الخميس، 23 يونيو 2016

ابن تيمية ومعركة الحرية (7)

ابن تيمية ومعركة الحرية

(7)

الإصلاح السياسي والعمل الجماعي




(الشرع هو العدل، والعدل هو الشرع، ومن حكم بالعدل؛ فقد حكم بالشرع)

ابن تيمية

بقلم أ.د. حاكم المطيري
18 رمضان 1437هـ
23 يونيو 2016م

أدرك ابن تيمية مبكرا حاجة الأمة والسلطة في عصره للإصلاح السياسي الراشدي، واستطاع تحديد طبيعة الانحراف وملامحه، حيث يقول: (وعامة الأمراء إنما أحدثوا أنواعا من السياسات الجائرة؛ من أخذ أموال لا يجوز أخذها، وعقوبات على الجرائم لا تجوز؛ لأنهم فرطوا في المشروع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإلا فلو قبضوا ما يسوغ قبضه، ووضعوه حيث يسوغ وضعه، طالبين بذلك إقامة دين الله لا رياسة أنفسهم، وأقاموا الحدود المشروعة على الشريف والوضيع، والقريب والبعيد، متحرين في ترغيبهم وترهيبهم للعدل الذي شرعه الله-: لما احتاجوا إلى المكوس الموضوعة، ولا إلى العقوبات الجائرة، ولا إلى من يحفظهم من العبيد والمستعبدين، كما كان الخلفاء الراشدون، وعمر بن عبد العزيز وغيرهم من أمراء بعض الأقاليم...).[1]
كما أدرك أيضا بفكره الثاقب سبب هذا الانحراف، وهو شيوع الخلط بين الخطاب الشرعي المنزل الواجب الاتباع والالتزام سياسة وقضاءً، والمؤول الجائز الأخذ به؛ كمذاهب الفقهاء واجتهاداتهم بلا وجوب ما لم يعارض المنزل، والمبدل الذي يحرم العمل به مطلقا، حيث قال: (ولفظ "الشرع" يقال في عرف الناس على ثلاثة معان:
الأول: "الشرع المنزل": وهو ما جاء به الرسول، وهذا يجب اتباعه، ومن خالفه وجبت عقوبته.
والثاني: "الشرع المؤول": وهو آراء العلماء المجتهدين فيها، كمذهب مالك ونحوه، فهذا يسوغ اتباعه، ولا يجب ولا يحرم، وليس لأحد أن يلزم عموم الناس به، ولا يمنع عموم الناس منه.
والثالث: " الشرع المبدل ": وهو الكذب على الله ورسوله ، أو على الناس بشهادات الزور ونحوها، والظلم البين، فمن قال: إن هذا من شرع الله؛ فقد كفر بلا نزاع).[2]
وقال مبينا الفرق بين شرع الله الذي هو العدل والقسط، وما ينسب إلى الشرع ظلما وزورا: (قال تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز}، فبين سبحانه وتعالى أنه أنزل الكتاب وأنزل العدل، وما به يعرف العدل ليقوم الناس بالقسط، وأنزل الحديد، فمن خرج عن الكتاب والميزان قوتل بالحديد، فالكتاب والعدل متلازمان، والكتاب هو المبين للشرع؛فالشرع هو العدل، والعدل هو الشرع، ومن حكم بالعدل فقد حكم بالشرع، ولكن كثيرا من الناس ينسبون ما يقولونه إلى الشرع، وليس من الشرع؛ بل يقولون ذلك إما جهلا وإما غلطا وإما عمدا وافتراء وهذا هو الشرع المبدل الذي يستحق أصحابه العقوبة؛ ليس هو الشرع المنزل الذي جاء به جبريل من عند الله إلى خاتم المرسلين، فإن هذا الشرع المنزل كله عدل ليس فيه ظلم ولا جهل، قال تعالى: {وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين}، وقال تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله}، فالذي أنزل الله هو القسط، والقسط هو الذي أنزل الله، وقال تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل}، وقال تعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله } فالذي أراه الله في كتابه هو العدل).[3]
وقال أيضا عن خطورة نسبة الظلم والعدوان الذي يقع من السلطة إلى الشرع الذي جاء بالقسط، لتبرير الالتزام به وتنفيذه في باب الدعاوى والقضاء: (قد وقع فيه التفريط من بعض ولاة الأمور، والعدوان من بعضهم، ما أوجب الجهل بالحق، والظلم للخلق، وصار لفظ "الشرع " غير مطابق لمسماه الأصلي؛ بل لفظ الشرع في هذه الأزمنة، ثلاثة أقسام؛ أحدها: "الشرع المنزل" وهو الكتاب والسنة، واتباعه واجب، من خرج عنه وجب قتله، ويدخل فيه أصول الدين وفروعه؛ وسياسة الأمراء وولاة المال، وحكم الحكام، ومشيخة الشيوخ وغير ذلك، فليس لأحد من الأولين والآخرين خروج عن طاعة الله ورسوله.
والثاني: "الشرع المؤول": وهو موارد النزاع والاجتهاد بين الأمة، فمن أخذ فيما يسوغ فيه الاجتهاد أقر عليه، ولم تجب على جميع الخلق موافقته إلا بحجة لا مرد لها من الكتاب والسنة.
والثالث: "الشرع المبدل": مثل ما يثبت من شهادات الزور، أو يحكم فيه بالجهل والظلم بغير العدل والحق حكما بغير ما أنزل الله، أو يؤمر فيه بإقرار باطل لإضاعة حق).[4]
 ضرورة مشروعية تصرفات السلطة لنصرتها وتنفيذ أمرها 
ولتحقيق الغاية من السلطة وهو إقامة حكم الله والعدل الذي أمر الله به: اشترط العلم والعدالة فيمن تصدى للولاية، خليفة كان أو أميرا أو قاضيا؛ ولهذا وقع الخلاف في ولاية الفاسق والجاهل هل لهما طاعة أم لا، فقال ابن تيمية: (الناس قد تنازعوا في ولي الأمر الفاسق والجاهل: هل يطاع فيما يأمر به من طاعة الله، وينفَّد حكمه وقسمه إذا وافق العدل؟ أو لا يطاع في شيء، ولا ينفذ شيء من حكمه وقسمه؟ أو يفرَّق في ذلك بين الإمام الأعظم وبين القاضي ونحوه من الفروع؟ على ثلاثة أقوال، أضعفها عند أهل السنة هو رد جميع أمره وحكمه وقسمه، وأصحها عند أهل الحديث وأئمة الفقهاء هو القول الأول، وهو أن يطاع في طاعة الله مطلقا، وينفذ حكمه وقسمه إذا كان فعله عدلا مطلقا، والقول الثالث: هو الفرق بين الإمام الأعظم وبين غيره، لأن ذلك لا يمكن عزله إذا فسق إلا بقتال وفتنة، بخلاف الحاكم ونحوه، فإنه يمكن عزله بدون ذلك، وهذا فرق ضعيف، فإن الحاكم إذا ولاَّه ذو الشوكة لم يمكن عزله إلا بفتنة، ومتى كان السعي في عزله مفسدة أعظم من مفسدة بقائه، لم يجز الإتيان بأعظم الفسادين لدفع أدناهما، وكذلك الإمام الأعظم، ولهذا كان المشهور من مذهب أهل السنة أنهم لا يرون الخروج على الأئمة وقتالهم بالسيف وإن كان فيهم ظلم).[5]
وقال أيضا في وجوب طاعة السلطة وإعانتها في الحكم بالعدل والقسم بالعدل: (ويستعان بهم أيضا في العدل في الحكم والقسم، فإنه لا يمكن عاقل أن ينازع في أنهم كثيرا ما يعدلون في حكمهم وقسمهم، ويعاونون على البر والتقوى، ولا يعاونون على الإثم والعدوان، وللناس نزاع في تفاصيل تتعلق بهذه الجملة ليس هذا موضعها، مثل إنفاذ حكم الحاكم الفاسق إذا كان الحكم عدلا، ومثل الصلاة خلف الفاسق هل تعاد أم لا؟ والصواب الجامع في هذا الباب: أن من حكم بعدل، أو قسم بعدل، نفذ حكمه وقسمه، ومن أمر بمعروف أو نهى عن منكر أعين على ذلك، إذا لم يكن في ذلك مفسدة راجحة، وأنه لا بد من إقامة الجمعة والجماعة... وإذا لم يمكن صلاة الجمعة والجماعة وغيرهما إلا خلف الفاجر والمبتدع صليت خلفه ولم تعد...).[6]
فهنا يجعل ابن تيمية مناط الأمر كله وقاعدته في طاعة السلطة الجائرة والجاهلة هو: إصابتها للحق، وحكمها بالعدل، وتحقق المصلحة الراجحة، إذا لم تستطع الأمة عزلها بلا مفسدة أكبر، فإن أمكن ذلك؛ فلا خلاف على وجوب عزلها، إذ الحكم يدور عنده مع علته وجودا وعدما، وهذا كله عنده في السلطة المشروعة ابتداءً، في ظل دولة الإسلام ونظامه السياسي وهو الخلافة، التي عاش ابن تيمية عصر إحيائها من جديد، وقيامها في القاهرة بعد سقوطها في بغداد، وقد شارك بنفسه في الجهاد تحت راية الخليفة العباسي الحاكم بأمر الله وابنه المستكفي، وكل سلطان مفوض منهما، كالظاهر بيبرس والسلطان قلاوون، حتى السلطان محمد بن قلاوون الذي توفي ابن تيمية في عهده، وكان ابن تيمية يرى أنها السلطة الشرعية الوحيدة التي يجب طاعتها في الأرض كلها، وهي الدولة الوحيدة التي تقوم بالإسلام وأحكامه، حيث يقول : (وقد جاء في حديث آخر في صفة الطائفة المنصورة "أنهم بأكناف البيت المقدس"، وهذه الطائفة هي التي بأكناف البيت المقدس اليوم، ومن يتدبر أحوال العالم في هذا الوقت يعلم أن هذه الطائفة هي أقوم الطوائف بدين الإسلام: علما وعملا وجهادا عن شرق الأرض وغربها؛ فإنهم هم الذين يقاتلون أهل الشوكة العظيمة من المشركين وأهل الكتاب، ومغازيهم مع النصارى ومع المشركين من الترك [المغول]، ومع الزنادقة المنافقين من الداخلين في الرافضة وغيرهم، كالإسماعيلية ونحوهم من القرامطة، معروفة معلومة قديما وحديثا، والعز الذي للمسلمين بمشارق الأرض ومغاربها هو بعزهم، ولهذا لما هزموا سنة تسع وتسعين وستمائة، دخل على أهل الإسلام من الذل والمصيبة بمشارق الأرض ومغاربها ما لا يعلمه إلا الله، والحكايات في ذلك كثيرة ليس هذا موضعها، وذلك أن سكان اليمن في هذا الوقت ضعاف عاجزون عن الجهاد أو مضيعون له؛ وهم مطيعون لمن ملك هذه البلاد، حتى ذكروا أنهم أرسلوا بالسمع والطاعة لهؤلاء وملك المشركين [المغول]، لما جاء إلى حلب وجرى بها من القتل ما جرى، وأما سكان الحجاز فأكثرهم أو كثير منهم خارجون عن الشريعة، وفيهم من البدع والضلال والفجور ما لا يعلمه إلا الله، وأهل الإيمان والدين فيهم مستضعفون عاجزون؛ وإنما تكون القوة والعزة في هذا الوقت لغير أهل الإسلام بهذه البلاد، فلو ذلت هذه الطائفة - والعياذ بالله تعالى - لكان المؤمنون بالحجاز من أذل الناس؛ لا سيما وقد غلب فيهم الرفض، وملك هؤلاء التتار المحاربين لله ورسوله الآن مترفض، فلو غلبوا لفسد الحجاز بالكلية، وأما بلاد إفريقية فأعرابها غالبون عليها وهم من شر الخلق؛ بل هم مستحقون للجهاد والغزو، وأما المغرب الأقصى فمع استيلاء الإفرنج على أكثر بلادهم لا يقومون بجهاد النصارى هناك؛ بل في عسكرهم من النصارى الذين يحملون الصلبان خلق عظيم، ولو استولى التتار على هذه البلاد لكان أهل المغرب معهم من أذل الناس، لا سيما والنصارى تدخل مع التتار فيصيرون حزبا على أهل المغرب، فهذا وغيره مما يبين أن هذه العصابة التي بالشام ومصر في هذا الوقت، هم كتيبة الإسلام، وعزهم عز الإسلام، وذلهم ذل الإسلام، فلو استولى عليهم التتار لم يبق للإسلام عز ولا كلمة عالية، ولا طائفة ظاهرة عالية، يخافها أهل الأرض تقاتل منه، فمن قفز عنهم إلى التتار كان أحق بالقتال من كثير من التتار؛ فإن التتار فيهم المكره وغير المكره، وقد استقرت السنة بأن عقوبة المرتد أعظم من عقوبة الكافر الأصلي من وجوه متعددة..).[7]
فلم ير ابن تيمية شرعية لدولة التتار المغولية التي تظاهرت بالإسلام في عصره، كما فعل محمود غازان؛ بل كان يرى وجوب جهادها وجهاد من يواليها، ولم ير لهم شرعية ولا طاعة للسلطة التي حكموا بها المشرق الإسلامي كله من تركستان إلى العراق؛ مما يؤكد بأن ابن تيمية لا يعترف بالسمع والطاعة لكل سلطة تظاهرت بالإسلام، بل لا يرى شرعية لأي سلطة لا تلتزم بأحكامه كلها، فإن تركت بعضه وجب على الأمة جهادها كما في الطائفة الممتنعة؛ ولهذا رأى بأن أحاديث الصبر على الأئمة وعدم قتالهم إنما هو في شأن خلفاء دولة الإسلام وأمرائهم، الذين يقيمون أحكامه، ويلتزمون شرائعه كلها، وإن وقع منهم فسق وجور، وما لم يبلغ ما يقع منهم حد كفرهم، كتأخير وقت الصلاة ونحو ذلك من الفسق، أما تركها فهو موجب عنده لقتالهم، حيث يقول: (...الدليل الرابع -على كفر من ترك الصلاة- إن هذا كله محمول على من يؤخرها عن وقتها وينوي قضاءها، أو يحدث به نفسه، كالأمراء الذين كانوا يؤخرون الصلاة حتى يخرج الوقت، وكما فسره ابن مسعود وبين إن تأخيرها عن وقتها من الكبائر، وإن تركها بالكلية كفر، وكذلك أمر النبي  بالكف عن قتال هؤلاء الأئمة ما صلوا، فعلم إنهم لو تركوا الصلاة لقوتلوا، والإمام لا يجوز قتاله حتى يكفر، وإلا فبمجرد الفسق لا يجوز قتاله، ولو جاز قتاله بذلك لقوتل على تفويتها، كما يقاتل على تركها، وهذا دليل مستقل في المسألة).[8]
ومن هنا يحمل ابن تيمية النصوص المطلقة الواردة في عدم قتال الأمراء الذين يفعلون بعض المنكر، كحديث: (ألا نقاتلهم؟ قال : لا ما صلوا)، على النصوص الأخرى المقيدة، ويرى ذلك في نحو تأخيرهم الصلوات عن وقتها المندوب لا في مطلق كل منكر، ولا أنهم لا يقاتلون مهما تركوا من الشرائع ما داموا يصلون، حيث يقول: (وقد ثبت في الصحيح عن النبي  أنه ذكر الأمراء بعده الذين يفعلون ما ينكر؛ وقالوا: يا رسول الله أفلا نقاتلهم، قال: "لا ما صلوا"، وثبت عنه أنه قال: "سيكون أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها فصلوا الصلاة لوقتها ثم اجعلوا صلاتكم معهم نافلة"، فنهى عن قتالهم إذا صلوا، وكان في ذلك دلالة على أنهم إذا لم يصلوا قوتلوا، وبين أنهم يؤخرون الصلاة عن وقتها، وذلك ترك المحافظة عليها لا تركها، وإذا عرف الفرق بين الأمرين، فالنبي  إنما أدخل تحت المشيئة من لم يحافظ عليها لا من ترك، ونفس المحافظة يقتضي أنهم صلوا، ولم يحافظوا عليها، ولا يتناول من لم يحافظ، فإنه لو تناول ذلك قتلوا كفارا مرتدين بلا ريب).[9]
وقال أيضا مقيدا حديث: (لا ما صلوا) في شأن الأمراء الذين يؤخرون الصلوات عن بعض وقتها، لا في كل منكر فعلوه: (وقد ثبت عن النبي  أنه قال في الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها "صلوا الصلاة لوقتها واجعلوا صلاتكم معهم نافلة"، وهم إنما كانوا يؤخرون الظهر إلى وقت العصر، والعصر إلى وقت الاصفرار، وذلك مما هم مذمومون عليه، ولكن ليسوا كمن تركها أو فوتها حتى غابت الشمس، فإن هؤلاء أمر النبي  بقتالهم، ونهى عن قتال أولئك، فإنه لما ذكر أنه سيكون أمراء ويفعلون قالوا أفلا نقاتلهم قال "لا ما صلوا"، وقد أخبر عن هذه الصلاة التي يؤخرونها وأمر أن تصلى في الوقت وتعاد معهم نافلة، فدل على صحة صلاتهم ولو كانوا لم يصلوا لأمر بقتالهم).[10]
فهو يحمل حديث: (لا ما صلوا)، على أحاديث الأمراء الذين يؤخرون الصلوات عن بعض وقتها، فلا يحل قتالهم بمثل هذا المنكر في شأن الصلاة، ما داموا لم يتركوا الصلاة نفسها، فهنا يجب قتالهم، أما في غير شأن الصلاة؛ فكل كفر يخرج من الإسلام يوجب عنده قتال السلطة، كما في الطائفة الممتنعة؛ فهو يرى مجرد الامتناع بالقوة عن الالتزام بأحكام الإسلام كاف في الحكم بالردة، ووجوب قتال الممتنع، دون نظر للاعتقاد الباطني القلبي، ودون نظر هل صدر الفعل من فرد أو سلطة، حيث يقول: (فإن الله يقول في القرآن: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} والدين هو الطاعة، فإذا كان بعض الدين لله، وبعضه لغير الله، وجب القتال حتى يكون الدين كله لله، ولهذا قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ . فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْب مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ وهذه الآية نزلت في أهل الطائف لما دخلوا في الإسلام والتزموا الصلاة والصيام، لكن امتنعوا من ترك الربا فبين الله أنهم محاربون له ولرسوله إذا لم ينتهوا عن الربا، والربا هو آخر ما حرمه الله، وهو مال يؤخذ برضا صاحبه، فإذا كان هؤلاء محاربين لله ورسوله يجب جهادهم، فكيف بمن يترك كثيرا من شرائع الإسلام أو أكثرها كالتتاروقد اتفق علماء المسلمين على أن الطائفة الممتنعة إذا امتنعت عن بعض واجبات الإسلام الظاهرة المتواترة، فإنه يجب قتالها إذا تكلموا بالشهادتين، وامتنعوا عن الصلاة، والزكاة، أو صيام شهر رمضان، أو حج البيت العتيق، أو عن الحكم بينهم بالكتاب والسنة، أو عن تحريم الفواحش، أو الخمر... فإنهم يقاتلون عليها حتى يكون الدين كله لله).[11]
وقال أيضا: (وأما التحاكم إلى غير كتاب الله فقد قال: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾، والطاغوت فعلوت من الطغيان، والطغيان مجاوزة الحد وهو الظلم والبغي، فالمعبود من دون الله إذا لم يكن كارها لذلك طاغوت... والمطاع في معصية الله، والمطاع في اتباع غير الهدى ودين الحق، سواء كان مقبولا خبره المخالف لكتاب الله، أو مطاعا أمره المخالف لأمر الله، هو طاغوت، ولهذا سمى من تحوكم إليه من حاكم بغير كتاب الله طاغوت، وسمى الله فرعون وعادا طغاة).[12]
وقال في شأن التتار مع تظاهرهم بالإسلام دون التزام منهم بالأحكام: (فإن التتار يتكلمون بالشهادتين، ومع هذا فقتالهم واجب بإجماع المسلمين، وكذلك كل طائفة ممتنعة عن شريعة واحدة من شرائع الإسلام الظاهرة، أو الباطنة المعلومة؛ فإنه يجب قتالها، فلو قالوا: نشهد ولا نصلي؛ قوتلوا حتى يصلوا، ولو قالوا: نصلي ولا نزكي؛ قوتلوا حتى يزكوا... ولو قالوا: نفعل هذا، لكن لا ندع الربا، ولا شرب الخمر، ولا الفواحش، ولا نجاهد في سبيل الله... قوتلوا حتى يفعلوا ذلك).[13]
وكذا قال تلميذه ابن كثير في شأن الياسق: (من خرج عن حكم الله المُحْكَم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات، التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات، مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكزخان، الذي وضع لهم الياسق، وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها عن شرائع شتى، من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعًا متبعًا، يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله ، ومن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله، حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله ، فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير).[14]
موقف ابن تيمية من الدولة العبيدية ومشرعية السلطة:
ومما يؤكد عدم اعتراف ابن تيمية بشرعية السلطة وعدم وجوب الطاعة لكل سلطان إلا ما كان في دولة الإسلام وفي ظل التزامها بإقامة الشرائع والأحكام؛ موقفه من الدولة الباطنية العبيدية في مصر، وحكمه على دولة المغول بعد تظاهرهم بالإسلام بالكفر، حيث يقول عن الباطنية ودولهم: (ولهم في معاداة الإسلام وأهله وقائع مشهورة وكتب مصنفة، فإذا كانت لهم مكنة سفكوا دماء المسلمين؛ كما قتلوا مرة الحجاج وألقوهم في بئر زمزم، وأخذوا مرة الحجر الأسود وبقي عندهم مدة، وقتلوا من علماء المسلمين ومشايخهم ما لا يحصي عدده إلا الله تعالى، وصنفوا كتبا كثيرة مما ذكره السائل وغيره، وصنف علماء المسلمين كتبا في كشف أسرارهم وهتك أستارهم؛ وبينوا فيها ما هم عليه من الكفر والزندقة والإلحاد، الذي هم به أكفر من اليهود والنصارى، ومن براهمة الهند الذين يعبدون الأصنام، وما ذكره السائل في وصفهم قليل من الكثير الذي يعرفه العلماء في وصفهم، ومن المعلوم عندنا أن السواحل الشامية إنما استولى عليها النصارى من جهتهم، وهم دائما مع كل عدو للمسلمين؛ فهم مع النصارى على المسلمين، ومن أعظم المصائب عندهم فتح المسلمين للسواحل، وانقهار النصارى؛ بل ومن أعظم المصائب عندهم انتصار المسلمين على التتار، ومن أعظم أعيادهم إذا استولى -والعياذ بالله تعالى- النصارى على ثغور المسلمين، فإن ثغور المسلمين ما زالت بأيدي المسلمين، حتى جزيرة قبرص يسر الله فتحها عن قريب، وفتحها المسلمون في خلافة أمير المؤمنين "عثمان بن عفان" رضي الله عنه، فتحها "معاوية بن أبي سفيان" إلى أثناء المائة الرابعة، فهؤلاء المحادون لله ورسوله كثروا حينئذ بالسواحل وغيرها فاستولى النصارى على الساحل؛ ثم بسببهم استولوا على القدس الشريف وغيره؛ فإن أحوالهم كانت من أعظم الأسباب في ذلك؛ ثم لما أقام الله ملوك المسلمين المجاهدين في سبيل الله تعالى "كنور الدين الشهيد"، "وصلاح الدين" وأتباعهما؛ وفتحوا السواحل من النصارى، وممن كان بها منهم، وفتحوا أيضا أرض مصر؛ فإنهم كانوا مستولين عليها نحو مائتي سنة، واتفقوا هم والنصارى، فجاهدهم المسلمون حتى فتحوا البلاد، ومن ذلك التاريخ انتشرت دعوة الإسلام بالديار المصرية والشامية، ثم إن التتار ما دخلوا بلاد الإسلام وقتلوا خليفة بغداد وغيره من ملوك المسلمين إلا بمعاونتهم ومؤازرتهم؛ فإن منجّم هولاكو الذي كان وزيرهم وهو"النصير الطوسي" كان وزيرا لهم بالألموت، وهو الذي أمر بقتل الخليفة وبولاية هؤلاء).[15]
فهو يعد ما قام به نور الدين زنكي وصلاح الدين فتحا لمصر بعد خروجها عن خلافة الإسلام مائتي عام!
وكذا كان يرى ابن تيمية السلطان الناصر محمد بن قلاوون مجاهدا فاتحا ومجددا، حيث يقول في رسالته إليه بعد فتح جبل كسروان: (بسم الله الرحمن الرحيم من الداعي أحمد ابن تيمية إلى سلطان المسلمين، ومن أيد الله في دولته الدين، وأعز بها عباده المؤمنين، وقمع فيها الكفار والمنافقين، والخوارج المارقين، نصره الله ونصر به الإسلام، وأصلح له وبه أمور الخاص والعام، وأحيا به معالم الإيمان، وأقام به شرائع القرآن، وأذل به أهل الكفر والفسوق والعصيان:
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير، ونسأله أن يصلي على خاتم النبيين وإمام المتقين محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما، أما بعد: فقد صدق الله وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، وأنعم الله على السلطان وعلى المؤمنين في دولته نعما لم تعهد في القرون الخالية، وجدد الإسلام في أيامه تجديدا بانت فضيلته على الدول الماضية، وتحقق في ولايته خبر الصادق المصدوق أفضل الأولين والآخرين، الذي أخبر فيه عن تجديد الدين في رءوس المئين، والله تعالى يوزعه والمسلمين شكر هذه النعم العظيمة في الدنيا والدين، ويتمها بتمام النصر على سائر الأعداء المارقين، وذلك : أن السلطان -أتم الله نعمته- حصل للأمة بيمن ولايته، وحسن نيته، وصحة إسلامه وعقيدته، وبركة إيمانه ومعرفته، وفضل همته وشجاعته، وثمرة تعظيمه للدين وشرعته، ونتيجة اتباعه كتاب الله وحكمته: ما هو شبيه بما كان يجري في أيام الخلفاء الراشدين، وما كان يقصده أكابر الأئمة العادلين: من جهاد أعداء الله المارقين من الدين وهم صنفان: أهل الفجور والطغيان، وذوو الغي والعدوان، الخارجون عن شرائع الإيمان، طلبا للعلو في الأرض والفساد، وتركا لسبيل الهدى والرشاد، وهؤلاء هم التتار ونحوهم من كل خارج عن شرائع الإسلام، وإن تمسك بالشهادتين، أو ببعض سياسة الإسلام.
والصنف الثاني: أهل البدع المارقون، وذوو الضلال المنافقون، الخارجون عن السنة والجماعة، المفارقون للشرعة والطاعة، مثل هؤلاء الذين غزوا بأمر السلطان من أهل الجبل والجرد والكسروان، فإن ما من الله به من الفتح والنصر على هؤلاء الطغام، هو من عزائم الأمور التي أنعم الله بها على السلطان وأهل الإسلام، وذلك: أن هؤلاء وجنسهم من أكابر المفسدين في أمر الدنيا والدين... ولهذا السبب يقدمون الفرنج والتتار على أهل القرآن والإيمان، ولما قدم التتار إلى البلاد فعلوا بعسكر المسلمين ما لا يحصى من الفساد، وأرسلوا إلى أهل قبرص فملكوا بعض الساحل، وحملوا راية الصليب، وحملوا إلى قبرص من خيل المسلمين وسلاحهم وأسراهم ما لا يحصي عدده إلا الله، وأقيم سوقهم بالساحل عشرين يوما يبيعون فيه المسلمين والخيل والسلاح على أهل قبرص، وفرحوا بمجيء التتار هم وسائر أهل هذا المذهب الملعون مثل أهل جزين وما حواليها، وجبل عامل ونواحيه، ولما خرجت العساكر الإسلامية من الديار المصرية ظهر فيهم من الخزي والنكال ما عرفه الناس منهم، ولما نصر الله الإسلام النصرة العظمى عند قدوم السلطان كان بينهم شبيه بالعزاء، كل هذا وأعظم منه عند هذه الطائفة التي كانت من أعظم الأسباب في خروج جنكيسخان إلى بلاد الإسلام، وفي استيلاء هولاكو على بغداد، وفي قدومه إلى حلب وفي نهب الصالحية، وفي غير ذلك من أنواع العداوة للإسلام وأهله، لأن عندهم أن كل من لم يوافقهم على ضلالهم فهو كافر مرتد...).[16]



القتال مع السلطة لمن خرجوا عليها
ولهذا السبب -وهو جعل ابن تيمية قطب مشروعية السلطة التزامها بالشرع الذي هو أيضا العدل والقسط- لم ير وجوب قتال البغاة الذين يخرجون على السلطة بتأويل، حتى وإن كانت سلطة شرعية عادلة، فالقتال معها جائز عنده لا واجب، وإنما القتال الواجب عنده هو قتال من خرجوا عن الشريعة والعدل، وقد أشار إلى هذا الخلط الذي وقع فيه الفقهاء المتأخرون، عندما خلطوا بين قتال الخوارج، وقتال البغاة، وقتال أهل التأويل، وعاب عليهم هذا الخلط فقال: (أما جمهور أهل العلم فيفرقون بين الخوارج وبين أهل الجمل وصفين، وغيرهم ممن يعد من البغاة المتأولين، وهذا هو المعروف عن الصحابة، وعليه عامة أهل الحديث والفقهاء والمتكلمين، وعليه نصوص أكثر الأئمة وأتباعهم من أصحاب مالك وأحمد والشافعي وغيرهم).[17]
وقال أيضًا: (المصنفون في الأحكام يذكرون قتال البغاة والخوارج جميعا، وليس عن النبي  في قتال البغاة حديث إلا حديث كوثر بن حكيم عن نافع، وهو موضوع، وأما كتب الحديث المصنفة مثل صحيح البخاري، والسنن فليس فيها إلا قتال أهل الردة والخوارج، وهم أهل الأهواء... وهذا هو الأصل الثابت بكتاب الله وسنة رسوله، وهو الفرق بين القتال لمن خرج عن الشريعة والسنة، فهذا الذي أمر به النبي ، وأما القتال لمن لم يخرج إلا عن طاعة إمام معين؛ فليس في النصوص أمر بذلك).[18]
ثم ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية ما وقع فيه هؤلاء الفقهاء من محظورات بسبب هذا الخلط ومن ذلك:
1- قتالهم من خرج عن طاعة ملك معين، وإن كان هذا الخارج مثله أو قريبا منه في اتباعه للشريعة والسنة!
2-  تسويتهم بين الخارجين عن طاعة ملك معين، وبين الخارجين عن بعض شرائع الإسلام!
3- تسويتهم بين هؤلاء، وبين الخوارج الذين يخرجون على الأمة، ويستحلون دماءها وأموالها![19]
ثم نعى عليهم بسبب هذا الخلط بين تلك الصور على اختلاف أحكامها عند السلف والأئمة فقال: (تجد تلك الطائفة [من الفقهاء المتأخرين] يدخلون في كثير من أهواء الملوك وولاة الأمور، ويأمرون بالقتال معهم لأعدائهم؛ بناءً على أنهم أهل العدل وأولئك البغاة، وهم في ذلك بمنـزلة المتعصبين لبعض أئمة العلم على نظرائهم، مدعين أن الحق معهم، أو أنهم أرجح بهوى قد يكون فيه تأويل بتقصير لا بالاجتهاد).[20]
ولوضوح هذا الأصل عند ابن تيمية -وهو ضرورة مشروعية تصرفات السلطة لنصرتها وتنفيذ أمرها- نص على عدم جواز قتال من خرجوا على الإمام -حتى وإن كان عادلا- إذا وقع عليهم ظلم حتى يرفع عنهم الجور، سواء كانوا مسلمين أو أهل ذمة، واشترط لجواز القتال مع السلطة أن يكون القتال ذاته مشروعا، فقال في شأن قتال الخوارج: (وأهل السنة ولله الحمد متفقون على أنهم مبتدعة ضالون، وأنه يجب قتالهم بالنصوص الصحيحة، وأن أمير المؤمنين عليا رضي الله عنه كان من أفضل أعماله قتاله الخوارج، وقد اتفقت الصحابة على قتالهم، ولا خلاف بين علماء السنة أنهم يقاتلون مع أئمة العدل مثل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، لكن هل يقاتلون مع أئمة الجور فنقل عن مالك أنهم لا يقاتلون، وكذلك قال فيمن نقض العهد من أهل الذمة: لا يقاتلون مع أئمة الجور، ونقل عنه أنه قال ذلك في الكفار، وهذا منقول عن مالك وبعض أصحابه، ونقل عنه خلاف ذلك، وهو قول الجمهور وأكثر أصحابه خالفوه في ذلك، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد وقالوا: يغزى مع كل أمير برا كان أو فاجرا إذا كان الغزو الذي يفعله جائزا فإذا قاتل الكفار أو المرتدين أو ناقضي العهد أو الخوارج قتالا مشروعا؛ قوتل معه، وإن قاتل قتالا غير جائز؛ لم يقاتل معه، فيعاون على البر والتقوى ولا يعاون على الإثم والعدوان).[21]
فهنا يقرر ابن تيمية بأن أهل الذمة إذا خرجوا على السلطة الظالمة؛ فإنه لا ينتقض عهدهم، ولا يحل قتالهم مع الإمام الجائر إن كانوا مظلومين حتى يرفع الظلم عنهم.
وقال أيضا في تحريم الظلم مطلقا حتى مع الظالم، ووجوب العدل مطلقا مع كل أحد، وعاب على الفقهاء وأهل الدين الدخول في أهواء الأمراء بدعوى السمع والطاعة، أو بدعوى أن من خرج عليهم بغاة: (الإحسان واجب حتى في القتل المستحق، بإحسان القتلة والذبحة، ومعلوم أن الظلم الذي يستحق به العقوبة -سواء كان في حق الله أو حقوق عباده- لا يخرج عن ظلم في الدين، وظلم في الدنيا، وقد يجتمعان، فالأول: كالكفر والبدع، والثاني: كالاعتداء على النفوس والأموال والأعراض... ولا يجوز أن يعاقب هذا الظالم، ولا هذا الظالم إلا بالعدل بالقسط، لا يجوز ظلمه، فهذا موضع يجب النظر فيه، والعمل بالحق، فإن كثيرا من أهل العلم والدين والزهد والورع والإمارة والسياسة والعامة وغيرهم، إما في نظرائهم أو غير نظرائهم من نوع الظلم والسيئات، إما بدعة، وإما فجور، وإما مركب منهما، فأخذوا يعاقبونهم بغير القسط، إما في أعراضهم، وإما في حقوقهم، وإما في دمائهم وأموالهم، وإما في غير ذلك، مثل أن ينكروا لهم حقا واجبا، أو يعتدوا عليهم بفعل محرم، مع أن الفاعلين لذلك متأولون، معتقدون أن عملهم هذا عمل صالح، وأنهم مثابون على ذلك، ويتعلقون بباب قتال أهل العدل والبغي، وهم الخارجون بتأويل سائغ، فقد تكون الطائفتان جميعا باغيتين بتأويل أو بغير تأويل، فتدبر هذا الموضع، ففيه يدخل جمهور الفتن الواقعة بين الأمة، كما قال تعالى: {وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم}، فأخبر أن التفرق بينهم كان بغيا، والبغي: الظلم.
وهكذا التفرق الموجود في هذه الأمة، مثل الفتن الواقعة بينها في المذاهب والاعتقادات والطرائق والعبادات والممالك والسياسات والأموال، فإنما تفرقوا بغيا بينهم من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم، والباغي قد يكون متأولا وقد لا يكون متأولا، فأهل الصلاح منهم هم المتأولون في بغيهم، وذلك يوجب عذرهم لا اتباعهم.
فتدبر العدل والبغي، واعلم أن عامة الفساد من جهة البغي، ولو كان كل باغ يعلم أنه باغ لهانت القضية، بل كثير منهم أو أكثرهم لا يعلمون أنهم بغاة، بل يعتقدون أن العدل منهم، أو يعرضون عن تصور بغيهم، ولولا هذا لم تكن البغاة متاولين، بل كانوا ظلمة ظلما صريحا، وهم البغاة الذين لا تأويل معهم.
وهذا القدر من البغي بتأويل، وأحيانا بغير تأويل، يقع فيه الأكابر من أهل العلم، ومن أهل الدين، فإنهم ليسوا أفضل من السابقين الأولين، ولما وقعت الفتنة الكبرى كانوا فيها ثلاثة أحزاب، قوم يقاتلون مع أولى الطائفتين بالحق، وقوم يقاتلون مع الأخرى، وقوم قعدوا اتباعا لما جاء من النصوص في الإمساك في الفتنة.
والفتن التي يقع فيها التهاجر والتباغض والتطاعن والتلاعن ونحو ذلك هي فتن، وإن لم تبلغ السيف، وكل ذلك تفرق بغيا، فعليك بالعدل والاعتدال والاقتصاد في جميع الأمور، ومتابعة الكتاب والسنة، ورد ما تنازعت فيه الأمة إلى الله والرسول، وإن كان المتنازعون أهل فضائل عظيمة ومقامات كريمة).[22]
ولهذا لم يعد ابن تيمية مسألة الخروج على الإمام الجائر من أصول أهل السنة التي أجمعوا عليها، بل راعى فيها الخلاف المشهور بينهم؛ فلم يذكرها في العقيدة الواسطية التي جمع فيها أصول أهل السنة، مراعاة لخلاف مالك وأبي حنيفة، وداود الظاهري، وقد قرر بأن المنع من الخروج على الإمام إذا وقع منه ظلم هو القول المشهور عند أهل السنة، لا المتفق عليه بينهم، فيقول: (كذلك الإمام الأعظم، ولهذا كان المشهور من مذهب أهل السنة أنهم لا يرون الخروج على الأئمة وقتالهم بالسيف وإن كان فيهم ظلم).[23]
كما لم يستدرك على ابن حزم في نقد مراتب الإجماع قوله: (واتفقوا في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقلوب، واختلفوا في وجوبه بالأيدي والسلاح).[24]
وذلك لشهرة الخلاف فيه بين الصحابة ومن بعدهم.
وقوله هنا: (الأئمة وإن كان فيهم ظلم) قيد يخرج منه من لم تثبت إمامتهم وولايتهم شرعا أو واقعا، فالأئمة عنده هم الخلفاء والأمراء في دولة الإسلام، لا كل سلطان كجنكيز خان وهولاكو وغازان ونحوهم ممن حكموا أرض الإسلام، وكذا لا إمامة لمن لا سلطان له فعلي على أرض الإسلام، حتى وإن كان من أصلح الأئمة، وكذا لا إمامة لمن كان مسلما وترك فرضا من فرائض الإسلام وشرائعه، بل يجب عند ابن تيمية قتاله وجهاده، لا إثبات ولايته وطاعته.
وفي قوله: (وإن كان فيه ظلم) قيد يخرج من تجاوز ذلك إلى كفر بواح بتعطيل بعض أحكام الإسلام وشرائعه، وهي العبارة التي كان ينص عليها أئمة أهل السنة في شأن أئمتهم الذين ثبتت صحة ولايتهم، ووقع منهم شيء من الظلم والجور، لا أئمة الجور الذين لم تثبت لهم الخلافة والإمامة أصلا بوجه شرعي؛ فهؤلاء اختلف فيهم قول أهل السنة فالمشهور عن أبي حنيفة عدم شرعية ولايتهم، وكذا قال مالك حيث يرى : (أن الإمام لا يكون إماما أبدا إلا على شرط أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، فإنه قال: وليتكم ولست بخيركم، ألا وإن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ له بحقه، ألا وإن أضعفكم عندي القوي حتى آخذ منه الحق، إنما أنا متبع ولست بمبتدع، فإن أحسنت فأعينوني، وإن زغت فقوموني).[25]
وقول الإمام مالك هنا يفسر مذهبه المشهور عنه في عدم اعترافه ببيعة أئمة الجور، كأبي جعفر المنصور، وبيعة كل من أخذها بالقوة، وما أفتى به أنه لا بيعة لهم مع الإكراه، وما دعا الناس إليه للخروج مع محمد بن الحسن ذو النفس الزكية وأخيه إبراهيم، سنة 145هـ، على أبي جعفر المنصور العباسي، وكان قد خرج في المدينة، فاستفتى أهلها مالك بن أنس في الخروج معه، مع أنهم سبق لهم أن بايعوا أبا جعفر المنصور؛ فقال مالك: (إنما بايعتم مكرهين، وليس على مكره يمين، فأسرع الناس إلى محمد، ولزم مالك بيته).[26]
وكان إذا سئل عن القتال مع الخلفاء ضد من خرج عليهم يقول: (إن كان الخليفة كعمر بن عبد العزيز فقاتل معه، وإن كان كمثل هؤلاء الظلمة، فلا تقاتل معهم).[27]
وما قاله مالك في أئمة الجور وأنه لا يقاتل معهم إذا خرج عليهم خارج، وأنه لا يقاتل إلا مع أئمة العدل كعمر بن عبد العزيز؛ يؤكد أن مذهبه هو عدم الاعتراف لهم بالولاية الشرعية أصلا، ومما يوضحه أن ابن القاسم سئل عن دفع الزكاة للولاة: (أرأيت مصدقا يعدل على الناس فأتى المصدق إلى رجل له ماشية تجب في مثلها الزكاة، فقال له الرجل قد أديت صدقتها إلى المساكين؟ قال: لا يقبل قوله هذا، لأن الإمام عدل، فلا ينبغي لأحد أن يمنعه صدقتها، قلت: وهذا قول مالك؟ قال: نعم إذا كان الوالي مثل عمر بن عبد العزيز).[28]
ففرق الإمام مالك بين الإمام العدل الذي يجب دفع الزكاة له، ولا تبرأ الذمة إلا بالدفع له، وغير العدل الذي لا يجب دفع الزكاة له!
وقال سحنون: (قلت أرأيت زكاة الفطر هل يبعث فيها الوالي من يقبضها؟ فقال ابن القاسم: قال مالك وسألناه عنها سرا! فقال لنا: أرى أن يفرق كل قوم زكاة الفطر في مواضعهم، أهل القرى حيث هم في قراهم، وأهل العمود حيث هم، وأهل المدائن في مدائنهم، قال: ويفرقونها هم، ولا يدفعونها إلى السلطان، إذا كان لا يعدل فيها، قال: وقد أخبرتك في قول مالك: إذا كان الإمام يعدل لم يسع أحد أن يفرق شيئا من الزكاة، ولكن يدفع ذلك إلى الإمام).[29]
وقد أشار إلى مذهبهم حافظ المغرب ابن عبد البر عند شرحه لحديث البيعة، فقال: (قوله: "ألا ننازع الأمر أهله" فقد اختلف الناس في ذلك، فقال القائلون منهم: أهله أهل العدل والإحسان والفضل والدين، مع القوة على القيام بذلك، فهؤلاء لا ينازعون لأنهم أهله، وأما أهل الجور والفسق والظلم فليسوا بأهل له، واحتجوا بقول الله عز وجل لإبراهيم {إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين}، ذهب إلى هذا طائفة من السلف الصالح، واتبعهم بذلك خلف من الفضلاء والقراء والعلماء من أهل المدينة والعراق، وبهذا خرج ابن الزبير، والحسين على يزيد، وخرج خيار أهل العراق وعلمائهم على الحجاج، ولهذا أخرج أهل المدينة بني أمية عنهم، وقاموا عليهم فكانت الحرة).[30]
فقد نقل ابن عبد البر الخلاف بين سلف الأمة وأئمة أهل السنة في المراد بقوله: "وألا ننازع الأمر أهله"؛ لشهرة الخلاف بين السلف من الصحابة ومن بعدهم في هذه القضية.
وقال أيضا عن مذهب جمهور أهل السنة -والذين عللوا عدم جواز الخروج على أئمة الجور بالحفاظ على وحدة الأمة، واجتماع الكلمة، وحفظ الأمن، وإقامة الجهاد، وليس مطلقا مع كل سلطة وإن كانت لا تقيم شيئا من ذلك؛ فالحكم يدور مع علته وجودا وعدما- : (وأما جماعة أهل السنة وأئمتهم فقالوا: هذا هو الاختيار أن يكون الإمام فاضلا عالما عدلا محسنا قويا على القيام كما يلزمه في الإمامة، فإن لم يكن فالصبر على طاعة الإمام الجائر أولى من الخروج عليه، لأن في منازعته والخروج عليه استبدال الأمن بالخوف، وإراقة الدماء، وانطلاق أيدي الدهماء، وتبييت الغارات على المسلمين، والفساد في الأرض، وهذا أعظم من الصبر على جور الجائر).[31]
وقال أيضا في التمهيد: (قوله: "وأن لا ننازع الأمر أهله" فاختلف الناس في ذلك: فقال قائلون: أهله أهل العدل والإحسان والفضل والدين فهؤلاء لا ينازعون، لأنهم أهله، وأما أهل الجور والفسق والظلم فليسوا له بأهل، ألا ترى إلى قول الله عز وجل لإبراهيم عليه السلام قال {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}، وإلى منازعة الظالم الجائر ذهبت طوائف من المعتزلة وعامة الخوارج.
وأما أهل الحق وهم أهل السنة فقالوا: هذا هو الاختيار أن يكون الإمام فاضلا عدلا محسنا، فإن لم يكن فالصبر على طاعة الجائرين من الأئمة أولى من الخروج عليه، لأن في منازعته والخروج عليه استبدال الأمن بالخوف، ولأن ذلك يحمل على هراق الدماء، وشن الغارات والفساد في الأرض، وذلك أعظم من الصبر على جوره وفسقه، والأصول تشهد والعقل والدين أن أعظم المكروهين أولاهما بالترك، وكل إمام يقيم الجمعة والعيد، ويجاهد العدو، ويقيم الحدود على أهل العداء، وينصف الناس من مظالمهم بعضهم لبعض، وتسكن له الدهماء، وتأمن به السبل، فواجب طاعته في كل ما يأمر به من الصلاح أو من المباح).[32]
فهذه القيود والشروط لوجوب طاعة أئمة الجور عند من قال بوجوب طاعتهم وحرمة الخروج عليهم، أما من لا يقيم شيئا من ذلك؛ فحكمه عندهم حكم الطائفة الممتنعة، التي نقل ابن تيمية اتفاق الفقهاء على وجوب جهادها!
دفاع ابن تيمية عن التعددية وحرية الاجتهاد:
وقد تعرض ابن تيمية نفسه للسجن بسبب طغيان السلطة وفقهائها وخطابها المؤول، بعد فتواه بأن الطلاق الثلاث يقع طلقة واحدة، وقد حاول السلطان والقضاة منعه من ذلك بحجة أنه مخالف لإجماع المذاهب الأربعة! فلم ير ابن تيمية للسلطان الحق في منعه، لحديث: (من كتم علما ألجمه الله بلجام من نار)، وكان لا يرى أن السكوت يسعه؛ ولهذا نعى على قضاة عصره وفقهاء مصره مثل هذه التجاوزات والانحرافات في سياسة الأمة، وكان يبين أصول أهل السنة والجماعة وسلف الأمة في إقرار التعددية الاجتهادية، واحترام الاختلاف في الرأي، فقال: (وأما أقوال بعض الأئمة كالفقهاء الأربعة وغيرهم؛ فليس حجة لازمة، ولا إجماعًا باتفاق المسلمين، بل قد ثبت عنهم رضي الله عنهم، أنهم نهوا الناس عن تقليدهم؟ وأمروا إذا رأوا قولاً في الكتاب والسنة أقوى من قولهم: أن يأخذوا بما دل عليه الكتاب أو السنة ويدعوا أقوالهم؛ ولهذا كان الأكابر من أتباع الأربعة لا يزالون إذا ظهر لهم دلالة الكتاب أو السنة على ما يخالف قول متبوعهم اتبعوا ذلك).[33]
كما قال أيضا :(كان أئمة السنة والجماعة لا يلزمون الناس بما يقولونه من موارد الاجتهاد ولا يكرهون أحدًا عليه، ولهذا لما استشار هارون الرشيد مالك بن أنس في حمل الناس على موطئه، قال له: (لا تفعل يا أمير المؤمنين، فإن أصحاب رسول الله (تفرقوا في الأمصار فأخذ كل قوم عمن كان عندهم وإنما جمعت علم أهل بلدي)، أو كما قال، وقال مالك أيضًا: (إنما أنا بشر أصيب وأخطئ، فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة).
وقال أبو حنيفة: (هذا رأي، فمن جاءنا برأي أحسن منه؛ قبلناه).
وقال الشافعي: (إذا صح الحديث؛ فاضربوا بقولي الحائط)، وقال: (إذا رأيت المحجة موضوعة على الطريق فإني أقول بها).
وقال المزني في أول مختصره: (هذا كتاب اختصرته من علم أبي عبدالله الشافعي لمن أراد معرفة مذهبه، مع إعلامه نهيه عن تقليده)..).[34]
وقال أيضا: (وقد فرض الله على ولاة أمر المسلمين اتباع الشرع الذي هو الكتاب والسنة، وإذا تنازع بعض المسلمين في شيء من مسائل الدين ولو كان المنازع من آحاد طلبة العلم لم يكن لولاة الأمور أن يلزموه باتباع حكم حاكم -أي حكم القاضي- بل عليهم أن يبينوا له الحق كما يبين الحق للجاهل المتعلم، فإن تبين له الحق الذي بعث الله به رسوله وظهر وعانده بعد هذا استحق العقاب، وأما من يقول: إن الذي قلته هو قولي، أو قول طائفة من العلماء المسلمين؛ وقد قلته اجتهادًا، أو تقليدًا: فهذا باتفاق المسلمين لا تجوز عقوبته، ولو كان قد أخطأ خطأ مخالفًا للكتاب والسنة، ولو عوقب هذا لعوقب جميع المسلمين، فإنه ما منهم من أحد إلا وله أقوال اجتهد فيها أو قلد فيها وهو مخطئ فيها؛ فلو عاقب الله المخطئ لعاقب جميع الخلق، فالمفتي والجندي والعامي إذا تكلموا بالشيء بحسب اجتهادهم اجتهادًا أو تقليدًا قاصدين لاتباع الرسول بمبلغ علمهم لا يستحقون العقوبة بإجماع المسلمين، وإن كانوا قد أخطئوا خطأ مجمعًا عليه، وإذا قالوا إنا قلنا الحق، واحتجوا بالأدلة الشرعية: لم يكن لأحد من الحكام أن يلزمهم بمجرد قوله، ولا يحكم بأن الذي قاله هو الحق دون قولهم، بل يحكم بينه وبينهم الكتاب والسنة والحق الذي بعث الله به رسوله لا يغطى بل يظهر، فإن ظهر رجع الجميع إليه، وإن لم يظهر سكت هذا عن هذا وسكت هذا عن هذا؛ كالمسائل التي تقع يتنازع فيها أهل المذاهب لا يقول أحد إنه يجب على صاحب مذهب أن يتبع مذهب غيره لكونه حاكمًا، فإن هذا ينقلب، فقد يصير الآخر حاكمًا فيحكم بأن قوله هو الصواب، فهذا لا يمكن أن يكون كل واحد من القولين المتضادين يلزم جميع المسلمين اتباعه، بخلاف ما جاء به الرسول فإنه من عند الله؛ حق وهدى وبيان، ليس فيه خطأ قط، ولا اختلاف ولا تناقض قال تعالى{أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا}، وعلى ولاة الأمر أن يمنعوهم من التظالم، فإذا تعدى بعضهم على بعض منعوهم العدوان؛ وهم قد أُلزموا بمنع ظلم أهل الذمة؛ وأن يكون اليهودي والنصراني في بلادهم إذا قام بالشروط المشروطة عليهم، لا يلزمه أحد بترك دينه؛ مع العلم بأن دينه يوجب العذاب، فكيف يسوغ لولاة الأمور أن يُمكِّنوا طوائف المسلمين من اعتداء بعضهم على بعض؛ وحكم بعضهم على بعض بقوله ومذهبه، وهذا مما يوجب تغير الدول وانتقاضها؛ فإنه لا صلاح للعباد على مثل هذا، وهذا إذا كان الحكام قد حكموا في مسألة فيها اجتهاد ونزاع معروف، فإذا كان القول الذي قد حكموا به لم يقل به أحد من أئمة المسلمين، ولا هو مذهب أئمتهم الذين ينتسبون إليهم؛ ولا قاله أحد من الصحابة والتابعين؛ ولا فيه آية من كتاب الله وسنة رسوله، بل قولهم يخالف الكتاب والسنة وإجماع الأئمة؛ فكيف يحل مع هذا أن يُلزم علماء المسلمين باتباع هذا القول، وينفذ فيه هذا الحكم المخالف للكتاب والسنة والإجماع، وأن يقال: القول الذي دل عليه الكتاب والسنة وأقوال السلف لا يقال، ولا يفتى به بل يعاقب ويؤذى من أفتى به، ومن تكلم به، ويؤذى المسلمون في أنفسهم وأهليهم وأموالهم؛ لكونهم اتبعوا ما علموه من دين الإسلام وإن كان قد خفي على غيرهم، وهم يَعذرون من خفي عليه ذلك ولا يُلزمون باتباعهم، ولا يعتدون عليه، فكيف يعان من لا يعرف الحق بل يحكم بالجهل والظلم، ويلزم من عرف ما عرفه من شريعة الرسول أن يترك ما علمه من شرع الرسول لأجل هذا؟ لا ريب أن هذا أمر عظيم عند الله تعالى وعند ملائكته وأنبيائه وعباده، والله لا يغفل عن مثل هذا).[35]
وقد حكم ابن تيمية بالردة على من ظن بأن مثل هذه الأحكام الجائرة جورا بينا هي حكم الله ورسوله، وهي الشرع الذي أمر بالحكم به بين الناس، وذلك حين سجن ظلما بحكم قضائي، فقال: (فأقاموني وأمروا بي إلى الحبس، ثم جعلت أقول أنا وإخوتي غير مرة: أنا أرجع وأجيب وإن كنت أنت الحاكم وحدك، فلم يقبل ذلك مني، فلما ذهبوا بي إلى الحبس حكم بما حكم به، وأثبت ما أثبت وأمر في الكتاب السلطاني بما أمر به!
فهل يقول أحد من اليهود أو النصارى دع المسلمين: لا إن هذا حبس بالشرع فضلا عن أن يقال: شرع محمد بن عبد الله؟!
وهذا مما يعلم الصبيان الصغار بالاضطرار من دين الإسلام أنه مخالف لشرع محمد بن عبد الله، وهذا الحاكم هو وذووه دائما يقولون فعلنا ما فعلنا بشرع محمد بن عبد الله!
وهذا الحكم مخالف لشرع الله -الذي أجمع المسلمون عليه- من أكثر من عشرين وجها، ثم النصارى في حبس حسن: يشركون فيه بالله، ويتخذون فيه الكنائس، فيا ليت حبسنا كان من جنس حبس النصارى، ويا ليتنا سوينا بالمشركين وعباد الأوثان، بل لأولئك الكرامة ولنا الهوان! فهل يقول من يؤمن بالله واليوم الآخر: إن رسول الله  أمر بهذا، وبأي ذنب حبس إخوتي في دين الإسلام غير الكذب والبهتان، ومن قال: إن ذلك فعل بالشرع؛ فقد كفر بإجماع المسلمين، وقلت له في ضمن الكلام: أنت لو ادعى عليك رجل بعشرة دراهم وأنت حاضر في البلد، غير ممتنع من حضور مجلس الحاكم لم يكن للحاكم أن يحكم عليك في غيبتك، هذا في الحقوق فكيف بالعقوبات التي يحرم فيها ذلك بإجماع المسلمين).[36]


ابن تيمية والعمل الجماعي:
لقد استطاع ابن تيمية كمصلح سياسي وديني أن ينظم جماعة من خاصة أصحابه الذين يقومون معه بالدعوة والإصلاح الديني والسياسي والجهاد العسكري، وقد لزموه طوال حياته حتى دخل بعضهم السجن معه، وتعرض بعضهم للأذى بسببه، وقد اشتهر حال هذه الجماعة بالعلم والصلاح والزهد، ولشهرتهم خصهم الإمام العارف الزاهد أحمد بن إبراهيم الواسطي الشافعي ثم الحنبلي -المشهور بابن شيخ الحزاميين المتوفى سنة 711 هـ- برسالته المشهورة يحضهم على الثبات مع الشيخ ابن تيمية، وقد قال عنه ابن عبد الهادي: (وكان رجلا صالحا ورعا، كبير الشأن، منقطعا إلى الله، متوفرا على العبادة والسلوك، وكان قد كتب رسالة وبعثها إلى جماعة من أصحاب الشيخ، وأوصاهم فيها بملازمة الشيخ، والحث على اتباع طريقته، وأثنى فيها على الشيخ ثناءً عظيما).[37]
وقد كان والده شيخ الطائفة الأحمدية وقد نشأ فيها، ثم تحول إلى الشاذلية، ثم زار دمشق، فرأى ابن تيمية وأصحابه، فحط معهم رحاله، مع أنه أكبر منه سنا، وأقدم وفاة، وكان ابن تيمية يقول عنه: (هو جنيد زمانه)، وقال الذهبي: (لا أعلم خلف بدمشق على طريقته مثله).[38]
وقد جاء في رسالته إلى أصحاب ابن تيمية وهي بعنوان "التذكرة والاعتبار والانتصار للأبرار" -والتي كتبها بعد قيام الصوفية والطائفة الأحمدية على ابن تيمية بالقاهرة سنة 707 هـ حين نهاهم على الاستغاثة بغير الله، وقد كشفت هذه الرسالة حقيقة دور هذه الجماعة في الإصلاح الديني والجهادي والسياسي، وما تتعرض له من محن، وحال الأمة آنذاك وما هي فيه من فتن- قوله: (فهذه رسالة سطرها العبد الضعيف الراجي رحمة ربه وغفرانه، وكرمه وامتنانه: أحمد بن إبراهيم الواسطي عامله الله بما هو أهله فإنه أهل التقوى وأهل المغفرة، إلى إخوانه في الله السادة العلماء، والأئمة الأتقياء، ذوي العلم النافع، والقلب الخاشع، والنور الساطع، الذين كساهم الله كسوة الإتباع، وأرجو من كرمه أن يحققهم بحقائق الانتفاع:
1- السيد الأجل العالم الفاضل، فخر المحدثين، ومصباح المتعبدين، المتوجه إلى رب العالمين: تقي الدين أبي حفص عمر بن عبدالله بن عبد الأحد بن شقير.
2- والشيخ الأجل العالم الفاضل، السالك الناسك، ذي العلم والعمل، المكتسي من الصفات الحميدة أجمل الحلل: الشيخ شمس الدين محمد بن عبد الأحد الآمدي.
3- والسيد الأخ العالم الفاضل، السالك الناسك، التقي الصالح، الذي سيماء نور قلبه لائح، على صفحات وجهه: شرف الدين محمد بن المنجى.
4- والسيد الأخ الفقيه، العالم، النبيل الفاضل، فخر المحصلين: زين الدين عبدالرحمن بن محمود بن عبيدان البعلبكي.
5- والسيد الأخ العالم الفاضل، السالك الناسك، ذي اللب الراجح، والعمل الصالح، والسكينة الوافرة، والفضيلة الغامرة: نور الدين محمد بن محمد بن محمد بن الصائغ.
6- وأخيه السيد الأخ العالم، التقي الصالح، الخير الدين، العالم الثقة الأمين، الراجح ذي السمت الحسن، والدين المتين في اتباع السنن: فخر الدين محمد.
7- والأخ العزيز الصالح الطالب لطريق ربه، والراغب في مرضاته وحبه، العالم الفاضل الولد: شرف الدين محمد بن سعد الدين سعد الله ابن نجيح .
8- وغيرهم من اللائذين بحضرة شيخهم وشيخنا السيد الإمام، الأمة الهمام، محيي السنة، وقامع البدعة، ناصر الحديث، مفتي الفرق، الفائق عن الحقائق، وموصلها بالأصول الشرعية للطالب الذائق، الجامع بين الظاهر والباطن، فهو يقضي بالحق ظاهرا وقلبه في العلى قاطن، أنموذج الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، الذين غابت عن القلوب سيرهم، ونسيت الأمة حذوهم وسبلهم، فذكرهم بها الشيخ، فكان في دارس نهجهم سالكا، ولأعنة قواعدهم مالكا، الشيخ الإمام: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبدالسلام ابن تيمية، أعاد الله علينا بركته، ورفع إلى مدارج العلى درجته...).

مشاهير أصحاب ابن تيمية:
وهؤلاء الذين ذكرهم الإمام الواسطي في رسالته هم من خاصة ابن تيمية وأشد أتباعه لزوما له، وكان لهم مواقف مشهودة، كابن نجيح الحراني، وهو فقيه حنبلي عابد ناسك أذن له ابن تيمية بالفتوى[39]، قال ابن رجب وابن العماد عنه: (الفقيه الحنبلي الإمام، سمع من الفخر بن البخاري وغيره، وطلب الحديث، وقرأ بنفسه، وتفقه وأفتى، وصحب الشيخ تقي الدين بن تيمية ولازمه، وكان صحيح الذهن جيد المشاركة في العلوم، من خيار الناس وعقلائهم وعلمائهم، توفي في ذي الحجة بوادي بني سالم في رجوعه من الحج وحمل إلى المدينة النبوية فدفن بالبقيع وكان كهلا).[40]
وقال عنه ابن كثير في وفيات سنة 723هـ: (الفقيه الناسك شرف الدين الحراني: شرف الدين أبو عبد الله محمد بن محمد بن سعد الله ابن عمر الحراني المعروف بابن النجيح، توفي في وادي بني سالم، فحمل إلى المدينة فغسل وصلي عليه في الروضة، ودفن بالبقيع شرقي قبر عقيل، فغبطه الناس في هذه الموتة وهذا القبر، رحمه الله، وكان من غبطه الشيخ شمس الدين بن مسلم قاضي الحنابلة، فمات بعده ودفن عنده وذلك بعده بثلاث سنين رحمهما الله!
وجاء يوم حضر جنازة الشيخ شرف الدين محمد المذكور شرف الدين بن أبي العز الحنفي قبل ذلك بجمعة، مرجعه من الحج بعد انفصاله عن مكة بمرحلتين فغبط الميت المذكور بتلك الموتة فرزق مثلها بالمدينة، وقد كان شرف الدين بن نجيح هذا قد صحب شيخنا العلام تقي الدين بن تيمية، وكان معه في مواطن كبار صعبه لا يستطيع الإقدام عليها إلا الأبطال الخلص الخواص، وسجن معه، وكان من أكبر خدامه وخواص أصحابه، ينال فيه الأذى وأوذي بسببه مرات، وكل ما له في ازدياد محبة فيه وصبرا على أذى أعدائه، وقد كان هذا الرجل في نفسه وعند الناس جيدا، مشكور السيرة، جيد العقل والفهم، عظيم الديانة والزهد؛ ولهذا كانت عاقبته هذه الموتة عقيب الحج، وصلي عليه بروضة مسجد رسول الله ، ودفن بالبقيع بقيع الغرقد بالمدينة النبوية، فختم له بصالح عمله، وقد كان كثير من السلف يتمنى أن يموت عقيب عمل صالح يعمله، وكان له جنازة حافلة رحمه الله تعالى).[41]
وابن شقير هو (الفقيه تقي الدين أبو حفص الحراني الحنبلي، شيخ فاضل متدين مشهور، سمع الكثير بنفسه، ودار على المشايخ، وروى الصحيح، توفي في جمادى الآخرة سنة أربع وأربعين وسبعمائة عن ثمان وتسعين سنة رحمه الله).[42]
وكان يحفظ المحرر للمجد ابن تيمية.
والشيخ شمس الدين محمد بن عبد الأحد الآمدي هو كما قال ابن حجر: (المعروف بابن الرزيز الحنبلي، خطيب الجامع الكريمي، كان فاضلا عابدا، قال الذهبي كان من عقلاء الرجال، وكان حسن الخطابة والقراءة في المحراب، مات في سابع عشر شهر رمضان سنة 743 وله ثلاث وثمانون سنة).[43]
وقال الصفدي: (خطيب جامع القاضي كريم الدين الكبير، الذي بالقبيبات ظاهر دمشق، خطب فيه أول يوم فرغ من عمارته في شعبان سنة ثماني عشرة وسبع مئة، وحضره جماعة من القضاة والعلماء وأرباب الدولة، وقصد الناس الصلاة خلفه لبركته وحسن خطابته).[44]
وشرف الدين محمد بن المنجى، هو (محمد بن المنجي بن عثمان بن أسعد بن المنجي التنوخي الدمشقي الشيخ شرف الدين أبو عبد الله بن الشيخ زين الدين سمع الكثير من ابن أبي عمر وجماعة وسمع المسند والكتب الكبار وتفقه وأفتى ودرس بالمسمارية، وكان من خواص أصحاب الشيخ تقي الدين ابن تيمية، ومشهورا بالديانة والتقوى روى عنه الذهبي في معجمه وقال: كان فقيها إماما، حسن الفهم، صالحا متواضعا، توفي رابع شوال سنة أربع وعشرين وسبعمائة، وشيعه خلق كثير، ودفن بسفح قاسيون).[45]
وزين الدين عبد الرحمن بن محمود بن عبيدان البعلبكي، قال عنه الذهبي: (الشيخ الإمام العالم المحدث الفقيه فخر الدين أبو محمد ابن العلامة شمس الدين أبي عبد الله ابن الإمام القدوة المفتي فخر الدين البعلبكي ثم الدمشقي الحنبلي، ولد سنة خمس وثمانين وستمائة -685 هـ 1286م- توفي في ذي القعدة سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة).[46]
وقال عنه ابن كثير: (الشيخ الإمام العالم الزاهد أحد فضلاء الحنابلة، ومن صنف في الحديث والفقه والتصوف وأعمال القلوب وغير ذلك، كان فاضلا له أعمال كثيرة، وكانت وفاته في نصف صفر ببعلبك، ودفن بباب سطحا، ولم يكمل الستين، وصلي عليه بدمشق صلاة الغائب).[47]
ونور الدين محمد بن محمد بن محمد بن الصائغ، قاضي الشافعية بحلب، وتوفي بها وقد أناف على السبعين[48]، قال عنه الصفدي: (قاضي القضاة نور الدين بن الصائغ، كان خيّراً ساكنًا وقورًا، ولاه الفخري في نوبة الناصر أحمد قضاء العساكر بدمشق، وتوجه مع العسكر إلى القاهرة، ثم إنه عُزل بعد ذلك، وبقي على تدريس الدماغية إلى أن تولى قضاء القضاة بحلب بعد القاضي بدر الدين بن الخشّاب سنة أربع وأربعين وسبع مئة، ولم يزل بحلب إلى أن توفي رحمه الله في شوال سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون حلب، ومولده سنة ست وسبعين وست مئة، وباشر القضاء بحلب جيداً وأحبه أهلها لحسن سيرته).[49]
وأخوه فخر الدين محمد بن محمد بن محمد، كان قلد قضاء العساكر سنة 742 هـ، وفرح بولايته أصحاب الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله، وذلك لأنه من أخص من صحبه قديما، وأخذ عنه فوائد كثيرة وعلوما. [50]
قال ابن رافع عنه في وفيات سنة 748 هـ: (وفي يوم الأحد سابع عشر المحرم منها توفي الشيخ الصالح الأصيل فخر الدين محمد بن محمد بن محمد بن عبد القادر الأنصاري ابن الصائغ، بالتربة العادلية بسفح قاسيون، وصلي عليه من يومه، ودفن بتربتهم عند مغارة الجوع).[51]
وأصحاب ابن تيمية المشاهير ممن لم يذكرهم الواسطي برسالته أكثر ممن ذكرهم، خاصة في آخر حياته، فقد توفي الواسطي سنة 711 هـ، وعاش ابن تيمية بعده نحو 17 سنة كثر فيها أتباعه وأنصاره، كما ذكرهم ابن كثير، ومنهم شهاب الدين أحمد بن محمد بن مري البعلبكي، ففي سنة 725 هـ: (منع شهاب الدين بن مري البعلبكي من الكلام على الناس بمصر، على طريقة الشيخ تقي الدين بن تيمية، وعزره القاضي المالكي بسبب الاستغاثة، وحضر المذكور بين يدي السلطان وأثنى عليه جماعة من الأمراء، فسفّر إلى الشام بأهله فنزل ببلاد الخليل، ثم انتزح إلى بلاد الشرق، وأقام بسنجار وماردين ومعاملتهما، يتكلم ويعظ الناس إلى أن مات رحمه الله).
قال عنه الصفدي: (الشيخ الإمام، كان في مبدأ حاله منحرفًا عن الشيخ تقي الدين بن تيمية، وممن يحطّ عليه، فلم يزل من أصحابه إلى أن اجتمع به فمال إليه، وأحبّه ولازمه وترك كل ما هو فيه، وتلمذ له ولازمه مدة، وتوجّه إلى الديار المصرية، واجتمع بالأمير بدر الدين جنكلي بن البابا، فأذن له في الجلوس والكلام على الناس بجامع الأمير شرف الدين حسين بن جندر بحكر جوهر النوبي، لأن الأمير بدر الدين كان الناظر في أمر الجامع المذكور، فجلس وتكلم مدة، إلى أن تكلم في مسألة الاستغاثة والوسيلة برسول الله ، فمنعه قاضي القضاة المالكي من الجلوس في سادس عشري شهر ربيع الأول سنة خمس وعشرين وسبع مئة، ثم إنه أُحضر بيد يديّ السلطان، وأُحضر بعد ذلك عند النائب في خامس شهر ربيع الآخر، وحبسه القاضي المالكي، ثم غلَّظ عليه، وقيّده، ثم إنه ضربه نحو خمسين سَوطًا، في تاسع عشري جمادى الأولى، وتسلّمه والي القاهرة وأقام عنده يومين، وسفّره هو وأهله إلى بلد الخليل عليه السلام، ثم إنه حضر وحده إلى دمشق في شهر رمضان من السنة المذكورة. وكان قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة قد أثنى عليه هو والأمير بدر الدين جنكلي وغيره من الأمراء قدّام السلطان).[52]
وقال المقريزي: (وفيها حبس شهاب الدين أحمد بن محمد بن مري البعلبكي الحنبلي أحد أصحاب ابن تيمية، مقيدًا في سجن القاضي المالكي تقي الدين الأخنائي بالقاهرة، وضرب بالسياط ضربًا مبرحًا، وشهّر في تاسع عشري جمادى الأولى، بعدما أقام في السجن من سادس عشري ربيع الأولى، وكان قد عرض على السلطان في نصف ربيع الآخر، فأثنى عليه الأمير بدر الدين بن جنكلي بن البابا، والقاضي بدر الدين بن جماعة، وغيرهما من الأمراء، وعارضهم الأمير أيدمر الخطيري، حتى كادت تكون فتنة، ففوض السلطان الأمر لأرغون النائب، فآل الأمر إلى تمكين القاضي المالكي منه كما تقدم، ثم أعيد ابن مري إلى السجن، ثم شفع فيه، فآل أمره إلى أن أفرج عنه، وأخرج إلى القدس بعد يومين من سجنه، وكان مظلومًا، فاتفق عقيب ذلك أن الفقهاء شنعوا على تقي الدين ابن شاس بأنه كفر لتصويبه بعض أراء ابن مري، وشهدوا عليه، فدافع الأخنائي عنه وسكن القضية حتى خمدت، فقال الشيخ برهان الدين إبراهيم الرشيدي في ذلك:
يا قاضيًا شاد أحكامه
          على تقى من الله وأقوى أساس
مقالة في ابن مرى لفقت
          تجاوزت في الحد حد القياس
وفى ابن شاس حققت ما أثرت
                    فهل أباح الشرع كفر ابن شاس).[53]
ومنهم أيضا بل أبرزهم وإن كان من صغار أصحابه الإمام ابن قيم الجوزية، وقد تعرض للأذى وسجن مع ابن تيمية بسبب فتوى المنع من شد الرحال لزيارة القبور، قال ابن كثير: (وأمر قاضي القضاة الشافعي في حبس جماعة من أصحاب الشيخ تقي الدين في سجن الحكم، وذلك بمرسوم نائب السلطنة وإذنه له فيه، فما تقتضيه الشريعة في أمرهم، وعزر جماعة منهم على دواب ونودي عليهم ثم أطلقوا، سوى شمس الدين محمد بن قيم الجوزية فإنه حبس بالقلعة).[54]
وقد ظل ابن القيم وفيا لشيخه ابن تيمية ينافح عنه، وينصره حتى بعد وفاة ابن تيمية، وما زال كذلك حتى توفي سنة 751 هـ ليلة الخميس ثالث عشر رجب وقت أذان العشاء، كما قال ابن كثير: (توفي صاحبنا الشيخ الإمام العلامة شمس الدين محمد ين أبي بكر بن أيوب الزرعي، إمام الجوزية، وابن قيمها، وصلي عليه بعد صلاة الظهر من الغد بالجامع الأموي، ودفن عند والدته بمقابر الباب الصغير رحمه الله، ولد في سنة إحدى وتسعين وستمائة وسمع الحديث واشتغل بالعلم، وبرع في العلوم المتعددة، لا سيما علم التفسير والحديث والأصلين، ولما عاد الشيخ تقي الدين بن تيمية من الديار المصرية في سنة اثنتي عشرة وسبعمائة لازمه إلى أن مات الشيخ، فأخذ عنه علما جما، مع ما سلف له من الاشتغال، فصار فريدا في بابه في فنون كثيرة، مع كثرة الطلب ليلا ونهارا، وكثرة الابتهال، وكان حسن القراءة والخلق، كثير التودد لا يحسد أحدا ولا يؤذيه، ولا يستعيبه ولا يحقد على أحد، وكنت من أصحب الناس له وأحب إليه، ولا أعرف في هذا العالم في زماننا أكثر عبادة منه، وكانت له طريقة في الصلاة يطليها جدا ويمد ركوعها وسجودها، ويلومه كثير من أصحابه في بعض الأحيان، فلا يرجع ولا ينزع عن ذلك رحمه الله، وله من التصانيف الكبار والصغار شيء كثير، وكتب بخطه الحسن شيئا كثيرا، واقتنى من الكتب ما لا يتهيأ لغيره تحصيل عشره من كتب السلف والخلف، وبالجملة كان قليل النصير في مجموعه وأموره وأحواله، والغالب عليه الخير والأخلاق الصالحة، سامحه الله ورحمه، وقد كان متصديا للإفتاء بمسألة الطلاق التي اختارها الشيخ تقي الدين بن تيمية، وجرت بسببها فصول يطول بسطها مع قاضي القضاة تقي الدين السبكي وغيره، وقد كانت جنازته حافلة رحمه الله، شهدها القضاة والأعيان والصالحون من الخاصة والعامة، وتزاحم الناس على حمل نعشه، وكمل له من العمر ستون سنة رحمه الله.
وفي يوم الاثنين ثاني عشر شهر شعبان ذكر الدرس بالصدرية شرف الدين عبد الله بن الشيخ الإمام العلامة شمس الدين بن قيم الجوزية عوضا عن أبيه رحمه الله فأفاد وأجاد، وسرد طرفا صالحا في فضل العلم وأهله.
ومن العجائب والغرائب التي لم يتفق مثلها ولم يقع من نحو مائتي سنة وأكثر، أنه أبطل الوقيد بجامع دمشق في ليلة النصف من شعبان، فلم يزد في وقيده قنديل واحد على عادة لياليه في سائر السنة ولله الحمد والمنة، وفرح أهل العلم بذلك، وأهل الديانة، وشكر الله تعالى على تبطيل هذه البدعة الشنعاء، التي كان يتولد بسببها شرور كثيرة بالبلد، والاستيجار بالجامع الأموي، وكان ذلك بمرسوم السلطان الملك الناصر حسن بن الملك الناصر محمد بن قلاوون خلد الله ملكه، وشيد أركانه، وكان الساعي لذلك بالديار المصرية الأمير حسام الدين أبو بكر بن النجيبي بيض الله وجهه، وقد كان مقيما في هذا الحين بالديار المصرية، وقد كنت رأيت عنده فتيا عليها خط الشيخ تقي الدين بن تيمية، والشيخ كمال الدين بن الزملكاني، وغيرهما في إبطال هذه البدعة، فأنفذ الله ذلك ولله الحمد والمنة.
وقد كانت هذه البدعة قد استقرت بين أظهر الناس من نحو سنة خمسين وأربعمائة وإلى زماننا هذا، وكم سعى فيها من فقيه وقاضي ومفت وعالم وعابد وأمير وزاهد ونائب سلطنة وغيرهم ولم ييسر الله ذلك إلا في عامنا هذا، والمسئول من الله إطالة عمر هذا السلطان، ليعلم الجهلة الذين استقر في أذهانهم إذا أبطل هذا الوقيد في عام يموت سلطان الوقت، وكان هذا لا حقيقة له ولا دليل عليه إلا مجرد الوهم والخيال).[55]
وقال الصفدي عن ابن القيم: (الشيخ الإمام الفاضل المفتن شمس الدين الحنبلي المعروف بابن قيم الجوزية، سمع على الشهاب العابر وجماعة كبيرة... وقرأ العربية على ابن أبي الفتح البعلي، قرأ عليه " الملخص" لأبي البقاء، ثم قرأ "الجرجانية"، ثم قرأ "ألفية ابن مالك" ، وأكثر "الكافية الشافية" وبعض "التسهيل" ، ثم قرأ على مجد الدين التونسي قطعة من "المقرب".
وأما الفقه فأخذه عن جماعة منهم الشيخ مجد الدين إسماعيل بن محمد الحراني، قرأ عليه "مختصر" أبي القاسم الخرقي، و "المقنع" لابن قدامة، ومنهم ابن أبي الفتح البعلي، ومنهم الشيخ تقي الدين بن تيمية، قرأ عليه قطعة من "المحرر" تأليف جده، وأخوه الشيخ شرف الدين.
وأخذ الفرائض أولاً عن والده وكان له فيها يد، ثم اشتغل على إسماعيل بن محمد، قرأ عليه أكثر "الروضة" لابن قدامة، ومنهم الشيخ تقي الدين بن تيمية، قرأ عليه قطعة من "المحصول" ومن كتاب "الأحكام" للآمدي.
وقرأ في أصول الدين على الهندي أكثر "الأربعين" و "المحصل" ، وقرأ على الشيخ تقي الدين بن تيمية قطعة من الكتابين، وكثيرًا من تصانيفه، وكان ذا ذهن سيال، وفكر إلى حل الغوامض ميال، قد أكب على الاشتغال، وطلب من العلوم كل ما هو نفيس غال، وناظر وجادل، وجالد الخصوم وعادل، قد تبحر في العربية وأتقنها، وحرر قواعدها ومكنها، واستطال بالأصول، وأرهف منها الأسنة والنصول، وقام بالحديث وروى منه، وعرف الرجال وكل من أخذ عنه، وأما التفسير فكان يستحضر من بحاره الزخارة كل فائدة مهمة، ومن كواكبه السيارة كل نير يجلو حنادس الظلمة، وأما الخلاف ومذاهب السلف فذاك عشه الذي منه درج، وغابه الذي ألفه ليثه الخادر ودخل وخرج، وكان جريء الجنان، ثابت الجأش لا يقعقع له بالشنان، وله إقدام وتمكن أقدام، وحظه موفور، وقبوله كل ذنب معه مغفور، وكان يسلك طريق العلامة تقي الدين بن تيمية في جميع أحواله، ومقالاته التي تفرد بها والوقوف عند نص أقواله، وتوجه إلى الحجاز مرات، وحاز ما هناك من المبرات، وكان محظوظًا عند المصريين من الأمراء، يعطونه الذهب والدراهم، وهبه الأمير بدر الدين بن البابا مبلغ اثني عشر ألف درهم، والأمير سيف الدين بشتاك أعطاه في الحجاز مئتي دينار، وكان قد اعتقل مع الشيخ تقي الدين بن تيمية في قلعة دمشق بسبب "مسألة الزيارة" ، ولم يزل إلى أن توفي الشيخ تقي الدين، فأفرج عنه في ثالث عشري الحجة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
وما جمع أحد من الكتب ما جمع، لأن عمره أنفقه في تحصيل ذلك، ولما مات شيخنا فتح الدين اشترى من كتبه أمهات وأصولاً كبارًا جيدة، وكان عنده من كل شيء في غير ما فن ولا مذهب، بكل كتاب نسخ عديدة، منها ما هو جيد نظيف، وغالبها من الكرندات. وأقام أولاده شهورًا يبيعون منها غير ما اصطفوه لأنفسهم، واجتمعت به غير مرة، وأخذت من فوائده، خصوصًا في العربية والأصول).[56]
ومنهم الشمس محمد بن عيسى التكريدي: (كانت فيه شهامة وحزامة، وكان يكون بين يدي الشيخ تقي الدين بن تيمية كالمنفذ لما يأمر به وينهى عنه، ويرسله الأمراء وغيرهم في الأمور المهمة، وله معرفة وفهم بتبليغ رسالته على أتم الوجوه)، وقد توفي في صفر سنة 728 هـ قبل وفاة ابن تيمية بأشهر.[57]
ومنهم الشيخ أبو بكر بن شرف بن محسن بن معن بن عمان الصالحي، ولد سنة ثلاث وخمسين وستمائة، وسمع الكثير صحبة الشيخ تقي الدين بن تيمية والمزي، كان ممن يحب الشيخ تقي الدين، وكان معهما كالخادم لهما، وكان فقيرا ذا عيال يتناول من الزكاة والصدقات ما يقوم بأوده، وأقام في آخر عمره بحمص، وكان فصيحا مفوها، له تعاليق وتصانيف في الأصول وغيرها، وكان له عبادة وفيه خير وصلاح، وكان يتكلم على الناس بعد صلاة الجمعة إلى العصر من حفظه، وقد اجتمعت بأمره صحبة شيخنا المزي حين قدم من حمص فكان قوي العبارة فصيحها متوسطا بالعلم، له ميل إلى التصوف والكلام في الأحوال والأعمال والقلوب وغير ذلك، وكان يكثر ذكر الشيخ تقي الدين بن تيمية.[58]
ومنهم الشيخ الصالح شمس الدين السلامي شمس الدين محمد بن داود بن محمد بن ساب، السلامي البغدادي، أحد ذوي اليسار، وله بر تام بأهل العلم، ولا سيما أصحاب الشيخ تقي الدين، وقد وقف كتبا كثيرة، وحج مرات، وتوفي ليلة الاحد رابع عشرين ذي القعدة بعد وفاة الشيخ تقي الدين بأربعة أيام، وصلي عليه بعد صلاة الجمعة ودفن باب الصغير رحمه الله وأكرم مثواه.[59]
ومنهم الشيخ علي المغربي أحد أصحاب الشيخ تقي الدين بن تيمية، وكانت له عبادة وزهادة وتقشف وورع ولم يتول في هذه الدنيا وظيفة بالكلية، ولم يكن له مال بل كان يأتي بشيء من الفتوح يستنفقه قليلا قليلا، وكان يعاني التصوف، وترك زوجته وثلاثة أولاد رحمه الله، توفي 749 هـ وصلي عليه بالجامع الأفرمي، ودفن بسفح قاسيون.[60]
ومن أصحاب ابن تيمية الشيخ كاتبه عبد الله بن رشيق المغربي، قال عنه ابن كثير: (كاتب مصنفات شيخنا العلامة ابن تيمية، كان أبصر بخط الشيخ منه، إذا عزب شيء منه على الشيخ استخرجه أبو عبد الله هذا، وكان سريع الكتابة لا بأس به، دينا عابدا كثير التلاوة حسن الصلاة)، توفي يوم عرفة سنة 750 هـ.[61]
وممن يؤازر ابن تيمية من الأمراء والقضاة؛ الأمير الكبير سيف الدين أرغون بن عبد الله الدويدار الناصري، وقد عمل على نيابة مصر مدة طويلة، ثم غضب عليه السلطان فأرسله إلى نيابة حلب، فمكث بها مدة، ثم توفي بها، وقد كان عنده فهم وفقه، وفيه ديانة واتباع للشريعة، وقد سمع البخاري على الحجار وكتبه جميعه بخطه، وأذن له بعض العلماء في الإفتاء، وكان يميل إلى الشيخ تقي الدين بن تيمية وهو بمصر، توفي ولم يكمل الخمسين سنة، وكان يكره اللهو رحمه الله، ولما خرج يلتقي نهر الساجور خرج في ذل ومسكنة، وخرج معه الأمراء كذلك مشاة في تكبير وتهليل وتحميد، ومنع المغاني ومنع اللهو واللعب في ذلك رحمه الله، توفي سنة 729هـ.[62]
والأمير سلطان العرب حسام الدين مهنا بن عيسى بن مهنا، أمير العرب بالشام، وقد كان كبير القدر محترما عند الملوك كلهم، بالشام ومصر والعراق، وكان دينا خيرا متحيزا للحق، وخلف أولادا وورثة وأموالا كثيرة، وقد بلغ سنا عالية، وكان يحب الشيخ تقي الدين بن تيمية حبا زائدا، هو وذريته وعربه، وله عندهم منزلة وحرمة وإكرام، يسمعون قوله ويمتثلونه، وهو الذي نهاهم أن يغير بعضهم على بعض، وعرفهم أن ذلك حرام، وله في ذلك مصنف جليل، وكانت وفاة مهنا هذا ببلاد سلمية، ودفن هناك رحمه الله.[63]
ومنهم نائب دمشق قطلوبغا الفخري وكان يميل إلى ابن تيمية وهو الذي استعاد كتبه التي صودرت منه في السجن: (وكان قد استدعى القاضي الشافعي وألح عليه في إحضار الكتب في سلة الحكم التي كانت أخذت من عند الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله من القعلة المنصورة في أيام جلال الدين القزويني، فأحضرها القاضي بعد جهد ومدافعة، وخاف على نفسه منه، فقبضها منه الفخري بالقصر وأذن له في الانصراف من عنده، وهو متغضب عليه، وربما هم بعزله لممانعته إياها، وربما قال قائل هذه فيها كلام يتعلق بمسألة الزيارة، فقال الفخري: كان الشيخ أعلم بالله وبرسوله منكم.
واستبشر الفخري بإحضارها إليه واستدعي بأخي الشيخ زين الدين عبد الرحمن، وبالشيخ شمس الدين عبد الرحمن بن قيم الجوزية، وكان له سعي مشكور فيها، فهنأهما بإحضاره الكتب، وبيت الكتب تلك الليلة في خزانته للتبرك وصلى به الشيخ زين الدين أخو الشيخ صلاة المغرب بالقصر، وأكرمه الفخري إكراما زائدا لمحبته الشيخ رحمه الله).[64]
ومنهم السيد الشريف عماد الدين إسماعيل بن ناهض الحسيني الدمشقي الخشاب، ولد سنة 663هـ، وكان رجلا شهما كثير العبادة والمحبة للسنة وأهلها، ممن واظب على درس الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله وانتفع به، وكان من جملة أنصاره وأعوانه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو الذي بعثه إلى صيدنايا مع بعض القسيسين لقوة إيمانه وشجاعته رحمه الله وإيانا، وقد توفي سنة 744هـ.[65]
ومنهم الأمير صلاح الدين يوسف التكريتي ابن أخي الصاحب تقي الدين بن توبة الوزير، وكان شابا من أبناء الأربعين، ذا ذكاء وفطنة وكلام وبصيرة جيدة، وكان كثير المحبة إلى الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله، ولأصحابه خصوصا، ولكل من يراه من أهل العلم عموما، وكان فيه إيثار وإحسان ومحبة الفقراء والصالحين، توفي سنة 745هـ ودفن بتربتهم بسفح قاسيون.[66]
ومنهم الأمير سيف الدين براق أمير أرجو، وكان مشكور السيرة كثير الصلاة والصدقة محبا للخير وأهله، من أكابر أصحاب الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله تعالى، توفي سنة 757هـ.[67]
ومنهم خليل ابن الأمير حسام الدين بن البرجمي، وكان ممن يتوالى محبة أصحاب الشيخ تقي الدين بن تيمية.[68]
ومنهم عمر بن سعد الله الإمام زين الدين الحراني الحنبلي، المعروف بابن بخيخ، قال الصفدي: (سمع الكثير، وحضر على الفخر، وكان بالفقه بصيرًا، وبالنحو خبيرًا، تخرج بالعلامة الشيخ تقي الدين بن تيمية وبغيره ممن ساد بعلمه في البرية، وناب في الحكم لابن المنجا، وخلص الحقوق ونجى، وكان يقول برأي الشيخ تقي الدين في المسائل التي انفرد بها ووقع له ما وقع بسببها، ويحكم بها وتسطر، ويذيب بها قلوب المخالفين فتفطر، وكان قد ولي مشيخة الضيائية، وألقى فيها دروساً محررة، وكان قد ناب في الحكم لقاضي القضاة علاء الدين بن المنجا الحنبلي بعد القاضي برهان الدين الزرعي رحمهم الله تعالى.
وقال يومًا قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى لقاضي القضاة علاء الدين بن المنجا: إن كنت تقول إن هذه الأحكام التي يحكم بها نائبك مذهب الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه فأنا أنفذها، قال: لا إلا إذا حكم بها هذا حكمت بصحتها، وطال التنازع في ذلك، ولم يرجع هذا، ولا نفذ هذا له هذا حكمًا.
وأظنه مات معزولًا، والله أعلم.
وكان قد دخل في زمرة من توجه إلى غزة بسبب الشيخ تقي الدين بن تيمية، وحبس وأفرج عنه، وجاء إلى دمشق، هذا، على ما في ظني أو والده أو واحد من بيتهم.[69]
قال عنه ابن كثير: (وكان نائب القاضي الحنبلي، وكان مشكورا في القضاء، لديه فضائل كثيرة، وديانة وعبادة، وكان من أصحاب الشيخ تقي الدين بن تيمية، وكان قد وقع بينه وبين القاضي الشافعي مشاجرات بسبب أمور، ثم اصطلحا فيما بعد ذلك).[70]
ومنهم القاضي محمد بن مسلّم، قال عنه الصفدي: (محمد بن مسلم، بتشديد اللام، ابن مالك بن مزروع الزيني، ثم الدمشقي الصالحي، الشيخ الإمام العالم، بركة الإسلام، قاضي القضاة شمس الدين أبو عبد الله الحنبلي، سمع الكثير، وله حضور على ابن عبد الدايم، وسمع من الشيخ شمس الدين وطبقته، وخرّج له ابن الفخر مشيخةً في مجلدة، وسمعها منه خلق، وخرّج له ابن سعد الأربعين المتباينة الأسانيد، وخرّج له المزّي تساعيّات، وخرج له الذهبي جزءاً، وأجاز له من مصر جماعة من أصحاب البوصيري.
كان من قضاة العدل في أحكامه، ومن أئمة الهدى في نقضه وإبرامه، مطّرح التكلّف في أحواله، متوخي الصدق والحق في أقواله، عمّر الأوقاف وضبطها، وحاسب العمال وأمسك القواعد وربطها، وحرّر الإسجالات، وتوقف في العدالات، ولازم الورع والتحري، ومنع الظلمة من التعدي والتجري، وباشر أمور الحكم بقوة وصلابة في الدين، وكف يد الظلمة والمعتدين، فهو كما قال أبو الطيب:
قاضٍ إذا اشتبه الأمران عنّ له ... رأي يفرق بين الماء واللبن
القائل الصدق فيه ما يضرّ به ... والواحد الحالتين السرّ والعلن
ولم يزل على حاله إلى أن حج، وقبض عليه بالمدينة الشريفة، ونقل إلى الدار الآخرة والملائكة به مطيفة.
وتوفي رحمه الله تعالى في الثالث والعشرين من ذي القعدة سنة ست وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة اثنتين وستين وست مئة في صفر.
توفي والده وكان ملاحًا في سوق الخيل، وله ست سنين، وحفظ القرآن، وتعلم الخياطة، واشتغل، وتفقّه، وبرع في الفقه والعربية، وتصدر لإقرائهما وتخرج به فضلاء. ولم يطلب تدريسًا ولا فُتيا، ولا زاحم على الدنيا.
وسمع شيخنا الذهبي بقراءته الأجزاء، وكان ربما يكتب الأسماء والطباق ويذاكر، وبقي مدة على الخزانة الضيائية. ولما توفي قاضي القضاة تقي الدين سليمان عين للقضاء، وأثني عليه عند السلطان بالعلم والنسك والسكينة، فولاه القضاء، فتوقف،وطلع إليه الشيخ تقي الدين بن تيمية إلى بيته، وقوّى عزمه، ولامه، فأجاب بشرط أن لا يركب بغلة، ولا يأتي موكبًا، فأجيب، وكانت قراءة تقليده، سادس عشر صفر سنة ست عشرة وسبع مئة.
وكان ينزل من الصالحية إلى الجوزية ماشيًا، وربما ركب حمار مكار، وكان مئزره سجادته، ودواة الحكم زجاجة، واتخذ فرجية مقتصدة من صوف، وكبّر العمامة قليلاً، ونهض بأعباء الحكم بعلم وقوة، وعمّر الأوقاف، وحاسب العمال، وحكم إحدى عشرة سنة، وشهد له أهل العلم والدين أنه من قضاة العدل.
وحجّ مرات، وانتصر لابن تيمية، فحصل له أذى، فتألم وكظم، وسار للحج بنيّة المجاورة فمرض من العلا، ولما وصل المدينة تحامل حتى وقف مسلّماً على النبي ، ثم أدخل إلى منزل، فلما كان في السحر توفي رحمه الله تعالى ودفن بالبقيع).[71]
ومنهم الأمير شهاب الدين قرطاي الأشرفي الجوكندار الحاجب، نائب طرابلس، كان معدودًا في الأبطال، ومسرودًا في عداد أبي محمد البطال، قد مارس الحروب والاقتفاء بسيرة السلف المرضية، وتتلمذ للشيخ العلامة تقي الدين بن تيمية، وكان موته في شهر شعبان سنة سبع وأربعين وسبع مئة، ودفن بمقابر الصوفية ظاهر باب النصر بدمشق، كان قد نشأ بصفد على خير وديانة وتعبد، ولم نعلم له صبوة، وكان يحب الفقراء والصلحاء، ويميل إلى الشيخ تقي الدين بن تيمية وأصحابه، واختص بالأمير سيف الدين أرقطاي نائب صفد، وكان يسمر عنده ويلازمه ليلاً ونهارًا.[72]
ومنهم محمد بن أحمد بن أبي نصر، القدوة الزاهد شمس الدين بن الدباهي البغدادي الحنبلي، كان من أكابر التجار كأبيه، ثم إنه تزهد، وقوى نفسه على الوجود، فتفهد، ولبس العباءة، ورفض الملاءة، واللذة برفيع الملاءة، وجاور بمكة مدة، وتصوف ولقي من المشايخ عدة، وكان ذا صدق وإنابة، وخضوع وكآبة، وله مواعظ نفع بها، وجر الخير بسببها، وكان بالحق قوالا، وعلى أولي اللعب صوالا، وصفاته حميدة، وحركاته سديدة، وتوفي -رحمه الله تعالى- في سنة إحدى عشرة وسبع مئة، وكان قد قدم دمشق وصحب الشيخ تقي الدين بن تيمية.[73]

وصف الشيخ الواسطي لحال ابن تيمية وجماعته والأعمال التي كانوا يقومون بها:
ثم قال الشيخ أحمد بن إبراهيم الواسطي في رسالته مخاطبا هذه الجماعة: (السلام عليكم معشر الإخوان ورحمة الله وبركاته، جعلنا الله وإياكم ممن ثبت على قرع نوائب الحق جاشه، واحتسب لله ما بذله من نفسه في إقامة دينه وما احتوشه من ذلك وحاشه، واحتذى حذو السبق الأولين من المهاجرين والأنصار، والذين لم تأخذهم في الله لومة لائم، فما ضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، مع قلة عددهم في أول الأمر، فكانوا مع ذلك كل منهم مجاهد بدين الله قائم، ونرجو من كرم الله تعالى أن يوفقنا لأعمالهم، ويرزق قلوبنا قسطا من أحوالهم، وينظمنا في سلكهم تحت سجفتهم ولوائهم، مع قائدهم وإمامهم، سيد المرسلين، وإمام المتقين: محمد صلوات الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين..
أذكركم رحمكم الله بما أنتم به عالمون، عملا بقوله تعالى: {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين}، واعلموا أيدكم الله أنه يجب عليكم أن تشكروا ربكم تعالى في هذا العصر، حيث جعلكم بين جميع أهل هذا العصر كالشامة البيضاء في الحيوان الأسود، لكن من لم يسافر إلى الأقطار، ولم يتعرف أحوال الناس، لا يدري قدر ما هو فيه من العافية، فأنتم إن شاء الله تعالى في حق هذه الأمة الأولى كما قال تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله}، وكما قال تعالى: {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور}..
أصبحتم إخواني تحت سنجق رسول الله، إن شاء الله تعالى، مع شيخكم وإمامكم، وشيخنا وإمامنا المبدوء بذكره رضي الله عنه، قد تميزتم عن جميع أهل الأرض فقهائها وفقرائها وصوفيتها وعوامها بالدين الصحيح، وقد عرفتم ما أحدث الناس من الأحداث في الفقهاء والفقراء والصوفية والعوام!
فأنتم اليوم في مقابلة الجهمية من الفقهاء نصرتم الله ورسوله في حفظ ما أضاعوه من دين الله، تصلحون ما أفسدوه من تعطيل صفات الله.
وأنتم أيضا في مقابلة من لم ينفذ في علمه من الفقهاء إلى رسول الله، وجمد على مجرد تقليد الأئمة، فإنكم قد نصرتم الله ورسوله في تنفيذ العلم إلى أصوله من الكتاب والسنة، واتحاد أقوال الأئمة تأسيا بهم لا تقليدا لهم.
وأنتم أيضا في مقابلة ما أحدثته أنواع الفقراء من الأحمدية والحريرية من إظهار شعار المكاء والتصدية، ومؤاخاة النساء والصبيان، والإعراض عن دين الله إلى خرافات مكذوبة عن مشايخهم واستنادهم إلى شيوخهم وتقليدهم في صائب حركاتهم وخطائها وإعراضهم عن دين الله، الذي أنزله من السماء، فأنتم بحمد الله تجاهدون هذا الصنف أيضا كما تجاهدون من سبق، حفظتم من دين الله ما أضاعوه، وعرفتم ما جهلوه، تقوّمون من الدين ما عوجوه، وتصلحون منه ما أفسدوه.
وأنتم أيضا في مقابلة رسمية الصوفية والفقهاء وما أحدثوه من الرسوم الوضعية، والآصار الابتداعية، من التصنع باللباس والإطراق والسجادة لنيل الرزق من المعلوم، ولبس البقيار والأكمام الواسعة في حضرة الدرس، وتنميق الكلام والعدو بين يدي المدرس راكعين، حفظا للمناصب واستجلابا للرزق والإدرار، فخلط هؤلاء في عبادة الله غيره، وتألهوا سواه، ففسدت قلوبهم من حيث لا يشعرون، يجتمعون لغير الله، بل للمعلوم، ويلبسون للمعلوم، وكذلك في أغلب حركاتهم يراعون ولاة المعلوم، فضيعوا كثيرا من دين الله وأماتوه، وحفظتم أنتم ما ضيعوه وقومتم ما عوجوه.
وكذلك أنتم في مقابلة ما أحدثته الزنادقة من الفقراء والصوفية من قولهم بالحلول والاتحاد، وتأله المخلوقات، كاليونسية والعربية والصدرية والسبعينية والتلمسانية، فكل هؤلاء بدلوا دين الله تعالى وقلبوه، وأعرضوا عن شريعة رسول الله، فاليونسية يتألهون شيخهم، ويجعلونه مظهرا للحق، ويستهينون بالعبادات، ويظهرون بالفرعنة والصولة والسفاهة والمحالات، لما وقر في بواطنهم من الخيالات الفاسدة، وقبلتهم الشيخ يونس، ورسول الله والقرآن المجيد عنهم بمعزل، يؤمنون به بألسنتهم، ويكفرون به بأفعالهم!
وكذلك الاتحادية يجعلون الوجود مظهرا للحق باعتبار أن لا متحرك في السكون سواه، ولا ناطق في الأشخاص غيره، وفيهم من لا يفرق بين الظاهر والمظهر، فيجعل الأمر كموج البحر، فلا يفرق بين عين الموجة، وبين عين البحر، حتى إن أحدهم يتوهم أنه الله فينطق على لسانه، ثم يفعل ما أراد من الفواحش والمعاصي، لأنه يعتقد ارتفاع الثنوية!
فمن العابد ومن المعبود صار الكل واحدا
اجتمعنا بهذا الصنف في الربط والزوايا، فأنتم بحمد الله قائمون في وجه هؤلاء أيضا، تنصرون الله ورسوله، وتذبون عن دينه، وتعملون على إصلاح ما أفسدوا، وعلى تقويم ما عوّجوا، فإن هؤلاء محوا رسم الدين وقلعوا أثره، فلا يقال أفسدوا ولا عوجوا، بل بالغوا في هدم الدين ومحوا أثره، ولا قربة أفضل عند الله من القيام بجهاد هؤلاء بمهما أمكن، وتبيين مذاهبهم للخاص والعام، وكذلك جهاد كل من ألحد في دين الله وزاغ عن حدوده وشريعته كائنا في ذلك ما كان، من فتنة وقول كما قيل:
إذا رضي الحبيب فلا أبالي
                    أقام الحي أم جد الرحيل
وبالله المستعان، وكذلك أنتم بحمد الله قائمون بجهاد الأمراء والأجناد، تصلحون ما أفسدوا من المظالم والاجحافات وسوء السيرة الناشئة عن الجهل بدين الله بما أمكن، وذلك لبعد العهد عن رسول الله، لأن اليوم له سبعمائة سنة؛ فأنتم بحمد الله تجددون ما دثر من ذلك واندثر).
وما ذكره الواسطي هنا من قيام ابن تيمية وجماعته بجهاد الأمراء وتغيير المنكر ونصرة المظلوم مشهور عنهم، كما جرى بين ابن تيمية والأمير سيف الدين المنصوري المعروف بقطلوبك الكبير، وهو من قال عنه الصفدي: (كان أميرًا إذا قيل: أمير، لا بل ملكًا على تحقيق قدره الكبير، إلا أنه كان يأخذ أموال الناس، وما يعطيهم شيئًا، وإذا اشترى من أحد شيئًا ما يعوضه بثمنه، فأخذ مرة من تاجر شيئًا، وحال ما بينه وبين ثمنه، ولم يجد التاجر من يخلص حقه، فشكا حاله إلى الشيخ تقي الدين بن تيمية -رحمه الله، تعالى- فتوجه معه إليه، فلما دخل إليه قام له وأجلسه، وقال: شيخ، إذا رأيت الأمير بباب الفقير فنعم الأمير ونعم الفقير، وإذا رأيت الفقير بباب الأمير فبئس الأمير وبئس الفقير. فقال له الشيخ تقي الدين: اسمع قطلوبك، لا تعمل دركوانات العجم، موسى كان خيرًا مني، وفرعون كان أنحس منك، وكان موسى يأتي إلى بابه كل يوم ويأمره بالإيمان، أعط هذا التاجر ماله. فقال: نعم، ووزن له الذي له).[74]
وكذا ما قام به ابن تيمية حين سجن الحافظ المزي ظلما، فذهب بنفسه إلى السجن وأخرجه دون إذن، كما قال ابن كثير :(ثم اتفق أن الشيخ جمال الدين المزي الحافظ قرأ فصلا بالرد على الجهمية من كتاب أفعال العباد للبخاري، تحت قبة النسر -في الجامع الأموي-  بعد قراءة ميعاد البخاري بسبب الاستسقاء، فغضب بعض الفقهاء الحاضرين وشكاه إلى قاضي الشافعي ابن صصرى، وكان عدو الشيخ، فسجن المزي، فبلغ الشيخ تقي الدين فتألم لذلك وذهب إلى السجن فأخرجه منه بنفسه، وراح إلى القصر فوجد القاضي هنالك، فتقاولا بسبب الشيخ جمال الدين المزي، فحلف ابن صصرى لا بد أن يعيده إلى السجن وإلا عزل نفسه، فأمر النائب بإعادته تطييبا لقلب القاضي فحبسه عنده في القوصية أياما ثم أطلقه، ولما قدم نائب السلطنة ذكر له الشيخ تقي الدين ما جرى في حقه وحق أصحابه في غيبته، فتألم النائب لذلك، ونادى في البلد أن لا يتكلم أحد في العقائد، ومن عاد إلى تلك الحال حل ماله ودمه ورتبت داره وحانوته، فسكنت الأمور).[75]
وقال الشيخ الواسطي في رسالته عن الدور الإصلاحي لجماعة ابن تيمية:
(وكذلك أنتم بحمد الله قائمون في وجوه العامة مما أحدثوا من تعظيم الميلادة والقلندس، وخميس البيض والشعانين، وتقبيل القبور والأحجار والتوسل عندها، ومعلوم أن ذلك كله من شعائر النصارى والجاهلية، وإنما بعث رسول الله ليوحد الله ويعبد وحده، ولا يأله معه شيء من مخلوقاته، بعثه الله تعالى ناسخا لجميع الشرائع والأديان والأعياد، فأنتم بحمد الله قائمون بإصلاح ما أفسد الناس من ذلك، وقائمون في وجوه من ينصر هذه البدع من مارقي الفقهاء، أهل الكيد والضرار لأولياء الله، أهل المقاصد الفاسدة، والقلوب التي هي عن نصر الحق حائدة، وإنما أعرض هذا الضعيف عن ذكر قيامكم في وجوه التتر والنصارى واليهود والرافضة والمعتزلة والقدرية وأصناف أهل البدع والضلالات، لأن الناس متفقون على ذمهم، يزعمون أنهم قائمون برد بدعتهم، ولا يقومون بتوفية حق الرد عليهم كما تقومون، بل يعلمون، ويجبنون عن اللقاء فلا يجاهدون، وتأخذهم في الله اللائمة لحفظ مناصبهم، وإبقاء على أعراضهم!
سافرنا البلاد فلم نر من يقوم بدين الله في وجوه مثل هؤلاء حق القيام سواكم، فأنتم القائمون في وجوه هؤلاء إن شاء الله بقيامكم بنصرة شيخكم وشيخنا أيده الله حق القيام، بخلاف من ادعى من الناس أنهم يقومون بذلك)!
وكل ما ذكره الشيخ الواسطي هنا من صور الجهاد والإصلاح والتجديد عن هذه الجماعة التي انتظم عقدها حول ابن تيمية من علماء وعباد وقضاة وولاة متواتر عنهم، ومن ذلك تغيير منكرات العامة من الشركيات كما فيما قاموا به مع ابن تيمية من هدم الأصنام التي في دمشق كالعمود المخلق، وكان الإمام محيي الدين النووي يدعو الله أن يقيض له من يهدمه، فاستجاب دعاءه، كما قص خبره خادم ابن تيمية إبراهيم الغياني في نبذته: (فهذا فصل فيما قام به الشيخ الإمام العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية رضي الله عنه، وتفرد به دون غيره من العلماء رضي الله عنهم، الذين كانوا قبله وفي زمانه، وذلك بتكسير الأحجار التي كان الناس يزورونها، ويتبركون بها، ويقبّلونها، وينذرون لها النذور، ويلطخونها بالخلوق، ويطلبون عندها قضاء حاجاتهم، ويعتقدون أن فيها أو لها سرا، وأن من تعرض لها بسوء بقال أو فعال أصابته في نفسه آفة من الآفات.
فشرع الشيخ يعيب تلك الأحجار، وينهى الناس عن إتيانها، أو أن يفعل عندها شيء مما ذكر، أو أن يحسن بها الظن.
فبلغ الشيخ أن جميع ما ذكر من البدع يتعمدها الناس عند العمود المخلق الذي داخل الباب الصغير الذي عند درب النافدانيين، فشد عليه وقام واستخار الله في الخروج إلى كسره، فحدثني أخوه الشيخ الإمام القدوة شرف الدين عبد الله بن تيمية قال: فخرجنا لكسره، فسمع الناس أن الشيخ يخرج لكسر العمود المخلق، فاجتمع معنا خلق كثير. قال: فلما خرجنا نحوه، وشاع في البلدان: ابن تيمية طالع ليكسر العمود المخلق، صاح الشيطان في البلد، وضجت الناس بأقوال مختلفة، هذا يقول: (ما بقيت عين الفيجة تطلع) ، وهذا يقول: (ما ينزل المطر، ولا يثمر شجر) وهذا يقول: (ما بقي ابن تيمية يفلح بعد أن تعرض لهذا)، وكل من يقول شيئا غير هذا.
قال الشيخ شرف الدين: فما وصلنا إلى عنده إلا وقد رجع عنا غالب الناس، خشية أن ينالهم منه في أنفسهم آفة من الآفات، أو ينقطع بسبب كسره بعض الخيرات.
قال: فتقدمنا إليه، وصحنا على الحجّارين: دونكم هذا الصنم، فما جسر أحد منهم يتقدم إليه. قال: فأخذت أنا والشيخ المعاول منهم، وضربنا فيه، وقلنا: {جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا}، وقلنا: إن أصاب أحد منه شيء نكون نحن فداه، وتابعنا الناس فيه بالضرب حتى كسرناه، فوجدنا خلفه صنمين حجارة مجسدة مصوّرة، طول كل صنم نحو شبر ونصف.
وقال الشيخ شرف الدين: قال الشيخ النووي (اللهم أقم لدينك رجلا يكسر العمود المخلق، ويخرب القبر الذي في جيرون)، فهذا من كرامات الشيخ محيي الدين -أي: النووي- ، فكسرناه ولله الحمد، وما أصاب الناس من ذلك إلا الخير والحمد لله وحده..
وكانت صخرة كبيرة عظيمة في وسط محراب مسجد النارنج فيتوجه المصلي إليها ضرورة، وعليها ستر أسود مرخي ودرابزين حولها، وقد استفاض بين الناس أنه حط عليها رأس الحسين عليه السلام فانشقت له، وأنها متى انشقت كلها قامت القيامة، ولها في كل سنة يوم عاشوراء عيد يجتمع فيه الناس، ويبقون في ذلك اليوم وفي غيره من الأيام يتبركون بها ويقبلونها، وينذرون لها النذور، ويلطخونها بالخلوق، ويدعون عندها، فبلغ ذلك الشيخ، فطلب الحجارين من القلعة، وخرج إليها ومعه شرف الدين في جماعة كبيرة، فأول شيء عمله هو قلع الدرابزين من حولها، ونتش الستر عنها ورماه، وصاح على الحجارين : دِه عليه، فتأخروا عنها، فتقدم هو وأخوه شرف الدين وضربها بنعله وقال: إن أصاب أحد منكم شيء أصابنا نحن قبله . فتقدم إليه عند ذلك الحجارون، وحفروا عليها، فإذا هي رأس عمود كبير قد حفر له ونزل في ذلك المكان، فكسروه، وحملوه على أربع عشرة بهيمة وأحرقوه كلسا.
قال الشيخ: بعض الرافضة عمل هذا في هذا المكان، ولوح بين الناس أن رأس الحسين حطوه على هذا الحجر، حتى يضل به جهال الناس.
قال: والرافضة من عادتهم أنهم يخربون المساجد ويعمرون المشاهد ويعظمونها بخلاف المساجد، وقد قال الله سبحانه: {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله اليوم الآخر}، ولم يقل: (مشاهد الله) . وقال: {وأن المساجد لله}، ما قال: (وأن المشاهد لله). وقال النبي -- : (من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة؛ بنى الله له بيتا في الجنة)، ما قال: من بنى لله مشهدا بنى الله له بيتا في الجنة.
وتكلم وهو جالس في هذا المكان، وقال من هذا الجنس شيئا كثيرا. وقال: زيارة القبور زيارة شرعية مأمور بها، والزيارة البدعية منهي عنها، فالزيارة الشرعية هي التي أمر بها...
وأما الزيارة البدعية، فهي أن تزار القبور للتبرك بها، أو الدعاء عندها، أو الاستغاثة بأهلها، أو النذر لها مثل زيت أو كسوة أو شمع أو دراهم أو يشعلون عندها السُرُج أو يصلون عندها، فإن النبي -  - نهى عن جميع ذلك فقال: (لعن الله زوارات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسُرُج)، وقال: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك)، وقال: (إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، يحذر ما فعلوا، قالت عائشة رضي الله عنها: ولولا ذلك لأُبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدا، فهذه الزيارة على هذا الوجه بدعية منهيٌ عنها.
وكان تحت الطاحون التي قبلي مسجد النارنج في الماء عند فرّاش الطاحون صنم حجر يعظّم ويستسقى به، فكان بعض الناس يكون عنده مولود صغير وقد طال به المرض، فيأتون به حتى يغطّسوه عند الصنم في الماء فيشفى، ويحطّون عند الصنم خبزا وحلوى وغير ذلك، فخرج إليه الشيخ شرف الدين وأخوه تقي الدين فكسره وخلص أولاد الناس منه.
وكان عمود في حارة الفرما يقال له العمود المخلّق وكان حاله كما ذكر، فكسره وأراح الناس منه.
وكان مع أناس حجارين حجر رخام وقد قمّعوه بقصدير، وفي وسط الحجر أثر قدم، دائرين في البلاد، ويدخلون به على بيوت الكبراء والسعداء في الأسواق، ويقولون لهم: هذا موضع قدم نبيكم، فيبقى الناس يقبلونه ويتبركون به ويعطونهم الأموال لأجل ذلك، فأمسكهم الشيخ، فكسر ذلك الحجر، وتهارب أصحابه من قدام الشيخ مخافة أن يضرهم.
وجاء إنسان إلى الشيخ يوما بخبز يابس فقال له: يا سيدي قد جبت هذا من سماط الخليل على اسمك. فقال له: ما لي به حاجة، أنا حاجتي إلى الدين الذي كان عليه الخليل، ومتابعة ملة الخليل الذي أمر الله بها أمة محمد بمتابعتها، ما لي حاجة بهذا الخبز، والخليل ما عمل هذا، ولا أمر بهذا القدس).[76]

وصية الشيخ أحمد الواسطي أصحاب ابن تيمية بالصبر على المحن ولزوم طريقته:
(فصبرا يا إخواني على ما أقامكم الله فيه من نصرة دينه، وتقويم اعوجاجه، وخذلان أعدائه، واستعينوا بالله ولا تأخذكم فيه لومة لائم، وإنما هي أيام قلائل، والدين منصور، قد تولى الله إقامته ونصره، ونصرة من قام به من أوليائه إن شاء الله ظاهرا وباطنا، وابذلوا فيما أقمتم فيه ما أمكنكم من الأنفس والأموال، والأفعال والأقوال، عسى أن تلحقوا بذلك بسلفكم أصحاب رسول الله، فلقد عرفتم ما لقوا في ذات الله كما قال خبيب حين صلب على الجذع:
وذلك في ذات الإله وإن يشأ
                    يبارك على أوصال شلو ممزع ..
ثم اعرفوا إخواني حق ما أنعم الله عليكم من قيامكم بذلك، واعرفوا طريقكم إلى ذلك، واشكروا الله تعالى عليها، وهو أن أقام لكم ولنا في هذا العصر مثل سيدنا الشيخ الذي فتح الله به أقفال القلوب، وكشف به عن البصائر عمى الشبهات، وحيرة الضلالات، حيث تاه العقل بين هذه الفرق، ولم يهتد إلى حقيقة دين الرسول، ومن العجب أن كلا منهم يدعي أنه على دين الرسول حتى كشف الله لنا ولكم بواسطة هذا الرجل عن حقيقة دينه الذي أنزله من السماء وارتضاه لعباده.
واعلموا أن في آفاق الدنيا أقواما يعيشون أعمارهم بين هذه الفرق، يعتقدون أن تلك البدع حقيقة الإسلام، فلا يعرفون الإسلام إلا هكذا!
فاشكروا الله الذي أقام لكم في رأس السبعمائة من الهجرة من بيّن لكم أعلام دينكم، وهداكم الله به وإيانا إلى نهج شريعته، وبيّن لكم بهذا النور المحمدي ضلالات العباد وانحرافاتهم، فصرتم تعرفون الزائغ من المستقيم، والصحيح من السقيم، وأرجو أن تكونوا أنتم الطائفة المنصورة الذين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم وهم بالشأم إن شاء الله تعالى، ثم إذا علمتم ذلك فاعرفوا حق هذا الرجل الذي هو بين أظهركم وقدره، ولا يعرف حقه وقدره إلا من عرف دين الرسول وحقه وقدره، فمن وقع دين الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من قلبه بموقع يستحقه؛ عرف حق ما قام به هذا الرجل بين أظهر عباد الله، يقوّم معوجهم، ويصلح فسادهم، ويلم شعثهم جهد إمكانه، في الزمان المظلم الذي انحرف فيه الدين، وجهلت السنن، وعهدت البدع، وصار المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والقابض على دينه كالقابض على الجمر، فإن أجر من قام بإظهار هذا النور في هذه الظلمات لا يوصف، وخطره لا يعرف، هذا إذا عرفتموه أنتم من حيثية الأمر الشرعي الظاهر، فهنا قوم عرفوه من حيثية أخرى من الأمر الباطن، ومن يقوده إلى معرفة أسماء الله تعالى وصفاته، وعظمة ذاته، واتصل قلبه بأشعة أنوارها، والاحتظاء من خصائصها وأعلى أذواقها، ونفوذه من الظاهر إلى الباطن، ومن الشهادة إلى الغيب، ومن الغيب إلى الشهادة، ومن عالم الخلق إلى عالم الأمر، وغير ذلك مما لا يمكن شرحه في كتاب!
فشيخكم أيدكم الله تعالى عارف بذلك، عارف بأحكام الله الشرعية، عارف بأحكامه القدرية، عارف بأحكام أسمائه وصفاته الذاتية، ومثل هذا العارف قد يبصر ببصيرته تنزّلَ الأمر بين طبقات السماء والأرض، كما قال تعالى: {الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما}، فالناس يحسون بما يجري في عالم الشهادة، وهؤلاء بصائرهم شاخصة إلى الغيب ينتظرون ما تجري به الأقدار يشعرون بها أحيانا عند تنزلها...
واعلموا رحمكم الله أن هنا من سافر إلى الأقاليم، وعرف الناس وأذواقهم، وأشرف على غالب أحوالهم، فوالله ثم والله، ثم والله، لم ير تحت أديم السماء مثل شيخكم ابن تيمية علما وعملا، وحالا وخلقا، واتباعا وكرما، وحلما وقياما في حق الله عند انتهاك حرماته، أصدق الناس عقدا، وأصحهم علما وعزما، وأنفذهم وأعلاهم في انتصار الحق، وقيامه همة، وأسخاهم كفا، وأكملهم اتباعا لنبيه محمد ، ما رأينا في عصرنا هذا من تستجلى النبوة المحمدية وسننها من أقواله وأفعاله إلا هذا الرجل، حتى يشهد القلب الصحيح إن هذا هو الاتباع حقيقة...
وأقول انتصارا لمن ينصر دين الله بين أعداء الله في رأس السبعمائة، فإن نصرة مثل هذا الرجل واجبة على كل مؤمن، كما قال ورقة بن نوفل: "لئن أدركني يومك لأنصرنك نصرا مؤزرا"، ثم أسأل الله تعالى العصمة فيما أقول عن تعدي الحدود والإخلاد إلى الهوى...
يا سبحان الله العظيم أين عقول هؤلاء؟ أعميت أبصارهم وبصائرهم! أفلا يرون ما الناس فيه من العمى والحيرة في الزمان المظلم المدلهم الذي قد ملكت فيه الكفار معظم الدنيا، وقد بقيت هذه الخطة الضيقة يشم المؤمنون فيها رائحة الإسلام، وفي هذه الخطة الضيقة من الظلمات من علماء السوء، والدعاة إلى الباطل وإقامته، ودحض الحق وأهله، مالا يحصر في كتاب، ثم إن الله تعالى قد رحم هذه الأمة بإقامة رجل قوي الهمة، ضعيف التركيب، قد فرق نفسه وهمه في مصالح العالم وإصلاح فسادهم، والقيام بمهماتهم وحوائجهم، ضمن ما هو قائم بصدد البدع والضلالات، وتحصيل مواد العلم النبوي الذي يصلح به فساد العالم، ويردهم إلى الدين الأول العتيق جهد إمكانه، وإلا فأين حقيقة الدين العتيق؟ فهو مع هذا كله قائم بجملة ذلك وحده، وهو منفرد بين أهل زمانه، قليل ناصره، كثير خاذله وحاسده، والشامت فيه، فمثل هذا الرجل في هذا الزمان، وقيامه بهذا الأمر العظيم الخطير فيه، أيقال له: لم يرد على الأحمدية...).[77]
وانتهت رسالة الشيخ العارف الزاهد أحمد بن إبراهيم الواسطي، ولم ينته بعد خبر ابن تيمية ومعركة الحرية، فما زال للحديث بقية!




[1] اقتضاء الصراط المستقيم 2/104
[2] مجموع الفتاوى - (3  / 268)
[3] مجموع الفتاوى  (35 / 365)
[4] مجموع الفتاوى  (35  / 395)
[5] منهاج السنة النبوية (3 / 231)
[6] منهاج السنة النبوية (4 / 312)
[7] مجموع الفتاوى (28 / 532 - 533)
[8] شرح العمدة (4/85)
[9] مجموع الفتاوى (7/ 615)
[10] منهاج السنة النبوية (5 / 140)
[11] مجموع الفتاوى - (28  / 544 - 546)
[12] الفتاوى (28 / 200)
[13] مجموع الفتاوى - (22  / 51)
[14] تفسير ابن كثير (3 / 131)
[15] إقامة الدليل على إبطال التحليل - (3 / 221)
[16] مجموع الفتاوى (28 / 398)
[17] مجموع الفتاوى 35  /54.
[18] مجموع الفتاوى 4  /451.
[19] مجموع الفتاوى 4  /451 -452.
[20] مجموع الفتاوى 4  /452.
[21] منهاج السنة النبوية (6 / 70)
[22] جامع المسائل (6 / 40)
[23] منهاج السنة النبوية (3 / 231)
[24] مراتب الإجماع ص 176
[25] رواه الدارقطني في المؤتلف والمختلف 4/1890 ، وأورده القاضي عياض في ترتيب المدارك 1/166 ، والذهبي في تاريخ الإسلام 14/ 292 .
[26] ابن جرير الطبري 4/427، حوادث سنة 145هـ، وسير أعلام النبلاء 8/80.
[27] انظر تبصرة الحكام 2/96.
[28] المدونة للإمام مالك 1/368.
[29] المدونة للإمام مالك 1/392.
[30] الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار (5 / 11)
[31] الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار (5 / 11)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق