الجمعة، 10 يونيو 2016

ابن تيمية ومعركة الحرية (6)

ابن تيمية ومعركة الحرية
(6)



الإصلاح السياسي وأصول الحكم الراشد


(إن الملك ليس بجائز في الأصل بل الواجب خلافة النبوة)
ابن تيمية

بقلم أ.د. حاكم المطيري
5 رمضان 1437هـ
10 يونيو 2016م

لم يتوقف ابن تيمية عن الجهاد بعد النصر التاريخي في معركة شقحب سنة 702 هـ، التي كانت النهاية للحروب المغولية - كما قال الصفدي: (والذي أعتقده أنه من حين ظهر جنكيزخان ما جرى للمغول بعد واقعة "عين جالوت" ولا إلى يومنا مثل واقعة شقحب، كادت تأتي على نوعهم فناءً، فإن الموت أهلّ بهم ورحب، وما نجا منهم إلا من حصنه الأجل، أو اختار الأسر لما وجد من الوجل)[1] -بل أدرك ابن تيمية ضرورة الجهاد الداخلي، والإصلاح السياسي الراشدي؛ لتدارك الخلل الذي كان سببا في سقوط الخلافة في بغداد، وانهيار الأمة أمام عدوها الخارجي، وقد اجتهد في الدعوة إلى سنن الخلفاء الراشدين في الحكم، حتى عده أئمة عصره من مجددي الدين، كما قال الحافظ عمر بن علي البزار: (جمع الله له ما خرق بمثله العادة، حتى اتفق كل ذي عقل سليم أنه ممن عني نبينا صلى الله عليه وسلم بقوله: "إن الله يبعث على رأس كل مئة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها"، فلقد أحيا الله به ما كان قد درس من شرائع الدين، وجعله حجة على أهل عصره أجمعين).[2]

وقال فيه الإمام أبو حيان النحوي[3]:

لما أتانا تقي الدين لاح لنا
                    داع إلى الله فرد ماله وزرُ
على محياه من سيما الألى صحبوا
                    خير البرية نور دونه القمرُ
حبر تسربل منه دهره حبرًا
                بحر تقاذف من أمواجه الدررُ
قام ابن تيمية في نصر شرعتنا
                  مقام سيد تيم إذ عصت مضرُ
فأظهر الحق إذ آثاره درست
                 وأخمد الشر إذ طارت له الشررُ
كنا نحدث عن حبر يجيء فها
                أنت الإمام الذي قد كان ينتظرُ
قال ابن العماد الحنبلي: (يشير بهذا إلى أنه المجدد، وممن صرح بذلك الشيخ عماد الدين الواسطي، وقد توفي قبل الشيخ -تقي الدين ابن تيمية- وقال في حق الشيخ بعد ثناء طويل جميل ما لفظه: فو الله، ثم والله، ثم والله، لم ير تحت أديم السماء مثل شيخكم ابن تيميّة، علما، وعملا، وحالا، وخلقا واتّباعا، وكرما، وحلما، وقياما في حقّ الله عند انتهاك حرماته، أصدق النّاس عقدا، وأصحهم علما، وعزما، وأنفذهم وأعلاهم في انتصار الحقّ وقيامه همة، وأسخاهم كفّا، وأكملهم اتباعا لنبيّه محمد صلّى الله عليه وسلّم. ما رأينا في عصرنا هذا من تستجلي النّبوة المحمدية وسننها من أقواله وأفعاله إلّا هذا الرجل، يشهد القلب الصحيح أن هذا هو الاتباع حقيقة).[4]
وقال مرعي بن يوسف الكرمي الحنبلي: (ومثل الإمام أبي حيان إذا شهد له بأنه ناصر الشريعة، ومظهر الحق، ومخمد الشر، وأنه هو الإمام الذي كانوا ينتظرون مجيئه كفاه مدحا وتزكية).[5]
وقال ابن فضل الله العمري في رثائه له:
ولم يكن مثله بعد الصحابة في
          علم عظيم وزهد ماله خطر
طريقة كان يمشي قبل مشيته
          بها أبو بكر الصديق أو عمر
مثل الأئمة قد أحيا زمانهم
          كأنه كان فيهم وهو منتظر
إن يرفعوهم جميعا رفع مبتدأ
          فحقه الرفع أيضا إنه خبر
ولا تحف به الأبطال دائرة
          كأنهم أنجم في وسطها قمر
ولا تعبّس حرب في مواقفه
          يوما ويضحك في أرجائه الظفر
حتى يقوّم هذا الدين من ميل
          ويستقيم على منهاجه البشر

ضرورة الإصلاح السياسي والحكم الراشد:
لقد عد ابن تيمية الفصل بين السياسة والشرع في الولايات السلطانية -كولاية المظالم والحرب- بدايات الانحراف السياسي، وعزا ذلك إلى قصور الولاة في معرفة أحكام السياسة النبوية؛ ولهذا أوجب تبعية السياسة للشرع حتى في الأمور الاجتهادية، التي يجب ألا تخرج عن أصول الخطاب النبوي والراشدي السياسي، فقال: (وكما يجب أن يعرف أن أمر الله تعالى ورسوله متناول لكل من حكم بين الناس سواء كان واليا أو قاضيا أو غير ذلك، فمن فرق بين هذا وهذا بما يتعلق بأمر الله ورسوله؛ فقد غلط، وأما من فرق بينهما بما يتعلق بالولاية لكون هذا ولي على مثل ذلك دون هذا؛ فهذا متوجه، وهذا كما يوجد في كثير من خطاب بعض أتباع الكوفيين وفي تصانيفهم إذا احتج عليهم محتج بمن قتله النبي صلى الله عليه وسلم أو أمر بقتله... قالوا: هذا يعمله سياسة! فيقال لهم: هذه السياسة: إن قلتم هي مشروعة لنا فهي حق؛ وهي سياسة شرعية، وإن قلتم: ليست مشروعة لنا فهذه مخالفة للسنة، ثم قول القائل بعد هذا سياسة: إما أن يريد أن الناس يُساسون بشريعة الإسلام، أم هذه السياسة من غير شريعة الإسلام؟ فإن قيل بالأول؛ فذلك من الدين وإن قيل بالثاني فهو الخطأ، ولكن منشأ هذا الخطأ أن مذهب الكوفيين فيه تقصير عن معرفة سياسة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسياسة خلفائه الراشدين، وقد ثبت في الصحيح عنه أنه قال: (إن بني إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء، كلما مات نبي قام نبي، وإنه لا نبي بعدي وسيكون خلفاء يكثرون؛ قالوا: فما تأمرنا؟ قال: أوفوا بيعة الأول فالأول وأعطوهم حقهم؛ فإن الله سائلهم عما استرعاهم)، فلما صارت الخلافة في ولد العباس واحتاجوا إلى سياسة الناس وتقلد لهم القضاء من تقلده من فقهاء العراق، ولم يكن ما معهم من العلم كافيا في السياسة العادلة، احتاجوا حينئذ إلى وضع ولاية المظالم، وجعلوا ولاية حرب غير ولاية شرع، وتعاظم الأمر في كثير من أمصار المسلمين حتى صار يقال: الشرع والسياسة، وهذا يدعو خصمه إلى الشرع وهذا يدعو إلى السياسة، سوغ حاكما أن يحكم بالشرع والآخر بالسياسة ، والسبب في ذلك أن الذين انتسبوا إلى الشرع قصروا في معرفة السنة؛ فصارت أمور كثيرة إذا حكموا ضيعوا الحقوق وعطلوا الحدود حتى تسفك الدماء وتؤخذ الأموال وتستباح المحرمات؟ والذين انتسبوا إلى السياسة؛ صاروا يسوسون بنوع من الرأي من غير اعتصام بالكتاب والسنة، وخيرهم الذي يحكم بلا هوى، وتحرى العدل، وكثير منهم يحكمون بالهوى ويحابون القوي ومن يرشوهم ونحو ذلك، وكذلك كانت الأمصار التي ظهر فيها مذهب أهل المدينة يكون فيها من الحكم بالعدل ما ليس في غيرها من جعل صاحب الحرب متبعا لصاحب الكتاب ما لا يكون في الأمصار التي ظهر فيها مذهب أهل العراق ومن اتبعهم حيث يكون في هذه والي الحرب غير متبع لصاحب العلم، وقد قال الله تعالى في كتابه: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم}؛ فقوام الدين بكتاب يهدي وسيف ينصر، {وكفى بربك هاديا ونصيرا}...).[6]
والمراد هنا بالسياسة التي صارت مقابل الشرع في اصطلاح الفقهاء قديما، والتي تحدث عنها ابن تيمية كمظهر من مظاهر الانحراف، هي الأفعال والتصرفات التي يحتاجها الولاة لتنفيذ أحكام الشرع وسياسة شئون الأمة بالاجتهاد فيما لا نص فيه، وليست هي السياسة بمفهومها المعاصر التي موضوعها الدولة والسلطة ووظيفتها؛ فالسياسة بمفهومها المعاصر كانت قديما من موضوعات أصول الدين كمبحث الإمامة ووجوبها، وموضوعات الأحكام السلطانية المنصوص عليها، ولم تكن تدخل في اصطلاح الفقهاء قديما في مفهوم "السياسة"، بل تدخل عندهم في مفهوم "الشرع"؛ لورود الأحكام القطعية والظنية في شأنها!

خلفاء في عصر ابن تيمية:
وقد أولى ابن تيمية الإصلاح السياسي عناية كبرى، خاصة وقد عاصر إحياء الخلافة بمصر بعد سقوطها في بغداد، وعاصر الخليفة العباسي الحاكم بأمر الله في القاهرة، وكان والده وآل تيمية ممن بايعه وآزره في حران قبل البيعة له بمصر؛ ما يؤكد طبيعة الدور الذي ورثه ابن تيمية كزعيم سياسي بالإضافة إلى إمامته الدينية، قال الذهبي: (قدوم الحاكم بأمر الله إلى القاهرة: وفي ربيع الآخر قدم القاهرة الحاكم بأمر الله ومعه ولده وجماعة، فأكرمه الملك الظاهر وأنزله بالبرج الكبير... وقصد حسين بن فلاح أمير بني خفاجة، فأقام عنده مدة، ثم توصل مع العرب إلى دمشق، وأقام عند الأمير عيسى بن مهنا، والد مهنا بن عيسى مدة، فطالع به السلطان الملك الناصر، فأرسل يطلبه، فبغته مجيء التتار، فلما ملك الملك المظفر قطز دمشق سير الأمير قليج البغدادي إلى ناحية العراق وأمره بتطلب الحاكم، فاجتمع به وبايعه على الخلافة، وتوجه في خدمته الأمير عيسى، والأمير علي بن صقر ابن مخلول، وعمر بن مخلول، وسائر آل فضل، فافتتح الحاكم بالعرب عانة، والحديثة، وهيت، والأنبار، وضرب مع القرادول رأسا بقرب بغداد في أواخر سنة ثمان وخمسين -658هـ- فانتصر عليهم، وقتل من التتار خلق، ولم يقتل من أصحابه غير ستة، فيقال، والله أعلم: قتل من التتار نحو ألف وخمسمائة فارس، منهم ثمانية أمراء، فجاء جيش للتتار عليهم قرابغا، فرد المسلمون على حمية، فتبعهم قرابغا إلى هيت ورُدّ، وأقام الحاكم عند ابن مهنا، فكاتبه علاء الدين طيبرس نائب دمشق يومئذ للملك الظاهر بيبرس يستدعيه، فقدم دمشق في صفر، فبعثه إلى السلطان، في خدمته الثلاثة الذين خرجوا معه من بغداد، وكان المستنصر بالله قد تقدمه بثلاثة أيام إلى القاهرة، فما رأى أن يدخل على إثره خوفا من أن يمسك، فهرب راجلا وصحبته الزين صالح البنا، وقصدا دمشق، ودلهما بدوي من عرب غزية، فاختفيا بالعقيبة، وحصلا ما يركبان، وقصدا سلمية، وصحبهما جماعة أتراك، فوجدوا أهل سلمية متحصنين خوفا من الأمير آقش البرلي، فوقع بينهم مناوشة من حرب، ونجا الحاكم وصاحبه، وقصد البرلي فقبل البرلي يده، وبايعه هو وكل من بحلب، وتوجهوا إلى حران، فبايعه الشيخ شهاب الدين عبد الحليم ابن تيمية والد شيخنا -تقي الدين بن تيمية- وأهل حران، وجمع البرلي للحاكم جمعا كثيرا نحو ألف فارس من التركمان، وقصدوا عانة؛ فوافاهم الخليفة المستنصر، فأعمل الحيلة، وأفسد التركمان على الحاكم، ودخل الحاكم في طاعته وانقاد له، ووقع الاتفاق، فلما عدم المستنصر في الوقعة -مع التتار قرب بغداد- قصد الحاكم الرحبة، وجاء إلى عيسى بن مهنا، فكاتب الملك الظاهر فيه، فطلبه، فقدم إلى القاهرة، فبايعوه وامتدت أيامه، وكانت خلافته نيفا وأربعين سنة).[7]
وقال الصفدي عن الحاكم العباسي: (الإمام الحاكم بأمر الله، أبو العباس بن الأمير أبي علي القبي -بالقاف والباء الموحدة- وعلي المذكور ابن الخليفة المسترشد بالله بن المستظهر الهاشمي العباسي البغدادي، قدم مصر، ونهض ببيعته الملكُ الظاهر بيبرس، وبويع سنة إحدى وستين وست مئة -وهي سنة مولد ابن تيمية- وخطب بالناس، وعقد بالسلطنة للملك الظاهر بيبرس، وكان ملازمًا لداره، وكان شجاعًا له إقدام، وعنده ثباتُ جنان في الحرب وإقدام، لا يفر من الحين المجتاح، ولا يرى في وسط المعركة إلا وهو إلى الموت يرتاح، هذا إلى ديانة متينة، وصيانة مبينة، له راتب يكفيه من غير سرف... امتدت أيامه قريبًا من أربعين سنة، ثم إنه عهد بالخلافة إلى ولده المستكفي بالله أبي الربيع سليمان، وكان الحاكم قد نجا في كائنة بغداد -حين احتلها المغول بقيادة هولاكو سنة 656 هـ- واختفى، ثم إنه سار مع الزين صالح بن البنا والنجم بن المشا، وقصدوا أميرَ خفاجة حسين بن فلاح، وأقاموا مدّة، ثم توصلوا إلى دمشق، وأقام بالبر عند عيسى بن مهنا، فعرف به الناصر صاحب حلب، فطلبه، وجاء هولاكو، ولما جرى ما جرى، ودخل المظفر قطز دمشق بعد واقعة عين جالوت، بعث أميرًا يطلب الحاكم، فاجتمع به وبايعه، وتسامع به عربُ الشام، فساروا معه، وآل فضل خلق، فافتتح بهم عانة وهيت والأنبار، وحارب القراؤول في سنة ثمان وخمسين وست مئة، فهزمهم، وقتل منهم ثمانية مقدمين، وأزيد من ألف، وما قُتل من عسكره سوى ستة، فأقبل التتار مع قرابغا، فتحيز الحاكم، وأقام عند ابن مهنا، ثم كاتبه طيبرس نائب دمشق، فقدمها، فبعث به إلى مصر، وصحبه الثلاثة الذين رافعوه من بغداد، فاتفق وصول المستنصر قبله إلى مصر بثلاثة أيام، فخاف الحاكم منه وتنكر، ورجع ماشيًا وصحبته الزين الصالحي إلى دمشق، فاختفى بالعقيبة، ثم قصدا سلمية وصحبتهما جماعة أتراك، فقاتلهم قوم، ونجا الحاكم، وقصد الأمير البرلي، فقبل البرلي يده وبايعه هو وأهل حلب، وساروا إلى حران فبايعه بنو تيمية بها، وصار معه نحو ألف من التركمان وغيرهم، وقصدوا عانة فصادفوا المستنصر الأسود -الخليفة العباسي الأول في القاهرة الذي بايعه المظفر قطز، ثم استشهد في المعركة مع المغول فبويع بعد ابن عمه الحاكم- فعمل عليه، واستمال التركمان، فخضع الحاكم وبايعه، والتقوا التتار، فانكسر المسلمون، وعدم المستنصر، ونجا الحاكم، فأتى الرحبة ونزل على ابن مهنا، فكتب إلى السلطان، فطلبه، فسار إلى القاهرة، وبويع بإمرة المؤمنين).[8]
وقال ابن كثير في حوادث سنة 661هـ : (ذكر بيعة الحاكم بأمر الله العباسي في السابع والعشرين من ربيع الآخر دخل الخليفة أبو العباس الحاكم بأمر الله أحمد من بلاد الشرق -العراق- وصحبته جماعة من رؤوس تلك البلاد، وقد شهد الوقعة صحبة المستنصر، وهرب هو في جماعة من المعركة فسلم، فلما كان يوم دخوله تلقاه السلطان الظاهر بيبرس، وأظهر السرور له والاحتفال به، وأنزله في البرج الكبير من قلعة الجبل، وأجريت عليه الارزاق الدارة والإحسان).[9]
ثم (لما كان ثاني المحرم وهو يوم الخميس، جلس السلطان الظاهر والأمراء في الإيوان الكبير بقلعة الجبل، وجاء الخليفة الحاكم بأمر الله راكبا حتى نزل عند الإيوان، وقد بسط له إلى جانب السلطان، وذلك بعد ثبوت نسبه، ثم قرئ نسبه على الناس،ثم أقبل عليه الظاهر بيبرس فبايعه وبايعه الناس بعده، وكان يوما مشهودا، فلما كان يوم الجمعة ثانيه خطب الخليفة بالناس...وكتب بيعته إلى الآفاق ليخطب له وضربت السكة باسمه، قال أبو شامة: فخطب له بجامع دمشق وسائر الجوامع يوم الجمعة سادس عشر المحرم من هذه السنة، وهذا الخليفة هو التاسع والثلاثون من خلفاء بني العباس..).[10]
قال المقريزي: (في الخميس ثامن المحرم: جلس الملك الظاهر مجلساً عاماً جمع فيه الناس، وحضره التتار الذين وفدوا من العراق والرسل المتوجهون إلى الملك بركة، وجاء الأمير أبو العباس أحمد بن أبي بكر علي بن أبي بكر بن أحمد بن المسترشد بالله العباسي، وهو راكب إلى الإيوان الكبير بقلعة الجبل، وجلس إلى جانب السلطان، وقرئ نسبه على الناس بعدما ثبت على قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز، ولُقّب بالإمام الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين، وتولى قراءة نسبه القاضي محيى الدين بن عبد الظاهر كاتب السر، فلما ثبت ذلك مد السلطان يده وبايعه على العمل بكتاب الله وسنة رسوله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجهاد أعداء الله، وأخذ أموال الله بحقها، وصرفها في مستحقها، والوفاء بالعهود، وإقامة الحدود، وما يجب على الأمير فعله في أمور الدين وحراسة المسلمين، فلما تمت البيعة أقبل الخليفة على السلطان وقلده أمور البلاد والعباد، وجعل إليه تدبير الخلق، وإقامه قسيمه في القيام بالحق، وفوض إليه سائر الأمور، وعلق به صلاح الجمهور، ثم أخذ الناس على اختلاف طبقاتهم في مبايعته، فلم يبق ملك ولا أمير ولا وزير ولا قاض ولا مشير ولا جندي ولا فقيه إلا وبايعه، فلما تمت البيعة تحدث السلطان معه في إنفاذ الرسل إلى الملك بركة، وانفض الناس، فلما كان يوم الجمعة ثاني هذا اليوم: اجتمع الناس وحضر الرسل المذكورون، وبرز الخليفة الحاكم بأمر الله وعليه سواده، وصعد المنبر لخطبة الجمعة، فقال: الحمد الله... أيها الناس اعلموا أن الإمامة فرض من فروض الإسلام، والجهاد محتوم على جميع الأنام، ولا يقوم علم الجهاد إلا باجتماع كلمة العباد، ولا سبيت الحرم إلا بانتهاك المحارم، ولا سفكت الدماء إلا بارتكاب المآثم...
وجهز الفقيه مجد الدين والأمير سيف الدين كش تك، وكتب على يدهما كتب بأحوال الإسلام ومبايعة الخليفة، واستمالة الملك بركة وحثه على الجهاد... وجهز السلطان معهما أيضًا نسخة نسبة الخليفة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأذهبت وكتب فيها الأسجال بثبوتها، وجمعت الأمراء والمفاردة وغيرهم وقرئت عليهم الكتب، وسلمت إلى الرسل، وسير معهما نفران من التتر أصحاب الملك بركة).[11]
وقد دامت خلافة الحاكم العباسي بالقاهرة أربعين سنة، قال ابن كثير في حوادث سنة 701 هـ: (وممن توفي فيها من الأعيان: أمير المؤمنين الخليفة الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد بن المسترشد بالله الهاشمي العباسي البغدادي المصري، بويع بالخلافة بالدولة الظاهرية في أول سنة إحدى وستين وستمائة، فاستكمل أربعين سنة في الخلافة، وتوفي ليلة الجمعة ثامن عشر جمادى الأولى، وصلي عليه وقت صلاة العصر بسوق الخيل، وحضر جنازته الأعيان والدولة كلهم مشاة، وكان قد عهد بالخلافة إلى ولده المذكور أبي الربيع سليمان.
خلافة المستكفي بالله أمير المؤمنين ابن الحاكم بأمر الله العباسي: لما عهد إليه كتب تقليده وقرئ بحضرة السلطان والدولة يوم الأحد العشرين من ذي الحجة من هذه السنة، وخطب له على المنابر بالبلاد المصرية والشامية، وسارت بذلك البريدية إلى جميع البلاد الإسلامية).[12]
وقد استشار السلطان محمد بن قلاوون قاضي القضاة ابن دقيق العيد بصلاحية ولي العهد سليمان للخلافة، قال ابن تغري بردي: (سير السلطان يستشير قاضي القضاة تقي الدين ابن دقيق العيد الشافعي في أمر سليمان المذكور: هل يصلح للخلافة أم لا؟ فقال: نعم يصلح؛ وأثنى عليه، وبقي الأمر موقوفًا إلى يوم الخميس رابع عشرين جمادى الأولى المذكور، فلما كان بكرة النهار المذكور طلب سليمان إلى القلعة فطلع هو وأولاد أخيه بسبب المبايعة، فأمضى السلطان ما عهد إليه والده المذكور بعد فصول وأمور يطول شرحها بينه وبين أولاد أخيه، وجلس السلطان وخلع على أبي الربيع سليمان هذا خلعة الخلافة، ونعت بالمستكفي، وهي جبة سوداء وطرحة سوداء، وخلع على أولاد أخيه خلع الأمراء الأكابر خلعًا ملونة، وبعد ذلك بايعه السلطان والأمراء والقضاة والمقدمون وأعيان الدولة، ومدوا السماط على العادة؛ ثم رسم له السلطان وأجرى راتبه الذي كان مقرراً لوالده وزيادة؛ وأنزلوهم بالقلعة في دارين: الواحدة تسمى بالصالحية، والأخرى بالظاهرية، وأجروا عليهم الرواتب المقررة لهم؛ وكان في يوم الجمعة ثاني يوم المبايعة خطب بمصر والقاهرة للمستكفي هذا، ورسم بضرب اسمه على سكة الدينار والدرهم...).[13]
وقد دام المستكفي في الخلافة نحو أربعين سنة كأبيه، قال ابن كثير في حوادث سنة 740 هـ (وممن توفي فيها من الأعيان: أمير المؤمنين المستكفي بالله أبو الربيع سليمان بن الحاكم بأمر الله العباسي، البغدادي الأصل والمولد، مولده سنة ثلاث وثمانين وستمائة أو في التي قبلها، وقرأ واشتغل قليلا، وعهد إليه أبوه بالأمر، وخطب له عند وفاة والده سنة إحدى وسبعمائة، وفوض جميع ما يتعلق به من الحل والعقد إلى السلطان الملك الناصر قلاوون، وسار إلى غزو التتر فشهد مصاف شقحب، ودخل دمشق في شعبان سنة اثنتين وسبعمائة وهو راكب مع السلطان، وجميع كبراء الجيش مشاة، ولما أعرض السلطان عن الأمر وانعزل بالكرك، التمس الأمراء من المستكفي أن يسلطن من ينهض بالملك، فقلد الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير، وعقد له اللواء وألبسه خلعة السلطنة، ثم عاد الناصر إلى مصر وعذر الخليفة في فعله...).[14]
وقال الصفدي عن الخليفة الحاكم: (فيه عقل وشجاعة وحسن رياسة، وله راتب يكفيه من غير سرف، امتدت أيامه ثم عهد بالخلافة لولده المستكفي بالله أبي الربيع سليمان، وتوفي سنة إحدى وسبع مائة وهو في عشر الثمانين وكانت خلافته أربعين سنة).[15]
وقال عن تولي الخليفة المستكفي بالله سليمان بن أحمد العباسي للخلافة سنة 701 هـ: (وخطب له عند وفاة والده سنة إحدى وسبع مئة، وفوض جميع ما إليه من الحل والعقد إلى السلطان الملك الناصر محمد، وسارا معًا إلى غزو التتار، وشهدا مصاف شقحب في شهر رمضان سنة اثنين وسبع مئة، وهو مع السلطان راكب، وجميع كبار أمراء الجيش مشاة، وعليه فرجية سوداء مطرزة وعمامة كبيرة بيضاء بعذبة طويلة، وقد تقلد سيفًا عربيًا محلى... رأيته أنا بالقاهرة مرات، وكان تام الشكل حسنا، يملأ برونقه العين مهابة وسنا، تعلوه الهيبة والوقار، وعليه من أبهة الخلافة والأمانة أنوار، يجود لو كان المال طوع حكمه، وينصف المظلوم، ولكن هو يشكو من ظلمه).[16]
وقد كان المستكفي حشمًا كريمًا فاضلًا.[17]
موقف ابن تيمية من خلفاء عصره:
وقد عاصر ابن تيمية الخليفة الحاكم العباسي، ثم من بعده ابنه الخليفة المستكفي، وقد اشتهرا بالصلاح والعدل، ولم يكن نظام الخلافة في عصر ابن تيمية مركزيا -بل منذ العصر العباسي الثاني ببغداد؛ ظل نظام الخلافة غير مركزي حتى عاد من جديد إلى مركزيته في العصر العثماني-؛ إذ تطورت صلاحيات خطة الوزير والوزارة وهم رجال الكتابة والإدارة، ثم تطورت بعد ذلك خطة الجيش والسلطنة والإمارة، وأصبحت الخلافة نظاما غير مركزي، يمثل الخليفة فيه الشرعية السياسية الأعلى في الدولة، بينما تمثل السلطنة وإمارة الجيش السلطة التنفيذية، وظلت السلطة القضائية برئاسة قاضي القضاة تتمتع باستقلاليتها، كما كانت السلطة التشريعية التي تتمثل بالفقهاء الكبار من أئمة المذاهب تتمتع بنفوذها، وكان ابن تيمية أحد هؤلاء الأئمة؛ ولهذا كانت عناية ابن تيمية بإصلاح السلطنة -وهي السلطة التنفيذية آنذاك- أكثر من عنايته بإصلاح الخلافة التي كان يتولاها في حياته خليفتان اشتهرا بالصلاح والعدالة والجهاد، فقد تولى الخليفة الحاكم سنة مولد ابن تيمية 661 هـ، وكان والده شهاب الدين ابن تيمية شيخ الحنابلة قد بايعه في حران قبل البيعة له بمصر، لما رأى من أهليته وتحقق شروط الإمامة فيه، وتوفي الحاكم سنة 701 هـ، وكان سن ابن تيمية آنذاك أربعين سنة، ثم تولى الخلافة بعده ابنه المستكفي، وتوفي ابن تيمية سنة 728 هـ، والمستكفي ما يزال خليفة، وكلا الخليفتين شارك في جهاد التتار، وخرجا بنفسيهما للجهاد في سبيل الله، وقد بويع لهما بيعة رضا واختيار، بلا إكراه ولا إجبار، ولم يأخذاها بالسيف ولا بالقوة، بل كانت الأمة بعد سقوط الخلافة في بغداد في حاجة لهما، أشد من حاجتهما للخلافة، إذ كانا يمثلان الشرعية السياسية عند عامة الأمة من أهل السنة والجماعة وفق ما تقرر عندهم في أصول الدين وأصول الأحكام، من وجوب نصب الخليفة الواحد، ووجوب وحدة الأمة والجماعة، فببيعتهما أقيم فرض أجمعت الأمة على وجوبه، كما تقرر في كتب الأحكام السلطانية -التي تعد آنذاك بمثابة الدستور الذي ينظم شئون الدولة- إذا خلا منصب الخلافة؛ لما تمثله الخلافة من وحدة الأمة والأرض والدولة والسلطة؛ ولهذا طلبتهما الأمة للبيعة، وبحثت عنهما وهما في حال ضعف بعد نكبة بغداد واحتلال هولاكو للعراق، كما فعل السلطان قطز مع المستنصر بالله، ثم السلطان الظاهر بيبرس مع الحاكم بأمر الله، كما جاء في رسالة السلطان محمد بن قلاوون لملك التتار غازان: (وخرجنا وخرج أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله، ابن عم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، الواجب الطاعة على كل مسلم، المفترض المبايعة والمتابعة على كل معترض ومسلّم، طائعين لله ولرسوله في أداء فرض الجهاد، باذلين في القتال بما أمرنا الله غاية الاجتهاد، لا يتم أمر دين ولا دنيا إلا بمتابعته، ومن والاه فقد حفظه الله وتولاه، ومن عانده أو عاند من أقامه فقد أذله الله).[18]
فكان منصب الخلافة آنذاك -مع خطورته وأهميته كسلطة شرعية عليا- لا يباشر السلطة التنفيذية؛ بل يقلد الخليفة أمرها للسلطان، وكان حال الخلفاء مدة حياة ابن تيمية مستقيما، لا من حيث توليهم لها بالطرق الشرعية بالعقد والبيعة والرضا، ولا من حيث قيامهم بمهامهم ومن أوجبها الجهاد في سبيل الله، ولا من حيث تحقق شروط الأهلية فيهم، بشهادة أئمة عصرهم من الفقهاء والقضاة، كابن تيمية الأب قاضي حران الذي بايع الحاكم، وكابن دقيق العيد قاضي قضاة مصر الذي زكى المستكفي؛ فلم تظهر الحاجة لإصلاح منصب الخلافة، كما هي الحاجة لإصلاح السلطنة، التي كتب ابن تيمية رسالته لإصلاح خططها وولاياتها؛ ولهذا أخطأ من ظن بأن ابن تيمية لم يول موضوع الخلافة أهمية كبيرة، بقدر ما أولى من أهمية لإقامة أحكام الشريعة!  
كما عاصر ابن تيمية في مطلع حياته عهد السلطان الفاتح الظاهر بيبرس، الذي تولى السلطنة في مصر منذ سنة ٦٥٨ هـ حتى وفاته سنة ٦٧٦ هـ، وقد قال عنه ابن كثير: (وقد كان الملك الظاهر شهما شجاعا، عالي الهمة، بعيد الغور، مقداما جسورا، معتنيا بأمر السلطنة، يشفق على الإسلام، متحليا بالملك، له قصد صالح في نصرة الإسلام وأهله، وإقامة شعار الملك، واستمرت أيامه من يوم الأحد سابع عشر ذي القعدة سنة ثمان وخمسين إلى هذا الحين، ففتح في هذه المدة فتوحات كثيرة قيسارية وأرسون ويافا والشقيف وأنطاكية وبغراس وطبرية والقصير وحصن الاكراد وحصن ابن عكار والغرين وصافينا وغير ذلك من الحصون المنيعة التي كانت بأيدي الفرنج، ولم يدع مع الإسماعيلية شيئا من الحصون، وناصف الفرنج على المرقب، وبانياس وبلاد انطرسوس، وسائر ما بقي بأيديهم من البلاد والحصون، وولى في نصيبهمما ناصفهم عليه النواب والعمال وفتح قيسارية من بلاد الروم، وأوقع بالروم والمغول على البلستين بأسا لم يسمع بمثله من دهور متطاولة، واستعاد من صاحب سيس بلادا كثيرة، وجاس خلال ديارهم وحصونهم، واسترد من أيدي المتغلبين من المسلمين بعلبك وبصرى وصرخد وحمص وعجلون والصلت وتدمر والرحبة وتل باشر وغيرها، والكرك والشوبك، وفتح بلاد النوبة بكمالها من بلاد السودان، وانتزع بلادا من التتار كثيرة، منها شيرزور والبيرة، واتسعت مملكته من الفرات إلى أقصى بلاد النوبة، وكان مقتصدا في ملبسه ومطعمه وكذلك جيشه، وهو الذي أنشأ الدولة العباسية بعد دثورها، وبقي الناس بلا خليفة نحوا من ثلاث سنين، وهو الذي أقام من كل مذهب قاضيا مستقلا قاضي قضاة.
وكان رحمه الله متيقظا شهما شجاعا لا يفتر عن الأعداء ليلا ولا نهارا، بل هو مناجز لأعداء الإسلام وأهله، ولم شعثه واجتماع شمله.
وبالجملة أقامه الله في هذا الوقت المتأخر عونا ونصرا للإسلام وأهله، وشجا في حلوق المارقين من الفرنج والتتار، والمشركين، وأبطل الخمور ونفى الفساق من البلاد، وكان لا يرى شيئا من الفساد والمفاسد إلى سعى في إزالته بجهده وطاقته، وقد ذكرنا في سيرته ما أرشد إلى حسن طويته وسريرته [19].(
كما عاصر ابن تيمية أيضا وهو شاب السلطان المنصور سيف الدين قلاوون الذي تولى السلطنة سنة ٦٧٨ هـ وأكمل الجهاد ضد التتار والصليبيين وحرر أكثر الساحل الشامي، وهزم التتار في معركة حمص هزيمة كبرى، وتوفي ٦٨٩ هـ، قال عنه ابن كثير: (وكانت مدة ملكه اثنتي عشرة سنة، وكان حسن الصورة مهيبا، عليه أبهة السلطنة ومهابة الملك، تام القامة، عالي الهمة، شجاعا وقورا) [20].


ثم تولى بعده ابنه الأشرف صلاح الدين الذي أكمل فتوحات الساحل حتى لم يبق لهم سنة ٦٩٠هـ أي وجود فيه كما قال ابن كثير: (ثم دخلت سنة تسعين وستمائة من الهجرة فيها فتحت عكا وبقية السواحل التي كانت بأيدي الفرنج من مدد متطاولة، ولم يبق لهم فيها حجر واحد ولله الحمد والمنة[21](، وكان الأشرف بن قلاوون قد عزم على تحرير العراق من التتار، إلا إنه قتل، قال ابن كثير: (وتألم الناس لفقده وأعظموا قتله، وقد كان شهما شجاعا عالي الهمة حسن المنظر، كان قد عزم على غزو العراق واسترجاع تلك البلاد من أيدي التتار، واستعد لذلك ونادى به في بلاده، وقد فتح في مدة ملكه وكانت ثلاث سنين عكا وسائر السواحل، ولم يترك للفرنج فيها معلما ولا حجرا، وفتح قلعة الروم وبهسنا وغيرها)[22]، ثم تولى بعده أخوه السلطان الناصر محمد بن قلاوون سنة ٦٩٣ هـ  الذي دام في السلطنة أكثر من أربعين سنة خلال ثلاث فترات، حتى توفي سنة ٧٤١ هـ، قضاها كلها في الجهاد في سبيل الله وتحرير أرض الإسلام من الإمارات الصليبية، والتصدي للحملات المغولية، وعمل على توحيد البلاد وتحقيق الإصلاح والنهضة، حيث يعد عصره من أزهى عصور تلك المرحلة، وقد بلغ عنده ابن تيمية مكانة كبرى، وكانت رسائل ابن تيمية له لا تتوقف؛ يحثه فيها على الجهاد في سبيل الله، والإصلاح السياسي، وهو ما يرشح أن تكون رسالته (السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية) قد كتبها له.

وقد ذكر ابن فضل الله العمري ما جرى في معركة شقحب سنة 702 هـ بعد تولي المستكفي للخلافة بسنة؛ فقال عن مشاركة الخليفة والسلطان محمد بن قلاوون في المعركة، وعن شجاعة ابن تيمية في تلك المعركة التاريخية التي لا تقل أهمية عن عين جالوت التي هزم فيها السلطان المظفر قطز التتار وملكهم هولاكو: (وحكي من شجاعته في مواقف الحرب في شقحب وبون كسروان ما لم يسمع إلا عن صناديد الرجال، وأبطال اللقاء، وأحلاس الحرب، تارة يباشر القتال، وتارة يحرض عليه، وركب البريد إلى مهنّا بن عيسى واستحضره إلى الجهاد، وركب بعدها إلى السلطان، واستنفره وواجه بالكلام الغليظ أمراءه وعسكره، ولما جاء السلطان إلى شقحب لاقاه إلى قرن الحرة، وجعل يشجعه ويثبته، فلما رأى السلطان كثرة التتار قال: يا لخالد بن الوليد! فقال له: لا تقل هذا بل قل يا الله، واستغث بالله ربك ووحّده وحده ينصرك، وقل: يا مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين، وما زال ينفتل تارة على الخليفة، وتارة على السلطان ويهدئهما، ويربط جأشهما حتى جاء نصر الله والفتح، وحكي أنه قال للسلطان: اثبت فأنت منصور، فقال له بعض الأمراء: قل إن شاء الله، فقال: إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا؛ فكان كما قال).[23]
وقال ابن كثير: (وفيه دخل الشيخ تقي الدين بن تيمية البلد ومعه أصحابه من الجهاد، ففرح الناس به، ودعوا له وهنأوه بما يسر الله على يديه من الخير، وذلك أنه ندبه العسكر الشامي أن يسير إلى السلطان يستحثه على السير إلى دمشق، فسار إليه فحثه على المجئ إلى دمشق بعد أن كاد يرجع إلى مصر، فجاء هو وإياه جميعا؛ فسأله السلطان أن يقف معه في معركة القتال، فقال له الشيخ: السنة أن يقف الرجل تحت راية قومه، ونحن من جيش الشام لا نقف إلا معهم، وحرض السلطان على القتال وبشره بالنصر، وجعل يحلف بالله الذي لا إله إلا هو إنكم منصورون عليهم في هذه المرة، فيقول له الامراء: قل إن شاء الله، فيقول: إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا.
وأفتى الناس بالفطر مدة قتالهم وأفطر هو أيضا، وكان يدور على الأجناد والأمراء فيأكل من شيء معه في يده ليعلمهم أن إفطارهم ليتقووا على القتال أفضل فيأكل الناس...
وكان الخليفة أبو الربيع سليمان في صحبة السلطان، ولما اصطفت العساكر، والتحم القتال ثبت السلطان ثباتا عظيما، وأمر بجواده فقيد حتى لا يهرب، وبايع الله تعالى في ذلك الموقف، وجرت خطوب عظيمة، وقتل جماعة من سادات الأمراء يومئذ...واستظهر المسلمون عليهم ولله الحمد والمنة... وكشف الله بذلك عن المسلمين غمة عظيمة شديدة، ولله الحمد والمنة، ودخل السلطان إلى دمشق يوم الثلاثاء خامس رمضان وبين يديه الخليفة، وزينت البلد...).[24]
وقال العيني عن معركة شقحب: (قال صاحب النزهة: ولما تكامل ما رتبوا وقف كل أحد مكانه، والخليفة إلى جانب السلطان يتلو كتاب الله ويذكر ما أعد الله للمجاهدين من الثواب والأجر، ويقول: أيها المجاهدون لا تقاتلوا لأجل سلطانكم، فقاتلوا لأجل حريمكم).[25]
وقال ابن عبد الهادي: (وفي أول شهر رمضان من سنة اثنتين وسبعمائة كانت وقعة شقحب المشهورة، وحصل للناس شدة عظيمة، وظهر فيها من كرامات الشيخ، وإجابة دعائه، وعظيم جهاده، وقوة إيمانه، وشدة نصحه للإسلام، وفرط شجاعته، ونهاية كرمه، وغير ذلك من صفاته، ما يفوق النعت، ويتجاوز الوصف، ولقد قرأت بخط بعض أصحابه وقد ذكر هذه الواقعة وكثرة من حضرها من جيوش المسلمين، قال: واتفقت كلمة إجماعهم على تعظيم الشيخ تقي الدين ومحبته، وسماع كلامه ونصيحته، واتعظوا بمواعظه، وسأله بعضهم مسائل في أمر الدين، ولم يبق من ملوك الشام تركي ولا عربي إلا واجتمع بالشيخ في تلك المدة، واعتقد خيره وصلاحه ونصحه لله ولرسوله وللمؤمنين، ثم ساق الله سبحانه جيش الإسلام العرمرم المصري، صحبة أمير المؤمنين، والسلطان الملك الناصر، وولاة الأمر، وزعماء الجيش، وعظماء المملكة، والأمراء المصريين عن آخرهم، بجيوش الإسلام سوقا حثيثا للقاء التتار المخذولين، فاجتمع الشيخ المذكور بالخليفة والسلطان وأرباب الحل والعقد وأعيان الأمراء عن آخرهم، وكلهم بمرج الصفر قبلي دمشق المحروسة، وبينهم وبين التتار أقل من مقدار ثلاث ساعات مسافة، ودار بين الشيخ المذكور وبينهم ما دار بين الشاميين وبينه، وكان بينهم ومعهم كأحد أعيانهم، واتفق له من اجتماعهم ما لم يتفق لأحد قبله من أبناء جنسه، حيث اجتمعوا بجملتهم في مكان واحد، في يوم واحد، على أمر جامع لهم وله مهم عظيم يحتاجون فيه إلى سماع كلامه، هذا توفيق عظيم كان من الله تعالى له لم يتفق لمثله، وبقي الشيخ المذكور رضي الله عنه هو وأخوه وأصحابه ومن معه من الغزاة قائما بظهوره وجهاده ولأمة حربه، يوصي الناس بالثبات، ويعدهم بالنصر، ويبشرهم بالغنيمة، والفوز بإحدى الحسنيين، إلى أن صدق الله وعده، وأعز جنده، وهزم التتار وحده، ونصر المؤمنين، وهزم الجمع، وولوا الدبر، وكانت كلمة الله هي العليا، وكلمة الكفار هي السفلى، وقطع دابر القوم الكفار والحمد لله رب العالمين،ودخل جيش الإسلام المنصور إلى دمشق المحروسة، والشيخ في أصحابه شاكيا في سلاحه، داخلا معهم، عالية كلمته، قائمة حجته، ظاهرة ولايته، مقبولة شفاعته، مجابة دعوته، ملتمسة بركته، مكرما معظما، ذا سلطان وكلمة نافذة، وهو مع ذلك يقول للمداحين له أنا رجل ملة لا رجل دولة).[26]      

رأي ابن تيمية في الإصلاح السياسي ورسالته في أصول الحكم الراشد:
ولهذا عظم قدر ابن تيمية وصارت له مكانة كبيرة عند السلطان محمد بن قلاوون، حتى صنف رسالته المشهورة بعنوان: (السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية)، والتي عبرت -كما جاء في ثناياها- عن حاجة السلطة إلى الإصلاح والتزامها بالفرائض، حيث يقول فيها: (فالقيام بالصلاة والزكاة والصبر يصلح حال الراعي والرعية)، وقد جاء في مقدمتها :(فهذه رسالة مختصرة فيها جوامع من السياسة الإلهية، والإبانة النبوية، لا يستغني عنها الراعي والرعية، اقتضاها من أوجب الله نصحه من ولاة الأمور...).[27]
وتعد هذه الرسالة فريدة في بابها؛ حيث تحدث فيها ابن تيمية عن ضرورة إصلاح السلطة، وخطورة ظلمها وانحرافها، وتميزت عن غيرها من كتب السياسية قبلها بحصر الاستدلال بالكتاب والسنة وسنن الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، وقد جعل الشريعة -التي راعت المصلحة وأوجبت العدل- حاكمة على كل تصرف سياسي، وهو في كل الرسالة يحدد الحقوق والحدود للسلطة والأمة، فما يورده فيها لم يكن موعظة للسلطة، بل هي الواجبات التي ليس لها أن تفرط في القيام بها، وحدود الطاعة التي ليس لها أن تتجاوزها، وقد قرر فيها أصول الحكم الراشد، ومن ذلك:
أولا: ضرورة وجود الدولة ووجوب قيام السلطة: شرعيا واجتماعيا؛ لإقامة أحكام الإسلام، فهي من أعظم واجبات الدين؛ بل لا يقوم دين الإسلام إلا بالولاية والسلطة والدولة، حيث يرى بأن: (ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين إلا بها، فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع؛ لحاجة بعضهم إلى بعض، ولابد لهم عند الاجتماع من رأس؛ لأن الله أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة، وكذلك سائر ما أوجبه ما الجهاد، والعدل، وإقامة الحج، والجمع والأعياد، ونصر المظلوم، وإقامة الحدود، لا تتم إلا بالقوة والإمارة).[28]

ثانيا: بطلان تعدد الخلافة والإمامة العامة على الأمة: فأوجب وحدة الخلافة والسلطة والولاية العامة، وهو إجماع الصحابة، كما قال: (ومعاوية لم يدع الخلافة؛ ولم يبايع له بها حين قاتل عليا، ولم يقاتل على أنه خليفة، ولا أنه يستحق الخلافة... بل لما رأى علي رضي الله عنه وأصحابه أنه يجب عليهم طاعته ومبايعته؛ إذ لا يكون للمسلمين إلا خليفة واحد، وأنهم خارجون عن طاعته يمتنعون عن هذا الواجب، وهم أهل شوكة رأى أن يقاتلهم حتى يؤدوا هذا الواجب، فتحصل الطاعة).[29]
وما ذكره ابن تيمية هنا هو إجماع سلف الأمة وأئمة السنة والجماعة قاطبة، بأنه لا يجوز تعدد الأئمة، ولا يكون للأمة إلا إمام واحد واجب الطاعة شرعا، كما قال ابن عبد البر: (الخليفة لا يحل إلا أن يكون واحدا في المسلمين كلهم)[30]، وقال ابن حزم: (ولا يحل أن يكون في الدنيا إلا إمام واحد، والأمر للأول البيعة).[31]

ثالثا: السلطة عقد بين الأمة والإمام بالشورى والرضا والاختيار؛ وحقيقتها القدرة على سياسة الأمة:
فقد أبان ابن تيمية عن هذا الأصل السياسي الراشد بتعريف حقيقة السلطة نفسها، وبتحديد طبيعة العلاقة بين الأمة والسلطة بالبيعة والعقد، وأن الولاة وكلاء عنها، وهي الأصيل، فقال: (وليس لولاة الأموال أن يقسموها بحسب أهوائهم، كما يقسم المالك ملكه، فإنما هم أمناء ونواب ووكلاء، ليسوا ملاكا، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني -والله- لا أعطي ولا أمنع أحدا وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت"، رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه، فهذا رسول رب العالمين قد أخبر أنه ليس المنع والعطاء بإرادته واختياره، كما يفعل ذلك المالك الذي أبيح له التصرف في ماله، وكما يفعل ذلك الملوك الذين يعطون من أحبوا).[32]
وقد فصل القول في هذا الأصل السياسي الراشد في كتابه "منهاج السنة" في الرد على الحلي المعتزلي الشيعي الذي ادعى بأن البيعة تمت بالسقيفة بلا شورى، وإنما بعقد واحد أو مجموعة، دون جمهور الأمة، كما يقرره علماء الكلام من الأشعرية، فقال ابن تيمية: (وأما قول -الحلي الشيعي عن أهل السنة- إنهم يقولون: إن الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر بمبايعة عمر برضا أربعة، فيقال له: ليس هذا قول أئمة أهل السنة، وإن كان بعض أهل الكلام يقولون: إن الإمامة تنعقد ببيعة أربعة، كما قال بعضهم: تنعقد ببيعة اثنين، وقال بعضهم: تنعقد ببيعة واحد، فليست هذه أقوال أئمة السنة، بل الإمامة عندهم تثبت بموافقة أهل الشوكة عليها، ولا يصير الرجل إماما حتى يوافقه أهل الشوكة عليها، الذين يحصل بطاعتهم له مقصود الإمامة؛ فإن المقصود من الإمامة إنما يحصل بالقدرة والسلطان، فإذا بويع بيعة حصلت بها القدرة والسلطان صار إماما، ولهذا قال أئمة السلف من صار له قدرة وسلطان يفعل بهما مقصود الولاية، فهو من أولي الأمر الذين أمر الله بطاعتهم ما لم يأمروا بمعصية الله، فالإمامة ملك وسلطان، والملك لا يصير ملكا بموافقة واحد ولا اثنين ولا أربعة، إلا أن تكون موافقة هؤلاء تقتضي موافقة غيرهم بحيث يصير ملكا بذلك، وهكذا كل أمر يفتقر إلى المعاونة عليه لا يحصل إلا بحصول من يمكنهم التعاون عليه؛ ولهذا لما بويع علي رضي الله عنه وصار معه شوكة صار إماما، ولو كان جماعة في سفر؛ فالسنة أن يؤمروا أحدهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لثلاثة يكونون في سفر إلا أن يؤمروا واحدا منهم)، فإذا أمّره أهل القدرة منهم صار أميرا، فكون الرجل أميرا وقاضيا وواليا وغير ذلك من الأمور التي مبناها على القدرة والسلطان، متى حصل ما يحصل به من القدرة والسلطان حصلت، وإلا فلا، إذ المقصود بها عمل أعمال لا تحصل إلا بقدرة، فمتى حصلت القدرة التي بها يمكن تلك الأعمال كانت حاصلة، وإلا فلا، وهذا مثل كون الرجل راعيا للماشية متى سلمت إليه بحيث يقدر أن يرعاها كان راعيا لها وإلا فلا، فلا عمل إلا بقدرة عليه، فمن لم يحصل له القدرة على العمل لم يكن عاملا، والقدرة على سياسة الناس إما بطاعتهم له، وإما بقهره لهم، فمتى صار قادرا على سياستهم بطاعتهم أو بقهره، فهو ذو سلطان مطاع، إذا أمر بطاعة الله، ولهذا قال أحمد في رسالة عبدوس بن مالك العطار: "أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى أن قال: ومن ولي الخلافة فأجمع عليه الناس، ورضوا به، ومن غلبهم بالسيف حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين، فدفع الصدقات إليه جائز برا كان أو فاجرا"، وقال في رواية إسحاق بن منصور وقد سئل عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من مات وليس له إمام مات ميتة جاهلية) ما معناه؟ فقال: "تدري ما الإمام؟ الإمام الذي يجمع عليه المسلمون كلهم يقول هذا إمام فهذا معناه"!
والكلام هنا في مقامين: أحدهما في كون أبي بكر كان هو المستحق للإمامة وأن مبايعتهم له مما يحبه الله ورسوله، فهذا ثابت بالنصوص والإجماع.
والثاني: أنه متى صار إماما، فذلك بمبايعة أهل القدرة له، وكذلك عمر لما عهد إليه أبو بكر إنما صار إماما لما بايعوه وأطاعوه، ولو قدر أنهم لم ينفذوا عهد أبي بكر ولم يبايعوه لم يصر إماما، سواء كان ذلك جائزا أو غير جائز، فالحل والحرمة متعلق بالأفعال، وأما نفس الولاية والسلطان فهو عبارة عن القدرة الحاصلة، ثم قد تحصل على وجه يحبه الله ورسوله كسلطان الخلفاء الراشدين، وقد تحصل على وجه فيه معصية، كسلطان الظالمين، ولو قدر أن عمر وطائفة معه بايعوه، وامتنع سائر الصحابة عن البيعة لم يصر إماما بذلك، وإنما صار إماما بمبايعة جمهور الصحابة الذين هم أهل القدرة والشوكة؛ ولهذا لم يضر تخلف سعد بن عبادة؛ لأن ذلك لا يقدح في مقصود الولاية، فإن المقصود حصول القدرة والسلطان اللذين بهما تحصل مصالح الإمامة وذلك قد حصل بموافقة الجمهور على ذلك، فمن قال إنه يصير إماما بموافقة واحد أو اثنين أو أربعة وليسوا هم ذوي القدرة والشوكة؛ فقد غلط، كما أن من ظن أن تخلف الواحد أو الاثنين والعشرة يضره؛ فقد غلط، وأبو بكر بايعه المهاجرون والأنصار الذين هم بطانة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذين بهم صار للإسلام قوة وعزة وبهم قهر المشركون وبهم فتحت جزيرة العرب، فجمهور الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم هم الذين بايعوا أبا بكر،وأما كون عمر أو غيره سبق إلى البيعة فلا بد في كل بيعة من سابق، ولو قدر أن بعض الناس كان كارها للبيعة لم يقدح ذلك في مقصودها...
وأما عمر، فإن أبا بكر عهد إليه وبايعه المسلمون بعد موت أبي بكر فصار إماما لما حصلت له القدرة والسلطان بمبايعتهم له،وأما قوله ثم عثمان بن عفان بنص عمر على ستة هو أحدهم فاختاره بعضهم، فيقال أيضا: عثمان لم يصر إماما باختيار بعضهم، بل بمبايعة الناس له، وجميع المسلمين بايعوا عثمان بن عفان، ولم يتخلف عن بيعته أحد، قال الإمام أحمد في رواية حمدان بن علي: (ما كان في القوم أوكد بيعة من عثمان، كانت بإجماعهم).
فلما بايعه ذوو الشوكة والقدرة صار إماما، وإلا فلو قدر أن عبد الرحمن بايعه ولم يبايعه علي ولا غيره من الصحابة أهل الشوكة لم يصر إماما، ولكن عمر لما جعلها شورى في ستة: عثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد، وعبد الرحمن بن عوف، ثم إنه خرج طلحة والزبير وسعد باختيارهم، وبقي عثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف، واتفق الثلاثة باختيارهم على أن عبد الرحمن بن عوف لا يتولى ويولي أحد الرجلين، وأقام عبد الرحمن ثلاثا، حلف أنه لم يغتمض فيها بكبير نوم يشاور السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان، ويشاور أمراء الأمصار، وكانوا قد حجوا مع عمر ذلك العام، فأشار عليه المسلمون بولاية عثمان، وذكر أنهم كلهم قدموا عثمان فبايعوه لا عن رغبة أعطاهم إياها، ولا عن رهبة أخافهم بها، ولهذا قال غير واحد من السلف والأئمة كأيوب السختياني وأحمد ابن حنبل والدارقطني وغيرهم: من لم يقدم عثمان على علي فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار، وهذا من الأدلة الدالة على أن عثمان أفضل لأنهم قدموه باختيارهم واشتوارهم).[33]
فهنا يقرر ابن تيمية حقيقة الخلافة وأنها تحققت للخلفاء الراشدين ببيعة جمهور الصحابة وهم الأكثرية، وأهل الشوكة والمنعة، لا بمجرد العهد أو الترشيح، أو اختيار الأقلية، وأن مناط الحكم ليس بالطرق والوسائل التي جرى اختيارهم بها مع اختلاف صورها، بل مناطه انعقاد البيعة بالشورى والرضا، وموافقة الجمهور الذين تتحقق بهم الشوكة والقدرة على إدارة السلطة والدولة، وأنها لا تتحقق كما قال الإمام أحمد إلا بوجهين:
الأول: أن يلي الإمام الخلافة باجتماع الأمة عليه بالشورى والرضا، أو باختيار جمهورها وهم الأكثرية، وهي الولاية الشرعية الاختيارية الراشدة.
الثاني: أن يغلب الناس بالقوة ويتغلب على الخلافة بشرط استقرار الأمر له حتى لا ينازعه أحد، ويسمى أمير المؤمنين، وهي الإمامة الواقعية القهرية الاضطرارية، التي اختلف أئمة أهل السنة فيها، حيث خالف مالك وأبو حنيفة، ولم يروا له ولاية وإمامة شرعية بالقهر، وكانوا لا يرون بيعة لمكره.
فالخليفة عند أحمد نفسه هو الذي تجتمع عليه الأمة، ويستقر له الأمر بالخلافة؛ فلا ينازعه أحد فيها، حتى وإن نازعه أحد فيما دونها، كمن بغى عليه أو خرج عن طاعته دون منازعته في منصب الخلافة العامة!
فخلافة أبي بكر تمت ببيعة الجمهور وهم الأكثر، مع وجود أقلية معارضة كسعد بن عبادة، إلا أنها لم تخرج عما اتفق عليه الأكثر، وكذا عمر لم يصبح خليفة بمجرد عهد أبي بكر له وترشيحه للخلافة بعده، وإنما صار إماما بعد وفاة أبي بكر ببيعة الصحابة له برضاهم وطوعهم، ولو لم يبايعوه لما صار خليفة عليهم بمجرد العهد؛ حيث قال عن خلافة عمر: (وكذلك عمر لما عهد إليه أبو بكر إنما صار إماما لما بايعوه وأطاعوه، ولو قُدِّر أنهم لم ينفذوا عهد أبي بكر ولم يبايعوه لم يصر إماما).
وكذلك عثمان لم يصبح إماما وخليفة بمجرد ترشيح عمر له في الستة، ولا برضا الخمسة الآخرين به، وإنما صار خليفة للمسلمين بعد أن عقدها الصحابة له في المسجد بالبيعة العامة، حيث قال: (عثمان لم يصر إماما باختيار بعضهم بل بمبايعة الناس له، وجميع المسلمين بايعوا عثمان لم يتخلف عن بيعته أحد).

رابعا: الحاكمية للشرع، فغاية الولاية: إقامة أحكام الله والعدل الذي أمر به؛ فوجوب إقامة السلطة حكم معقول المعنى، وعلته ظاهرة قطعية، فالغاية من إقامة الدولة والسلطة والولاية في الإسلام: إقامة العدل وهو الشرع، فكل شرع هو عدل، وكل عدل هو شرع، وهو الذي يتحقق به في الإسلام صلاح الدنيا والآخرة، وانتظام شئون الدولة والمجتمع، ولهذا قرر ابن تيمية القاعدة السياسية الشرعية لضرورة العدل بقوله: (فإن الناس لم يتنازعوا في أن عاقبة الظلم وخيمة، وعاقبة العدل كريمة، ولهذا يروى: الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة).[34]
وقال: (وأمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم : أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم تشترك في إثم؛ ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة؛ ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة، ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والإسلام، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس ذنب أسرع عقوبة من البغي وقطيعة الرحم) فالباغي يصرع في الدنيا وإن كان مغفورا له مرحوما في الآخرة، وذلك أن العدل نظام كل شيء؛ فإذا أقيم أمر الدنيا بعدل قامت، وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق، ومتى لم تقم بعدل لم تقم، وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزى به في الآخرة).[35]
ولهذا كان الخروج عن حكم الله وعدله: طغيان واتباع للطاغوت الذي أمر الله بجهاده والكفر به، كما قال ابن تيمية: (وأما التحاكم إلى غير كتاب الله، فقد قال: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾، والطاغوت فعلوت من الطغيان، والطغيان مجاوزة الحد وهو الظلم والبغي، فالمعبود من دون الله إذا لم يكن كارها لذلك طاغوت ... والمطاع في معصية الله، والمطاع في اتباع غير الهدى ودين الحق، سواء كان مقبولا خبره المخالف لكتاب الله، أو مطاعا أمره المخالف لأمر الله، هو طاغوت،ولهذا سمى من تحوكم إليه من حاكم بغير كتاب الله طاغوت، وسمى الله فرعون وعادا طغاة).[36]
وقال تلميذه ابن القيم: (أخبر سبحانه أن من تحاكم أو حاكم إلى غير ما جاء به الرسول فقد حكّم الطاغوت وتحاكم إليه،والطاغوت كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع، فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله، فهذه طواغيت العالم إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها رأيت أكثرهم [تحول] من عبادة الله إلى عبادة الطاغوت، وعن التحاكم إلى الله وإلى الرسول إلى التحاكم إلى الطاغوت، وعن طاعته ومتابعة رسوله إلى الطاغوت ومتابعته).[37]
وقال أيضا: (وقد أمرنا الله برد ما تنازعنا فيه إليه وإلى رسوله؛ فلم يبح لنا قط أن نرد ذلك إلى رأي ولا قياس، ولا تقليد إمام ولا منام، ولا كشوف ولا إلهام، ولا حديث قلب ولا استحسان، ولا معقول ولا شريعة الديوان، ولا سياسة الملوك ولا عوائد الناس، التي ليس على شرائع المسلمين أضر منها، فكل هذه طواغيت من تحاكم إليها أو دعا منازعة إلى التحاكم إليها فقد حاكم إلى الطاغوت).[38]
وقال: (ومن حاكم خصمه إلى غير الله ورسوله فقد حاكم إلى الطاغوت، وقد أمر أن يكفر به، ولا يكفر العبد بالطاغوت حتى يجعل الحكم لله وحده).[39]

خامسا: بطلان الملك ووجوب الخلافة الراشدة:
وقد قرر ابن تيمية -كما هو قول عامة الفقهاء- بأن الولاية في الإسلام أمانة ووكالة عن الأمة، والولاة وكلاء عن الأمة، أو نواب عمن ولاهم، بصفته وكيلا عن الأمة، فقال: ((وليس لولاة الأموال أن يقسموها بحسب أهوائهم، كما يقسم المالك ملكه، فإنما هم أمناء ونواب ووكلاء، ليسوا ملاكا، كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : "إني -والله- لا أعطي ولا أمنع أحدا وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت"، رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه؛ فهذا رسول رب العالمين قد أخبر أنه ليس المنع والعطاء بإرادته واختياره، كما يفعل ذلك المالك الذي أبيح له التصرف في ماله، وكما يفعل ذلك الملوك الذين يعطون من أحبوا).[40]
فالخلافة والإمامة في الإسلام ليست ملكا، يتصرف فيها الملوك وفق أهوائهم، ولا توارث فيها، كما نقل ابن حزم إجماع الأمة على ذلك فقال: (ولا خلاف بين أحد من أهل الإسلام في أنه لا يجوز التوارث فيها).[41]
وقد قرر ابن تيمية وجوب اتباع سنن الخلفاء الراشدين خصوصا في باب الإمامة، فإن اختلفوا؛ فسنة أبي بكر وعمر، حيث يقول: (ثم من طريقة أهل السنة والجماعة: اتباع آثار رسول الله باطنا وظاهرا، واتباع سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، واتباع وصية رسول الله حيث قال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة").[42]
وقال: (فسنة خلفائه الراشدين: هي مما أمر الله به ورسوله).[43]
وقال أيضا: (ففي هذا الحديث، أمر المسلمين باتباع سنته، وسنة الخلفاء الراشدين، وبين أن المحدثات التي هي البدع التي نهى عنها، ما خالف ذلك).[44]
وقال أيضا: (فمن تمسك بسنة الخلفاء الراشدين فقد أطاع الله ورسوله).[45]
وقال في وجوب الاقتداء بالشيخين، ولزوم سنن الخلفاء الراشدين، كما في حديث: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين)، وحديث: (اقتدوا بالذين من بعدي من بعدي أبي بكر وعمر): (فهذا أمر وتحضيض على لزوم سنة الخلفاء، وأمر بالاستمساك بها، وتحذير من المحدثات المخالفة لها، وهذا الأمر منه، والنهي: دليل بَيِّن في الوجوب، ثم اختص من ذلك قوله: "اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر، وعمر" فهذان أمر بالاقتداء بهما، والخلفاء الراشدون أمر بلزوم سنتهم، وفي هذا تخصيص للشيخين من وجهين:
أحدها: أن (السنة) ما سنوه للناس، وأما (القدوة) فيدخل فيها الاقتداء بهما فيما فعلاه مما لم يجعلوه سنة.
الثاني: أن السنة أضافها إلى الخلفاء؛ لا إلى كل منهم، فقد يقال: إن ذلك فيما اتفقوا عليه؛ دون ما انفرد به بعضهم، وأما القدوة فعيَّن القدوة بهذا، وبهذا، وفي هذا الوجه نظر، ويستفاد من هذا، أن ما فعله عثمان وعلي من الاجتهاد الذي سبقهما بما هو أفضل منه أبو بكر وعمر ودلت النصوص، وموافقة جمهور الأمة على رجحانه وكان سببه افتراق الأمة: لا يؤمر بالاقتداء بهما فيه؛ إذ ليس ذلك من سنة الخلفاء؛ وذلك أن أبا بكر وعمر ساسا الأمة بالرغبة والرهبة، وسلما من التأويل في الدماء، والأموال، وعثمان رضي الله عنه غلّب الرغبة، وتأول في الأموال، وعلي غلّب الرهبة، وتأول في الدماء، و أبو بكر وعمر كمل زهدهما في المال والرياسة، وعثمان كمل زهده في الرياسة، وعلي كمل زهده في المال...).[46]
وقال أيضا: إن (الخلفاء الراشدين إذا خالفهم غيرهم كان قولهم هو الراجح؛ لأن النبي قال: "عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي؛ تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة").[47]
وقال عن تقرر ذلك في أصول أحمد بن حنبل: (وقد تنازع العلماء من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم في إجماع الخلفاء، وفي إجماع العترة هل هو حجة يجب اتباعها؟ والصحيح: أن كلاهما حجة، فإن النبي قال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ" وهذا حديث صحيح في السنن، وقال: "إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض" رواه الترمذي وحسنه، وفيه نظر، وكذلك إجماع أهل المدينة النبوية في زمن الخلفاء الراشدين هو بهذه المنزلة).[48]
وقال أيضا في وجوب لزوم سنن الخلفاء الراشدين مطلقا :(فالواجب على المسلم أن يلزم سنة رسول الله وسنة خلفائه الراشدين، والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، وما تنازعت فيه الأمة وتفرقت فيه، إن أمكنه أن يفصل النِّزاع بالعلم والعدل وإلا استمسك بالجمل الثابتة بالنص والإجماع، وأعرض عن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا، فإن مواضع التفرق والاختلاف عامتها تصدر عن اتباع الظن وما تهوى الأنفس {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ الْهُدَى}).[49]
بطلان الملك في شريعة الإسلام:
وقد قرر ابن تيمية بطلان الملك المحض، وأنه ليس من الإسلام في شيء بل هو دين الإباحية، وأن الواجب هو الخلافة الراشدة، فإن شاب نظام الخلافة شيء من الملك كما حدث بعد الخلافة الراشدة، فهنا يراعى حال القدرة، فقال :(في الحديث: (ستكون خلافة نبوة ورحمة، ثم يكون ملك ورحمة، ثم يكون ملك وجبرية، ثم يكون ملك عضوض)، وقال في الحديث المشهور في السنن وهو صحيح: (إنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور)، ويجوز تسمية من بعد الخلفاء الراشدين "خلفاء"، وإن كانوا ملوكا ولم يكونوا خلفاء الأنبياء -أي: خلافة ملك لا خلافة نبوة راشدة- بدليل ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كانت بنو إسرائيل يسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي وإنه لا نبي بعدي وستكون خلفاء فتكثر؛ قالوا فما تأمرنا؟ قال: فوا ببيعة الأول فالأول؛ ثم أعطوهم حقهم؛ فإن الله سائلهم عما استرعاهم)، فقوله: (فتكثر) دليل على من سوى الراشدين فإنهم لم يكونوا كثيرا، وأيضا قوله: (فوا ببيعة الأول فالأول) دل على أنهم يختلفون؛ والراشدون لم يختلفوا، وقوله: (فأعطوهم حقهم؛ فإن الله سائلهم عما استرعاهم) دليل على مذهب أهل السنة في إعطاء الأمراء حقهم من المال والمغنم ... والغرض هنا بيان جماع الحسنات والسيئات الواقعة بعد خلافة النبوة في الإمارة وفي تركها، فإنه مقام خطر، وذلك أن خبره بانقضاء خلافة النبوة فيه الذم للملك والعيب له، لا سيما وفى حديث أبى بكرة أنه استاء للرؤيا، وقال: (خلافة نبوة ثم يؤتي الله الملك من يشاء)، ثم النصوص الموجبة لنصب الأئمة والأمراء وما في الأعمال الصالحة التي يتولونها من الثواب حمد لذلك وترغيب فيه، فيجب تخليص محمود ذلك من مذمومه، وفى حكم اجتماع الأمرين، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله خيرني بين أن أكون عبدا رسولا وبين أن أكون نبيا ملكا فاخترت أن أكون عبدا رسولا)، فإذا كان الأصل في ذلك شوب الولاية من الإمارة والقضاء بالملك هل هو جائز في الأصل والخلافة مستحبة؟ أم ليس بجائز إلا لحاجة من نقص علم أو نقص قدرة بدونه؟
فنحتج بأنه  -أي الملك- ليس بجائز في الأصل، بل الواجب خلافة النبوة، لقوله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فكل بدعة ضلالة)، بعد قوله: (من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا)، فهذا أمر وتحضيض على لزوم سنة الخلفاء وأمر بالاستمساك بها وتحذير من المحدثات المخالفة لها، وهذا الأمر منه والنهي دليل بيّن في الوجوب... وأيضا فكون النبي صلى الله عليه وسلم استاء للملك بعد خلافة النبوة؛ دليل على أنه متضمن ترك بعض الدين الواجب، وقد يحتج من يجوز الملك بالنصوص التي منها قوله لمعاوية: (إن ملكت؛ فأحسن) ونحو ذلك، وفيه نظر! ويحتج بأن عمر أقر معاوية لما قدم الشام على ما رآه من أبهة الملك لما ذكر له المصلحة فيه، فإن عمر قال: لا آمرك ولا أنهاك، ويقال في هذا إن عمر لم ينهه لا أنه أذن له في ذلك، لأن معاوية ذكر وجه الحاجة إلى ذلك ولم يثق عمر بالحاجة؛ فصار محل اجتهاد في الجملة!
فهذان القولان متوسطان أن يقال الخلافة واجبة، وإنما يجوز الخروج عنها بقدر الحاجة، أو أن يقال يجوز قبولها من الملك بما ييسر فعل المقصود بالولاية ولا يعسره، إذ ما يبعد المقصود بدونه لا بد من إجازته...
وهنا طرفان: أحدهما: من يوجب ذلك -أي: خلافة النبوة- في كل حال وزمان وعلى كل أحد ويذم من خرج عن ذلك مطلقا أو لحاجة، كما هو حال أهل البدع من الخوارج والمعتزلة وطوائف من المتسننة والمتزهدة.
والثاني: من يبيح الملك مطلقا من غير تقيد بسنة الخلفاء، كما هو فعل الظلمة والإباحية والمرجئة، وهذا تفصيل جيد وسيأتي تمامه.
وتحقيق الأمر أن يقال انتقال الأمر عن خلافة النبوة إلى الملك إما أن يكون لعجز العباد عن خلافة النبوة أو اجتهاد سائغ، أو مع القدرة على ذلك علما وعملا، فإن كان مع العجز علما أو عملا كان ذو الملك معذورا في ذلك، وإن كانت خلافة النبوة واجبة مع القدرة، كما تسقط سائر الواجبات مع العجز، كحال النجاشي لما أسلم وعجز عن إظهار ذلك فى قومه، بل حال يوسف الصديق تشبه ذلك من بعض الوجوه، لكن الملك كان جائزا لبعض الأنبياء كداود وسليمان ويوسف، وإن كان مع القدرة علما وعملا، وقدّر أن خلافة النبوة مستحبة ليست واجبة، وإن اختيار الملك جائز في شريعتنا كجوازه في غير شريعتنا، فهذا التقدير إذا فرض أنه حق فلا إثم على الملك العادل أيضا، وهذا الوجه قد ذكره القاضي أبو يعلى في المعتمد لما تكلم في تثبيت خلافة معاوية، وبنى ذلك على ظهور إسلامه وعدالته وحسن سيرته، وأنه ثبتت إمامته بعد موت علي لما عقدها الحسن له، وسمي ذلك عام الجماعة...
وذكر أن رجلا سأل أحمد عن الخلافة فقال: كل بيعة كانت بالمدينة فهي خلافة نبوة لنا.
قال القاضي - أبو يعلى- وظاهر هذا أن ما كان بغير المدينة لم يكن خلافة نبوة.
قلت -ابن تيمية- نصوص أحمد على أن الخلافة تمت بعلي كثيرة جدا.
ثم عارض القاضي ذلك بقوله :(الخلافة ثلاثون سنة ثم تصير ملكا).
قال السائل فلما خص الخلافة بعده بثلاثين سنة كان آخرها آخر أيام علي، وإن بعد ذلك يكون ملكا دل على أن ذلك ليس بخلافة؟
فأجاب القاضي بأنه يحتمل أن يكون المراد به الخلافة التي لا يشوبها ملك بعده ثلاثون سنة، وهكذا كانت خلافة الخلفاء الأربعة، ومعاوية قد شابها الملك، وليس هذا قادحا في خلافته، كما أن ملك سليمان لم يقدح في نبوته، وإن كان غيره من الأنبياء فقيرا، قلت فهذا يقتضي أن شوب الخلافة بالملك جائز في شريعتنا، وإن ذلك لا ينافي العدالة، وإن كانت الخلافة المحضة أفضل... وكل من انتصر لمعاوية وجعله مجتهدا في أموره ولم ينسبه إلى معصية فعليه أن يقول بأحد القولين إما جواز شوبها -أي الخلافة- بالملك، أو عدم اللوم على ذلك.... وأما إذا كانت خلافة النبوة واجبة وهي مقدورة وقد تركت، فترك الواجب سبب للذم والعقاب، ثم هل تركها كبيرة أو صغيرة؟ إن كان صغيرة لم يقدح في العدالة، وإن كان كبيرة ففيه القولان، لكن يقال هنا إذا كان القائم بالملك والإمارة يفعل من الحسنات المأمور بها ويترك من السيئات المنهي عنها ما يزيد به ثوابه على عقوبة ما يتركه من واجب أو يفعله من محظور فهذا قد ترجحت حسناته على سيئاته..).[50]
فهنا يتحدث ابن تيمية عن خلافة النبوة، والخلافة العامة في الإسلام التي جاءت بعدها، وحافظت على أصول الخلافة كنظام سياسي، وشابها شيء من الملك، بالتوسع بالمباحات، ووقوع شيء من الجور، أما الملك المحض الذي يخرج عن أصول الخلافة نفسها كنظام سياسي، فهذا كما يقول ابن تيمية: (كمن يبيح الملك مطلقا من غير تقيد بسنة الخلفاء الراشدين، كما هو فعل الظلمة والإباحية والمرجئة)!
ولهذا أثنى على من كان يلتزم بسنن الخلافة الراشدة، كما قال عن (معاوية بن يزيد بن معاوية الذي تولى الخلافة مدة قصيرة ثم مات، ولم يعهد إلى أحد، وكان فيه دين وصلاح..).[51]

صور الخروج عن سنن الخلافة الراشدة إلى خلافة الملك:
وفيما سبق يقرر ابن تيمية ما يلي: أن الخروج عن سنن الخلافة الراشدة إلى خلافة ملك -كخلافة بني أمية وبني العباس وبني عثمان وليس الملك المحض- له ثلاث صور:
1 - الصورة الأولى: أن يكون ذلك لعدم العلم أو لعدم القدرة؛ فهنا يسقط الواجب وهو لزوم سنن الخلافة الراشدة للعجز، كما تسقط سائر الواجبات عند عدم القدرة، وقاس ذلك على حال النجاشي حين أسلم سرا ولم يستطع تغيير شيء، وقاسه أيضا على حال النبي يوسف، إلا أنه استشكل ذلك لكون يوسف على شريعة أخرى، كان الملك فيها جائزا، بخلاف شريعة النبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي جاءت شريعته بالخلافة وأبطلت الملك.
وفيما ذكره هنا نظر، إذ النجاشي لم يخاطب بأحكام الشريعة آنذاك، حتى يوصف بالعجز وعدم القدرة، وإنما آمن بما أخبره به جعفر بن أبي طالب إيمانا إجماليا، وأسلم ولم يظهر شيئا من ذلك، إذ لم يجب عليه ذلك أصلا حتى يوصف بالعجز؛ لأنه كان في دار كفر لم يسلم أهلها، فلا يجب فيها إقامة أحكام دار الإسلام.
2 - والصورة الثانية: أن يكون الخروج عن سنن الخلافة الراشدة مع العلم والقدرة لا عن جهل وعجز؛ فإن قيل بأن لزوم سنن الخلافة الراشدة مستحب لا واجب، وفرض أن اختيار الملك جائز في شريعتنا كجوازه في غير شريعتنا؛ فهنا لا إثم على الملك العادل، وهذا كله افتراض جدلي أراد منه ابن تيمية الاعتذار لمعاوية لما شاب وخلط خلافته بشيء من الملك.
ثم ذكر أجوبة القاضي أبي يعلى الحنبلي ورده على من طعن في معاوية بأنه ليس خليفة وإنما هو ملك؛ لحديث: (الخلافة ثلاثون سنة ثم تكون ملكا)، فقال بأن المراد هنا: خلافة النبوة ثلاثون سنة، أما بعد ذلك فهي خلافة ملك، وقاسها القاضي على خلافة النبي سليمان، وقد استشكل ابن تيمية ذلك؛ إذ هذا يقتضي جواز شوب وخلط الخلافة بالملك في شريعتنا، مع أن الظاهر المنع كما نص عليه ابن تيمية في أول كلامه.
3 - والصورة الثالثة: أن يكون الخروج عن سنن الخلافة الراشدة مع العلم والقدرة مع القول بوجوب لزوم سنن الخلافة الراشدة؛ فالخروج عنها يقتضي اللوم والذم، وهل هو كبيرة أم صغيرة... إلخ
ويلاحظ هنا بأن ابن تيمية وقبله القاضي أبو يعلى كانا بصدد الرد على المخالف دفاعا عن معاوية، وإلا لو حققا القول في حديث: (خلافة النبوة ثلاثون سنة)؛ لعلما بأن قوله في آخر الحديث: (ثم يصير ملكا)، إنما هي زيادة من كلام الراوي ولا يصح رفعها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم ترد في أكثر روايات هذا الحديث، وأما قوله في الحديث الصحيح في الرؤيا (خلافة نبوة ثم يؤتي الله الملك من يشاء)؛ فالمراد بالملك هنا الخلافة نفسها، إذ الخلافة هي ملك وسلطان أيضا، كما قال مجاهد في تفسير قوله تعالى: {والله يؤتي ملكه من يشاء}؛ قال: (الملك السلطان)! وقال ابن جرير الطبري: (الملك سلطان، والطاعة ملك)[52]، فالخلافة: رئاسة عامة وسلطة وطاعة، فيطلق عليها في اللغة: ملك، والدليل على أنها خلافة؛ الحديث الصحيح في صحيح مسلم: (لا يزال هذا الأمر عزيزا منيعا إلى اثني عشر خليفة)، فسماهم خلفاء لا ملوك؛ إذ لا ملوك في الإسلام.
وحديث الرؤيا في الصحيحين ذكر فيه أبو بكر وعمر وعثمان فقط، ولم يذكر عليا، فدل على أن المراد بقوله: (ثم يؤتي الله الملك من يشاء) أي: الخلافة، وعلي رضي الله عنه خليفة وليس بملك بلا خلاف، وقد آتاه الله الملك في الرؤيا، وهو ملك الخلافة، إذ الخلافة ملك وسلطة، والصحيح أن الشارع تواتر عنه بأنه سيسوس أمته بعده الخلفاء الراشدون، ثم يكون بعدهم خلفاء فيكثرون، وأمر بلزوم هدي الخلفاء الراشدين ونبذ المحدثات بعدهم، كما أمر بالوفاء بالبيعة للخلفاء المسلمين العدول، وأما الملك العضوض والملك الجبري؛ فلم يأمر الشارع بالبيعة لهم ولا الوفاء لهم، بل ذكرهم للتحذير منهم ومن طاعتهم؛ إذ هم دعاة على أبواب جهنم من أطاعهم قذفوه فيها!
كما إن حدود طاعة السلطة منوط بإقامتها لحكم الله ورسوله وهو العدل المطلق؛ فليس للسلطة طاعة مطلقة، ولا طاعة لذات السلطة أو لكونها سلطة؛ بل لأن طاعتها فيما أوجب الله من العدل طاعة لله ولرسوله، واحتج ابن تيمية في تقرير هذا الأصل السياسي بآية الأمانة فقال: (وهذه رسالة مبنية على آية الأمراء في كتاب الله، وهي قوله تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا * يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا}..
قال العلماء نزلت الآية الأولى في ولاة الأمور عليهم أن يؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل، ونزلت الثانية في الرعية من الجيوش وغيرهم عليهم أن يطيعوا أولي الأمر الفاعلين لذلك في قسمهم وحكمهم ومغازيهم وغير ذلك، إلا أن يأمروا بمعصية الله، فإن أمروا بمعصية الله؛ فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فإن تنازعوا في شيء؛ ردوه إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن لم تفعل ولاة الأمر ذلك أطيعوا فيما يأمرون به من طاعة الله؛ لأن ذلك من طاعة الله ورسوله، وأديت حقوقهم إليهم كما أمر الله ورسوله {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}، وإذا كانت الآية قد أوجبت أداء الأمانات إلى أهلها والحكم بالعدل فهذان جماع السياسة العادلة والولاية الصالحة).[53]

سادسا: وجوب تولية الأصلح والأكفأ لكل ولاية وتحريم التولية للقرابة والعصبية:
فالسلطة والولاية أمانة بل من أعظم الأمانات التي يجب أداؤها إلى أهلها؛ ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم أبا ذر عن توليها لضعفه، مع أمانته في نفسه وصدقه، إلا أنه يشترط لها شروط أخرى وهي الكفاءة والقوة، وقد نص ابن تيمية أنه: (يجب على ولي الأمر أن يولي على كل عمل من أعمال المسلمين أصلح من يجده لذلك العمل، قال النبي صلى الله عليه: (من ولي من أمر المسلمين شيئا، فولى رجلا وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه؛ فقد خان الله ورسوله)، وفي رواية: (من قلد رجلا عملا على عصابة وهو يجد في تلك العصابة أرضى منه فقد خان الله ورسوله وخان المؤمنين)، رواه الحاكم في صحيحه، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (من ولى من أمر المسلمين شيئا، فولى رجلا لمودة أو قرابة بينهما؛ فقد خان الله ورسوله والمسلمين)، وهذا واجب عليه فيجب عليه البحث عن المستحقين للولايات من نوابه على الأمصار من الأمراء الذين هم نواب ذي السلطان، والقضاة، ومن أمراء الأجناد، ومقدمي العساكر، والصغار والكبار، وولاة الأموال من الوزراء والكتاب والشادين، والسعاة على الخراج والصدقات، وغير ذلك من الأموال التي للمسلمين، وعلى كل واحد من هؤلاء أن يستنيب ويستعمل أصلح من يجده، وينتهي ذلك إلى أئمة الصلاة والمؤذنين والمقرئين والمعلمين وأمير الحاج، والبرد والعيون الذين هم القصاد، وخزان الأموال، وحراس الحصون، والحدادين الذين هم البوابون على الحصون والمدائن، ونقباء العساكر الكبار والصغار، وعرفاء القبائل والأسواق، ورؤساء القرى الذين هم الدهاقون، فيجب على كل من ولي شيئا من أمر المسلمين من هؤلاء وغيرهم أن يستعمل فيما تحت يده في كل موضع أصلح من يقدر عليه، ولا يقدم الرجل لكونه طلب الولاية أو سبق في الطلب، بل ذلك سبب المنع؛ فإن في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم : (أن قوما دخلوا عليه، فسألوه ولاية؛ فقال: إنا لا نولي أمرنا هذا من طلبه)، وقال لعبد الرحمن بن سمرة : (يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها من غير مسألة؛ أعنت عليها، وإن أعطيتها عن مسألة؛ وكلت إليها)، أخرجاه في الصحيحين، وقال صلى الله عليه وسلم: (من طلب القضاء واستعان عليه؛ وكل إليه، ومن لم يطلب القضاء ولم يستعن عليه؛ أنزل الله إليه ملكا يسدده)، رواه أهل السنن،فإن عدل عن الأحق الأصلح إلى غيره لأجل قرابة بينهما أو ولاء عتاقة أو صداقة أو موافقة في بلد أو مذهب أو طريقة أو جنس كالعربية والفارسية والتركية والرومية، أو لرشوة يأخذها منه من مال أو منفعة أو غير ذلك من الأسباب، أو لضغن في قلبه على الأحق أو عداوة بينهما: فقد خان الله ورسوله والمؤمنين ودخل فيما نهى الله عنه في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون}، ثم قال: {واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم}، فإن الرجل لحبه لولده أو لعتيقه قد يؤثره في بعض الولايات أو يعطيه ما لا يستحقه فيكون قد خان أمانته، كذلك قد يؤثره زيادة في ماله أو حفظه بأخذ ما لا يستحقه أو محاباة من يداهنه في بعض الولايات؛ فيكون قد خان الله ورسوله وخان أمانته... إذا عرف هذا فليس له أن يستعمل إلا أصلح الموجود وقد لا يكون في موجوده من هو صالح لتلك الولاية، فيختار الأمثل فالأمثل في كل منصب بحسبه، وإذا فعل ذلك بعد الاجتهاد التام وأخذه للولاية بحقها فقد أدى الأمانة وقام بالواجب في هذا وصار في هذا الموضع من أئمة العدل والمقسطين عند الله، وإن اختل بعض الأمور بسبب من غيره إذا لم يمكن إلا ذلك فإن الله يقول : {فاتقوا الله ما استطعتم}، ويقول {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}، وقال {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم}، فمن أدى الواجب المقدور عليه فقد اهتدى وقال النبي صلى الله عليه و سلم: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) أخرجاه في الصحيحين، لكن إن كان منه عجز ولا حاجة إليه أو خيانة عوقب على ذلك، وينبغي أن يعرف الأصلح في كل منصب، فإن الولاية لها ركنان : القوة والأمانة، كما قال تعالى {إن خير من استأجرت القوي الأمين}).[54]
كما قرر وجوب مراعاة طبيعة كل ولاية عند اختيار من يتولاها بما يحقق المقصود من الولاية نفسها، حتى وإن اقتضى أن يتولاها عدد من الأكفاء إن تعذر وجود واحد يستطيع القيام بأعبائها، فتكون الولاية مشتركة، حيث يقول: (وإن كانت الحاجة في الولاية إلى الأمانة أشد قدم الأمين، مثل حفظ الأموال ونحوها، فأما استخراجها وحفظها فلا بد فيه من قوة وأمانة، فيولي عليها شاد قوي يستخرجها بقوته، وكاتب أمين يحفظها بخبرته وأمانته، وكذلك في إمارة الحرب إذا أمر الأمير بمشاورة أولي العلم والدين جمع بين المصلحتين، وهكذا في سائر الولايات إذا لم تتم المصلحة برجل واحد جمع بين عدد، فلا بد من ترجيح الأصلح أو تعدد المولى إذا لم تقع الكفاية بواحد تام، ويقدم في ولاية القضاء الأعلم الأورع الأكفأ، فإن كان أحدهما أعلم والآخر أورع قدم -فيما قد يظهر حكمه ويخاف فيه الهوى- الأورع وفيما يدق حكمه ويخاف فيه الاشتباه: الأعلم).[55]
ولشمول معنى العدل لكل تصرفات الولاة، ووجوب الحكم بالعدل مطلقا؛ يرى ابن تيمية بأن كل من حكم بين اثنين فهو قاض، ويدخل في عموم النصوص الواردة في القضاة، فيقول: (ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاض في الجنة، فرجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار، ورجل قضى بين الناس على جهل فهو في النار، ورجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة)، رواه أهل السنن، والقاضي اسم لكل من قضى بين اثنين وحكم بينهما سواء كان خليفة أو سلطانا أو نائبا أو واليا أو كان منصوبا ليقضي بالشرع أو نائبا له حتى يحكم بين الصبيان في الخطوط إذا تخايروا، هكذا ذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : وهو ظاهر).[56]

سابعا : لا يولى غير العدل إلا إذا كان ذا كفاية يحقق مصلحة الولاية ولم يوجد غيره، ويجب تهيئة الأكفاء للولاية وإعداد رجال الدولة: حيث يقول ابن تيمية في رسالته في "السياسة الشرعية": (اجتماع القوة والأمانة في الناس قليل؛ ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: "اللهم أشكوا إليك جلد الفاجر وعجز الثقة"، فالواجب في كل ولاية الأصلح بحسبها، فإذا تعين رجلان أحدهما أعظم أمانة والآخر أعظم قوة قدم أنفعهما لتلك الولاية، وأقلهما ضررا فيها، فتقدم في إمارة الحروب الرجل القوي الشجاع، وإن كان فيه فجور فيها على الرجل الضعيف العاجز وإن كان أمينا، كما سئل الإمام أحمد: عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو وأحدهما قوي فاجر ولآخر صالح ضعيف مع أيهما يغزي؟ فقال : أما الفاجر القوي فقوته للمسلمين وفجوره على نفسه، وأما الصالح الضعيف فصلاحه لنفسه وضعفه على المسلمين، فيغزى مع القوي الفاجر، وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم: "إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر"، وروى "بأقوام لا خلاق لهم"، فإذا لم يكن فاجرا كان أولى بإمارة الحرب ممن هو أصلح منه في الدين إذا لم يسد مسده، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعمل خالد بن الوليد على الحرب منذ أسلم وقال: "إن خالدا سيف سله الله على المشركين"، مع أنه أحيانا كان قد يعمل ما ينكره النبي صلى الله عليه و سلم حتى إنه -مرة- رفع يديه إلى السماء وقال : "اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد"، لما أرسله إلى جذيمة، فقتلهم وأخذ أموالهم بنوع شبهة، ولم يكن يجوز ذلك وأنكره عليه بعض من معه من الصحابة حتى وداهم النبي صلى الله عليه وسلم وضمن أموالهم، ومع هذا فما زال يقدمه في إمارة الحرب لأنه كان أصلح في هذا الباب من غيره وفعل ما فعل بنوع تأويل، وكان أبو ذر رضي الله عنه أصلح منه في الأمانة والصدق، ومع هذا فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : "يا أبا ذر إني أراك ضعيفا وإني أحب لك ما أحب لنفسي: لا تأمرن علي اثنين ولا تولين مال يتيم" رواه مسلم، فنهى أبا ذر عن الإمارة والولاية لأنه رآه ضعيفا مع أنه قد روى "ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر".
وأمر النبي صلى الله عليه و سلم مرة عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل استعطافا لأقاربه الذين بعثه إليهم على من هم أفضل منه وأمر أسامة بن زيد لأجل ثأر أبيه؛ ولذلك كان يستعمل الرجل لمصلحة مع أنه قد كان يكون مع الأمير من هو أفضل منه في العلم والإيمان...).[57]
وقال أيضا: (ويقدم الأكفأ إن كان القضاء يحتاج إلى قوة وإعانة للقاضي أكثر من حاجته إلى مزيد العلم والورع، فإن القاضي المطلق يحتاج أن يكون عالما عادلا قادرا، بل وكذلك كل وال للمسلمين، فأي صفة من هذه الصفات نقصت ظهر الخلل بسببه...
فإن الأئمة متفقون على أنه لا بد في المتولي من أن يكون عدلا أهلا للشهادة، واختلفوا في اشتراط العلم: هل يجب أن يكون مجتهدا، أو يجوز أن يكون مقلدا، أو الواجب تولية الأمثل فالأمثل كيفما تيسر...
ومع أنه يجوز تولية غير الأهل للضرورة إذا كان أصلح الموجود؛ فيجب مع ذلك السعي في إصلاح الأحوال حتى يكمل في الناس ما لا بد منه من أمور الولايات والإمارات ونحوها، كما يجب على المعسر السعي في وفاء دينه وإن كان في الحال لا يطلب منه إلا ما يقدر عليه، وكما يجب الاستعداد للجهاد بإعداد القوة ورباط الخيل في وقت سقوطه للعجز، فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب بخلاف الاستطاعة في الحاج ونحوها فإنه لا يجب تحصيلها لأن الوجوب هناك لا يتم إلا بها).[58]
فعدم وجود أكفاء يجمعون بين القدرة والعدالة لا يسقط وجوب إعداد مثل هؤلاء كقيادات للدولة في المستقبل، فإذا جاز للضرورة تولية من به نقص لعدم وجود الأكمل للولاية، فهذا لا يسقط الحكم الأصلي، وعلى الدولة والسلطة تدارك هذا الخلل بإعداد القيادات المؤهلة للولاية بلا نقص، فتجمع شروط الولاية وهي العدالة والكفاءة، حيث يقول: (والمهم في هذا الباب معرفة الأصلح، وذلك إنما يتم بمعرفة مقصود الولاية، ومعرفة طريق المقصود، فإذا عرفت المقاصد والوسائل تم الأمر، فلهذا لما غلب على أكثر الملوك قصد الدنيا دون الدين قدموا في ولايتهم من يعينهم على تلك المقاصد، وكان من يطلب رئاسة نفسه يؤثر تقديم من يقيم رئاسته، وقد كانت السنة أن الذي يصلي بالمسلمين الجمعة والجماعة ويخطب بهم هم أمراء الحرب الذين هم نواب ذي السلطان على الجند؛ ولهذا لما قدم النبي صلى الله عليه و سلم أبا بكر في الصلاة قدمه المسلمون في إمارة الحرب وغيرها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرا على حرب كان هو الذي يؤمره للصلاة بأصحابه، وكذلك إذا استعمل رجلا نائبا على مدينة كما استعمل عتاب بن أسيد على مكة، وعثمان بن أبي العاص على الطائف، وعليا ومعاذا وأبا موسى على اليمن، وعمرو بن حزم على نجران، كان نائبه هو الذي يصلي بهم ويقيم فيهم الحدود وغيرها مما يفعله أمير الحرب، وكذلك خلفاؤه بعده ومن بعدهم من الملوك الأمويين وبعض العباسيين، وذلك لأن أهم أمر الدين الصلاة والجهاد، ولهذا كانت أكثر الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة والجهاد، وكان إذا عاد مريضا يقول : "اللهم اشف عبدك يشهد لك صلاة وينكأ لك عدوا"، ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قال : "يا معاذ إن أهم أمرك عندي الصلاة"، وكذلك كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يكتب إلى عماله: "إن أهم أموركم عندي الصلاة؛ فمن حافظ عليها وحفظها حفظ دينه ومن ضيعها كان لما سواها من عمله أشد إضاعة"...
فالمقصود الواجب بالولايات: إصلاح دين الخلق الذي متى فاتهم خسروا خسرانا مبينا ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا، وإصلاح ما لا يقوم الدين إلى به من أمر دنياهم، وهو نوعان : قسم المال بين مستحقيه، وعقوبات المعتدين، فمن لم يعتد أصلح له دينه ودنياه، ولهذا كان عمر بن الخطاب يقولك : "إنما بعثت عمالي إليكم ليعلموكم كتاب ربكم وسنة نبيكم ويقيموا بينكم دينكم"، فلما تغيرت الرعية من وجه، والرعاة من وجه تناقضت الأمور، فإذا اجتهد الراعي في إصلاح دينهم ودنياهم بحسب الإمكان كان من أفضل أهل زمانه وكان من أفضل المجاهدين في سبيل الله فقد روي: "يوم من إمام عادل أفضل من عبادة ستين سنة"، وفي مسند الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال: "أحب الخلق إلى الله إمام عادل وأبغضهم إليه إمام جائر"، وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: "سبعة يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل.."، وفي صحيح مسلم عن عياض بن حماد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: "أهل الجنة ثلاثة : سلطان مقسط، ورجل رحيم القلب بكل ذي قربى ومسلم، ورجل غني عفيف متصدق"...
فالمقصود أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الله اسم جامع لكلماته التي تضمها كتابه، وهكذا قال الله تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط}، فالمقصود من إرسال الرسل وإنزال الكتب أن يقوم الناس بالقسط في حقوق الله وحقوق خلقه، ثم قال تعالى : {وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب}، فمن عدل عن الكتاب قوّم بالحديد؛ ولهذا كان قوام الدين بالمصحف والسيف، وقد روى عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن نضرب بهذا -يعني السيف- من عدل عن هذا -يعني المصحف-"، فإذا كان هذا هو المقصود فإنه يتوسل إليه بالأقرب فالأقرب، وينظر إلى الرجلين أيهما كان أقرب إلى المقصود ولي).[59]

ثامنا: المسئولية المشتركة بين السلطة والأمة ووجوب قيام كل طرف بحقوق الطرف الآخر:
فابن تيمية يجعل مناط صحة تصرفات السلطة كلها موافقتها للقانون الإلهي وهو شرعه الذي هو العدل والقسط، وتحقيقها للمصلحة، فالذي يحدد الحقوق هو الله كما جاء في كتابه وسنة نبيه، وليس للسلطة تجاوز تلك الحقوق، ولا للأمة التفريط فيها، ولا يتخذ كل طرف من تقصير الآخر في القيام بمسئولياته وواجباته ذريعة لتركه هو لمسئوليته، فيقول: (وقد خطب النبي صلى الله عليه و سلم في خطبة الوداع وقال في خطبته: "العارية مؤداة، والمنحة مردودة، الدين مقضي، والزعيم غارم، إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث"، وهذا القسم يتناول الولاة والرعية، فعلى كل منهما: أن يؤدي إلى الآخر ما يجب أداؤه إليه، فعلى ذي السلطان ونوابه في العطاء أن يؤتوا كل ذي حق حقه، وعلى جباة الأموال كأهل الديوان أن يؤدوا إلى ذي السلطان ما يجب إيتاؤه إليه، وكذلك على الرعية الذين يجب عليهم الحقوق، وليس للرعية أن يطلبوا من ولاة الأموال ما لا يستحقونه، فيكونون من جنس من قال الله تعالى فيه: {ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون * ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون * إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم}، ولا لهم أن يمنعوا السلطان ما يجب دفعه من الحقوق وإن كان ظالما، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر جور الولاة فقال: "أدوا إليهم الذي لهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم"، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: "كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي وإنه لا نبي بعدي وسيكون خلفاء ويكثرون قالوا : فما تأمرنا ؟ فقال : أوفوا ببيعة الأول فالأول ثم أعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم"،
وفيها عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: "إنكم سترون بعدي أثرة وأمورا تنكرونها قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: أدوا إليهم حقهم واسألوا الله حقكم").[60]

تاسعا: لا يحق للسلطة أن تتصرف في الأموال إلا وفق المشروع وبما يحقق المصلحة ولا يحق لها أخذ شيء لها بغير وجه حق:
وقد قرر هذا الأصل في السياسة الراشدة فقال: (وليس لولاة الأموال أن يقسموها بحسب أهوائهم، كما يقسم المالك ملكه، فإنما هم أمناء ونواب ووكلاء، ليسوا ملاكا، كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : "إني -والله- لا أعطي ولا أمنع أحدا وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت"، رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه، فهذا رسول رب العالمين قد أخبر أنه ليس المنع والعطاء بإرادته واختياره، كما يفعل ذلك المالك الذي أبيح له التصرف في ماله، وكما يفعل ذلك الملوك الذين يعطون من أحبوا، وإنما هو عبد الله يقسم المال بأمره، فيضع حيث أمره الله تعالى، وهكذا قال رجل لعمل بن الخطاب: "يا أمير المؤمنين - لو وسعت على نفسك في النفقة من مال الله تعالى"، فقال له عمر: "أتدري ما مثلي ومثل هؤلاء؟ كمثل قوم كانوا في سفر فجمعوا منه مالا وسلموه إلى واحد ينفقه عليهم، فهل يحل لذلك الرجل أن يستأثر عنهم من أموالهم؟"، وحمل مرة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه مال عظيم من الخمس فقال: "إن قوما أدوا الأمانة في هذه لأمناء، فقال له بعض الحاضرين: إنك أديت الأمانة إلى الله تعالى فأدوا إليك الأمانة ولو رتعت لرتعت".[61]
وقال أيضا: (ولا يجوز للإمام أن يعطي أحدا مالا يستحقه لهوى نفسه من قرابة بينهما أو مودة ونحو ذلك، فضلا عن أن يعطيه لأجل منفعة محرمة منه، كعطية المخنثين من الصبيان المردان الأحرار والمماليك ونحوهم، والبغايا والمغنين والمساخر ونحو ذلك، أو إعطاء العرافين من الكهان والمنجمين ونحوهم).[62]

عاشرا: رد هدايا الأمراء والولاة إلى بيت المال وتحريم تجاوز السلطة للعقوبات المشروعة:
فكل مال كسبه الأمراء والولاة وعمال السلطة بسبب وجودهم في السلطة حتى ما كان منه مشروعا في الأصل كالتجارة والبيع والشراء، يجب رده إلى بيت مال المسلمين، وعلى الإمام العادل استخراجه منهم، حيث يقول: (وما أخذ ولاة الأموال وغيرهم من مال المسلمين بغير حق فلولي الأمر العادل استخراجه منهم، كالهدايا التي يأخذونها بسبب العمل، قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: "هدايا العمال غلول"، وروى إبراهيم الحربي -في كتاب الهدايا- عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هدايا الأمراء غلول"، وفي الصحيحين عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال: "استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من الأزد يقال له ابن اللتبية على الصدقة، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي إلي! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما بال الرجل نستعمله على العمل مما ولانا الله فيقول: هذا لكم وهذا أهدي إلي! فهلا جلس في بيت أبيه أو بيت أمه فينظر أيهدى إليه أم لا؟ والذي نفسي بيده لا يأخذ منه شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته إن كان بعيرا له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟ ثلاثا".
وكذلك محاباة الولاة في المعاملة من المبايعة والمؤاجرة والمضاربة والمساقاة والمزارعة ونحو ذلك من الهداية؛ ولهذا شاطر عمر بن الخطاب رضي الله عنه من عماله من كان له فضل ودين لا يتهم بخيانة، وإنما شاطرهم لما كانوا خصوا به لأجل الولاية من محاباة وغيرها، وكان الأمر يقتضي ذلك لأنه كان إمام عدل يقسم بالسوية، فلما تغير الإمام والرعية كان الواجب على كل إنسان أن يفعل من الواجب ما يقدر عليه ويترك ما حرم عليه ولا يحرم عليه ما أباح الله له.
وقد يبتلى الناس من الولاة بمن يمتنع من الهداية ونحوها ليتمكن بذلك من استيفاء المظالم منهم، ويترك ما أوجبه الله من قضاء حوائجهم، فيكون من أخذ منهم عوضا على كف ظلم وقضاء حاجة مباحة أحب إليهم من هذا! فإن الأول قد باع آخرته بدنيا غيره، وأخسر الناس صفقة من باع آخرته بدنيا غيره، وإنما الواجب كف الظلم عنهم بحسب القدرة وقضاء حوائجهم التي لا تتم مصلحة الناس...).[63]

الحادي عشر: تحريم إعانة السلطة على الظلم وأخذ أموال الناس بغير حق وخروجها عن الولاية بفعل ما يناقض مقصودها:
وقد جلى ابن تيمية هذا الأصل الذي يقيد صلاحية السلطة، ويحرم إعانتها على تصرفاتها غير المشروعة، ويبطل شرعية ولايتها حين تأتي بما يناقض الأصل الذي من أجله وجب شرعا إقامتها، فقال عن خروج ولي الأمر عن الولاية بتركه إقامة أحكام الشرع إذ عمل بنقيض القصد الذي أقيمت له السلطة : (وولي الأمر إذا ترك إنكار المنكرات وإقامة الحدود عليها بمال يأخذه كان بمنزلة مقدم الحرامية الذي يقاسم المحاربين على الأخيذة، وبمنزلة القواد الذي يأخذ ما يأخذه ليجمع بين اثنين على فاحشة، وكان حاله شبيها بحال عجوز السوء امرأة لوط التي كانت تدل الفجار على ضيفه التي قال الله تعالى فيها : {فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين}، وقال تعالى: {فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها}، فعذب الله عجوز السوء القوادة بمثل ما عذب قوم السوء الذين كانوا يعملون الخبائث، وهذا لأن هذا جميعه أخذ مال للإعانة على الإثم والعدوان، وولي الأمر إنما نصب ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وهذا هو مقصود الولاية، فإذا كان الوالي يمكن من المنكر بمال يأخذه كان قد أتى بضد المقصود، كمن نصبته ليعينك على عدوك فأعان عدوك عليك، وبمنزلة من أخذ مالا ليجاهد له في سبيل الله فقاتل به المسلمين).[64]
وقال أيضا: (فأما إذا كان ولي الأمر يستخرج من العمال -الموظفين الذين يأخذون الأموال من الناس بغير حق- ما يريد أن يختص به هو وذووه؛ فلا ينبغي إعانة واحد منهما إذ كل منهما ظالم كلص سرق من لص، وكالطائفتين المقتتلتين على عصبية ورئاسة، ولا يحل للرجل أن يكون عونا على ظلم، فإن التعاون نوعان:
الأول: تعاون على البر والتقوى: من الجهاد وإقامة الحدود واستيفاء الحقوق وإعطاء المستحقين، فهذا مما أمر الله به ورسوله، ومن أمسك عنه خشية أن يكون من أعوان الظلمة فقد ترك فرضا على الأعيان أو على الكفاية، متوهما أنه متورع وما أكثر ما يشتبه الجبن والفشل بالورع إذ كل منهما كف وإمساك!
والثاني: تعاون على الإثم والعدوان: كالإعانة على دم معصوم، أو أخذ مال معصوم، أو ضرب من لا يستحق الضرب ونحو ذلك، فهذا الذي حرمه لله ورسوله.
نعم إذا كانت الأموال قد أخذت بغير حق وقد تعذر ردها إلى أصحابها ككثير من الأموال السلطانية فالإعانة على صرف هذه الأموال في مصالح المسلمين كسداد الثغور ونفقة المقاتلة ونحو ذلك من الإعانة على البر والتقوى، إذ الواجب على السلطان في هذه الأموال -إذا لم يمكن معرفة أصحابها وردها عليهم ولا على ورثتهم -أن يصرفها- مع التوبة إن كان هو الظالم- إلى مصالح المسلمين، هذا هو قول جمهور العلماء كمالك و أبو حنيفة و أحمد، وهو منقول عن غير واحد من الصحابة وعلى ذلك دلت الأدلة الشرعية كما هو منصوص في موضع آخر.
وإن كان غيره قد أخذها فعليه هو أن يفعل بها ذلك، وكذلك لو امتنع السلطان من ردها كانت الإعانة على إنفاقها في مصالح أصحابها أولى من تركها بيد من يضيعها على أصحابها وعلى المسلمين، فإن مدار الشريعة على قوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم}، وهي مبينة لقوله: {اتقوا الله حق تقاته}، وعلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" أخرجاه في الصحيحين، وعلى أن الواجب تحصيل المصالح وتكميلها، وتبطيل المفاسد وتقليلها، فإذا تعارضت كان تحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما ودفع أعظم المفسدتين مع احتمال أدناها هو المشروع.
والمعين على الإثم والعدوان من أعان الظالم على ظلمه، أما من أعان المظلوم على تخفيف الظلم عنه أو على المظلمة فهو وكيل المظلوم لا وكيل الظالم، بمنزلة الذي يقرضه أو الذي يتوكل في حمل المال له إلى الظالم، مثال ذلك ولي اليتيم والوقف إذا طلب ظالم منه مالا، فاجتهد في دفع ذلك -بمال أقل منه إليه- أو إلى غيره بعد الاجتهاد التام في الدفع؛ فهو محسن وما على المحسنين من سبيل.
وكذلك وكيل المالك من المتأدبين والكتاب وغيرهم الذي يتوكل لهم في العقد والقبض ودفع ما يطلب منهم لا يتوكل للظالمين في الأخذ.
كذلك لو وضعت مظلمة على أهل قرية أو درب أو سوق أو مدينة، فتوسط رجل محسن في الدفع عنهم بغاية الإمكان وقسطها بينهم على قدر طاقتهم من غير محاباة لنفسه ولا لغيره ولا ارتشاء توكل لهم في الدفع عنهم والإعطاء؛ كان محسنا).[65]

الثاني عشر: ممارسة السياسة في الإسلام تحتاج إلى تقوى الله والفقه في أحكامه والكفاءة في الإدارة:
فقد أدرك ابن تيمية حقيقة الأزمة السياسية التي حدثت بتصدي أهل الفجور للسلطة، وتخلي أهل الصلاح عن تولي الولايات خوفا على آخرتهم، أو تصديهم لها بلا فقه ولا بصيرة، كما هو حال الخوارج، فقال: (افترق الناس هنا ثلاث فرق:
فريق غلب عليهم حب العلو في الأرض والفساد؛ فلم ينظروا في عاقبة المعاد، ورأوا أن السلطان لا يقوم إلا بعطاء، وقد لا يتأتى العطاء إلا باستخراج أموال من غير حلها، فصاروا نهابين وهابين، وهؤلاء يقولون: لا يمكن أن يتولى على الناس إلا من يأكل ويطعم، فإنه إذا تولى العفيف الذي لا يأكل ولا يطعم سخط عليه الرؤساء وعزلوه إن لم يضروه في نفسه وماله، وهؤلاء نظروا في عاجل دنياهم وأهملوا الآجل من دنياهم وآخرتهم، فعاقبتهم عاقبة رديئة في الدنيا والآخرة إن لم يحصل له ما يصلح عاقبتهم من توبة ونحوها.
وفريق عندهم خوف من الله تعالى ودين يمنعهم عما يعتقدونه قبيحا من ظلم الخلق وفعل المحارم، فهذا حسن واجب، ولكن قد يعتقدون مع ذلك: أن السياسة لا تتم إلا بما يفعله أولئك من الحرام؛ فيمتنعون عنها مطلقا، وربما كان في نفوسهم جبن أو بخل أو ضيق خلق ينضم إلى ما معهم من الدين، فيقعون أحيانا في ترك واجب يكون تركه أضر عليهم من بعض المحرمات، أو يقعون في النهي عن واجب يكون النهي عنه من الصد عن سبيل الله، وقد يكونون متأولين، وربما اعتقدوا أن إنكار ذلك واجب، ولا يتم إلا بالقتال؛ فيقاتلون المسلمين كما فعلة الخوارج، وهؤلاء لا تصلح بهم الدنيا ولا الدين الكامل، لكن قد يصلح بهم كثير من أنواع الدين وبعض أمور الدنيا، وقد يعفى عنهم فيما اجتهدوا فيه فأخطأوا ويغفر لهم قصورهم، وقد يكونون من {الأخسرين أعمالا الذي ضل سعيهم في الحياة الدينا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا}، وهذه طريقة من لا يأخذ لنفسه ولا يعطي غيره، ولا يرى أنه يتألف الناس من الكبار والفجار لا بمال ولا بنفع، ويرى أن إعطاء المؤلفة قلوبهم من نوع الجور والعطاء المحرم...
الفريق الثالث: الأمة الوسط وهم أهل دين محمد صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه على عامة الناس وخاصتهم إلى يوم القيامة، وهو إنفاق المال والمنافع للناس -وإن كانوا رؤساء- بحسب الحاجة إلى صلاح الأحوال، ولإقامة الدين والدنيا التي يحتاج إليها الدين، وعفته في نفسه فلا يأخذ ما لا يستحقه، فيجمعون بين التقوى والإحسان {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون}،
ولا تتم السياسة الدينية إلا بهذا ولا يصلح الدين والدنيا إلا بهذه الطريقة، وهذا هو الذي يطعم الناس ما يحتاجون إليه إلى طعامه، ولا يأكل هو إلا الحلال الطيب، ثم هذا يكفيه من الإنفاق أقل مما يحتاج إليه والأولون، فإن الذي يأخذ لنفسه تطمع فيه النفوس ما لا تطمع في العفيف، ويصلح به الناس في دينهم ما لا يصلحون بالثاني، كما أن الصالحين أرباب السياسة الكاملة هم الذين قاموا بالواجبات وتركوا المحرمات، وهم الذين يعطون ما يصلح الدين بعطائه، ولا يأخذون إلا ما أبيح لهم، ويغضبون لربهم إذا انتهكت محارمه، ويعفون عن حظوظهم، وهذه أخلاق رسول الله صلى عليه وسلم في بذله ودفعه وهي أكمل الأمور، وكل من كان إليها أقرب كان أفضل، فليجتهد المسلم في التقرب إليها بجهد، ويستغفر الله بعد ذلك من قصوره أو تقصيره، بعد أن يعرف كمال ما بعث الله تعالى به محمدا صلى الله عليه وسلم من الدين، فهذا في قول الله سبحانه وتعالى : {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها}...).[66]

الثالث عشر: وجوب قيام السلطة بوظائفها وأهمها القسم بالسوية والعدل في القضية وإقامة الأحكام على الجميع: وهو معنى العدل في آية الأمراء، وهو من الأمانة التي يجب عليهم أداؤها، حيث يقول :(وأما قوله تعالى: {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل}، فإن الحكم بين الناس يكون في الحدود والحقوق... فهذه من أهم أمور الولايات، ولهذا قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "لا بد للناس من إمارة برة كانت أو فاجرة"، فقيل: يا أمير المؤمنين هذه البرة قد عرفناها فما بال الفاجرة؟ فقال: "يقام بها الحدود، وتأمن بها السبل، ويجاهد بها العدو، ويقسم بها الفيء"، وهذا القسم يجب على الولاة البحث عنه وإقامته من غير دعوى أحد به... وهذا القسم يجب إقامته على الشريف والوضيع والضعيف، ولا يحل تعطيله لا بشفاعة ولا بهدية ولا بغيرها، ولا تحل الشفاعة فيه).[67]

الرابع عشر: وجوب قيام السلطة بالجهاد في سبيل الله والدفاع عن الأمة كلها وتحقيق الأمن الداخلي والخارجي: وهو من أهم واجبات السلطة ووظائفها، فدار الإسلام بمنزلة البلدة الواحدة، حيث يقول (وإذا دخل العدو بلاد الإسلام فلا ريب أنه يجب دفعه على الأقرب فالأقرب، إذ بلاد الإسلام كلها بمنزلة البلدة الواحدة، وأنه يجب النفير إليه بلا إذن والد ولا غريم، ونصوص أحمد صريحة بهذا، لكن هل يجب على جميع أهل المكان النفير إذا نفر إليه الكفاية؟ كلام أحمد فيه مختلف، وقتال الدفع مثل أن يكون العدو كثيرا لا طاقة للمسلمين به، لكن يخاف إن انصرفوا عن عدوهم عطف العدو على من يخلفون من المسلمين، فهنا قد صرح أصحابنا بأنه يجب أن يبذلوا مهجهم ومهج من يخاف عليهم في الدفع حتى يسلموا، ونظيرها أن يهجم العدو على بلاد المسلمين وتكون المقاتلة أقل من النصف فإن انصرفوا استولوا على الحريم، فهذا وأمثاله قتال دفع لا قتال طلب لا يجوز الانصراف فيه بحال، ووقعة أحد من هذا الباب، والواجب أن يعتبر في أمور الجهاد برأي أهل الدين الصحيح الذين لهم خبرة بما عليه أهل الدنيا، دون أهل الدين الذين يغلب عليهم النظر في ظاهر الدين، فلا يؤخذ برأيهم، ولا برأي أهل الدين الذين لا خبرة لهم في الدنيا).[68]
كما قال في تحديد الحربي الذي يجب جهاده: (أن من قاتل المسلمين من الكفار بأي نوع كان من أنواع القتل فهو حربي، ومن قاتل الكفار من المسلمين بسيف أو رمح أو سهم أو حجارة أو عصا فهو مجاهد في سبيل).[69]
والغاية من الجهاد هي لتكون كلمة الله هي العليا، وهي العدل والقسط الذي أنزله في كتابه، فلا يُقاتل أحد من الكفار ولا يقتل لمجرد كفره، بل يقاتل لقتاله للمسلمين إذا أرادوا إقامة دين الله وعدله في الأرض، حيث يقول عن فضل الجهاد ووجوبه والغاية منه: (لم يرد في ثواب الأعمال وفضلها مثل ما ورد في الجهاد، فهو ظاهر عند الاعتبار، فإن نفع الجهاد عام لفاعله ولغيره في الدين الدنيا، ومشتمل على جميع أنواع العبادات الباطنة والظاهرة، فإنه مشتمل على محبة الله تعالى، والإخلاص له، والتوكل عليه، وتسليم النفس والمال له، والصبر والزهد، وذكر الله وسائر أنواع الأعمال على ما لا يشتمل عليه عمل آخر، والقائم به من الشخص والأمة بين إحدى الحسنيين دائما إما النصر والظفر وإما الشهادة والجنة، ثم إن الخلق لا بد لهم من محيا وممات، ففيه استعمال محياهم ومماتهم في غاية سعادتهم في الدنيا والآخرة، وفي تركه ذهاب السعادتين، أو نقصهما فإن من الناس من يرغب في الأعمال الشديدة في الدين أو الدنيا مع قلة منفعتهما، فالجهاد أنفع فيهما من كل عمل شديد، وقد يرغب في ترقية نفسه حتى يصادفه الموت فموت الشهيد أيسر من كل ميتة وهي أفضل الميتات.
وإذا كان أصل القتال المشروع هو الجهاد ومقصوده هو أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، فمن منع هذا؛ قوتل باتفاق المسلمين، وأما من لم يكن من أهل الممانعة والمقاتلة كالنساء والصبيان والراهب والشيخ الكبير والأعمى والزمن ونحوهم؛ فلا يقتل عند جمهور العلماء، إلا أن يقاتل بقوله أو فعله، وإن كان بعضهم يرى إباحة قتل الجميع لمجرد الكفر إلا النساء والصبيان لكونهم مالا للمسلمين، والأول هو الصواب لأن القتال هو لمن يقاتلنا إذا أردنا إظهار دين الله، كما قال الله تعالى : {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين}، وفي السنن: عنه صلى الله عليه وسلم "أنه مر على امرأة مقتولة في بعض مغازيه قد وقف عليها الناس فقال: ما كانت هذه لتقاتل"، وقال لأحدهم: "الحق خالدا فقل له: لا تقتلوا ذرية ولا عسيفا"، وفيهما أيضا عنه صلى الله عليه و سلم أنه كان يقول: "لا تقتلوا شيخا فانيا ولا طفلا صغيرا ولا امرأة"، وذلك أن الله تعالى أباح من قتل النفوس ما يحتاج إليه في صلاح الخلق كما قال الله تعالى: {والفتنة أكبر من القتل}، أي أن القتل وإن كان فيه شر وفساد، ففي فتنة الكفار من الشر والفساد ما هو أكبر منه، فمن لم يمنع المسلمين من إقامة دين الله لم تكن مضرة كفره إلا على نفسه).[70]
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فإن التتار يتكلمون بالشهادتين، ومع هذا فقتالهم واجب بإجماع المسلمين، وكذلك كل طائفة ممتنعة عن شريعة واحدة من شرائع الإسلام الظاهرة، أو الباطنة المعلومة، فإنه يجب قتالها، فلو قالوا: نشهد ولا نصلي، قوتلوا حتى يصلوا، ولو قالوا: نصلي ولا نزكي قوتلوا حتى يزكوا... ولو قالوا: نفعل هذا، لكن لا ندع الربا، ولا شرب الخمر، ولا الفواحش ، ولا نجاهد في سبيل الله... قوتلوا حتى يفعلوا ذلك). [71]
وقال عن جهاد العدو الغازي إذا احتل أرض الإسلام وإن تظاهر بالإسلام، ومن لا يلتزمون شرائعه كما فعل التتار: (فهؤلاء الكفار المرتدون والداخلون فيه من غير التزام لشرائعه، والمرتدون عن شرائعه لا عن اسمه : كلهم يجب قتالهم بإجماع المسلمين حتى يلتزموا شرائع الإسلام، وحتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، وحتى تكون كلمة الله- التي هي كتابه وما فيه من أمره ونهيه وخبره- هي العليا، هذا إذا كانوا قاطنين في أرضهم، فكيف إذا استولوا على أراضي الإسلام: من العراق وخراسان والجزيرة والروم، فكيف إذا قصدوكم وصالوا عليكم بغيا وعدوانا ﴿أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ . قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ . وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾، واعلموا -أصلحكم الله- أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ثبت عنه من وجوه كثيرة أنه قال: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى قيام الساعة)، وثبت أنهم بالشام، فهذه الفتنة قد تفرق الناس فيها ثلاث فرق: الطائفة المنصورة وهم المجاهدون لهؤلاء القوم المفسدين، والطائفة المخالفة وهم هؤلاء القوم ومن تحيز إليهم من خبالة المنتسبين إلى الإسلام، والطائفة المخذلة وهم القاعدون عن جهادهم؛ وإن كانوا صحيحي الإسلام، فلينظر الرجل أيكون من الطائفة المنصورة أم من الخاذلة أم من المخالفة ؟ فما بقي قسم رابع).[72]
وقال عن جهاد من ظهر كفره وإن كان أميرا: (الدليل الرابع - على كفر من ترك الصلاة - إن هذا كله محمول على من يؤخرها عن وقتها وينوي قضاءها، أو يحدث به نفسه، كالأمراء الذين كانوا يؤخرون الصلاة حتى يخرج الوقت، وكما فسره ابن مسعود وبين إن تأخيرها عن وقتها من الكبائر، وإن تركها بالكلية كفر، وكذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالكف عن قتال هؤلاء الأئمة ما صلوا، فعلم إنهم لو تركوا الصلاة لقوتلوا، والإمام لا يجوز قتاله حتى يكفر، وإلا فبمجرد الفسق لا يجوز قتاله، ولو جاز قتاله بذلك لقوتل على تفويتها، كما يقاتل على تركها، وهذا دليل مستقل في المسألة).[73]
واشترط ابن تيمية لمشروعية الجهاد مع السلطة، أن يكون القتال نفسه جائزا، فإذا كان القتال ظلما فإنه يحرم القتال معها، حيث يقول عن مشروعية قتال الخوارج (اتفقت الصحابة على قتالهم ولا خلاف بين علماء السنة أنهم يقاتلون مع أئمة العدل مثل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، لكن هل يقاتلون مع أئمة الجور؟ فنقل عن مالك أنهم لا يقاتلون، وكذلك قال فيمن نقض العهد من أهل الذمة لا يقاتلون مع أئمة الجور، ونقل عنه أنه قال ذلك في الكفار، وهذا منقول عن مالك وبعض أصحابه، ونقل عنه خلاف ذلك وهو قول الجمهور وأكثر أصحابه خالفوه في ذلك، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد وقالوا يغزى مع كل أمير برا كان أو فاجرا إذا كان الغزو الذي يفعله جائزا، فإذا قاتل الكفار أو المرتدين أو ناقضي العهد أو الخوارج قتالا مشروعا؛ قوتل معه، وإن قاتل قتالا غير جائز؛ لم يقاتل معه، فيعاون على البر والتقوى ولا يعاون على الإثم والعدوان كما أن الرجل يسافر مع من يحج ويعتمر وإن كان في القافلة من هو ظالم فالظالم لا يجوز أن يعاون على الظلم لأن الله تعالى يقول: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}، وقال موسى {رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين}، وقال تعالى: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار}، وقال تعالى: {ومن يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها}، والشفيع المعين فكل من أعان شخصا على أمر فقد شفعه فيه، فلا يجوز أن يعان أحد لا ولي أمر، ولا غيره، على ما حرمه الله ورسوله...).[74]
وما زلنا مع ابن تيمية ومعركة الحرية؛ وللحديث بقية..


[1] أعيان العصر وأعوان النصر (2 / 163)

[2] الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية (1 / 19)

[3] الرد الوافر ص 63، تاريخ ابن الوردي (2 / 278)، والدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة (1 / 48)

[4] شذرات الذهب (6 / 83)

[5] الشهادة الزكية (1 / 79)

[6] مجموع الفتاوى (20/391)

[7] تاريخ الإسلام (48 / 80)

[8] أعيان العصر (1 / 50)

[9] البداية والنهاية (13 / 270)

[10] البداية والنهاية (13 / 275)

[11] السلوك لمعرفة دول الملوك (1 / 158)

[12] البداية والنهاية (14 / 23)

[13] النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة (2 / 424)

[14] البداية والنهاية (14 / 219)

[15] الوافي بالوفيات (2 / 328)

[16] أعيان العصر (1 / 346)

[17] النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة (3 / 69)

[18] عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان (1 / 395)

[19] البداية والنهاية (13 / 323)

[20] البداية والنهاية (13 / 374)

[21] البداية والنهاية (13 / 376)

[22] البداية والنهاية (13 / 395)

[23] مسالك الأبصار في ممالك الأمصار (5/701).

[24] البداية والنهاية (14 / 27)

[25] عقد الجمان (1 / 416 - 424)

[26] العقود الدرية (1 / 191)

[27] السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية - (1 / 11)

[28] السياسة الشرعية ص 176 – 177.

[29] إبطال التحليل (3/143)

[30] الاستذكار (3/190)

[31] المحلى (9/360)

[32] السياسة الشرعية (1 / 47)

[33] منهاج السنة النبوية (1 / 363 - 365)

[34] مجموع الفتاوى 6 /322

[35] مجموع الفتاوى - (28 / 146)

[36] الفتاوى (28 / 200)

[37] إعلام الموقعين - (1 / 50)

[38] إعلام الموقعين - (1 / 244)

[39] طريق الهجرتين (1 / 66)

[40] السياسة الشرعية (1 / 47)

[41] الفصل (4/130)

[42] الفتاوى (3/157)

[43] الفتاوى (4/108)

[44] الفتاوى(31/37)

[45] الفتاوى (24/209)

[46] الفتاوى (35/22)

[47] الفتاوى 32/347

[48] الفتاوى (28/493)

[49] الفتاوى (12/235)

[50] مجموع الفتاوى (35 / 20 - 27)

[51] جامع المسائل لابن تيمية (4 / 155)

[52] تفسيره 15/159

[53] السياسة الشرعية (1 / 12)

[54] السياسة الشرعية (1 / 17)

[55] السياسة الشرعية (1 / 25)

[56] السياسة الشرعية (1 / 24)

[57] السياسة الشرعية (1 / 29)

[58] السياسة الشرعية (1 / 29)

[59] السياسة الشرعية (1 / 37)

[60] السياسة الشرعية (1 / 47)

[61] السياسة الشرعية (1 / 47)

[62] السياسة الشرعية (1 / 74)

[63] السياسة الشرعية (1 / 66)

[64] السياسة الشرعية (1 / 87)

[65] السياسة الشرعية (1 / 66)

[66] السياسة الشرعية (1 / 74)

[67] السياسة الشرعية (1 / 87)

[68] الفتاوى الكبرى (5 / 539)

[69] السياسة الشرعية (1 / 105)

[70] السياسة الشرعية (1 / 159)

[71] مجموع الفتاوى - (22 / 51)

[72] مجموع الفتاوى - (28 / 416)

[73] شرح العمدة (4/85)

[74] منهاج السنة النبوية (6 / 70)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق