الغرفة المهجورة وأتاتـورك!!..
المختار الإسلامي 2007
بقلم د محمد عباس
سبحانك.. و أقسم بجلال نور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن إيماني بانتصار هذه الأمة رغم كل ما يحدث، لا يهتز أبدا، حتى أنني أقول لنفسي جادا غير هازل ولا مبالغ ولو هلك كل المسلمين على الأرض فلم يبق منهم إلا واحدا فلن يهتز يقيني أن النصر الموعود سيتحقق على يديه..
نعم النصر الموعود قادم رغم الهجمة الصليبية الشرسة على الإسلام والمسلمين.. وهي كما كانت دائما.. وكما هي كائنة وكما سوف تكون..لم تتغير.. لكن الذي تغير هو ذلك الضعف الطارئ الذي حاق بالمسلمين جميعا.. وتلك المسوخ التي صاغها الغرب واستنسخها وولاها علينا ملوكا ورؤساء و أمراء وسلاطين.. وليسوا سوى خدم له.. حيث تجدون أن أبا لهب و أبا جهل – وكل شيوخ عشائرنا - أشد علينا في تلك الحرب الصليبية من كسرى وقيصر.
نعم.. النصر قادم رغم روما وفارس، رغم لندن وباريس وبرلين وواشنطن والرياض والقاهرة، رغم مباحث أمن الحاكم ووزراء عسسه و مهازل محاكمه العسكرية.
( تحفظ واحد هنا : هو أن فارس قد انتهت بالإسلام الذي يجبّ ما قبله).
أدرك ذلك..
أدركه بقلب واجف، ليس خوفا من عدم مجيء ذلك النصر الموعود، فهو آت بلا ريب، حتى لو تأخر كثيرا أو قليلا، ولكن غشاوة الحزن التي تكتنف القلب لا تغشاه يأسا ولا شكا، و إنما هو إدراك حزين أن النصر الذي عشنا عمرنا نسعى إليه وننتظره لن يتحقق في حياتنا، فقد طالت أعمارنا وتقاصر الزمن.
وتكالب علينا عدو الداخل قبل عدو الخارج، وبرغم ذلك فإن نصال الأعداء تتكسر على صلابة مقاومة المجاهدين بالسيف والكلمة، لأنني أدرك أن الدور المصري في الحرب على الإسلام قد أصبح حاسما، و أن شيوخ عشائرنا – ولا أقول رؤساء أحزابنا وهيئاتنا ومؤسساتنا يقومون بالدور في كفاءة يحسدهم الشيطان عليها. وذلك يحزنني ويخزيني.
النصر قادم نعم.. لكن متى؟.. علم ذلك عند ربي..
وما أخشاه هو العار الذي أصبح يسيطر علىّ بسبب تصرفات شيوخ قبائلنا، حيث يفخر بخيانته الخائن، ويطارد اللصُّ الأمين، ويُكذّب الصادق ويصدق الكذاب، ويعاير الشاذ الأسوياء، وتتيه بفجورها الداعرة، أما العفيفات المحصنات فيستخفين خشية أسْرهن أو هتك عرضهن في الشوارع، ويهدد العسس أمن الناس، يقتلون رجالهم و أطفالهم ونساءهم أيضا في وحشية ترفع عن مثلها أبو جهل القديم، لكن اللواء أبا جهل وخدمه وعبيده الخصيان لا يتورعون عنها.
أدرك حتمية الانتصار بقلب واجف و أنا أتطلع في انبهار إلى ما يحدث في تركيا بعد نيف وثمانين عاما من حكم الشيطان أتاتورك، نيف وثمانين عاما من حرب مستعرة على الإسلام كان بلاء شياطين الأتراك فيها أكثر من بلاء شياطين الروم، نيف وثلاثين عاما من محاربة الإسلام ونشر الكفر ودعم الباطل ودحض الحق، وترويج ثقافات الجسد والشذوذ والعهر والإلحاد، بعد هذا كله ينهض الشعب التركي المسلم عن بكرة أبيه ليقول بنتائج الانتخابات رأيه فيما حدث. اخسئوا إذن آل فرعون!!.. كل فرعون..
الأهم من المعنى المباشر الذي حدث، هو سقوط الرمز الذي أرادوا -قاتلهم الله- أن يروجوه بين الناس، وهو أن تركيا عندما تركت الإسلام تقدمت، فإذا بها لا تتقدم إلا بعد أن عادت إلى الإسلام مكتسحة تراث عسكر الجيش وعسكر الثقافة اكتساح الطوفان للقاذورات والقمامة. وإذا بنموذجها يصبح الحادي الهادي بين دول لا إله إلا الله محمد رسول الله.
أقول عسكر الجيش وعسكر الثقافة، لأنه لا فرق حقيقيا عندي بين العادلي وفاروق حسني، ولا بين رفعت السعيد وحمزة البسيوني، ولا بين صلاح عيسى وصفوت الروبي.
كما أن النظام الذي نكل بالظلم والباطل بالإخوان المسلمين في حقب عديدة هو هو ما يزال. يساعد في طغيانه عسكر الأمن وعسكر الثقافة، حتى نجحوا في تحويل الناس في بلادنا إلى أشباه بشر، لا يثورون ولا يتحركون ولا يغضبون مهما حدث حولهم أو حتى لهم.
***
كان من ضمن أسباب إسلام روجيه جارودي أنه في الحرب العالمية الثانية كان ما يزال شيوعيا وكان معتقلا في الجزائر، وقاد مع أصحابه تمردا ضد قائد السجن الفرنسي، فما كان من القائد الفرنسي إلا أن أمر الجنود الجزائريين بإطلاق الرصاص عليهم، وذهل جارودي عندما وجد الجنود يرفضون، وذهل أكثر عندما رفض الجنود تهديد القائد بأنه سيحاكمهم محاكمة عسكرية ويحكم عليهم بالإعدام رميا بالرصاص لعدم إطاعة الأوامر أثناء الحرب، فيما بعد تم حل المشكلة، وذهب جارودي إلى أحد الجنود الجزائريين يسأله لماذا رفض إطلاق النار عليه رغم أن ذلك كان سيكلفه حياته، خاصة أنه لا يعرفه، و أجاب الجندي أنه مسلم، و أن الإسلام يمنعه من قتل برئ، و أنه حتى لو قتل في سبيل المحافظة على تعاليم دينه فسوف يكون شهيدا، وكانت هذه هي البذرة التي ألقيت في أعماق جار ودي لتسفر عن إسلامه بعد ذلك.
***
أصرخ في ألم: فعلها الجندي الجزائري بعد أكثر من مائة عام من احتلال وحشي مجرم، حاول الاحتلال خلالها سحق الهوية وطمس نور الإسلام، لكنه عجز، لنجد هذا الجندي يفعل ما فعل،فلماذا لا يفعل جنودنا مثل ذلك بعد خمسة وخمسين عام من حكم الثوار.
أصرخ في ألم لا يوصف: لماذا لم يفعلها واحد فقط، لماذا لم يصرخ أمين شرطة في وجه ضابط قائلا أنه يرفض التعذيب لأن دينه يمنعه ؟ لماذا لم يصرخ ضابط في وجه سياسي أنه لن يزور الانتخابات لأن دينه يمنعه؟ .
أصرخ بلا صوت في ألم وحشي لا يوصف : ماذا حدث للناس؟ وكيف حدث ذلك لهم. كيف مسخوا هذه المسخة؟!
ثم لماذا لم يستقل وزير رفض أن يجاري ما يجري.
لقد حدث ذلك تحت حكم الملك الفاسد وتحت حراب الإنجليز، بل وأدي تعذيب مجرم واحد إلى استقالة حكومة الطاغية إسماعيل صدقي فلماذا لا يحدث الآن جزءا ضئيلا مثله..
ماذا فعل بنا الطاغوت و وزبانيته من عسكر الثقافة والأمن..
حتى القضاء عبثوا به..
فلماذا لم يستقل قاض ذهبوا إليه بالرشوة كي يحكم على بريء، وذهبوا إليه برشوة أكبر كي ببريء مجرما.
لماذا .. لماذا.. لماذا..
لماذا لم تحكم محكمة عسكرية بأنها ترفض إحالة القضية إليها لأنها تربأ بالجيش أن يكون خنجرا مسموما في يد طاغوت..
و لماذا لا تأمر محكمة عسكرية بإخراج الضحايا الأبرياء من أقفاصهم، و إدخال من أدخلوهم مكانهم.
أصرخ لماذا لا يصرخ أي واحد منهم: إني أخاف الله؟..
أصرخ أصرخ أصرخ أصرخ.. لكن السؤال لا يبرح: كيف حدث هذا ومتى. كيف مسخوا هذه المسخة؟
أعرف أن الأمر قد بدأ منذ زمان طويل، لكنه بدأ بشكل محدد بعد انهيار الخلافة الإسلامية، وكان التركيز الساحق على تركيا، لكن النموذج الفج لكمال أتاتورك أثار العالم الإسلامي فنبه الصليبيين إلى أن عليهم صياغة وصناعة نماذج مثل كمال أتاتورك لتحكم كل دول العالم الإسلامي، نماذج كافرة عاهرة، ولكن عليهم أن يصنعوها سرا، في الخفاء، في غرفة مهجورة كي لا ينتبه أحد للجريمة التي يدبرونها.
وفي النهاية، بعد آلاف الأحداث الصغيرة والكبيرة، يتداعى الجسد الإسلامي فينهار.
أخشى من أن يكون حدث شيء من هذا مع مصر..
و أن يكون التركيز عليها قد بدأ دون أن نشعر أو أن نحس، وأننا إذ دعينا للنجدة وصلنا بعد فوات الأوان، فلم يعد متاحا أن نعالج، بل أن نعزي.
مصر الذي يظنها الآخرون بخير.. وهي لم تعد كذلك..
مصر التي تشرئب إليها الأعناق لتُنجد بينما هي المحتاجة للنجدة والغوث..
مصر التي تحولت من أكبر رصيد في محيط أمتها الإسلامية لتصبح أهم رصيد عند أعداء الأمة..
نعم، وأظن أن كل الأمور قد تحددت في إطار المؤامرة، رغم صراخ الخنازير أنه لا توجد مؤامرة، فليس يولى حاكم أو يعزل حاكم أو يورث حاكم أو يقتل حاكم إلا في إطار تخطيط دقيق، كل شيء فيه بالثمن، و أنه ما من حاكم يُولّى إلا بعد أخذ العهود والمواثيق منه أن يحارب الله ورسوله والمؤمنين.
أما تفاصيل المؤامرة فتحتوي على أن تحمي الجيوش إسرائيل لا الوطن، و أن تكون الشرطة أضعاف عدد الجيش كي تحمي الطاغية من غضب شعبه، و أن يدخل المثقفون الحظيرة، بعد أن يتحولوا إلى مرتزقة.
نعم.. تمت صيغة مئات بل آلاف النماذج في الغرفة المهجورة.
وتم التحول والمسخ لتكون الحال في النهاية هي تماما ما نحن فيه الآن..
تم كل شيء في الظلام والغيبوبة تحت قصف الإذاعات والصحف والسياط و أقلام الشيطان..
***
تذكرني كلمة الغرفة المهجورة بما حدث لي منذ خمسة وثلاثين عاما..
وعلى الرغم من كل هذا الزمن فما زالت تفاصيله تكوي قلبي ومرارة ملح دموعه في حلقي..
كنا في موسم الحج.. وكنت قد انتدبت للعمل طبيباً في مستشفى عرفات.. وكنت أحج..
كانت العادة أن تغلق المستشفى أبوابها مع النفرة.. وأن يُحوّل من فيها من المرضى إلى مكة.. لكن اكتشاف انتشار وبائي الالتهاب السحائي والكوليرا بين الحجاج في ذلك العام غيّر من ذلك النظام فصدرت الأوامر ببقائنا في المستشفى لرعاية المرضى..
واستفتينا شيخ الحرم فأفتى لنا بأنه ينطبق علينا ما ينطبق على السقاة والرعاة وألا نبيت في منى بل نؤدي المناسك ثم نعود لنبيت في عرفة.. على أن نحتفظ بإحرامنا حتى طواف الإفاضة..
وكان المسئولون قد نسوا أمر إعاشتنا.. لم يكن ثمة طعام ولا شراب بينما كانت هناك كميات هائلة من الأدوية والعقاقير.. رحنا نتوضأ للصلاة بمحلول الملح بديلا عن الماء ونشرب محلول الجلوكوز بديلا عن الطعام.. يتهددنا – بين الجوع والعطش وانعدام الماء للتنظيف – انتقال الأمراض إلينا..
وكنت أؤدي مناسك الحج للمرة الأولى وكنت أتخبط في ملابس الإحرام..
كنت أجيش بالمشاعر بعد المزدلفة ومنى ورمي جمرة العقبة الكبرى..
وكنت مجهدا من عمل متواصل طيلة الأيام السابقة..
وكنت جائعا وعطشانا ونصف عار..
كان المستشفى مكدسا بالمرضى وكان الموت يتجول بيننا حتى كدنا أن نراه..
كان الأمر هائلا وغريبا وبدا أنه لا ينتمي لحياتنا الدنيا.. ربما ينتمي إلى دنيا الأحلام والرؤى.. أو أنه بدا كمشهد من مشاهد الآخرة.. كان الموت حاضرا.. وكان مسيطرا.. الموت الذي نقابله في حياتنا العادية مرة أو مرتين في العام.. وربما كأطباء نراه مرة في الشهر أو حتى في الأسبوع.. هذا الموت نقابله الآن في الساعة الواحدة مرات ومرات بل وأحيانا يتكرر في الدقيقة الواحدة.. استطعنا بجهد جهيد التعامل مع الوضع الطارئ وسط أحزان فاجعة لموت العشرات من الحجاج.. ذلك الحزن الثقيل الخانق الذي لا يتيح لك أي وقت تتأمله فيه.. لم أكن أحسب أن الموت يمكن أن يأتي بمثل هذه السهولة.. بمثل هذه التكرارية.. وخيم عليّ الشعور بأن ملك الموت يدير المستشفى إدارة مباشرة..وأنه لا يمكن أبدا مقاومته.. لو استمرت الوفيات بهذا المعدل فسنفنى جميعا في أيام قليلة.. بل ستبيد البشرية كلها في بضعة أسابيع..
أحسست بجبروت الله فملأ الرعب قلبي..
كنا قد قضينا 24 ساعة دون نوم.. أديت مناسك الحج ثم عدت إلى المستشفى قبل فجر النحر بساعات فذهب زملائي جميعا وبقيت وحدي.. أحقن المرضى بالمحاليل وأراقب الضغط والنبض وأعطي مخفضات الحرارة والمضادات الحيوية وأغمض عيون الموتى وأتلو الشهادتين وأحرر شهادات الوفاة..
هل يعرف ذووهم أنهم يموتون الآن؟؟..
ولم يكن هناك أي وقت للإجابة على السؤال أو التأمل فيه..
كنت جائعا عطشانا نصف عار أكاد أسقط من الإعياء والإرهاق مترقبا وصول زملائي حتى أركن لبعض راحة..
لم يأت الزملاء.. ساعات وساعات ولم يحضروا..وليس ثمة هنيهة أريح فيها جسدي المكدود.. ومضى نهار يوم النحر كله ولم يحضروا.. بل حضر في المساء قول من سيارات الإسعاف يحمل المصابين في حوادث الطرق..
نظرت ذاهلاً.. كنت أتخيل أنني سأسقط في أي لحظة من الإعياء بسبب المجهود المضني الذي بذلته.. لم أكن أتخيل أنني أستطيع أن أواصل.. الآن عليّ لا أن أواصل فقط بل وأن أتعامل مع الوضع الجديد أيضا..
أدركت على الفور أنني يجب أن أتعامل مع هذا الوضع كما يتعامل الأطباء في ميدان المعركة.. فأجريت حصرا سريعا للمصابين.. كانوا أربعة عشر مصابا يلبسون جميعا ملابس الإحرام.. وزعهم رجال الإسعاف على حجرات الاستقبال.. وضعوا المصاب الأول –كيفما اتفق– وحده في غرفة.. كانت الغرفة صغيرة جدا بحيث لا تكاد تتسع لكلينا.. لم أعرف أبدا طيلة الأيام السابقة لماذا صمموا هذه الغرفة بهذا الصغر.. كانت مهجورة ولم تستعمل ولم أر من يدخلها من قبل أبدا.. بل إنني فوجئت بوجودها.. فحصت المريض.. كان شابا.. ربما كان في الخامسة والعشرين من عمره.. لم تكن به إصابات ظاهرة.. حاولت بالعربية والإنجليزية التفاهم معه وسؤاله مم يشكو.. كان مكتمل الوعي لكنه لم يفهم لغتي.. كنت أحاول التفاهم معه.. كنت أتحدث إليه.. لم يقدم على مجرد المحاولة كما كان الآخرون يفعلون عادة حين كانوا يحاولون فيفشلون فيهتفون بعربية صحيحة: الله أكبر.. محمد رسول الله.. ثم يصمتون وكأنهم قد قدموا أوراقهم وهويتهم ودليل قرابتهم.. قدّموا الأهم أما الباقي فتفاصيل مكررة متشابهة لا معنى لها ولا قيمة.. لم يفعل هذا المريض ذلك.. فحصت الضغط والنبض.. كانا في حدود الطبيعي.. فحصت باقي الأعضاء.. لم يكن هناك سوى بقايا دم متجلط إثر رعاف.. كانت حالته جيدة وكان غيره أحوج لي.. فحصت الباقين وأنا أُلقي تعليمات حاسمة وسريعة لهيئة التمريض تتضمن الإسعافات السريعة والعلاج والدم والبلازما والأكسيجين وطلب سيارات إسعاف لتحويل من يحتاج لمستشفيات متخصصة.. طلبت من هيئة التمريض متابعة النبض والضغط وإبلاغي على الفور بما يستجد.. أكملت الفحص الأولي للمرضى.. حاولت مواجهة ما يتهدد الحياة بصورة عاجلة كنزيف حاد أو اختناق.. وضعت الجبائر للكسور وحقنت المسكنات وأعطيت التعليمات اللازمة لحالات النزيف الداخلي..
وصلت أخيرا إلى مصاب مصري.. كانت ضلوعه مهشمة.. كل ضلوعه تقريبا بدرجة أذهلتني كيف وقع الحادث وما هو كنهه.. كان ضغط الدم صفرا والنبض لا يحس لكنه كان مكتمل الوعي.. وكان الدم يفور كالزبد من فمه.. كنت أضخ المحاليل والدم في عروقه و أشفط السوائل من فمه وأستعمل الأدوات الجراحية للبحث عن وريد أكبر أحقن فيه مزيدا من الدم.. كنت منفعلا تماما ومستغرقا بدرجة لا يمكن وصفها..
وكان هو يحدثني بضعف في صفاء واستسلام الرضي لا استسلام اليأس: لا تتعب نفسك يا دكتور فإنني أحس بالموت.. أشعر بروحي تطلع الآن.. أحس بها تطلع فعلا.. ربما لا تصدقني لكنني أقول لك الحقيقة.. لن أمكث طويلا.. رحت أشجعه.. أكذب عليه و أشجعه..
قال في استسلام كامل: أنا من المنصورة.. أعول ثلاثة عشر منهم أبي وأمي.. ليس لهم سواي.. حملق.. بدا أنه ينظر إلى مالا أراه وهمس: لهم الله.. لهم الله.. وكان كل ما في الوجود يبكي إلا عيني.. رحت أواصل طمأنته.. كان عليّ أن أقوم بواجبي الأخير.. قلت له بإذن الله ستشفى لكن إن كنت تريد إبلاغ أهلك بشيء أو أن توصي بشيء أعطني رقم تليفون أتصل به أو عنوانا أكتب إليه.. حملق فيّ لكنه لم يكن يراني.. همس.. أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.. ودون حتى رجفة أسلم الروح.. مات..
لم يكن لدي أي متسع من الوقت كي أمارس فيه رفاهية التفريج عن الألم أو التعبير عنه.. انطلقت إلى سواه.. حاجز اللغة سكين يذبح التواصل.. أرتب الحالات طبقاً لخطورتها.. لكن هل أنا مصيب في تقديري لدرجة الخطورة.. أي خطأ أو سوء في التقدير لا عاقبة له سوى الموت.. ولم يكن هناك أي وقت للإجابة عن السؤال.. كل آن وآخر كان أحد الممرضين يأتي ليطلب نجدتي لمريض من مرضى الكوليرا أو الالتهاب السحائي..
وكنت أترك المصابين وأجري.. أصف الممكن من العلاج.. ويأتي المسعف بعد قليل ليخبرني: هذا تحسن وذاك مات.. كنت أسمعه بأذن أما الأذن الأخرى فمع المصاب الذي أتابعه.. أحدق في عيون الأحياء كي أقدر حالتهم وفي حدقات الموتى كي أتيقن من موتهم.. كانت العيون الميتة تبدو بلا غور.. امتزجت باللانهاية.. لم تكن العيون الميتة ميتة.. بدت تحمل إنذارا رهيبا وتحذيرا مروعا.. بدا لي أنها تحسد الأحياء جميعا فما تزال أمامهم فرص لاستدراك ما فاتهم واستدبار أمرهم..فرص للتوبة بينما هي قد عبرت الفرصة الأخيرة.. بدا أنها رأت ما لا عين رأت.. وأنها تريد –لولا الموت– أن تطلق صيحة تحذير هائلة.. عرفنا الحقيقة.. تبا لكم عرفنا الحقيقة.. ذلك ما كنا عنه نحيد.. كنت أحملق في الأحداق.. كانت واسعة جدا.. وكانت تشبه فوهة بئر بلا قرار يكاد يجذبني بقوة جاذبية الأفلاك فأوشك أن أسقط فيه..لو أن بصري أحد لرأيت ما رأت..
ماذا رأيت أيتها العيون الميتة عند العتبة الفاصلة بين الحياة والموت.. وهذا الانطفاء في اللمعة هل يعني كشف غطائك وأن بصرك الآن حديد.. لا يبدو في الأجساد الميتة أي تغير فلماذا لا تنهض واقفة؟!.. لماذا لا تنهض واقفة يا معشر الماديين والعلمانيين ولم ينقص من مادتها أي شيء.. كل ما تعترفون به لم ينقص منه شيء فماذا حدث إذن.. وهل غير المحسوس الذي ذهب أهم أم الملموس الذي بقي؟!..
أجيبوا.. قولوا…
لم تتطور أجسادكم من القرود لكنكم أضل..
اعترفوا يا كلاب الشيطان وخنازير الغرب بأن الروح من أمر ربي…
***
بعد ستة ساعات كان الوضع قد استقر قليلا..
كان الصباح الجديد يشقشق وكان الشاهد الأبيض فوق جبل الرحمة يخطف القلب ويلوح في الأفق تهب منه نسمات تهفو لها الروح..
أمكن إنقاذ عشرة من المصابين ومات ثلاثة..
كدت أتجه إلى مقعدي استجابةً لعظام تئن ومفاصل تتفكك وعضلات ترتجف.. لكنني تذكرت أمرا على الفور فاستدركت حائرا: لكنهم كانوا أربعة عشر.. انسدل غشاء من الغباء على عقلي فلم أجد تفسيرا لذلك اللّغز الغريب لبضع ثوان لكنني سرعان ما هتفت في لوعة وارتياع: مريض الغرفة المهجورة.. لم أتذكره ولم يذكرني به أحد..
جريت إليه..
وكان راقدا بالحالة التي تركته عليها..
لكنه كان ميتا..
غام الأفق بل انفجر فانهرت تماما ورحت أجهش بالبكاء..
***
لعلك تتساءل أيها القارئ لماذا أنزف هذه الذكريات و أكتبها لك..
أقول لك..
ذلك أن شعوري إذ أكتب هذه المقالات شبيه بشعوري في ذلك اليوم الذي مر عليه أكثر من ثلث قرن في عرفات.. إنني أتناول في هذه المقالات من القضايا ما أظن أنه الأخطر.. ما أعتقد أنه لم يعد يحتمل الانتظار.. لذلك تجدني أحدثك في اتجاه وأعدك بالمواصلة فيه لكنني سرعان ما أخلف وعدي لأنطلق إلى قضية أخرى.. أما تتابع الأحداث فتجلدني بسياط من نار.. كشمير أولى أن تكتب عنها.. بل بورما.. بل الفليبين.. بل كوسوفا.. بل الأقربون أولى بالمعروف فلا تنس العراق.. بل أدرك السودان قبل التقسيم.. بل تونس بل الجزائر بل الخليج بل نجد والحجاز بل المسلمين في المهجر بل الطواغيت ووكلاء الغرب المتسلطين على كافة أرجاء عالمنا الإسلامي.. ثم يصرخ صوت يغطي على جميع ما سبقه: لا تنس مصر.. لا تجعلها كمصاب الغرفة المهجورة.. تحسب –ظلما– أن حالها أفضل من غيرها بينما هي تشرف على الموت.. تموت لا يدركها أحد.. دعك مما توحي به الظواهر.. وانظر إلى التاريخ نظرة شاملة تضرب بها آباط الأمور وتصيب كبد الحقيقة.. افهم أنها لابد مرصودة في مخططات الغرب بعد تركيا.. فهي القادرة على لمّ الشتات الذي تمزق.. لقد استمرت الدولة الإسلامية منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم حتى عام 1924.. عام نهاية الخلافة الإسلامية في تركيا.. استمرت الدولة الإسلامية طيلة هذه القرون وكانت أغلب الحكومات غير إسلامية لكن الأمة كانت مسلمة والحضارة كانت مسلمة والتوجه كان إسلاميا وكان الإيمان بالله يعمر قلوب الناس فما لا يزعه القرآن يزعه السلطان حتى وإن كان هو نفسه فاجرا.. فقد كان يعلم أنه يحكم أمة مسلمة والإسلام هو سند شرعيته الوحيد.. انتهى هذا كله بكمال أتاتورك..
ولو سألتني أيها القارئ عن فرد واحد في هذا العالم أساء للإسلام أكثر مما أساء له أي واحد آخر لما تجاوزت إجابتي لك: كمال أتاتورك.. أكثر حتى من عبد الله بن سبأ.. كان يرجع في أصوله إلى يهود الدونمة.. أولئك الذين فروا من محاكم التفتيش في الأندلس بعد هزيمة المسلمين هناك..
كان الملك الأسباني فيليب قد قرر استرقاق المسلمين الباقين في الأندلس للعمل كعبيد في الكنائس والبيوت الأسبانية وليقوموا بدور الحيوانات في المزارع والجبال.. كانوا ستمائة ألف مسلم بقوا بعد القتل والتهجير والتنصير..
وتدخل السلطان العثماني أحمد رحمه الله.. وأدرك الملك فييليب أن السلطان قد يفكر في تجميد الجهاد في شرق أوروبا لينقله إلى غربها.. وخوفا من ذلك تراجع عن قراره.. وأطلق الستمائة ألف فاصطحبوا معهم اليهود الذين كانوا يتعرضون لنفس المصير.
ساح المسلمون في أنحاء الدولة العثمانية أما اليهود فلم يجدوا في العالم مكانا يأويهم ويحميهم إلا تركيا.. عاثوا في البلاد فسادا وادعى أحدهم النبوة.. استثاروا المشاعر الإسلامية وعندما أحسوا أن أمرهم كاد يكتشف ادعوا دخول الإسلام فدخلوه جملة.. وكلمة الدونمة كلمة تركية تعنى المرتدين أي الذين غيروا دينهم من اليهودية إلى الإسلام تمييزاً لهم عن مسلمي الأتراك أصلا..
من نسلهم كان كمال أتاتورك..
كانت أمه غانية.. أما أبوه –في شهادة الميلاد– فقد كان ضابطا تركيا انتحر كما يقول المؤلف التركي المجهول لكتاب: "الرجل الصنم".. وكان من أسباب انتحاره معرفته بأن كمال أتاتورك ليس ابنه بل ابن سفاح لجندي صربي..
هذا اليهودي السفّاح ابن السِّفَاح هو الذي قضى على الدولة الإسلامية..
دبر اليهود والغرب مؤامرتهم الكبرى.. ووصلوا إلى بغيتهم في ابنهم كمال أتاتورك.. كان فاسقا عربيدا لا يكف عن السكر.. وكان قاتلا سفاحا.. لكنه غطى على كل ذلك.. وفي إطار عملية الخداع عين فقيهين مالكيين لتعليمه الدين ثم أعدمهما عندما استتب له الأمر..
ويذكر كتاب "الرجل الصنم" وهو من أهم الكتب التي تكشف سر كمال أتاتورك: "…الذي يتمعن في حركة مصطفى كمال يرى العجب في المدى الذي وصل إليه في تقليد الغرب: غيّر الأحرف التركية إلى الأحرف اللاتينية.. غير القيافة إلى القيافة الغربية.. غير حتى الأعياد الدينية، وجعل يوم الأحد هو يوم العطلة الرسمية بدلاً من يوم الجمعة، ومنع الحج.. وأباح تزويج المسلمة لغير مسلم.."
ويذكر مصطفى كمال نفسه في كتابه "الخطابة" كيف تمكن من هدم الدولة الإسلامية وإلغاء الخلافة مسجلا في شماتة لحظاتها الأخيرة:
إنني أرى أن من المستحسن أن يوافق المجتمعون هنا وأعضاء المجلس وكل واحد على اعتبار هذه قضية طبيعية، ولكن إذا حدث العكس فان هذا الأمر سينفذ أيضا وفي إطار المجرى الطبيعي، ولكن من المحتمل أن بعض الرؤوس ستقطع..
ويجمد الجميع لدى سماعهم الجملة الأخيرة..(..).. هيئت لائحة القانون بسرعة، وفي الجلسة الثانية للمجلس في نفس اليوم وعندما اقترح وضع اللائحة للتصويت عليها مع بيان الأسماء وقفت على المنصة معترضا وقائلاً:
"لا أرى حاجة لذلك، ذلك لأنني أعتقد بأن المجلس الموقر سيوافق بالإجماع على الأسس التي سوف تحفظ إلى الأبد استقلال الأمة والوطن".. ارتفعت الأصوات قائلة "التصويت"!...
وأخيراً وضع الرئيس اللائحة للتصويت ثم قال: "قبلت اللائحة بالإجماع".. ولكن سمع صوت نشاز "إنني أعارض" ولكن هذا الصوت اختفى بين الأصوات القائلة "لا يسمح بأي كلام!"..)
( هل يختلف هذا عما يفعله أي حاكم من حكامنا.. وهل يختلف عما يجري اليوم في مجالس شيوخنا وشعوبنا؟)..
وهكذا أيها القراء جرت آخر صفحة من صفحات هدم الدولة الإسلامية الواحدة.. الدولة الإسلامية التي سبقت إلى الاتحاد قبل أوروبا بقرون.. وقد تمر قرون قبل استعادتها مرة أخرى..
ربما نعود إلى مصطفى كمال بعد ذلك لكننا في هذا المقال نركز على لحظات موته.. نعود إليها فيما نشرته صحيفة الأهرام نقلا عن وثائق بريطانية.. تحت عنوان:
(كمال أتاتورك رشح سفير بريطانيا ليخلفه في رئاسة الجمهورية التركية):
في نوفمبر 1938 كان كمال أتاتورك رئيس تركيا يرقد على فراش الموت، وعلى امتداد 15 سنة حاول أتاتورك بدكتاتورية صارمة أن يجرجر تركيا رغم أنفها ويدخلها إلى القرن العشرين، ومنع لبس الطربوش والحجاب وحطم سلطان الدين وأدخل نظام اللغة التركية بالحروف اللاتينية.
وعندما رقد أتاتورك على فراش الموت كان يخشى ألا يجد شخصا يخلفه قادرا على استمرار هذا العمل الذي بدأه فاستدعى السفير "بيرسي لورين" السفير البريطاني إلى قصر الرئاسة في استنبول.
أما ما دار بينهما فقد ظل سرا أكثر من ثلاثين عاما (..)
يروي لورين تفاصيل مقابلته غير المألوفة مع الدكتاتور المحتضر:
"… بدأ فخامته يتحدث ببطء ولكن بعناية شديدة وقال لي إنه أرسل في طلبي لأنه يريد أن يطلب مني طلبا عاجلا راجيا أن أعطيه جوابي عليه بطريقة قاطعة. ولقد كانت صداقتي ونصيحتي هي الوحيدة التي كان يحافظ عليها ويقدرها أكثر من أية نصيحة أخرى لأنها كانت ثابتة لا تتغير وكان هذا هو السبب الذي جعله يستشيرني في مناسبات متعددة.. بحرية تامة كما لو كنت وزيرا في مجلس الوزراء التركي.
وقد كان من سلطاته كرئيس للجمهورية أن يختار خليفة له قبل وفاته. وقد كانت أخلص رغبه له هو أن أخلفه في منصب الرئيس ومن ثم فقد كان يريد أن يعرف رد فعلي لهذا الاقتراح. وبعد بضع دقائق من التفكير الصامت قلت لفخامته أن جوابي هو أنني عاجز تماما عن أن أجد الكلمات التي تعبر عن مشاعري بصدق أو بما فيه الكفاية (…)"
... وعلى ذلك فإنني لا أجد سوى أن أعتذر آسفا، ولكن بحزم.
وعندما انتهيت من حديثي ظهرت على الرئيس علامات التأثر الشديد (…) كان رقيقا كعادته عندما أضاف انه بالرغم من خيبة أمله الشديدة فقد كان هذا هو الجواب الذي ينتظره مني ولهذا فقد قرر أن يعين عصمت إينونو بدلا مني.
وختم بيرس لورين برقيته لوزير خارجيته بقوله:
"وأكون شاكرا لو أنني تلقيت منكم يا سيادة اللورد رسالة تتضمن موافقتك على الموقف الذي اتخذته ورجائي إبلاغ الملك"
***
انتهى كلام الأهرام.. وكان هذا هو الرجل –بل الشيطان– الذي ادعى في البداية أنه يتقدم لينقذ الخلافة..
و أكاد أوقن أن كل حاكم من حكامنا يفعل ذات الشيء لحظة احتضاره، وأن جميع من يحكموننا إنما يحكموننا بعد أن رفض السفراء الأمريكيون أن يحكمونا مباشرة، فماذا يدعوهم أن يقوموا بدور خادم خائن يخون أهله؟.. ماذا يدعوهم وهم ما طلبوا أمرا إلا أطيعوا.
نعم.. كان هذا الخائن هو النموذج الذي صاغه الغرب كي يحكم.. ويحاول استنساخه اليوم كي يواصل الحكم.
خدعنا الذئب وخاننا.. حتى أن الشاعر أحمد شوقي كتب يشبهه بسيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه، ليعود وقد اكتشفه بعد شهور ستة ليكتب فيه أقذع هجاء..
خدعنا الرجل الذئب الصنم – وما من حكامنا إلا مثله- وانطلت علينا الخدعة، ومن هنا كان بحثي الدائم عن كمال أتاتورك في وجوه من حولي..
ولقد فجعت عندما قرأت أنه كان المثل الأعلى للضباط الأحرار في مصر وكثير من الحكام في العالم العربي ..
وعزوت الأمر لجهلهم وسطحيتهم وانعدام وعيهم وقلة بضاعتهم في الشريعة والتاريخ. من أجل هذا كانت فجيعتي أكثر عندما علمت أن مصطفى النحاس الذي أطلقوا عليه ( رجل يجمع بين شجاعة الأبطال وطهارة الأطفال) كان هو أيضا يعتبر ذلك المجرم الكافر السفاح أتاتورك مثلا أعلى!!
انظروا ما نشرته صحيفة الأهرام- يوم 15 ربيع الأول 1355 الموافق 6 يونية 1936
نشرت جميع الصحف التصريحات التي أدلى بها النحاس باشا إلى المراسل الخاص لوكالة الأناضول التلغرافية بالقاهرة:
قال النحاس باشا: "أود قبل كل شيء أن أقول: إنني من المعجبين بلا تحفظٍ بكمال أتاتورك الذي صاغ بعبقريته الخالقة تركيا الجديدة التي يلذ للعالم أن يسميها تركية أتاتورك، فلقد أوجد من دولة كانت بنوعٍ ما قد أمحت من خريطة العالم دولة شابة ذات حيوية فائقة غدت عاملاً يحسب حسابه في الشئون الأوروبية، ولستُ أعجب فحسب بعبقريته العسكرية، بل أعجب أيضًا بعبقريته الخالقة وفهمه لمعنى الدولة الحديثة التي تستطيع وحدها في الحالة العالمية الحاضرة أن تعيش وأن تنمو".
***
حتى أنت يا نحاس..
حتى أنت..!!
***
ولقد تجلت عبقرية حسن البنا ووعيه الديني والتاريخي والسياسي والوطني في رسالته إلى مصطفى النحاس والتي يقول فيها:
"... دولتكم أكبر زعيم شرقي عرف الجميع فيه سلامة الدين وصدق اليقين، وموقف الحكومة التركية الحديثة من الإسلام وأحكامه وتعاليمه وشرائعه معروف في العالم كله لا لبسَ فيه، فالحكومة التركية قلبت نظام الخلافة إلى الجمهورية، وحذفت القانون الإسلامي وحكمت بالقانون السويسري مع قوله تعالى: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ (المائدة: 43)، وصرَّحت في دستورها بأنها حكومة لا دينية، وأجازت بمقتضى هذه التعاليم أن تتزوج المسلمة غير المسلم، وأن ترث المرأة مثل الرجل(...) وهذا قليل من كثير من موقف الحكومة التركية من الإسلام، وأما موقفها من الشرق فقد صرحت في وقت من الأوقات بلسان وزير خارجيتها بأنها ليست دولة شرقية، وقد قطعت صلتها بالشرق حتى في شكل حروفه وفي أزيائه وعاداته وكل ما يتعلق به.(...)
القاهرة في 24 ربيع الأنور سنة 1355 = 14 يونية سنة 1936
***
دعنا الآن من أن سعد زغلول كان مقامرا وسكيرا ويجاهر بالإفطار في رمضان، و أنه تربي في حجر كرومر والأميرة نازلي، و أنه كان أول وتد قوي للعلمانية غرسه كرومر في قلب الأمة الإسلامية، ودعنا أيضا من عتابنا على الوفد، أنه بسبب الهوى السياسي رفعه إلى مصاف الأولياء والشهداء، غير مدرك أن زوجة ابنة مصطفى فهمي، وصديق قاسم أمين، وربيب نازلي، وصنيعة كرومر لا يمكن أن يصب في تيار الوطنية الحقيقية.
دعنا الآن من ذلك لندلف إلى باب أوسع للكارثة، فقد كان جل الساسة العرب البارزين بعد ذلك من مؤيدي أتاتورك والمعجبين به، ولم يكن هذا يشكل تمثيلا صحيحا للأمة بقد ما كان هؤلاء الساسة تمثيل حقيقي للاستعمار الذي اصطنعهم وقدمهم للأمة والتاريخ على أنهم زعماء وقادة، بعد أن سجن الزعماء والقادة الحقيقيين أو قتلهم.
و أظن أن جواز المرور لكل سياسي من هؤلاء الساسة كان امتدادا للملحق السري الذي وقع عليه كمال أتاتورك تحت اسم شروط كرزن الأربعة، حيث ينص بروتوكول معاهدة لوزان المعقود بين الحلفاء والدولة التركية عام 1923 المعروفة بشروط كرزن الأربعة على ما يلي:
أولا – قطع كل صلة بالإسلام.
ثانيا – إلغاء الخلافة الإسلامية.
ثالثا - إخراج أنصار الإسلام من البلاد.
رابعا – اتخاذ دستور مدني بدلا من دستور تركيا القديم المؤسس على الإسلام.
***
أقول أن المؤكد أن كل حاكم إسلامي دون استثناء قد وقع اتفاقا مثل هذا، مضافا إليه تبعات ثمانين عاما من الهزائم، وإلغاء ما تم إنجازه من مكاسب للغرب- كالقضاء على الخلافة- ووضع شروط بديلة.
و إنني واحد من الناس على سبيل المثال أظن أن المحاكمات التي تعرض لها الإخوان طيلة مسيرتهم لم تكن إلا بنودا في طبعتنا الخاصة من شروط كرزن.
***
أبحث عن كمال أتاتورك لأنني أعرف أنه هو القادم ليحكمنا غدا..
في أي بلد وكل بلد من بلاد عالمنا الإسلامي هو القادم ليحكمنا..
هو الحاكم الحقيقي أما من نراهم على شاشة التلفاز فهم يمثلون دور الحاكم.. مجرد تمثيل..
لله درك يا بيرم التونسي حين كشفت بصيرتك المحجوب فكتبت:
ولما عدمنا في مصر الملوك
جابوك الإنجليز يا فؤاد قعدوك
تمثل على العرش دور الملوك
وفين يلقوا مجرم نظيرك ودون
ولم يكن الأمر أمر الملك فؤاد وحده..
أبحث عنه في أوجه أولئك الذين يدعون حماية الأوطان وهم بالفعل قد باعوها..
أبحث عنه يتصدر الصفحات الأولى في الصحف ويشكل الخبر الأول من جميع القنوات التليفزيونية الفضائية..
أبحث عنه في عالم اغتربت عنه.. ويعود الإسلام فيه غريبا كما بدأ..
عالم يقترف كل الرذائل ويرتكب كل الموبقات ولا يترك من الجرائم جريمة ثم لا يتورع ولا يتورع كلابه وأذنابه عن إسقاط كل جرائمه على تاريخنا الإسلامي..
أبحث عن كمال أتاتورك في عالم يسلط الله فيه الظالم على الظالم ثم يذهب بكليهما إلى النار..
أبحث عنه مدركا أنه لم يكن شخصا بل كان منهجا..
أبحث عنه مدركا أنهم استنسخوا منه مئات النسخ بل آلاف النسخ وربما ملايين..
أبحث عنه كامنا ومستترا فأراه في وجه ملك خان ورئيس باع وأمير استغرب ومسئول نافق ورئيس تحرير كذب وكاتب ضلل وهو يعرف أنه مضلل..
أبحث عنه فأراه في وجه وزير داخلية عربي يقتل زعيم معارضة في عاصمة أوروبية ويخفي جثته.. وأراه في جهاز أمن يذيب معارضيه في الحامض المركز..
أبحث عنه لأراه في وجه شيخ خان الله والدين وعبد الشيطان ثم راح يدعونا أن نتبعه.. ولم يكتف بذلك بل راح يتهم بالكفر من لم يتبعه..
أبحث عنه في طوفان من الكذب والتضليل وقلب المعايير والتنكيل بالمبادئ والمثل والقيم العليا.. طوفان لا أدري والله كيف أواجهه.. لأن مواجهته لا يمكن أن تتم بكتابات فرد بل تحتاج مجهود أمة تتضافر فيها جهود رؤسائها ومرءوسيها..
أبحث عنه في وجه السفهاء الكفرة الذين أضمروا الكفر وتظاهروا بالإسلام ليخربوه من الداخل ولينكلوا برموزه..
أبحث عنه سمسارا جاء ليبيع الأوطان بالقطعة..
أبحث عنه في وجه قاض خان الأمانة الكبرى التي استودعها الله إياه فراح يتولى القضايا وقد كتبت له الأحكام قبل أن يبدأ المحاكمة فلا يقول: كلا فإنني أخاف الله.. قاض من الثلث الذي يعلم الحق فيحكم بالباطل.. أو الثلث الذي لا يعلم الحق فيحكم بغيره..
هل قلت الثلث؟!..
يا إلهي.. لقد فهمت الحديث النبوي الشريف خطأ.. فالرسول صلى الله وسلم حين أخبرنا عن قاض في الجنة وقاضيين في النار لم يكن يبين لنا النسبة بل النوع.. فالحديث ينطبق على ألف قاض ليس منهما إلا اثنين من أهل النار انطباقه على ألف قاض ليس فيهما إلا اثنين من أهل الجنة.. كيف لم أفهم ذلك منذ البداية.. وكيف لم أدرك أن النسبة لا يمكن أن تتساوى بين قضاة الخلفاء الراشدين وقضاة زماننا.. قضاة كمال أتاتورك.. قضاة الشيطان..
وأبحث عنه في زمان أتى على الناس هم فيه ذئاب فمن لم يكن ذئبا أكلته الذئاب..
أبحث عنه في وجه كاتب انتقل من عمالة الشيوعيين إلى العمالة للأمريكيين والصهاينة يحاول احتكار تفسير الإسلام إلي لم يؤمن به يوما..
أبحث عن وجه كمال أتاتورك في وجه نائب عام كالنائب العام السوفيتي الأخير.. كان كلما خان الأمانة أكثر ارتفعت مراتبه.. وكلما سرق أكثر ارتفعت مناصبه.. وكلما لفق القضايا للشرفاء أكثر ارتفعت أسهمه عند الحكومة.. والكارثة أن الفساد في مثل هذه المناصب الحساسة لا يقتصر على فرد أو هيئة بل ينتشر كالسرطان في جهاز الدولة كله فتباع القضايا ويبرأ الفاسدون فتجد الموظف الذي يعرف رجل الشارع العادي أنه لص يخرج من النيابة مرفوع الرأس مرهوب الجانب يحمل صك براءة مدفوع الثمن ليتقلد منصب مدير أو وزير..
***
نعود إلى النائب العام الروسي الذي كان لصاً.. منتشرا كالليل حذراً كالفأر..
ولولا الخلاف على المسروقات والتنافس على الغنائم ربما لظل في منصبه أو أسندت إليه مناصب الوزارة والإمارة ولارتقى حتى يخلف يلستين في منصب الرئيس.. فمثل هذا النائب العام هو المطلوب تماما من الغرب.. مثله لا يكتفي بهزيمة وطن قد ينهض بعد الهزيمة.. بل يدمر مجتمعه ويخرب أمته.. مثله يقوم بدور جيوش وصواريخ نووية يهلك فيها الملايين.. ووحده يهزم أمته.. فحين يدرك وكلاؤه مدى فسقه وفجوره لابد أن ينحوا نحوه ويسلكوا سبيله ويتبعوا طريقه.. وإنني أختلف مع الكثيرين في تفسير انهيار الاتحاد السوفيتي.. لأقول أنه لو صلحت النيابة والقضاء لما تفككت أوصاله كما تفككت.. فقهر الأحرار والشرفاء وتلفيق القضايا لهم هو أول الطريق إلى الهاوية.. وفي مجتمع كالمجتمع الروسي، كانت مهمة النائب العام ليس حماية المجتمع من الجريمة.. بل حماية الجريمة المنظمة التي يمارسها المسئولون والقادة باحتراف من الجريمة العشوائية التي يرتكبها هواة اللصوص غير المنظمين.. وهذه الجريمة التي يحميها النائب العام لا تتم في الظلام ولا بين حثالات المجتمع بل تتم في فنادق النجوم الخمس وفي أروقة الوزارات وأبهاء الدولة.. حيث تترك له الدولة والسلطة أن يرتشي كما يشاء وأن يسرق كما يشاء وأن يستولي على أملاك الناس كما يشاء مقابل أن يلبس لها الباطل ثوب الحق والحق ثوب الباطل ويمكن السلطة من اقتناص أعدائها بمنتهى الخسة.. حيث يحبسهم ويصادر أموالهم ويحيلهم إلى المحاكم العسكرية.. والكارثة أن أعداء السلطة هؤلاء هم أمل الأمة في النجاة وفي الخلاص.. وهم القادرون على مواجهة الطغاة والطواغيت واللصوص والخونة… يقوم مثل هذا النائب العام كما وزير عدله كما وزير أمنه كما وزير ثقافته كما كتاب السلطان بدور أشد بشاعة من قنّاصي البشر وأكلة لحومهم.. وترد لهم السلطة فضلهم عليها.. إذ أنها بعد إحالتهم للتقاعد لا تتركهم يسقطون في زوايا النسيان بل تقلدهم مناصب أرقى يستمتعون فيها أكثر بما سرقوه من جاه ومال.. وخطورة مثل هؤلاء لا تقتصر على النتائج المباشرة لفعلهم بل تتعداها إلى هدم القيمة المعنوية للعدل..
نعم.. هناك فرق بين أن يفسد قاض وبين أن يفسد القضاء كله..
وهناك فرق بين أن يختل العدل في قضية وبين أن يغيب العدل كله..
وهذا هو عين ما يحدث لنا تحت حكم الأتاتوركيين..
جهاز العدل والنائب العام صمام أمان للمجتمع إن صلح صلح المجتمع وإن فسد فسد.. لذلك أتصور أنه ما كان يمكن أبدا لمؤامرة كمال أتاتورك ضد الإسلام والمسلمين أن تنجح لو كان النائب العام للدولة العثمانية صالحا..
وإذن.. لكان كمال أتاتورك هو أول و أخطر مجرم يتم القبض عليه.
***
أبحث عن كمال أتاتورك في وجوه من حولي.. وعندما اشتد اللغط حول التوريث قلت لأصحابي في سأم: لا تشغلوا أنفسكم بكل ذلك.. فإذا رفض السفير الأمريكي أن يحكمنا مباشرة فسوف يحكمنا كمال أتاتورك آخر..
ثم واصلت قائلا وقد امّحت التخوم بين الخيال وبين النبوءة فبدا التاريخ عاريا من محاولة تغطيته بالكذب، فإذا بكمال أتاتورك يحكم جميع بلادنا الإسلامية منذ انتهاء الخلافة.. أما تغير الشكل والأسلوب بين حاكم وحاكم فهو كاختلاف أوجه نفس الممثل بين دور ودور.
قلت لهم أن كمال أتاتورك هو الحاكم وهو الوريث.
***
أبحث عن كمال أتاتورك بين أولئك العلمانيين الذين لا يمنعهم عن إدانة الكفر سوى أن البديل الوحيد هو الإيمان بالله..
يقول السير آرثر كيث:
"إن نظرية النشوء والارتقاء غير ثابتة علميا، ولا سبيل إلى إثباتها بالبرهان، ونحن لا نؤمن بها إلا لأن الخيار الوحيد بعد ذلك هو الإيمان بالخلق المباشر، وهذا ما لا يمكن حتى التفكير فيه.."!!..
تستطيع أيها القارئ أن تستبدل الماركسية أو النازية أو النظام العالمي الجديد بـ: "نظرية النشوء والارتقاء"..
إن موقفهم ليس مع.. بل ضد.. وضد الإسلام تحديدا.. وهم في سبيل ذلك لا يتركون مجالا لتزييف الوعي واستنزاف الذاكرة إلا سلكوه.. وهم الذين يسيطرون الآن على مقاليد الأمور في مصر التي لم تعد –بسببهم- بخير.
نعم استولت جحافل العلمانيين على مصر.. وهم خارجون على الدين إلا من يعذر بجهله، وهم يقولون بالباطل أن الإسلام أخطر على مصر من اليهود والصهاينة، أما نحن فنقولها بالحق، أنهم أخطر علينا من اليهود والصهاينة.
نعم .. إنهم مرتزقة لا يقلون خيانة ووحشية عن مرتزقة البلاك ووتر في العراق، حيث يقومون بالأعمال اليومية الخسيسة التي يترفع الاحتلال عنها.. وفي ظلهم أخشى أن نكتشف ذات مساء أن مصر قد ماتت.. كمريض الغرفة المهجورة!..
مصر.. لهف قلبي على مصر..
***
أبحث عن كمال أتاتورك..
فابحث معي عنه أيها القارئ..
ابحث معي عنه فهو جارك ووزيرك ورئيسك وقاضيك وجلادك وشيطانك..
ابحث معي أيها القارئ عن الشيطان.. فجهدي قاصر..
ابحث عنه حيث لا تتوقعه أبدا..
لقد علمتني الغرفة المهجورة أن الحريص –حين يؤتى– يؤتى من مأمن..
وعلمني كمال أتاتورك أن الحية الرقطاء –حين تلدغ– تخرج من مكمن..
وتعلمت أن الخطر حين يأتي لا يأتي مواجهة ولا فجأة.. بل يتسلل وئيدا وئيدا حتى تكون لحظة الإدراك نفسها هي لحظة الغرق..
وأن الشيطان حين يدعونا لايأتينا بقرونه بل يتقلد عمامة أو يلبس قبعة أو يتشح بوشاح رجل قانون أو يلبس عباءة ملك أو يمسك بقلم رئيس تحرير..
وأنه فقط في اللحظات الأخيرة.. حين نكون قد فقدنا كل فرصة للفهم أو للمواجهة يسفر عن وجهه لتكون صورته تلك.. هي التي تتسع لها أحداقنا من الهول عند الموت!!..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق