وهم يرون الصلاة والجهاد مع الأئمة تامة قائمة، ولا يكفرون أحدا بذنب، ولا يشهدون عليه بشرك).[50]
وكذا قال البخاري: (لقيت أكثر من ألف رجل من أهل العلم أهل الحجاز ومكة والمدينة والكوفة والبصرة وواسط وبغداد والشام ومصر لقيتهم، فما رأيت واحدا منهم يختلف في هذه الأشياء... وأن لا يرى السيف على أمة محمد ﷺ).[51]
فالمقصود هنا أنهم لا يرون استباحة دماء أحد من أهل القبلة من المسلمين، مهما كانوا مخالفين في الرأي والدين، لا كما يستحله الحرورية من الخوارج الذين صالوا على الأمة بالسيف (يقاتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان) كما جاء وصفهم في الحديث الصحيح.
المعنى الثاني: حرمة سل السيف على المسلمين في القتال في الفتن، وهو كل قتال بين طائفتين من المسلمين بسبب العصبية، أو التنازع على السلطة، أو القتال على شيء من حظوظ الدنيا، أو القتال على تأويل في الدين.
وهذا قول عامة أهل السنة اتباعا للأحاديث التي جاء فيها النهي عن القتال في الفتن التي تقع بين المسلمين، كما فعل أكثر الصحابة الذين اعتزلوا القتال في الجمل وصفين، لحديث: (الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه).
قال ابن تيمية: (والذي عليه أكابر الصحابة والتابعين أن قتال الجمل وصفين لم يكن من القتال المأمور به، وأن تركه أفضل من الدخول فيه، بل عدُّوه قتال فتنة، وعلى هذا جمهور أهل الحديث، وجمهور أئمة الفقهاء، فمذهب أبي حنيفة فيما ذكره القدوري أنه لا يجوز قتال البغاة إلا أن يبدؤوا بالقتال، وأهل صفين لم يبدؤوا عليًا بقتال، وكذلك مذهب أعيان فقهاء المدينة والشام والبصرة، وأعيان فقهاء الحديث كمالك وأيوب والأوزاعي وأحمد وغيرهم أنه لم يكن مأمورًا به، وأن تركه كان خيرًا من فعله، وهو قول جمهور أئمة السنة كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة الصريحة في هذا الباب).[52]
فهذا القتال بين المسلمين لا يسوغ المشاركة فيه، حتى وإن كان الإمام خليفة راشدا كعلي رضي الله عنه؛ إذ هو قتال لم يستبن فيه وجه الحق للجميع، وطاعة الإمام الشرعي منوطة بالمعروف كما في الصحيح: (إنما الطاعة بالمعروف)، أما في المتشابهات فلا طاعة له، ولهذا كان الحسن بن علي رضي الله عنه يشير على أبيه بتركه، حتى ندم علي بعد ذلك وبكى وتمنى أن لو مات قبل تلك الفتنة، وقال: (لله موقف وقفه سعد بن مالك وعبد الله بن عمر)، وهم من الذين اعتزلوا كلا الطائفتين ولم يشاركوا في القتال، فلما اصطلحوا على التحكيم شارك هؤلاء فيه، إذ هو المشروع للأمة عند وقوع القتال فيما بينها أن تحتكم إلى الكتاب والسنة وإلى الأمة، دون لجوء للسيف والقتال، كما في الصحيح: (قتال المسلم كفر وسبابه فسوق) وحديث: (لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض) وحديث: (إن دماءكم حرام عليكم كحرمة يومك هذا في بلدكم هذا)... إلخ.
وقال ابن تيمية في بيان صحة مذهب أهل المدينة: (ودين الإسلام: أن يكون السيف تابعا للكتاب، فإذا ظهر العلم بالكتاب والسنة، وكان السيف تابعا لذلك كان أمر الإسلام قائما، وأهل المدينة أولى الأمصار بمثل ذلك، أما على عهد الخلفاء الراشدين فكان الأمر كذلك، وأما بعدهم فهم في ذلك أرجح من غيرهم، وأما إذا كان العلم بالكتاب فيه تقصير، وكان السيف تارة يوافق الكتاب وتارة يخالفه : كان دين من هو كذلك بحسب ذلك، وهذه الأمور من اهتدى إليها وإلى أمثالها تبين له أن أصول أهل المدينة أصح من أصول أهل المشرق بما لا نسبة بينهما، ومن ذلك أن القتال في الفتنة الكبرى، كان الصحابة فيها ثلاث فرق: فرقة قاتلت من هذه الناحية، وفرقة قاتلت من هذه الناحية، وفرقة قعدت، والفقهاء اليوم على قولين: منهم من يرى القتال من ناحية علي -مثل أكثر المصنفين- لقتال البغاة، ومنهم من يرى الإمساك، وهو المشهور من قول أهل المدينة وأهل الحديث، والأحاديث الثابتة الصحيحة عن النبي ﷺ في أمر هذه الفتنة توافق قول هؤلاء، ولهذا كان المصنفون لعقائد أهل السنة والجماعة يذكرون فيه ترك القتال في الفتنة والإمساك عما شجر بين الصحابة، ثم إن أهل المدينة يرون قتال من خرج عن الشريعة كالحرورية وغيرهم، ويفرقون بين هذا وبين القتال في الفتنة، وهو مذهب فقهاء الحديث، وهذا هو الموافق لسنة رسول الله ﷺ وسنة خلفائه الراشدين، فإنه قد ثبت عنه الحديث في الخوارج من عشرة أوجه خرجها مسلم في صحيحه، وخرج البخاري بعضها... وقد ثبت اتفاق الصحابة على قتالهم وقاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وذكر فيهم سنة رسول الله ﷺ المتضمنة لقتالهم، وفرح بقتلهم وسجد لله شكرا لما رأى أباهم مقتولا، وهو ذو الثدية، بخلاف ما جرى يوم الجمل وصفين؛ فإن عليا لم يفرح بذلك بل ظهر منه من التألم والندم ما ظهر، ولم يذكر عن النبي ﷺ في ذلك سنة، بل ذكر أنه قاتل باجتهاده، فأهل المدينة اتبعوا السنة في قتال المارقين من الشريعة، وترك القتال في الفتنة، وعلى ذلك أئمة أهل الحديث، بخلاف من سوى بين قتال هؤلاء وهؤلاء، بل سوى بين قتال هؤلاء وقتال الصديق لمانعي الزكاة، فجعل جميع هؤلاء من باب البغاة كما فعل ذلك من فعله من المصنفين في قتال أهل البغي؛ فإن هذا جمع بين ما فرق الله بينهما، وأهل المدينة والسنة فرقوا بين ما فرق الله بينه، واتبعوا النص الصحيح، والقياس المستقيم العادل؛ فإن القياس الصحيح من العدل وهو : التسوية بين المتماثلين والتفريق بين المتخالفين، وأهل المدينة أحق الناس باتباع النص الصحيح والقياس العادل).[53]
فهذه الصور من الاقتتال والاحتراب بين الأمة كلها من الفتن التي يحرم المشاركة فيها، أما الخروج على الإمام الجائر فهو محل خلاف بين أئمة أهل السنة، ولهذا راعى ابن تيمية فيها الخلاف ولم ينص عليه في العقيدة الواسطية؛ لشهرة الخلاف فيه عن مالك وأبي حنيفة وغيرهم، فهم يقررون بلا خلاف حرمة الخروج على الأئمة وإن وقع منهم جور، فيجب تغيير المنكر ودفع الجور بلا قتال، أما الإمام الجائر ابتداء باغتصاب الخلافة والإمارة فهذا لا يعترف أبو حنيفة ومالك أصلا بإمامته لتجب طاعته ويحرم الخروج عليه، ولا يرون أنهم أئمة أصلا ليجب الصبر على جورهم، وكذا من ثبتت إمامته بوجه مشروع وفشا منه الظلم والجور حتى خشي على الأمة من الاصطلام فهو أيضا مختلف بينهم في مشروعية الخروج عليه، وقد فصل أبو بكر الجصاص الفقيه والمفسر الحنفي في هذه المسألة أحسن تفصيل وذكر مذهب أبي حنيفة فقال في اشتراط العدالة ابتداء في الإمام في تفسيره: (لم يخل قوله تعالى: {لا ينال عهدي الظالمين} من أن يريد أن الظالمين غير مأمورين، أو أن الظالمين لا يجوز أن يكونوا بمحل من يقبل منهم أوامر الله تعالى وأحكامه، ولا يؤمنون عليها، فلما بطل الوجه الأول لاتفاق المسلمين على أن أوامر الله تعالى لازمة للظالمين كلزومها لغيرهم، وأنهم إنما استحقوا سمة الظلم لتركهم أوامر الله ثبت الوجه الآخر، وهو أنهم غير مؤتمنين على أوامر الله تعالى، وغير مقتدى بهم فيها، فلا يكونون أئمة في الدين، فثبت بدلالة هذه الآية بطلان إمامة الفاسق، وأنه لا يكون خليفة، وأن من نصب نفسه في هذا المنصب وهو فاسق لم يلزم الناس اتباعه ولا طاعته، وكذلك قال النبي ﷺ: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، ودل أيضا على أن الفاسق لا يكون حاكما - أي قاضيا - وأن أحكامه لا تنفذ إذا ولي الحكم، وكذلك لا تقبل شهادته، ولا خبره، إذا أخبر عن النبي ﷺ، ولا فتياه إذا كان مفتيا، وأنه لا يقدم للصلاة، وإن كان لو قدم واقتدى به مقتد كانت صلاته ماضية، فقد حوى قوله {لا ينال عهدي الظالمين} هذه المعاني كلها.
ومن الناس من يظن أن مذهب أبي حنيفة تجويز إمامة الفاسق وخلافته، وأنه يفرق بينه وبين الحاكم فلا يجيز حكمه، وذكر ذلك عنه بعض المتكلمين وقد كذب في ذلك وقال بالباطل، ولا فرق عند أبي حنيفة بين القاضي وبين الخليفة في أن شرط كل واحد منهما العدالة، وأن الفاسق لا يكون خليفة، ولا يكون حاكما، كما لا تقبل شهادته ولا خبره لو روى خبرا عن النبي ﷺ، وكيف يكون خليفة وروايته غير مقبولة، وأحكامه غير نافذة، وكيف يجوز أن يدعى ذلك على أبي حنيفة وقد أكرهه ابن هبيرة في أيام بني أمية على القضاء وضربه فامتنع من ذلك وحبس..).[54]
ثم ذكر أبو بكر الجصاص مذهب أبي حنيفة في الإمام الجائر وإيجابه الخروج عليه فقال: (وكان مذهبه مشهورا في قتال الظلمة وأئمة الجور، ولذلك قال الأوزاعي احتملنا أبا حنيفة على كل شيء حتى جاءنا بالسيف يعني قتال الظلمة فلم نحتمله،وكان من قوله وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض بالقول، فإن لم يؤتمر له فبالسيف على ما روي عن النبي ﷺ، وسأله إبراهيم الصائغ وكان من فقهاء أهل خراسان ورواة الأخبار ونساكهم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال هو فرض، وحدثه بحديث عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي ﷺ قال: (أفضل الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره بالمعروف ونهاه عن المنكر فقتل)، فرجع إبراهيم إلى مرو وقام إلى أبي مسلم صاحب الدولة فأمره ونهاه وأنكر عليه ظلمه وسفكه الدماء بغير حق، فاحتمله مرارا ثم قتله، وقضيته في أمر زيد بن علي مشهورة، وفي حمله المال إليه، وفتياه الناس سرا في وجوب نصرته والقتال معه، وكذلك أمره مع محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن حسن، وقال لأبي إسحق الفزاري حين قال له: لم أشرت على أخي بالخروج مع إبراهيم حتى قتل؟ قال مخرج أخيك أحب إلي من مخرجك، وكان أبو إسحق قد خرج إلى البصرة، وهذا إنما أنكره عليه أغمار أصحاب الحديث الذين بهم فُقد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى تغلب الظالمون على أمور الإسلام، فمن كان هذا مذهبه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كيف يرى إمامة الفاسق!).[55]
ثم فسر أبو بكر الجصاص مذهب أبي حنيفة وأن التعامل بالواقعية السياسية لا تقتضي الاعتراف للإمام الجائر بالشرعية، حيث رد على من غلط على أبي حنيفة وأهل العراق ولم يفهم مذهبهم كيف يسوغون تولي القضاء للإمام الجائر، ويأخذون العطاء والأرزاق منهم: (فإنما غلط من غلط في ذلك من جهة قوله، وقول سائر من يعرف قوله من العراقيين: أن القاضي إذا كان عدلا في نفسه فولي القضاء من قبل إمام جائر أن أحكامه نافذة وقضاياه صحيحة، وأن الصلاة خلفهم جائزة مع كونهم –أي: الأئمة- فساقا وظلمة، وهذا مذهب صحيح، ولا دلالة فيه على أن من مذهبه تجويز إمامة الفاسق، وذلك لأن القاضي إذا كان عدلا فإنما يكون قاضيا بأن يمكنه تنفيذ الأحكام وكانت له يد وقدرة على من امتنع من قبول أحكامه حتى يجبره عليها، ولا اعتبار في ذلك بمن ولاه، لأن الذي ولاه إنما هو بمنزلة سائر أعوانه وليس شرط أعوان القاضي أن يكونوا عدولا، ألا ترى أن أهل بلد لا سلطان عليهم لو اجتمعوا على الرضا بتولية رجل عدل منهم القضاء حتى يكونوا أعوانا له على من امتنع من قبول أحكامه لكان قضاؤه نافذا، وإن لم يكن له ولاية من جهة إمام ولا سلطان، وعلى هذا تولى شريح وقضاة التابعين القضاء من قبل بني أمية، وقد كان شريح قاضيا بالكوفة إلى أيام الحجاج ... وقد كان الحسن وسعيد بن جبير والشعبي وسائر التابعين يأخذون أرزاقهم من أيدي هؤلاء الظلمة، لا على أنهم كانوا يتولونهم ولا يرون إمامتهم، وإنما كانوا يأخذونها على أنها حقوق لهم في أيدي قوم فجرة، وكيف يكون ذلك على وجه موالاتهم وقد ضربوا وجه الحجاج بالسيف، وخرج عليه من القراء أربعة آلاف رجل هم خيار التابعين وفقهاؤهم، فقاتلوه مع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بالأهواز، ثم بالبصرة، ثم بدير الجماجم من ناحية الفرات، بقرب الكوفة، وهم خالعون لعبد الملك بن مروان، لاعنون لهم، متبرئون منهم، فليس إذا في ولاية القضاء من قبلهم ولا أخذ العطاء منهم دلالة على توليتهم واعتقاد إمامتهم).
وهذا الذي ذكره الجصاص في مشروعية تولي القضاء للإمام الجائر حكم صحيح، والتعليل الصحيح له هو كون ولاية القاضي مستمدة من الولاية العامة للأمة {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم ألياء بعض}، والخليفة والسلطان وكيل عنها، فتنفذ أحكام القاضي حتى لو بطلت ولاية الخليفة أو مات أو فقد؛ لأن الأمة وهي الأصيل موجودة لا تبطل ولايتها بحال من الأحوال، وهذا السبب الذي يفسر تولي كثير من أئمة التابعين القضاء والإمارة لبعض أئمة الجور؛ لأنهم يتولونه لصالح المسلمين وفي ولايتهم وشوكتهم ودولتهم، وأما الإمام فهو فرد منهم قد يتغير وتتقلب فيه الأحوال، وتبقى الأمة والدولة والشريعة.
وما ذكره الجصاص عن أبي حنيفة وأهل العراق مشهور متواتر عنهم فلا يشكل عليه قول الطحاوي في عقيدته كما سبق عنه، إذ قول الطحاوي: (ولو جاروا) أي: لو وقع منهم جور ما دامت ثبتت ولايتهم وإمامتهم ابتداءً، وما داموا على حد لا يخرجهم ما يقع من جور من وصف العدالة التي تغلب على أحوالهم.
وهذا هو أيضا مذهب مالك والشافعي وداود الظاهري وعامة فقهاء أهل السنة كما ذكره عنهم ابن حزم، وكما هو منصوص في كتب أصحابهم، وهو مشهور عن مالك وهو إمام أهل السنة والجماعة في عصره بلا منازع، قال ابن حزم: (وذهبت طوائف من أهل السنة وجميع المعتزلة وجميع الخوارج والزيدية إلى أن سل السيوف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب إذا لم يمكن دفع المنكر إلا بذلك، قالوا فإذا كان أهل الحق في عصابة يمكنهم الدفع ولا ييئسون من الظفر ففرض عليهم ذلك وإن كانوا في عدد لا يرجون لقلتهم وضعفهم بظفر كانوا في سعة من ترك التغيير باليد، وهذا قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكل من معه من الصحابة، وقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وطلحة والزبير وكل من كان معهم من الصحابة، وقول معاوية وعمرو والنعمان بن بشير وغيرهم ممن معهم من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، وهو قول عبد الله بن الزبير ومحمد والحسن بن علي وبقية الصحابة من المهاجرين والأنصار والقائمين يوم الحرة رضي الله عن جميعهم أجمعين، وقول كل من أقام على الفاسق الحجاج ومن والاه من الصحابة رضي الله عنهم جميعهم كأنس بن مالك، وكل من كان ممن ذكرنا من أفاضل التابعين كعبد الرحمن ابن أبي ليلى وسعيد بن جبير وابن البحتري الطائي وعطاء السلمي الأزدي والحسن البصري ومالك بن دينار ومسلم بن بشار وأبي الحوراء والشعبي وعبد الله بن غالب وعقبة بن عبد الغافر وعقبة بن صهبان وماهان والمطرف بن المغيرة ابن شعبة وأبي المعد وحنظلة بن عبد الله وأبي سح الهنائي وطلق بن حبيب والمطرف بن عبد الله ابن الشخير والنصر بن أنس وعطاء بن السائب وإبراهيم بن يزيد التيمي وأبي الحوسا وجبلة بن زحر وغيرهم، ثم من بعد هؤلاء من تابعي التابعين ومن بعدهم كعبد الله بن عبد العزيز ابن عبد الله بن عمر وكعبد الله بن عمر ومحمد بن عجلان ومن خرج مع محمد بن عبد الله بن الحسن وهاشم بن بشر ومطر ومن أخرج مع إبراهيم بن عبد الله، وهو الذي تدل عليه أقوال الفقهاء كأبي حنيفة والحسن بن حيي وشريك ومالك والشافعي وداود وأصحابهم فإن كل من ذكرنا من قديم وحديث أما ناطق بذلك في فتواه وأما الفاعل لذلك بسل سيفه في إنكار ما رآه منكرا..
والواجب إن وقع شيء من الجور وإن قل أن يكلم الإمام في ذلك ويمنع منه، فإن امتنع وراجع الحق وأذعن للقود من البشرة أو من الأعضاء ولإقامة حد الزنا والقذف والخمر عليه فلا سبيل إلى خلعه، وهو إمام كما كان لا يحل خلعه، فإن امتنع من إنفاذ شيء من هذه الواجبات عليه ولم يراجع وجب خلعه وإقامة غيره ممن يقوم بالحق، لقوله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}، ولا يجوز تضييع شيء من واجبات الشرائع).[56]
وأما أهل الحديث فقد قال الإمام الإسماعيلي: (ويرون جهاد الكفار معهم، وإن كانوا جورة، ولا يرون الخروج بالسيف عليهم، ولا قتال الفتنة، ويرون قتال الفئة الباغية مع الإمام العادل، إذا كان ووجد على شرطهم في ذلك).[57]
فهنا فصل الإسماعيلي بين ثلاثة أنواع من القتال:
الأول: قتال أئمة الجور، والثاني: القتال في الفتن، وهذان القسمان محرمان عند أهل الحديث.
والثالث: القتال مع الإمام، وهنا فرق بين الجهاد معه في حرب الكفار فيجاهد معه مطلقا برا كان أو فاجرا، والقتال معه ضد البغاة والخارجين عليه، فهنا ذكر أنهم لا يرون القتال معه، بل لا يقاتلون إلا مع الإمام العدل بشروطه وهو أن يدعو البغاة إلى حكم الله ورسوله، فإن كان لهم مظلمة ردها، وإن كانت شبهة كشفها، فإن فاءوا وإلا جاز قتالهم إن لم يندفعوا إلا به.
وهذا الأمر يوافقه عليه عامة أهل السنة والجماعة من أئمة المذاهب الفقهية.
وقال أبو القاسم التيمي الأصبهاني (ت 535): (ومن مذهب أهل السنة: أنهم لا يرون الخروج على الأئمة، وإن كان منهم بعض الجور، ما أقاموا الصلاة).[58]
وهذه العبارة تختلف عن عبارة الإسماعيلي من وجهين:
الأول: أنه لم يتحدث عن الجورة وأئمة الجور، وإنما عن الأئمة إذا وقع منهم بعض الجور، وهذا لا يخالف فيه عامة أهل السنة والجماعة، وأن الإمام لا يجوز الخروج عليه لوقوع بعض الجور والظلم الذي لا يصل به إلى حد وصفه بإمام جائر، وهو من فشا ظلمه، وعم جوره، إذ حتى الإمام العدل قد يقع في سلطانه شيء من الجور، ولا يخرج به ذلك من حد العدالة الغالبة على أحواله؛ فلا يحل الخروج عليه بمجرد وقوع مثل ذلك، وهذه كعبارة الطحاوي (وإن جاروا).
الثاني: ترك الصلاة وهذا القيد ليس المقصود به حتى يكفر -إذ الخروج على الكافر وسقوط طاعته، واجب بالنص والإجماع وهو من المعلوم من دين الإسلام بالضرورة القطعية؛ لقوله تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا}، ولحديث: (إلا أن تروا كفرا بواحا)، إذ لا يتصور أن يجاهد المسلمون عدوهم الكافر الخارجي، والجهاد ماض عندهم إلى يوم القيامة، ويتركون الكافر الداخلي يحكمهم ويسوس أمورهم- وإنما نص الأصبهاني على الصلاة لحديث: (لا ما صلوا) مع كون تارك الصلاة عند جمهور أهل السنة والجماعة مسلما عاصيا وليس كافرا، وقد سبق كلام شيخ الإسلام ابن تيمية على وجوب قتال الإمام إذا ترك الصلاة بناء على أن تركها كفر عند أحمد وطائفة من أهل السنة، بينما الجمهور يرون أنه مسلم عاص، ومع ذلك يرون أنه إذا ترك الصلاة وجب الخروج عليه، أما إذا منعهم من التحاكم فيما بينهم بما أنزل الله، وألزم القضاة أن يحكموا بين المسلمين بغير حكم الله، فهنا تجاوز أمره ترك الصلاة التي هي عبادة خاصة بينه وبين ربه إلى تعطيل الشريعة كلها التي يلزم الأمة كلها التحاكم إليها طاعة لله ورسول، وتوحيدا لله جل جلاله بالعبودية والطاعة، وهذا أوجب للخروج عليه بلا خلاف بين المسلمين كلهم سنيهم وبدعيهم!
وكل ما سبق يؤكد أن هناك فرقا بين:
1- سل السيف على أمة محمد ﷺ وهم أهل القبلة جميعا؛ فهذا محرم بإجماع أهل السنة والجماعة، وهو فعل الخوارج الحرورية.
2- وسل السيف في الفتن بين المسلمين؛ وهو محرم عند جمهور أهل السنة والجماعة، وعليه أكثر الصحابة، وأهل الحديث، وأكثر الفقهاء.
3 - وسل السيف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لإزالة المنكر دون السلطان، إذا لم يغيره الإمام، وقد منع منه بعض السلف وأحمد بن حنبل وأكثر أهل الحديث، وخالفهم أكثر السلف من الصحابة ومن بعدهم من أئمة أهل السنة فرأوا وجوب تغيير المنكر بالقوة إذا لم يغيره الإمام كما نقله عنهم ابن حزم.
4 - وسل السيف على الإمام الجائر وخلعه وهي فرع المسألة الثالثة، والخلاف فيها مشهور بين أئمة أهل السنة، فمن منع منه -كأحمد بن حنبل- فلأنه عده من القتال في الفتن، ومن أوجبه أو أجازه - كأبي حنيفة ومالك والشافعي وداود الظاهري - فلأنه من النهي عن المنكر، هذا إذا كان تغيير الجائر لا يكون إلا بالقوة، أما إذا كانت الأمة من القوة والقدرة بالمكان الذي يؤهلها من عزله بلا قتال فلا خلاف بينهم جميعا في وجوب عزله وتولية العدل، وهذا كله في ظل خلافة الإسلام وظهور الأحكام.
(وقال أبو بكر الجصاص: (وكان مذهبه [يعني أبا حنيفة] رحمه الله مشهورًا في قتال الظلمة وأئمة الجور ... وقضيته في أمر زيد بن علي مشهورة، وفي حمله المال إليه، وفتياه الناس سرًّا في وجوب نصرته والقتال معه، وكذلك أمره مع محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن حسن).[59]
وهذا مذهب شيخه حماد بن أبي سليمان.[60]
وقال ابن العربي: (قال علماؤنا: وفي رواية سحنون -عن ابن القاسم عن مالك- إنما يقاتل مع الإمام العدل، سواء كان الأول أو الخارج عليه، فإن لم يكونا عدلين فأمسك عنهما إلا أن تراد بنفسك أو مالك أو ظلم المسلمين، فادفع ذلك.. هؤلاء لا بيعة لهم إذا كان بويع لهم على الخوف).[61]
وروى ابن القاسم عن مالك أنه قال: (إذا بايع الناس رجلا بالإمارة، ثم قام آخر فدعا إلى بيعته فبايعه بعضهم، فإن المبايع الثاني يقتل إذا كان الإمام عدلا، فإن كان مثل هؤلاء -الظلمة- فلا بيعة له تلزم، إذا كانت بيعته على الخوف، والبيعة للثاني -الخارج عليه- إن كان عدلا، وإلا فلا بيعة له تلزم).[62]
أي: لا بيعة للأول ولا للخارج عليهم لفقدهم شرطا من شروط الإمامة وهي العدالة.
وقال الزبيدي: إن الخروج على الإمام الجائر هو مذهب الشافعي القديم.[63]
وفي مذهب أحمد رواية مرجوحة بجواز الخروج على الإمام الجائر، بناءً على ما روي عنه من عدم انعقاد الإمامة بالاستيلاء، وإليه ذهب ابن رزين وقدمه في الرعاية من كتب الحنابلة، وقد قال بجواز الخروج على الإمام الجائر من أئمة المذهب ابن عقيل وابن الجوزي.[64]
وهذه المسألة تُبنى على مسألة انفساخ عقد الإمامة بالفسق، وهي مسألة خلافية أيضًا، قال القرطبي: (الثالثة عشر – الإمام إذا نُصب ثم فسق بعد انبرام العقد، فقال الجمهور: إنه تنفسخ إمامته ويُخلع بالفسق الظاهر المعلوم؛ لأنه قد ثبت أن الإمام إنما يقام لإقامة الحدود، واستيفاء الحقوق، وحفظ أموال الأيتام والمجانين والنظر في أمورهم، إلى غير ذلك مما تقدم ذكره، وما فيه من الفسق يقعده عن القيام بهذه الأمور والنهوض بها، فلو جوزنا أن يكون فاسقا أدى إلى إبطال ما أقيم لأجله، ألا ترى في الابتداء إنما لم يجز أن يعقد للفاسق لأجل أنه يؤدي إلى إبطال ما أقيم له، وكذلك هذا مثله . وقال آخرون: لا ينخلع إلا بالكفر، أو بترك إقامة الصلاة، أو الترك إلى دعائها، أو شيء من الشريعة؛ لقوله عليه السلام في حديث عبادة: "وألا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرًا بواحا عندكم من الله فيه برهان"..).[65]
وقد كان أول من ادعى الإجماع على حرمة الخروج على الجائر ابن مجاهد الأشعري شيخ الباقلاني، ورد عليه ابن حزم فقال: (ورأيت لبعض من ينسب نفسه للإمامة والكلام في الدين فصولا ذكر فيها الإجماع فأتى بكلام لو سكت عنه لكان أسلم له في أخراه! بل الخرس كان أسلم له وهو ابن مجاهد البصرى الطائي لا المقرئ، فإنه أتى فيما ادعى فيه الإجماع أنهم أجمعوا على أن لا يخرج على أئمة الجور فاستعظمت ذلك، ولعمري إنه لعظيم أن يكون قد علم أن مخالف الإجماع كافر، فيلقي هذا على الناس، وقد علم أن أفاضل الصحابة، وبقية الناس يوم الحرة خرجوا على يزيد بن معاوية، وأن ابن الزبير ومن تبعه من خيار المسلمين خرجوا عليه أيضًا، وأن الحسن البصري وأكابر التابعين خرجوا على الحجاج بسيوفهم، أترى هؤلاء كفروا! ولعمري، لو كان خلافًا يخفى لعذرناه، ولكنه أمر مشهور يعرفه أكثر العوام في الأسواق، والمخدرات في خدورهن؛ لاشتهاره).[66]
الأصل السابع: إصلاح ذات بين المسلمين والتأليف بينهم:
وقد قام ابن تيمية بدور كبير في إصلاح ذات البين بين أكبر مذهبين آنذاك في الشام والعراق وهما الحنابلة والأثرية من جهة، والشافعية الأشعرية من جهة أخرى، الذين احتدم الصراع بينهم منذ فتنة القشيري في القرن الخامس، كما أشار إليه ابن تيمية : (فإن الأشعري ما كان ينتسب إلا إلى مذهب أهل الحديث وإمامهم عنه أحمد بن حنبل، وقد ذكر أبو بكر عبد العزيز وغيره في مناظراته: ما يقتضي أنه عنده من متكلمي أهل الحديث لم يجعله مباينا لهم؛ وكانوا قديما متقاربين، إلا أن فيهم من ينكر عليه ما قد ينكرونه على من خرج منهم إلى شيء من الكلام؛ لما في ذلك من البدعة ؛ مع أنه في أصل مقالته ليس على السنة المحضة بل هو مقصر عنها تقصيرا معروفا. و"الأشعرية" فيما يثبتونه من السنة فرع على الحنبلية، كما أن متكلمة الحنبلية - فيما يحتجون به من القياس العقلي - فرع عليهم ؛ وإنما وقعت الفرقة بسبب فتنة القشيري).
وقد ذكر خبر الفتنة التي كانت ابتداء بين الحنفية والشافعية: الحافظ أبو القاسم ابن عساكر -ت 571 هـ-، وكانت وقعت في نيسابور سنة 445 هـ، في عهد السلطان طغرل بك السلجوقي، وكان حنفي المذهب حين أمر بمنع عقائد أهل البدع كلها ولعنها، فضم وزيره -وكان حنفيا متعصبا- لتلك الفرق الأشاعرة الشافعية، فكتب أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري الشافعي رسالته وشكايته في الدفاع عن الأشعري وبيان أنه على السنة[67]، قال ابن عساكر بعد أن ساق عقيدة الأشعري في الإبانة التي نص فيها على إتباعه للإمام أحمد في الاعتقاد: (فتأملوا رحمكم الله هذا الاعتقاد ما أوضحه وأبينه، واعترفوا بفضل هذا الإمام العالم الذي شرحه وبينه، وانظروا سهولة لفظه فما أفصحه وأحسنه، وكونوا مما قال الله فيهم {الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه}، وتبينوا فضل أبي الحسن واعرفوا أنصافه، واسمعوا وصفه لأحمد بالفضل واعترافه، لتعلموا أنهما كانا في الاعتقاد متفقين، وفي أصول الدين ومذهب السنة غير مفترقين، ولم تزل الحنابلة ببغداد في قديم الدهر على ممر الأوقات تعتضد بالأشعرية على أصحاب البدع، لأنهم المتكلمون من أهل الإثبات، فمن تكلم منهم في الرد على مبتدع فبلسان الأشعرية يتكلم، ومن حقق منهم في الأصول في مسألة فمنهم يتعلم، فلم يزالوا كذلك حتى حدث الاختلاف في زمن أبي نصر القشيري ووزارة النظام، ووقع بينهم الانحراف من بعضهم عن بعض لانحلال النظام، وعلى الجملة فلم يزل في الحنابلة طائفة تغلو في السنة، وتدخل فيما لا يعنيها حبا للخفوف في الفتنة، ولا عار على أحمد رحمه الله من صنيعهم، وليس يتفق على ذلك رأي جميعهم..).[68]
وقد أمر السلطان طغرل بك بسجن ونفي من شاركوا في الفتنة فسجن القشيري، وخرج إمام الحرمين الجويني إلى مكة، ثم انتقلت الفتنة من خراسان إلى بغداد بعد عامين بين الحنابلة والشافعية حتى امتنع الشافعية من الجمع والجماعات خوفا من الحنابلة الذين كان لهم نفوذهم الواسع على العامة في بغداد، وقد حسمت هذه الفتنة سريعا بعد تولي السلطان السلجوقي ألب أرسلان بعد عمه طغرل بك، واستوزر الوزير نظام الملك وكان شافعيا أشعريا، وبنى المدرسة النظامية سنة 459 هـ، التي اختار لها شيخ الشافعية أبا إسحاق الشيرازي للتدريس فيها فدرس بعد امتناعه مدة!
وبدأ نفوذ الشافعية الأشعرية يزداد في بغداد، واحتد الاستقطاب للعلماء والقضاة في العراق من طرف نظام الملك الذي عزز نفوذ الشافعية للسيطرة عليها، وزادت ظاهرة التحول المذهبي لتولي الولايات، كما وصفها ابن عقيل الحنبلي: (وقد رأيت أكثر أعمال الناس لا يقع إلا للناس، إلا من عصم الله، من ذاك أني رأيت في زمن أبي يوسف كثر أهل القرآن والمنكرون، لإكرام أصحاب عبد الصمد - وهو ابن عمر البغدادي الزاهد، حنبلي واعظ كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وله أصحاب توفي 397 هـ - وكثر متفقهة الحنابلة، ومات فاختل ذلك، فاتفق ابن جهير فرأيت من كان يتقرب إلى ابن جهير يرفع أخبار العاملين، ثم جاءت دولة النظام فعظم الأشعرية فرأيت من كان يتسخط علي بنفي التشبيه غلوا في مذهب أحمد، وكان يظهر بغضي يعود علي بالغمض على الحنابلة! وصار كلامه ككلام رافضي وصل إلى مشهد الحسين فأمن وباح، ورأيت كثيرا من أصحاب المذاهب انتقلوا ونافقوا وتوثق بمذهب الأشعري والشافعي طمعا في العز والجرايات، ثم رأيت الوزير أبا شجاع يدين بحب الصلحاء والزهاد فانقطع البطالون إلى المساجد وتعمد خلق للزهد، فلما افتقدت ذلك قلت لنفسي هل حظيت من هذا الافتقاد بشيء ينفعك؟ فقالت البصيرة: نعم! استفدت أن الثقة خيبة، والغنى بهم إفلاس، ولا ينبغي أن يعول على غير الله).[69]
وقد تراجع دور الحنابلة شيئا فشيئا، وكان الخليفة العباسي القائم بأمر الله يميل إليهم، وبوفاته سنة 467 هـ؛ تراجع نفوذهم في بغداد الذي دام منذ عهد الخليفة المتوكل، ثم عهد الخليفة القادر بالله الذي امتدت خلافته من سنة 381 - 422 هـ، وكتب إلى سلطان المشرق محمود الغزنوي سنة 408 هـ يدعوه إلى القضاء على أهل البدع وإظهار السنة.
وقد كان الخليفة القادر بالله قد كتب كتابا في الاعتقاد اشتهر بالاعتقاد القادري على طريقة السلف، خطب فيه بجوامع دار الخلافة سنة 413 هـ، وقد ألف أبو يعلى الحنبلي شيخ الحنابلة في عصره كتاب إبطال التأويل، فثارت الفتنة، فأمر الخليفة القائم بأمر الله سنة 432 هـ بإظهار الاعتقاد القادري فقرئ على الناس وهدأت الفتنة، وكان علماء بغداد قد وقعوا عليه، ومنهم أبو يعلى الحنبلي، وقد ذكر ولده قطعة منه، فقال: (فلنذكر الآن البيان عن اعتقاد الوالد السعيد ومن قبله من السلف الحميد في أخبار الصفات:
فاعلم زادنا الله وإياك علماً ينفعنا الله به وجعلنا ممن آثر الآيات الصريحة والأحاديث الصحيحة على آراء المتكلمين وأهواء المتكلفين: أن الذي درج عليه صالحو السلف، وانتهجه بعدهم خيار الخلف: هو التمسك بكتاب الله عز وجل واتباع نبيه محمدﷺ ثم ما روى عن الصحابة رضوان الله عليهم ثم عن التابعين والخالفين لهم من علماء المسلمين.
والإيمان والتصديق بما وصف الله تعالى به نفسه أو وصفه به رسوله مع ترك البحث والتنفير والتسليم لذلك من غير تعطيل ولا تشبيه ولا تفسير ولا تأويل، وهي الفرقة الناجية والجماعة العادلة والطائفة المنصورة إلى يوم القيامة، فهم أصحاب الحديث والأثر، والوالد السعيد تابعهم، هم خلفاء الرسول وورثة علمه وسفرته بينه وبين أمته، بهم يلحق التالي، وإليهم يرجع العالي، وهم الذين نبذهم أهل البدع والضلال، وقائلو الزور والمحال: أنهم مشبهة جهال ونسبوهم إلى الحشو والطغام وأساءوا فيهم الكلام.
فاعتقد الوالد السعيد وسلفه قدس الله أرواحهم وجعل ذكرنا لهم بركة تعود علينا في جميع ما وصف الله تعالى به نفسه أو وصفه به رسول ﷺ: أن جميع ذلك صفات الله عز وجل تمر كما جاءت من غير زيادة ولا نقصان وأقروا بالعجز عن إدراك معرفة حقيقة هذا الشأن.
اعتقد الوالد السعيد ومن قبله ممن سبقه من الأئمة: أن إثبات صفات الباري سبحانه إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد، لها حقيقة في علمه، لم يطلع الباري سبحانه على كنه معرفتها أحداً من إنس ولا جان.
واعتقدوا: أن الكلام في الصفات فرع الكلام في الذات ويحتذى حذوه ومثاله وكما جاء.
وقد أجمع أهل القبلة: أن إثبات الباري سبحانه: إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وكيفية، هكذا اعتقد الوالد السعيد ومن قبله ممن سلفه من الأئمة: أن إثبات الصفات للباري سبحانه إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وكيفية، وأنها صفات لا تشبه صفات البرية، ولا تدرك حقيقة علمها بالفكر والروية.
والأصل الذي اعتمدوه في هذا الباب اتباع قوله تعالى: {وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون: آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب}، وقال تعالى: {ولا يحيطون به علماً وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما}.
فاعتقدوا أن الباري سبحانه وتعالى: فرد الذات متعدد الصفات، لا شبيه له في ذاته ولا في صفاته، ولا نظير ولا ثاني، وسمعوا قوله عز وجل: {آلم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب}، فآمنوا بما وصف الله به نفسه وبما وصفه به رسوله ﷺ تسليمًا للقدرة وتصديقاً للرسل وإيماناً بالغيب.
واعتقدوا: أن صفات الباري سبحانه معلومة من حيث أعلم هو، غيب من حيث انفرد واستأثر، كما أن الباري سبحانه معلوم من حيث هو، مجهول ما هو.
واعتقدوا: أن الباري سبحانه استأثر بعلم حقائق صفاته ومعانيها عن العالمين، وفارق بها سائر الموصوفين، فهم بها مؤمنون، وبحقائقها موقنون، وبمعرفة كيفيتها جاهلون، لا يجوز عندهم ردها كرد الجهمية، ولا حملها على التشبيه كما حملته المشبهة الذي أثبتوا الكيفية، ولا تأولوها على اللغات والمجازات كما تأولتها الأشعرية.
فالحنبلية لا يقولون في أخبار الصفات بتعطيل المعطلين، ولا بتشبيه المشبهين، ولا تأويل المتأولين، مذهبهم: حق بين باطلين، وهدى بين ضلالتين: إثبات الأسماء والصفات مع نفي التشبيه والأدوات، إذ لا مثل للخالق سبحانه مشبه ولا نظير له فيجنس منه، فنقول كما سمعنا ونشهد بما علمنا من غير تشبيه ولا تجنيس، على أنه {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}، وفي رد أخبار الصفات وتكذيب النقلة: إبطال شرائع الدين من قبل أن الناقلين إلينا علم الصلاة والزكاة والحج وسائر أحكام الشريعة: هم ناقلوا هذه الأخبار والعدل مقبول القول فيما قاله ولو تطرق إليهم والعياذ بالله التخرص بشيء منها: لأدى ذلك إلى إبطال جميع ما نقلوه وقد حفظ الله سبحانه الشرع عن مثل هذا.
وقد أجمع علماء أهل الحديث والأشعرية منهم على قبول هذه الأحاديث، فمنهم من أقرها على ما جاءت وهم أصحاب الحديث، ومنهم من تأولها وهم الأشعرية وتأويلهم إياها قبول منهم لها، إذ لو كانت عندهم باطلة لاطرحوها كما اطرحوا سائر الأخبار الباطلة.
وقد روى عن النبي - ﷺ - أنه قال: " أمتي لا تجتمع على خطأ ولا ضلالة " .
وما ذكرناه من الإيمان بأخبار الصفات من غير تعطيل ولا تشبيه ولا تفسير ولا تأويل هو قول السلف بدءًا وعودًا، وهو الذي ذكره أمير المؤمنين القادر رضوان الله عليه في الرسالة القادرية قال فيها: "وما وصف الله سبحانه به نفسه أو وصفه به رسول الله ﷺ: فهو صفات الله عز وجل على حقيقته لا على سبيل المجاز".
وعلى هذا الاعتقاد: جمع أمير المؤمنين القائم بأمر الله رضوان الله عليه من حضره مع الوالد السعيد من علماء الوقت وزاهدهم: أبو الحسن القزويني سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة وأخذ خطوطهم باعتقاده.
وقد قال الوالد السعيد رضي الله عنه في أخبار الصفات: المذهب في ذلك: قبول هذه الأحاديث على ما جاءت به من غير عدول عنه إلى تأويل يخالف ظاهرها، مع الاعتقاد بأن الله سبحانه بخلاف كل شيء سواه، وكل ما يقع في الخواطر من حد أو تشبيه أو تكييف: فالله سبحانه تعالى عن ذلك، والله ليس كمثله شيء، ولا يوصف بصفات المخلوقين الدالة على حدثهم، ولا يجوز عليه ما يجوز عليهم من التغير من حال إلى حال، ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض، وأنه لم يزل ولا يزال، وأنه الذي لا يتصور في الأوهام وصفاته لا تشبه صفات المخلوقين ليس كمثله شيء وهو السميع البصير .
وأما كتابه قدس الله روحه في "إبطال التأويلات لأخبار الصفات": فمبني على هذه المقدمات، وأن إطلاق ما ورد به السمع من الصفات: لا يقتضي تشبيه الباري سبحانه بالمخلوقات.
وذكر رحمة الله عليه كلاماً معناه: أن التشبيه إنما يلزم الحنبلية أن لو وجد منهم أحد أمرين: إما أن يكونوا هم الذين ابتدأوا الصفة لله عز وجل واخترعوها، أو يكونوا قد صرحوا باعتقاد التشبيه في الأحاديث التي هم ناقلوها.
فأما أن يكون صاحب الشريعة ﷺ هو المبتدئ بهذه الأحاديث وقوله ﷺ حجة يسقط بها ما يعارضها، وهم تبع له، ثم يكون الحنبلية قد صرحوا بأنهم يعتقدون إثبات الصفات ونفي التشبيه فكيف يجوز أن يضاف إليهم ما يعتقدون نفيه؟
وعلى أنه قد ثبت أن الحنبلية إنما يعتمدون في أصول الدين على كتاب الله عز وجل وسنة نبيه ﷺ ونحن نجد في كتاب الله وسنة رسوله ذكر الصفات، ولا نجد فيهما ذكر التشبيه، فكيف يجوز أن يضاف إليهم ما يعتقدون نفيه؟
ومما يدل على أن تسليم الحنبلية لأخبار الصفات من غير تأويل ولا حمل على ما يقتضيه الشاهد وأنه لا يلزمهم في ذلك التشبيه: إجماع الطوائف من بين موافق للسنة ومخالف أن الباري سبحانه ذات وشيء وموجود، ثم لم يلزمنا وإياهم إثبات جسم ولا جوهر ولا عرض، وإن كانت الذات في الشاهد لا تنفك عن هذه السمات، وهكذا لا يلزم الحنبلية ما يقتضيه العرف في الشاهد في أخبار الصفات.
يبين صحة هذا: أن البارئ سبحانه موصوف بأنه: حي عالم قادر مريد والخلق موصوفون بهذه الصفات، ولم يدل الاتفاق في هذه التسمية على الاتفاق في حقائقها ومعانيها، هكذا القول في أخبار الصفات ولا يلزم عند تسليمها من غير تأويل إثبات ما يقتضيه الحد والشاهد في معانيها.
وبهذا ونظيره استدل الوالد السعيد رحمة الله عليه في كتابه "أبطال التأويلات لأخبار الصفات".
فأما الرد على المجسمة لله: فيرده الوالد السعيد بكتاب وذكره أيضاً في أثناء كتبه فقال: لا يجوز أن يسمى الله جسمًا.
قال أحمد: لا يوصف الله تعالى بأكثر مما وصف به نفسه).[70]
ثم ثارت الفتنة الثالثة بين الطرفين الحنابلة الأثرية والشافعية الأشعرية سنة 469 هـ، بعد أن قدم القشيري وجلس في النظامية يتكلم في الحنابلة ويتهمهم بالتجسيم، فاقتتل الطرفان، فانزعج أبو إسحاق الشيرازي الشافعي وأبو بكر الشاشي الحنفي وكتبا إلى نظام الملك يحذران من الفتنة التي كانت بسبب مدرسة النظامية، وكان في كتاب الشيرازي شكاية من الحنابلة.
قال ابن كثير عن هذه الفتنة: (وذلك أن ابن القشيري قدم بغداد فجلس يتكلم في النظامية، وأخذ يذم الحنابلة وينسبهم إلى التجسيم، وساعده أبو سعد الصوفي، ومال معه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، وكتب إلى نظام الملك يشكو إليه الحنابلة، ويسأله المعونة عليهم، وذهب جماعة إلى الشريف أبي جعفر بن أبي موسى الهاشمي شيخ الحنابلة، وهو في مسجده فدافع عنه آخرون، واقتتل الناس بسبب ذلك وقتل رجل خياط من سوق التبن، وجرح آخرون، وثارت الفتنة، وكتب الشيخ أبو إسحاق وأبو بكر الشاشي إلى نظام الملك في كتابه إلى فخر الدولة -أبي نصر بن جهير- ينكر ما وقع، ويكره أن ينسب إلى المدرسة التي بناها شيء من ذلك.
وعزم الشيخ أبو إسحاق على الرحلة من بغداد غضبا مما وقع من الشر، فأرسل إليه الخليفة يسكنه، ثم جمع بينه وبين الشريف أبي جعفر وأبي سعد الصوفي، وأبي نصر بن القشيري، عند الوزير، فأقبل الوزير على أبي جعفر يعظمه في الفعال والمقال، وقام إليه الشيخ أبو إسحاق فقال: أنا ذلك الذي كنت تعرفه وأنا شاب، وهذه كتبي في الأصول، ما أقول فيها خلافا للأشعرية، ثم قبل رأس أبي جعفر، فقال له أبو جعفر: صدقت، إلا أنك لما كنت فقيرا لم تظهر لنا ما في نفسك، فلما جاء الأعوان والسلطان وخواجه بزك -يعني نظام الملك- وشبعت، أبديت ما كان مختفيا في نفسك!
وقام الشيخ أبو سعد الصوفي وقبل رأس الشريف أبي جعفر أيضا وتلطف به، فالتفت إليه مغضبا وقال: أيها الشيخ أما الفقهاء إذا تكلموا في مسائل الأصول فلهم فيها مدخل، وأما أنت فصاحب لهو وسماع وتغبير، فمن زاحمك منا على باطلك؟ ثم قال: أيها الوزير أنى تصلح بيننا؟ وكيف يقع بيننا صلح ونحن نوجب ما نعتقده وهم يحرمون ويكفرون؟ وهذا جد الخليفة القائم والقادر قد أظهرا اعتقادهما للناس على رؤوس الأشهاد على مذهب أهل السنة والجماعة والسلف، ونحن على ذلك كما وافق عليه العراقيون والخراسانيون، وقرئ على الناس في الدواوين كلها، فأرسل الوزير إلى الخليفة يعلمه بما جرى، فجاء الجواب بشكر الجماعة وخصوصا الشريف أبا جعفر، ثم استدعى الخليفة أبا جعفر إلى دار الخلافة للسلام عليه، والتبرك بدعائه).[71]
وقد ورد جواب الوزير نظام الملك سنة 470 هـ على كتاب أبي إسحاق الشيرازي وفيه: (ورد كتابك بشرح أطلت فيه الخطاب، وليس توجب سياسة السلطان وقضية العدالة إلى أن نميل في المذاهب إلى جهة دون جهة، ونحن بتأييد السنن أولى من تشييد الفتن، ولم نتقدم ببناء هذه المدرسة إلا لصيانة أهل العلم والمصلحة، لا للاختلاف وتفريق الكلمة، ومتى جرت الأمور خلاف ما أردناه من هذه الأسباب، فليس إلا التقدم بسد الباب، وليس في المكنة الإتيان على بغداد ونواحيها، ونقلهم عن ما جرت عادتهم فيها، فإن الغالب هناك هو مذهب الإمام أحمد بن حنبل، ومحله معروف بين الأئمة، وقدره معلوم في السنة).[72]
ثم وقعت الفتنة في الشام بين الطرفين، في عصر شيخ المذهب ابن قدامة المقدسي -ت 620 هـ- الذي ألف رسالته "ذم التأويل" ودعا إلى مذهب السلف في الاعتقاد، وروى عن محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة قوله: (اتفق الفقهاء كلهم من الشرق إلى الغرب على الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله في صفة الرب عز وجل من غير تفسير ولا وصف ولا تشبيه، فمن فسر شيئا من ذلك فقد خرج مما كان عليه النبي وفارق الجماعة، فإنهم لم يصفوا ولم يفسروا، ولكن آمنوا بما في الكتاب والسنة ثم سكتوا، فمن قال بقول جهم فقد فارق الجماعة لأنه وصفه بصفة لا شيء.
وقال محمد بن الحسن في الأحاديث التي جاءت إن الله يهبط إلى السماء الدنيا ونحو هذا من الأحاديث: إن هذه الأحاديث قد روتها الثقات فنحن نرويها ونؤمن بها ولا نفسرها).[73]
ثم روى ابن قدامة عن الخطيب البغدادي الشافعي من رسالته في "عقيدة أهل الحديث" قوله: (أما الكلام في الصفات فإن ما روي منها في السنن الصحاح مذهب السلف رضي الله عنهم: إثباتها وإجراؤها على ظاهرها، ونفي الكيفية والتشبيه عنها، والأصل في هذا أن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات، ويحتذى في ذلك حذوه ومثاله، فإذا كان معلوما أن إثبات رب العالمين عز وجل إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف، فكذلك إثبات صفاته إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف...
ونقول إنما ورد إثباتها لأن التوقيف ورد بها، ووجب نفي التشبيه عنها لقوله تبارك وتعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}، وقوله عز وجل: {ولم يكن له كفوا أحد الإخلاص}).[74]
ثم روى ابن قدامة عن الإمام إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني الشافعي قوله في اعتقاده: (إن أصحاب الحديث المتمسكين بالكتاب والسنة يعرفون ربهم تبارك وتعالى بصفاته التي نطق بها كتابه وتنزيله وشهد له بها رسوله على ما وردت به الأخبار الصحاح ونقله العدول الثقات، ولا يعتقدون تشبيها لصفاته بصفات خلقه، ولا يكيفونها تكييف المشبهة، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه تحريف المعتزلة والجهمية، وقد أعاذ الله أهل السنة من التحريف والتكييف، ومنّ عليهم بالتفهيم والتعريف، حتى سلكوا سبيل التوحيد والتنزيه، وتركوا القول بالتعطيل والتشبيه، واتبعوا قوله عز من قائل: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}..).[75]
وكذا روى عن الإمام الإسماعيلي عقيدته في الصفات، وروى عن إمام الأئمة ابن خزيمة من كتابه التوحيد قوله: (إن الأخبار في صفات الله موافقة لكتاب الله تعالى نقلها الخلف عن السلف قرنا بعد قرن من لدن الصحابة والتابعين إلى عصرنا هذا على سبيل الصفات لله تعالى والمعرفة والإيمان به والتسليم لما أخبر الله تعالى في تنزيله ونبيه الرسول عن كتابه مع اجتناب التأويل والجحود وترك التمثيل والتكييف).[76]
ثم روى عن الوليد بن مسلم قوله: (الوليد بن مسلم قال: "سألت مالك بن أنس وسفيان الثوري والليث بن سعد والأوزاعي عن الأخبار التي في الصفات فقالوا أمروها كما جاءت"، قال يحيى بن عمار: وهؤلاء أئمة الأمصار فمالك إمام أهل الحجاز والثوري إمام أهل العراق والأوزاعي إمام أهل الشام والليث إمام أهل مصر والمغرب).
ونقل عن حافظ المغرب وشارح موطأ مالك ابن عبد البر قوله: (روينا عن مالك بن أنس وسفيان الثوري وسفيان ابن عيينة والأوزاعي ومعمر بن راشد في حديث الصفات أنهم كلهم قالوا أمروها كما جاءت).[77]
ثم روى عن الإمام أحمد عقيدته، ثم عن الربيع بن سليمان قال: (سألت الشافعي رضي الله عنه عن صفات من صفات الله تعالى فقال: حرام على العقول أن تمثل الله تعالى، وعلى الأوهام أن تحده، وعلى الظنون أن تقطع، وعلى النفوس أن تفكر، وعلى الضمائر أن تعمق، وعلى الخواطر أن تحيط، وعلى العقول أن تعقل، إلا ما وصف به نفسه في كتابه أو على لسان نبيه.
وقال يونس بن عبد الأعلى سمعت أبا عبد الله محمد بن إدريس الشافعي: يقول وقد سئل عن صفات الله تعالى وما يؤمن به؟ فقال: لله تعالى أسماء وصفات جاء بها كتابه وأخبر بها نبيه لا يسع أحدا من خلق الله تعالى قامت عليه الحجة ردها، لأن القرآن نزل بها وصح عن رسول الله القول بها، فإن خالف ذلك بعد ثبوت الحجة عليه فهو كافر بالله تعالى، فأما قبل ثبوت الحجة عليه من جهة الخبر فمعذور بالجهل، لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا بالروية ولا بالفكر).[78]
ثم روى عن الحافظ أبي القاسم بن عساكر قوله: (قال ما جاء في الصفات في كتاب الله تعالى أو روي بالأسانيد الصحيحة فمذهب السلف رحمة الله عليهم إثباتها وإجراؤها على ظاهرها، ونفي الكيفية عنها، لأن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات، وإثبات الذات إثبات وجود لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات الصفات وعلى هذا مضى السلف كلهم).[79]
ثم بعد ذلك عرض ابن قدامة المقدسي بالأشعرية الذين يقولون بالتأويل وبدعهم فقال: (فقد ثبت ما ادعيناه من مذهب السلف رحمة الله عليهم بما نقلناه عنهم جملة وتفصيلا، واعتراف العلماء من أهل النقل كلهم بذلك، ولم أعلم عن أحد منهم خلافا في هذه المسألة، بل قد بلغني عمن يذهب إلى التأويل لهذه الأخبار والآيات الاعتراف بأن مذهب السلف فيما قلناه، ورأيت لبعض شيوخهم في كتابه قال: "اختلف أصحابنا في أخبار الصفات فمنهم من أمرها كما جاءت من غير تفسير ولا تأويل مع نفي التشبيه عنها، وهو مذهب السلف" فحصل الإجماع على صحة ما ذكرناه والحمد لله).[80]
وعقد بابا في وجوب اتباع سلف الأمة من الصحابة ومن بعدهم فقال: (فقد ثبت وجوب اتباع السلف رحمة الله عليهم بالكتاب والسنة والإجماع، والعبرة دلت عليه فإن السلف لا يخلوا من أن يكونوا مصيبين أو مخطئين، فإن كانوا مصيبين وجب اتباعهم، لأن اتباع الصواب واجب وركوب الخطأ في الاعتقاد حرام، ولأنهم إذا كانوا مصيبين كانوا على الصراط المستقيم ومخالفهم متبع لسبيل الشيطان الهادي إلى صراط الجحيم، وقد أمر الله تعالى باتباع سبيله وصراطه ونهى عن اتباع ما سواه فقال: {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون الأنعام}، وإن زعم زاعم أنهم مخطئون كان قادحا في حق الإسلام كله، لأنه إن جاز أن يخطئوا في هذا جاز خطؤهم في غيره من الإسلام كله، وينبغي أن لا تنقل الأخبار التي نقلوها ولا تثبت معجزات النبي التي رووها، فتبطل الرواية وتزول الشريعة، ولا يجوز لمسلم أن يقول هذا ولا يعتقده، ولأن السلف رحمة الله عليهم لا يخلوا إما أن يكونوا علموا تأويل هذه الصفات أو لم يعلموه، فإن لم يعلموه فكيف علمناه نحن! وإن علموه فوسعهم إن يسكتوا عنه وجب أن يسعنا ما وسعهم، ولأن النبي من جملة سلفنا الذين سكتوا عن تفسير الآيات والأخبار التي جاءت في الصفات، وهو حجة الله على خلق الله أجمعين يجب عليهم اتباعه ويحرم عليهم خلافه، وقد شهد الله تعالى بأنه على الصراط المستقيم وأنه يهدي إليه وأن من اتبعه أحبه الله، ومن عصاه فقد عصى الله، {ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا}).
ثم بعد أن ذكر الحجج من الكتاب والسنة على وجوب الاتباع وترك التأويل قال محتجا بالإجماع: (وأما الإجماع فإن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على ترك التأويل بما ذكرناه عنهم، وكذلك أهل كل عصر بعدهم ولم ينقل التأويل إلا عن مبتدع أو منسوب إلى بدعة، والإجماع حجة قاطعة فإن الله لا يجمع أمة محمد عليه السلام على ضلالة، ومن بعدهم من الأئمة قد صرحوا بالنهي عن التفسير والتأويل، وأمروا بإمرار هذه الأخبار كما جاءت، وقد نقلنا إجماعهم عليه فيجب اتباعه ويحرم خلافه...).
ثم احتج بالمعقول فقال: (ومن المعنى أن صفات الله تعالى وأسماءه لا تدرك بالعقل، لأن العقل إنما يعلم صفة ما رآه أو رأى نظيره، والله تعالى لا تدركه الأبصار ولا نظير له ولا شبيه، فلا تعلم صفاته وأسماؤه إلا بالتوقيف، والتوقيف إنما ورد بأسماء الصفات دون كيفيتها وتفسيرها، فيجب الاقتصار على ما ورد به السمع لعدم العلم بما سواه، وتحريم القول على الله تعالى بغير علم بدليل قول الله تعالى: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطل والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}، ومن وجه آخر هو أن اللفظة إذا احتملت معاني فحملها على أحدها من غير تعيين احتمل أن يحمل على غير مراد الله تعالى منها فيصف الله تعالى بما لم يصف به نفسه، ويسلب عنه صفة وصف الله بها قدسه ورضيها لنفسه، فيجمع بين الخطأ من هذين الوجهين، وبين كونه قال على الله ما لم يعلم، وتكلف ما لا حاجة إليه، ورغبته عن طريق رسول الله وصحابته وسلفه الصالح وركوبه طريق جهنم وأصحابه من الزنادقة الضلال، ولأن التأويل ليس بواجب بالإجماع، لأنه لو كان واجبا لكان النبي وأصحابه قد أخلوا بالواجب وأجمعوا على الباطل، ولأنه لا خلاف في أن من قرأ القرآن ولم يعلم تفسيره ليس بآثم ولا تارك لواجب، وإذا لم يجب على قارئ القرآن فعلى من لم يقرأه أولى، ولأنه لو وجب على الجميع لكان فيه تكليف ما لا يطاق، وإيجاب على العامة أن يقولوا على الله ما لا يعلمون، وإن وجب على البعض فما ضابط ذلك النص..).[81]
ثم عقد بابا في الأخذ بما جاء في النقل الصحيح فقط دون الموضوع والضعيف فقال: (ينبغي أن يعلم أن الأخبار الصحيحة التي ثبتت بها صفات الله تعالى هي الأخبار الصحيحة الثابتة بنقل العدول الثقات التي قبلها السلف ونقلوها ولم ينكروها ولا تكلموا فيها، وأما الأحاديث الموضوعة التي وضعتها الزنادقة ليلبسوا بها على أهل الإسلام أو الأحاديث الضعيفة إما لضعف رواتها أو جهالتهم أو لعلة فيها لا يجوز أن يقال بها ولا اعتقاد ما فيها بل وجودها كعدمها وما وضعته الزنادقة فهو كقولهم الذي أضافوه إلى أنفسهم..
وليعلم أن من أثبت لله تعالى صفة بشيء من هذه الأحاديث الموضوعة فهو أشد حالا ممن تأول الأخبار الصحيحة، ودين الله تعالى هو بين الغالي فيه والمقصر عنه، وطريقة السلف رحمة الله عليهم جامعة لكل خير).[82]
وقد كان الأشعرية في الشام يشنعون على ابن قدامة المقدسي بسبب كتبه في الاعتقاد، كما ذكر ذلك الحافظ اليونيني: (لما كنت أسمع شناعة الخلق على الحنابلة بالتشبيه عزمت على سؤال الشيخ الموفق، وبقيت أشهرا أريد أن أسأله، فصعدت معه الجبل، فلما كنا عند دار ابن محارب قلت: يا سيدي، وما نطقت بأكثر من سيدي، فقال لي: التشبيه مستحيل!
فقلت: لم؟ قال: لأن من شرط التشبيه أن نرى الشيء، ثم نشبهه، من الذي رأى الله ثم شبهه لنا؟
وقال أبو شامة: كان إماما علما في العلم والعمل، صنف كتبا كثيرة، لكن كلامه في العقائد على الطريقة المشهورة عن أهل مذهبه، فسبحان من لم يوضح له الأمر فيها على جلالته في العلم ومعرفته بمعاني الأخبار).[83]
وقد ظلت المنافرة بين الحنابلة الأثرية والأشعرية حتى تصدى ابن تيمية لهذه الفتنة بين الفريقين فقال: (والناس يعلمون أنه كان بين الحنبلية والأشعرية وحشة ومنافرة، وأنا كنت من أعظم الناس تأليفا لقلوب المسلمين وطلبا لاتفاق كلمتهم، واتباعا لما أمرنا به من الاعتصام بحبل الله، وأزلت عامة ما كان في النفوس من الوحشة، وبينت لهم أن الأشعري كان من أجل المتكلمين المنتسبين إلى الإمام أحمد رحمه الله ونحوه، المنتصرين لطريقه كما يذكر الأشعري ذلك في كتبه، وكما قال أبو إسحاق الشيرازي : إنما نفقت الأشعرية عند الناس بانتسابهم إلى الحنابلة، وكان أئمة الحنابلة المتقدمين كأبي بكر عبد العزيز وأبي الحسن التميمي ونحوهما يذكرون كلامه في كتبهم، بل كان عند متقدميهم كابن عقيل عند المتأخرين، لكن ابن عقيل له اختصاص بمعرفة الفقه وأصوله، وأما الأشعري فهو أقرب إلى أصول أحمد من ابن عقيل وأتبع لها، فإنه كلما كان عهد الإنسان بالسلف أقرب كان أعلم بالمعقول والمنقول.
وكنت أقرر هذا للحنبلية - وأبين أن الأشعري وإن كان من تلامذة المعتزلة ثم تاب، فإنه كان تلميذ الجبائي ومال إلى طريقة ابن كلاب وأخذ عن زكريا الساجي أصول الحديث بالبصرة، ثم لما قدم بغداد أخذ عن حنبلية بغداد أمورا أخرى، وذلك آخر أمره كما ذكره هو وأصحابه في كتبهم.
وكذلك ابن عقيل كان تلميذ ابن الوليد وابن التبان المعتزليين ثم تاب من ذلك، وتوبته مشهورة بحضرة الشريف أبي جعفر، وكما أن في أصحاب أحمد من يبغض ابن عقيل ويذمه : فالذين يذمون الأشعري ليسوا مختصين بأصحاب أحمد، بل في جمع الطوائف من هو كذلك، ولما أظهرت كلام الأشعري - ورآه الحنبلية - قالوا : هذا خير من كلام الشيخ الموفق، وفرح المسلمون باتفاق الكلمة، وأظهرت ما ذكره ابن عساكر في مناقبه أنه لم تزل الحنابلة والأشاعرة متفقين إلى زمن القشيري، فإنه لما جرت تلك الفتنة ببغداد تفرقت الكلمة، ومعلوم أن في جميع الطوائف من هو زائغ ومستقيم، مع أني في عمري إلى ساعتي هذه لم أدع أحدا قط في أصول الدين إلى مذهب حنبلي وغير حنبلي، ولا انتصرت لذلك، ولا أذكره في كلامي، ولا أذكر إلا ما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها.. هذا مع أني دائما ومن جالسني يعلم ذلك مني: أني من أعظم الناس نهيا عن أن ينسب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية، إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافرا تارة وفاسقا أخرى وعاصيا أخرى، وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها: وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية، والمسائل العملية، وما زال السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل ولم يشهد أحد منهم على أحد لا بكفر ولا بفسق ولا معصية...).[84]
وكما اجتهد ابن تيمية في التأليف بين أهل المذاهب الفقهية التي فرقتهم العصبية، وألف بين الحنابلة والأثرية من جهة -الذين كان معهم كثير من أئمة الحديث الشافعية كالمزي والذهبي وابن كثير- والأشعرية من جهة أحرى، فقد اجتهد في التأليف بين الصوفية، والفقهاء، أهل الحديث، ونهى عن البغي والعدوان فيما بينهم، فقال: (ولهذا تجد تنافرا بين الفقهاء والصوفية وبين العلماء والفقراء من هذا الوجه، والصواب أن يحمد من حال كل قوم ما حمده الله ورسوله كما جاء به الكتاب والسنة، ويذم من حال كل قوم ما ذمه الله ورسوله كما جاء به الكتاب والسنة، ويجتهد المسلم في تحقيق قوله اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين).[85]
وقال أيضا في جواز الانتماء للشيوخ والمذاهب والجماعات بلا عصبية ولا فرقة جاهلية: (وأما انتساب الطائفة إلى شيخ معين : فلا ريب أن الناس يحتاجون من يتلقون عنه الإيمان والقرآن، كما تلقى الصحابة ذلك عن النبي ﷺ وتلقاه عنهم التابعون؛ وبذلك يحصل اتباع السابقين الأولين بإحسان فكما أن المرء له من يعلمه القرآن ونحوه فكذلك له من يعلمه الدين الباطن والظاهر، ولا يتعين ذلك في شخص معين؛ ولا يحتاج الإنسان في ذلك أن ينتسب إلى شيخ معين كل من أفاد غيره إفادة دينية هو شيخه فيها؛ وكل ميت وصل إلى الإنسان من أقواله وأعماله وآثاره ما انتفع به في دينه فهو شيخه من هذه الجهة؛ فسلف الأمة شيوخ الخلفاء قرنا بعد قرن؛ وليس لأحد أن ينتسب إلى شيخ يوالي على متابعته ويعادي على ذلك؛ بل عليه أن يوالي كل من كان من أهل الإيمان ومن عرف منه التقوى من جميع الشيوخ وغيرهم ولا يخص أحدا بمزيد موالاة إلا إذا ظهر له مزيد إيمانه وتقواه فيقدم من قدم الله تعالى ورسوله عليه ويفضل من فضله الله ورسوله قال الله تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم}، وقال النبي ﷺ: {لا فضل لعربي على عجمي؛ ولا لعجمي على عربي؛ ولا أسود على أبيض؛ ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى}).[86]
وقال عن جواز اتخاذ الألقاب كالزعيم ورئيس الحزب والانتماء للأحزاب ما دامت على الكتاب والسنة، ولم تخل بحقوق المسلمين التي تجب لهم: (وأما لفظ "الزعيم" فإنه مثل لفظ الكفيل والقبيل والضمين، قال تعالى: {ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم}، فمن تكفل بأمر طائفة فإنه يقال هو زعيم؛ فإن كان قد تكفل بخير كان محمودا على ذلك، وإن كان شرا كان مذموما على ذلك، وأما "رأس الحزب" فإنه رأس الطائفة التي تتحزب أي تصير حزبا، فإن كانوا مجتمعين على ما أمر الله به ورسوله من غير زيادة ولا نقصان فهم مؤمنون لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، وإن كانوا قد زادوا في ذلك ونقصوا مثل التعصب لمن دخل في حزبهم بالحق والباطل والإعراض عمن لم يدخل في حزبهم سواء كان على الحق والباطل فهذا من التفرق الذي ذمه الله تعالى ورسوله، فإن الله ورسوله أمرا بالجماعة والائتلاف ونهيا عن التفرقة والاختلاف، وأمرا بالتعاون على البر والتقوى ونهيا عن التعاون على الإثم والعدوان، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر"، وفي الصحيحين عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا" وشبك بين أصابعه، وفي الصحيح عنه أنه قال: "المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يخذله"، وفي الصحيح عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: "انصر أخاك ظالما أو مظلوما قيل : يا رسول الله أنصره مظلوما فكيف أنصره ظالما قال: تمنعه من الظلم ؛ فذلك نصرك إياه"، وفي الصحيح عنه أنه قال: "خمس تجب للمسلم على المسلم: يسلم عليه إذا لقيه ؛ ويعوده إذا مرض ويشمته إذا عطس؛ ويجيبه إذا دعاه. ويشيعه إذا مات"، وفي الصحيح عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسه"، فهذه الأحاديث وأمثالها فيها أمر الله ورسوله بما أمر به من حقوق المؤمنين بعضهم على بعض، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: "لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانا "، وفي الصحيحين عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال "إن الله يرضى لكم ثلاثا : أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ؛ وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم"، وفي السنن عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: "ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال : صلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين"، فهذه الأمور مما نهى الله ورسوله عنها).[87]
وما زلنا مع ابن تيمية ومعركة الحرية فللحديث بقية...
[1] التبصير في الدين (1 / 180)
[2] الفروع (12 / 449)
[3] التبصير في الدين (1 / 180)
[4] البيان والتحصيل - (16 / 410)
[5] التاج والإكليل (11 / 110)
[6] الاختيار لتعليل المختار (1 / 64)
[7] البحر الرائق شرح كنز الدقائق (3 / 401)
[8] حاشية رد المختار على الدر المختار (4 / 243)
[9] روضة الطالبين (10 / 8)
[10] روضة الطالبين (11 / 240)
[11] المبدع شرح المقنع (9 / 149)
[12] الإنصاف (12 / 37)
[13] الإنصاف (12 / 36)
[14] مجموع الفتاوى (3 / 286)
[15] مجموع الفتاوى (28 / 51)
[16] مجموع الفتاوى 3/415.
[17] رفع الملام عن الأئمة الأعلام (ص 9)
[18] مجموع الفتاوى (20 / 305)
[19] الرد على الأخنائي ص 67
[20] مجموع الفتاوى (20 / 304)
[21] مجموع الفتاوى (11 / 525)
[22] مجموع الفتاوى (٢٣/ ٣٧٣)
[23] مجموع الفتاوى (٢٣ / ٣٨١)
[24] الفتاوى 20/ 208
[25] الفتاوى 20/ 210
[26] المستدرك على مجموع الفتاوى 5/ 166
[27] مجموع الفتاوى 7/357.
[28] مجموع الفتاوى (5 / 254)
[29] سير أعلام النبلاء 15/ 88
[30] الفتاوى (3/282- 283)
[31] مجموع الفتاوى (7/217- 218) و(7/472).
[32] مجموع الفتاوى - (23 / 348)
[33] منهاج السنة (5/95)
[34] الرد على البكري (2 / 490)
[35] مجموع الفتاوى (12 / 486)
[36] الشريعة للآجري 5/279
[37] مجموع الفتاوى (12 / 474)
[38] اعتقاد أهل السنة للآلكائي (1/173)
[39] منهاج السنة النبوية (5 / 48)
[40] الفتاوى (35/378 - 381)
[41] الأم (4/309)
[42] التسعينية (2/698 - 701)
[43] منهاج السنة (1/65)
[44] الفتاوى (23/342 - 345)
[45] مجموع الفتاوى (23/351 - 356) و (360 - 368 و 361 -369).
[46] المستدرك على مجموع الفتاوى 3 /117
[47] الفتاوى (13/96)
[48] أصول الدين (ص317)
[49] مجموع الفتاوى (3 / 283)
[50] الشريعة للآجري (5/279)
[51] أصول السنة للالكائي (1/174)
[52] منهاج السنة (8/522 - 526)
[53] مجموع الفتاوى (20/393)
[54] أحكام القرآن (1/86)
[55] المصدر السابق .
[56] الفصل في الملل والأهواء والنحل (4 / 132)
[57] اعتقاد أئمة الحديث (ص30)
[58] الحجة في بيان المحجة (2/466)
[59] أحكام القرآن 1 /70.
[60] تاريخ بغداد 13 /398.
[61] أحكام القرآن لابن العربي 4 /1721.
[62] العقد المنظم بحاشية تبصرة الحكام 2 /195 –197.
[63] إتحاف السادة 2 /233.
[64] الإنصاف للمرداوي 10 /310 -311.
[65] الجامع لأحكام القرآن 1 /271.
[66] مراتب الإجماع ص 177.
[67] تبيين كذب المفتري (1 / 109)، المنتظم لابن الجوزي 9/ 23 ، الكامل في التاريخ 10/ 33 .
[68] تبيين كذب المفتري (1 / 163)، ونقله ابن تيمية في إقامة الدليل 4/ 165 .
[69] المنتظم في تاريخ الملوك والأمم (9 / 93)
[70] طبقات الحنابلة (2 / 207)
[71] البداية والنهاية (12 / 140)
[72] المنتظم في تاريخ الملوك والأمم (8 / 312)
[73] ذم التأويل (1 / 14)
[74] ذم التأويل (1 / 15)
[75] ذم التأويل (1 / 16)
[76] ذم التأويل (1 / 18)
[77] ذم التأويل (1 / 21)
[78] ذم التأويل (1 / 23)
[79] ذم التأويل (1 / 25)
[80] ذم التأويل (1 / 26)
[81] ذم التأويل (1 / 40)
[82] ذم التأويل (1 / 47)
[83] سير أعلام النبلاء (22 / 171)
[84] مجموع الفتاوى (3 / 227)
[85] الاستقامة (1 / 221)
[86] مجموع الفتاوى - (11 / 511)
[87] مجموع الفتاوى - (11 / 92)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق