الاثنين، 7 أغسطس 2017

اللغة العربية ومحاولات الهدم تمصير اللغة العربية

اللغة العربية ومحاولات الهدم

تمصير اللغة العربية


أ. د. جابر قميحة
ويدعو لطفي السيد إلى ما سماه بتمصير اللغة العربية، وكتَب في ذلك سبع مقالات سنة 1913، نشرها في صحيفة "الجريدة"، وهو لا ينكر الفصحى، ولا يدعو إلى إزاحتها، وإحلال العامية مكانها، ولكن يدعو إلى ما سماه بعقد الصلح بين الفصحى والعامية، وخصوصًا تلك التي يتكلمها سكان القاهرة، ومن أهم شروط هذا الصُّلح أَخذ أسماء المستحدثات الأجنبية من اللغة اليومية؛ مثل الأوتومبيل والبسكليت، والجاكيتة والبنطلون، والجزمة والموضة، فهو - على حد قوله - يريد أن يرفع لغة العامة إلى الاستعمال الكتابي، وينزل بالضروري من لغة الكتابة إلى ميدان التخاطب والتعامل.

والتزامًا بهذه الدعوة ينصح لطفي السيد الكتاب والمترجمين ألا يُحاولوا إيجاد اسم للتلغراف ولا للتليفون، ولا للفنوجراف؛ "لأن من يحاول ذلك يجب عليه - من باب أولى - ألا يُسمي الورد وردًا، بل يُسمِّيه حوجمًا؛ لأن الورد له اسم في العربية، والله يعلم والناس جميعًا يعلمون أن التلغراف والتليفون والفرنجراف لم يكن لها أسماء في البصرة، ولا في الكوفة، فهجرْنا نحن تلك الأسماء لنأخذ أسماء أعجمية".

ويمجِّد لطفي السيد العوام والعامية، فيرى أن العوام يَملكون بالوراثة سر اللغة، ويصرِّفون البيان فيها تصريفًا حيًّا مألوفًا، وكثير من أساليبهم حَسن جميل، والعامية - على حد قوله - قد اشتدَّ ساعدها، وأصبحت منافسًا قويًّا للغة الفصحى؛ فهي لغة المحادثة بين الخاصة والعامة، وتكاد تكون لغة المرافعات في المحاكم، وهي اللغة المفضَّلة للمسرح عند الخواص في همومهم والعوام[1].

ولنا على هذه الدعوة ملاحظات ومآخذ تتلخَّص فيما يأتي:
1) إنها دعوة فيها من الحماسة الوطنية أكثر مما فيها من الحرص الواقعي على مصلحة اللغة العربية، في وقت كان لطفي السيد يتبنى فيه الدعوة إلى تمصير كل شيء، وهو يرفع شعاره المشهور "مصر للمصريين"[2].

2) تمجيد للعوام، ووصفهم "بأنهم يملكون بالوراثة سرَّ العربية، يصرِّفون البيان فيها تصريفًا حيًّا مألوفًا"، هذا الحكم فيه تهويل وإسراف لا يتفق مع الواقع، فإذا كان هذا هو حظ العوام، فما حظ علماء اللغة المتخصِّصين إذًا؟

3) سخر لطفي السيد من الأسماء العربية التي وضِعت للمخترعات الحديثة، وحكم عليها بالعجز وقصر العمر؛ مثل: سيارة ودراجة وهاتف، وهي سخرية في غير محلها؛ لأن الأسماء التي استشهد بها أزاحت فعلاً مقابلها الأجنبي، وإن كان هناك نوع من القصور في هذا الجانب بالذات سنعرض له في حينه.

4) الفُصحى ليست جامدة كما يَعتقِد، فهي تُهمة في غير محلها، كما سنرى.

5) إذا كان لطفي السيد يريد التسهيل والتيسير حقًّا، فإن الأخذ بالاستعمال العامي للمصطلحات الجديدة أصعب كتابة ونطقًا من الترجمة العربية أو الأسماء المعربة؛ فالسيارة أسهل من الأتوموبيل، والهاتف أيسر من التليفون، والدراجة أسهل من البسكليت.

6) الأخذ بلهجة أهل القاهرة في هذه الاستخدامات لا يحل المشكلة؛ لأن الصعوبة ستظل قائمة بالنسبة لسكان غير القاهرة، وخصوصًا سكان الصعيد، والمناطق الجنوبية منه بصفة خاصة.

7) والطابع العام لهذه الدعوة هو أنها غائمة المضمون، غامضة الأبعاد وهي في صورتها العامة ضد طبيعة الأشياء، فلا عجب أن تسقط بلا نفس وبلا حراك.

وكما سقطت الدعوة إلى استبدال الحروف اللاتينية بالحروف العربية سقطت الدعوة إلى إحلال العامية محل الفصحى للآتي:
1) لأنها قامت على أكذوبة يَنقضها الواقع، وهي أن العامية أسهل نطقًا وكتابة من الفصحى، والعكس هو الصحيح، ونسوق هنا بعض الأمثلة التي تؤيد ذلك، مع أن المسألة ليست في حاجة إلى تأييد وتدليل:
النساء: أسهل نطقًا وكتابة من: الستَّات.
مباشرة: أسهل نطقًا وكتابة من: على طول، أو طوالي.
ما رأيت: أسهل نطقًا وكتابة من: ما شفتش.
لا يهمك: أسهل نطقًا وكتابة من: ميهمّكش.

وأنا على يقين أن دعاة إحلال العامية محل الفصحى يعلمون هذه الحقيقة، ولكنهم يُغالطون؛ بدليل أنهم يَعرضون دعوتهم ويعبرون عنها بالعربية الفصحى، و"ولكوكس" الذي أراد أن يثبت جدارة العامية بالحلول محل الفصحى فترجم الإنجيل إلى العامية، وكذلك نصوصًا من شكسبير.. لم يستطيع - على عجمته - أن يجعل أسلوبه بالعامية الخالصة، بل فرضت الفصحى عليه نفسها في جوانب كثيرة مما ترجم.

2) وهذه الدعوة تجرنا إلى مشكلة عمليَّة مُستعصية تتمثل في السؤال التالي: بأي العاميات نأخذ؟ إن عدد العاميات في شعوب الأمة العربية يَبلغ المئات، وهو في الوطن الواحد قد يبلغ العشرات، وقد رأينا لهجتين مختلفتين في مدينة واحدة بشمال مصر.

وحتى في حالة الاتفاق بل الإجماع العربي على عامية واحدة، ولتكن عامية القاهرة، سيكون هناك - ولا شك - عقبات عاتية في التنفيذ؛ إذ لو سارت الأمور طبيعية فإننا سنحتاج إلى عشرات من السنين - لا لنَشرِها - بل لإعداد المعلمين الذين سيقدمون بتدريس هذه اللهجة، وعشرات أخرى لنشر هذه اللغة الجديدة، ولا شك أن السياسة سيكون لها الدور الأكبر في استكمال المسيرة أو نقض الاتفاق الاجماعي، والاحتمال الأخير أقوى بكثير جدًّا.

3) وتراثنا الفقهي والأدبي والفلسفي الهائل، هل سيُترجَم إلى هذه العامية؟ وما قدر الجهود والميزانيات التي ستهدر في مثل هذا العمل؟ أن سيترك هذا التراث كما هو، ويحول إلى المتاحف، وبذلك الأجيال القادمة عن ماضيها العِلمي الجليل؟

4) وهذه الدعوة اعتمدَت على أكذوبة أخرى، وهي أن الأمة العربية هي الأمة الوحيدة التي نجد فيها ظاهرة "الازدواجية اللغوية"؛ أي: تنفرد - دون بلاد العالم - بأن لها لغتين: لغة حديث وتعامل هي العامية، ولغة كتابة وهي العربية الفصحى، والمصلحة - كما يزعم هؤلاء - أن تحل الأولى محل الثانية كلُغة وحيدة للحديث والتعامل والكتابة.

والواقع يَنقض هذه الأكذوبة، فظاهرة الازدواجية اللغوية موجودة في كل دول العالم؛ فالناس في النوادي والشوارع والأسواق يتحدَّثون لغة غير لغة الكتابة والخطابة والمحاضرات، يستوي في ذلك الدول المتقدمة في أوروبا وأمريكا ودول العالم الثالث[3]؛ يقول الأستاذ عباس حافظ - وهو أحد كبار المترجمين العالميين من الإنجليزية إلى العربية - في مقال نشر له بمجلة الإذاعة المصرية سنة 1951: "إن أرقى شعوب الأرض تَكتُب بلغة تُغاير لغة الكلام، ومن يظن أن الإنجليز أو الفرنسيين أو الروس أو الألمان يَكتُبون كما يتكلمون يُخطئ الخطأ كله، فإن لهؤلاء أيضًا لغة كلامية، أو كلامًا دارجًا، أو طريقة سخيفة في التعبير لا تستقيم إذا كُتبت، ولا تكفي للتأدية بها، ولا تصلح للإنشاء والوصف والترسُّل والاستطراد المطلوب في الأدب الرفيع"[4].

5) وأصحاب هذه الدعوة لا يُفكِّرون في مستقبل عربي موحد، إن الخضوع للهجات يعني تقنينها، وتقنينها يعني سيطرتها، وسيطرتها تعني فقدان أكبر عنصر من عناصر المستقبِل العربي السليم، فاللغة الواحدة هي كل ما أبقت لنا الأيام من وشائج القربى، ومن الثروة المعنوية، والأخذ بهذه اللهجات يعني أننا نسعى بذاتنا لتخريب ذاتنا؛ ذاتنا الماضية، وذاتنا المستقبلة[5].

6) ومِن عجب أن المُستشرِقين الذين دعوا في حرارة وحماسة إلى إحلال العامية محلَّ العربية الفُصحى في بلادنا، لم يرفعوا صوتهم بمثل هذه الدعوة في بلادهم، وقد رأينا ظاهِرة الازدواجية اللغوية في هذه البلاد أيضًا، بل ترى على العكس من ذلك: ارتفاع أصوات بضرورة توحيد الناس على الفُصحى، والقضاء على لهجاتهم العامية، "فالجَمعية الوطنية الفرنسية عهدت عام 1794 إلى الأب غريفوار بأن يضع تقريرًا يُبيِّن فيه الوسائل الناجعة للقضاء على اللهجات الشعبية، ولتشجيع الفصحى في فرنسا"[6]!

فهم يُحللون لأنفسهم ما يُحرمونه علينا، ويُحرِّمون على أنفسهم ما يحللونه لنا، بل ما يُجنِّدون كل قواهم لحَملِنا عليه، وأخذ أنفسنا به[7].


[1] انظر في تفصيل هذه الدعوة: نفوسة: السابق (ص: 124 - 136).
[2] امتدت هذه الدعوة فيما بعد إلى الأدب، فأصدر أمين الخولي كتابه: "إلى الأدب المصرى"، وفيه يدعو إلى الأدب المصري "المكتوب بالعربية الفصحى" وتبنِّيه ودراسته وتدريسه في المدارس والجامعات بحيث لا يزاحمه أدب عربي آخر.
وهي دعوة وطنية إقليمية ضيقة سرعان ما ماتت في مهدها، وقد تكفل عدد من النقاد بتنفيذها وخصوصًا الدكتور شكري فيصل في كتابه (مناهج الدراسة الأدبية) من (ص: 157 - 220).
[3] وقد لمست ذلك بنفسي خلال خمس سنوات قضيتها في باكستان، وسنة قضيتها بالولايات المتحدة في مدينة "نيوهافن" بولاية كنكتكت، ومن الظواهر الصوتية في عامية هذه المدينة حذف حرف "T" من الكلام إذا كان متوسطًا فكلمة "ووتر" water تنطق: "ورز" warer)، وكلمة "بتر" better تنطق "برز" berer، وكلمة "فورتي" forty، ينطقونها "فوري" fory..... وغير ذلك كثير، مع اختلاف واضح بين عاميات الشمال وعاميات الجنوب، والفوارق أوضح بين لهجات الزنوج ولهجات البيض في الولايات المتحدة.
[4] انظر: أحمد العطار: قضايا ومشكلات لغوية (ص: 58).
[5] شكري فيصل: قضايا اللغة العربية المعاصرة (ص: 40).
[6] د. غازي طليمات: ومضات وشبهات في دراسة المستشرقين اللغوية "23"، دراسة في مجلة القافلة عدد المحرم 1415.
[7] انظر: نفوسة: مرجع سابق (ص: 201 - 202).

رابط الموضوع

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق