السبت، 30 أبريل 2022

«الواقعيون.. ووحي الشيطان» (4- 10)

«الواقعيون.. ووحي الشيطان» (4- 10)

د. حاكم المطيري
أستاذ التفسير والحديث - جامعة الكويت

«سيد قطب.. والجماعات السلمية»

كان سيد قطب المفكر المسلم، قبل أن ينتمي لأي جماعة إسلامية إلى سنة ١٩٥٣م، يرى الفجوة الواسعة بين الإيمان -وما يقتضيه من مُثل عليا تسمو بها النفس إلى الملأ الأعلى، وتعرج بها الروح إلى السماء وعالم الملكوت، وتبلغ في السمو ذروته بالشهادة في سبيل الله، وبيع المؤمن نفسه رخيصة لله جل جلاله، تصديقا به، وبغيبه، وثقة بوعده، وما أعد عنده لعباده، ثمنا للبيعة معه ﴿إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفي بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم﴾ [التوبة: ١١١] ‏

وهي أوضح صور المثالية الإيمانية التي تتجاوز بالنفس عالم الحس والمادة، إلى عالم الغيب والشهادة- وما عليه الجماعات الإسلامية آنذاك من واقعية، تجاوزت حد الأخذ بالأسباب المشروعة لأداء العزيمة في الدعوة إلى الله، إلى التخلي بالأعذار والرخص عن الفرائض والمُثل والقيم نفسها التي يقتضيها الإيمان، وتوجبها حقيقة البيعة مع الله لمن قام مقام الأنبياء في الدعوة إليه، وإلى الحق والقسط الذي أمر به، وأنزل من أجله كتبه، وأرسل به رسله، وهو الدور الذي يفترض أن الجماعات الإسلامية تصدت له، ونهضت به، لتنزع بالمجتمع الإسلامي إلى النموذج والمثالية التي تتمثل في القدوة والأسوة الحسنة لهم بالسمو الروحي عن واقع الحياة ومادياتها، التي تنجذب لها النفس البشرية بطبيعتها، إلى أن ترى من بني جنسها من يسمو إلى الملكوت الأعلى بها، فينتشلها من واقعها ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾ [الأحزاب: ٢٣]!

وإذا كانت «الواقعية» تراعي «الضرورة»، وتحافظ على «المصلحة» و«المنفعة» وعلى الإنجاز الموجود، فإن «المثالية» تنزع إلى النهوض والصعود؛ لتحقيق «الخير» المفقود، والارتقاء إلى «النموذج» الموعود!

وإذا كانت مسئولية السلطة والدولة مراعاة الأول بحكم الولاية على المجتمع والتصرف في حق الغير بما لا يضره كالوصي على مال اليتيم، فليس كذلك شأن «الجماعات الإسلامية» التي تنهض أصلا للدعوة إلى المُثل والقيم وتحقيق «الخيرية»، وتتحمل ما يتحمله الأنبياء من الأعباء في هذا السبيل بحكم الوراثة لدعوتهم ﴿يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور﴾ [لقمان: ١٧].

فالأصل في الدعوة إلى الله، وفي حال الدعاة إليه: الصدع بالحق، والعزيمة على الرشد، والصبر توكلا على الله، والثبات ثقة به، والسمو باللجوء إليه، وإنما الرخصة استثناء للآحاد منهم لا للمجموع كلهم!

لقد حاول سيد قطب أن يبعث الروح المثالية في «جماعة إسلامية» واقعية، وصفها، ووصف حالها، وحقيقة دعوتها، وقد كان في اجتماع دعوي سنة ١٩٥٢م مع شيوخها وقادتها الذين يدّعون أنهم يجددون دين الإسلام، ويعملون على إعادته من جديد في واقع العالم الإسلامي، إلا إنهم يدارون السلطة، ويتقون النظام الغربي والمحتل الأجنبي الذي فرضها، ويخشون مواجهته، وكم كانت دهشته منهم، وصدمته بهم، وعجبه من حالهم!

وقد فصّل حال هذه الجماعة، وذكر شبهها في مقاله «هذا هو الطريق» المنشور في الرسالة عدد ٩٨٣ بتاريخ ٥/ ٥/ ١٩٥٢م، وذلك قبل ثورة «الضباط الأحرار» وقيام الجمهورية بأسابيع فقط فقال رحمه الله فيه:

{وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون. فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون. يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِين. الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيم. الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل. فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيم. إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين}..

كلما رأيت المتوجسين عن الجهر بكلمة الله، وهم يزعمون الإيمان بالله، كلما سمعتهم يجمجمون بهذه الكلمة ولا يصدعون خيفة أن يمسهم القرح، وأن تسلط عليهم قوى الشر والطغيان، كلما وجدتهم يلبسون هذا الضعف ثوب الكياسة واللباقة والمرونة والدهاء، كلما أبصرت هذا كله تمثلت لي تلك الآيات القدسية الكريمة ترسم الطريق.. الطريق الذي لا طريق غيره إلى النصر والعزة والمنعة والتوفيق!

وهتفت من أعماق ضميري: ألا إن هذا الدين لواحد، ألا وإنه لن يصلح آخره إلا بما صلح به أوله، ألا وان هذا هو الطريق!

{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل}، إنهم لم يقولوا: نحن قله ضعيفة في كثرة باغية، فلنصبر على الذل، ولنرض بالهوان، ولنجامل الشر، ولنتق الطغيان، حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا!

فالمؤمن يوقن: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}، وإن أمر الله إنما يتم بعباده الذين ينفذون أمره، وإن السماء لا تمطر على الناس عزا ولا نصرا، إنما هم يصلون قلوبهم بجبار السماء فتهون عليهم قوى الأرض، وتهون معها حياة الأرض، وعندئذ ينقلبون بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء، وعندئذ يمكّن الله لهم في الأرض، لأنهم صدعوا بكلمة الله، ولم يخشوا غير الله.

ذكرت هذا كله وأنا أحضر اجتماعًا يقول دعاته: إنهم اجتمعوا لتجديد شباب الإسلام، والعمل لنصرة الإسلام، وإعزاز العالم الإسلامي، فلما أن جاء ذكر الحكم بالإسلام، والعمل بشريعة الإسلام، انتفض منهم الكثيرون مذعورين، أن يثير عليهم هذا القول ثائرة الاستعمار وغير الاستعمار، وأن يسبب لهم متاعب وعوائق ليس إلى اجتيازها من سبيل، وقال أوسطهم: إنما نحن مؤمنون بأن الإسلام عقيدة وشريعة ودستور ونظام، ولكننا نؤجل هذا إلى حينه، ونأخذ فيما هو أسلم وأحكم!

قلت في نفسي: كيف ينتصر المنهزمون في ضميرهم منذ اللحظة الأولى؟!

وكيف يكافح قوى الشر والطغيان من يفرق أن يجهر بالحق في كلمات على الورق، أو كلمات على اللسان؟!

وعلم الله ما عجبت لشيء عجبي لـ«دبلوماسية الأقزام» التي يزاولها منا الرجال، لا في ميدان «الدعوة الإسلامية» وحدها، بل في ميدان الصراع القومي مع الاستعمار، والصراع الاجتماعي ضد الطغيان، والصراع الإنساني ضد الشر كله وهو ألوان!

إنهم يسترون الضعف دائمًا بستار «العقل»، ويسترون الهزيمة دائمًا بستار «المناورة»، ويسترون حب السلامة دائمًا بستار «المصلحة العامة»!

وإذا جاز لرجال السياسة العصرية الكاذبة الخادعة أن يعتذروا بتلك المعاذير، فإنها لكبيرة أن يستعيرها منهم دعاة الإسلام! الإسلام الذي يقول ربه لرسوله {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} ويئسه من رضى مخالفيه عنه مهما جامل وحاسن، لأنهم لن يرضوا عنه إلا إذا ترك دينه جملة وعقيدته: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}!

إن الذين نداورهم أمهر منا في المداورة!

والذين نحسب أنفسنا نخدعهم، أكثر منا يقظة وأشد خداعًا!

فلم يبق إلا ذلك الطريق الواضح الصريح النظيف: أن نقول كلمة الحق التي نريد، وأن ندعها تقرع الأسماع والقلوب، وأن نؤمن بالله الذي يقول: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيز. الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُور}..

وبعد فإن الإسلام الذي ندعو إليه عقيدة تنبثق منها شريعة، ويقوم على هذه الشريعة نظام اجتماعي، ونظام دولي، ونظام إنساني، ولا سبيل فيه لفصل العقيدة عن الشريعة، ولا فصل الشريعة عن النظام الذي تنشئه وتحكمه، فهذه العقيدة لا تتم، بل لا توجد، إذا لم تنشأ معها آثارها الطبيعية التي لا فكاك منها، فليتحسس عقيدته وليفتقدها من يرى شريعة غير شريعة الإسلام تحكم، ثم لا يبذل جهده في رد الأمر إلى شريعة الإسلام؛ ومن يرى نظاما غير النظام الإسلامي يسود، ثم لا يعمل عملًا أو يقول قولًا، يصحح به الأوضاع، ويحقق به الصواب!

إن الإسلام لا يعيش في الظلام، فهو نور يعيش في النور، وإن الإسلام لا يخادع ولا يداور، فهو كلمة الحق التي تكره المداورة والخداع! وإن الإسلام حقيقة واقعة تعيش في الأرض، لا سرًا ولا مؤامرة تتوارى عن الأنظار!

نحن نريد عالمًا إسلاميًا، فلندع إلى هذا العالم على أسسه الواضحة الصريحة: شريعة إسلامية، ومجتمع إسلامي..

فمن قال لهم الناس: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ}. فاصطكت أسنانهم، وارتجفت مفاصلهم، فلينظروا: أين هم من ذلك الطريق الذي رسمه الله، في كتاب الله: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ} فلينظروا أين يتجه بهم الطريق!.

إن أضواء النصر تلوح في أفق الفكرة الإسلامية فتجذب إليها الكثيرين، منهم من يبتغي وجه الله، ومنهم من يحسبها تجارة كاسبة، ولكن الطريق طويل، والعقبات كثيرة، والقرح والابتلاء ولاستشهاد ينتظر المجاهدين. وسيحق على بعضهم قول الله: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ} وسيحق على الآخرين قوله الكريم: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} وأولئك هم الفائزون)!

انتهى كلام سيد قطب وهو يحاور في اجتماع دعوي سنة ١٩٥٢م «جماعة إسلامية» حركية تزعم أنها ستعيد للإسلام مجده، ونظامه الإسلامي، إلا إنها لا تعرف الطريق! ولا تريد مواجهة الجاهلية المحلية فضلا عن الجاهلية الدولية، إنها مشغولة بالإعداد للمناورات، والمساومات، والمفاوضات، وخوض الانتخابات!

فيرد عليهم سيد بقوله: (إن الإسلام لا يعيش في الظلام، فهو نور يعيش في النور، وإن الإسلام لا يخادع ولا يداور، فهو كلمة الحق التي تكره المداورة والخداع! وإن الإسلام حقيقة واقعة تعيش في الأرض، لا سرًا ولا مؤامرة تتوارى عن الأنظار)!

إنها «جماعة إسلامية» ترى ضرورة مجاراة الجاهلية ومداراتها، ومخادعتها ومخاتلتها، وعدم الاصطدام بها، فهذه حكمة «الدعوة الإسلامية» في نظر شيوخها!

فيرد عليهم سيد قطب بالقرآن، ويحتج عليهم بالتاريخ والسنن وبالواقع، وبتاريخ الدعوة النبوية الأولى، وبأنه لا طريق غيره، ولا سبيل سواه، وأن ما هم فيه عماية يظنها أهلها هداية، وغباوة يحسبها أصحابها سياسة، بظنهم أنهم أذكى من عدوهم وأقدر على مخادعته، وهو يحكمهم، ويتصرف في شئونهم، ويدير دولهم وحكوماتهم، ويعيد إنتاجهم وفق شروطه هو؛ ليصبح واقعهم كله بعد ذلك كما يريد هو لهم، لا كما يريدون هم لأنفسهم!

إنه يتحدث عن “دبلوماسية الأقزام” مع الطغاة والغزاة، وهي دبلوماسية تنقطع فيها الآماد والأعمار ولا تصل إلى نهاية، ولا أصحابها إلى غاية! وما زال أصحابها يمارسونها منذ سبعين سنة حتى اليوم!

النخب الواقعية والشبه الشيطانية:

وقد عبّر سيد عن هذه الأزمة «الواقعية» التي كانت تعيشها «النخب الإسلامية» آنذاك، بعد أن انفصلت عن «المثالية» و«المبدئية» التي يؤمن بها سيد ويدعو إليها كمفكر مسلم وحسبه ذلك، ولا يحتاج إلى وصفه بالإسلامي الذي تفاجأ بأن أدعياءه لا يختلفون عن غيرهم في «دبلوماسية الأقزام»، فقال في كتابه «دراسات إسلامية» -وهو مجموع مقالاته ما بين ١٩٥١ – ١٩٥٣م- في ص ١٤١ في فصل «إنها العقيدة في الله»:

(قال له صاحبه -وهو يحاوره- يا أخي اسمح لي أن أقول لك: إنني لم أعد أفهمك!

إنك تريد أن تقف في وجه التيار!

إنك تلقي بنفسك إلى التهلكة بلا روية!

إنك تتصرف كما لو كنت تريد أن تتخلص من الحياة!

قل لي: لحساب من تعرض نفسك لكل هذا؟

إن الشعب لم يبلغ درجة من الوعي يتابعك في أهدافك ويدرك ما الذي أنت تريد!

وأنت تجابه قوى جارفة، قوى تملك أن تشتري دولا وأمما وشعوبا، قوى مدربة لها عملاء في كل مكان، ولها أجهزتها التي مرنت على العمل، هذه القوى تملك أن تحيلك متهما في أعين مواطنيك! وأن تجردك من سمعتك ذاتها فتظهرك للناس خائنا! وتجد ألف شاهد وألف جهاز من أجهزة الدعاية تهتف بذلك ليل نهار!

إنك لست غنيا، ولست فتيا، فأنت رجل تدلف إلى الكهولة..

وأنت لا تستند إلى حزب أو هيئة تنفق عليك إذا انقطع رزقك، أو تنفق على أهلك إذا انقطع عنهم عونك لسبب من الأسباب!

يا أخي إنني لم أعد أفهمك في هذه الأيام!

كان صاحبه يلقي عليه هذه العبارات ويقرعه بهذه النذر في حماسة، وفي حرارة، وفي غضب، وفي إشفاق فلم يترك له فرصة للحديث حتى انتهى واستراح وتطلع إلى الجواب؟

وابتسم صاحبنا وهو يقول:

– يا أخي إنني أدرك هذه المخاوف كلها، وأبصر هذه المخاطر جميعها، وأعلم أنك على صواب فيما تقول، وأقدر حرصك على شخص صديقك، وزميل صباك.. ولكنك يا أخي ذكرت كل شيء ونسبت السبب الواحد الذي قد يعلل لك ما تراه.. ذكرت الشعب، وذكرت الوطن، وذكرت الصحة، وذكرت المال، وذكرت القوى الجارفة التي تملك أن تشتري الأمم والدول والشعوب، أو تضللها، بحيث لا تعرف الخونة من الشرفاء..

كل هذا صحيح، ولكنك نسيت الله!

قال له صاحبه – وهو يحاوره -: لا يا سيدي لم أنس الله!

ولكني أعرف أن محمد بن عبد الله ﷺ حين كان يواجه مثلما تواجه كان رسولا من عند الله، يتلقى الوحي ويتلقى الإرشاد والتوجيه، ويتلقى النصر والتأييد، ويتلقى خمسة آلاف من الملائكة مسومين.. وأنت ماذا تكون؟

وعاد صاحبنا يبتسم في رضى.

قال: كدنا نلتقي.. إنني لست نبيا ولا رسولا، ولست أتلقى وحيا ولا ملائكة.. ولكنني رجل يؤمن بالله!

وكل من يؤمن بالله في هذه الأرض، في أي زمان وفي أي مكان، يملك أن ينتظر من الله فيما عدا الوحي والملائكة كلما آتاه لله لرسوله في هذا المجال، ما دام يتبع خطاه. والمؤمنون حيث كانوا، هم أصحاب ذلك الميراث الضخم ما داموا على هداه..

هذا الميراث الضخم يا صديقي مزيج من الابتلاء والعافية، مزيج من الكفاح والنصر، مزيج من الضراء والسراء، ولكن العاقبة معروفة: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُور}..

{وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين. إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِين. وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِين. أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِين. وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُون…}..

 ولم يدعه صاحبه يسترسل في تلاوة آيات أخرى من الكتاب الخالد فأسكته بإشارة من يده وهو يقول:

– فهمت فهمت، إذن أنت تريد أن تموت!

قال صاحبنا:

– لا يا صديقي إنك لم تفهمني بعد..

إنني ما أردت أن أموت!

أؤكد لك ذلك، إنني أريد أن أحيا، أريد أن أحيا حياة طويلة، فأنا لم أشبع بعد من هذه الحياة: وأنا لم أتم إلا القليل من الواجبات التي أرجو أن أوفق إلى النهوض بها!

وأمر آخر، إنني قد بعدت فترة في حياتي عن الله، وإنني لأرجو أن أعيش حتى أنفق من عمري في قربه فترة تعدل كفتي الميزان.

وأنا في النهاية لا أنسى أنني رجل ذو أعباء.

– واستعجله صاحبه مرة أخرى فأسكته مقاطعا.

– أنا لا يهمني شخصك، فلتصنع به کيف شئت. ولكن تعنيني هذه الأعباء، إنك رجل لا تحتمل صحتك الأذى، وموتك أقرب الأشياء، فماذا تترك لأهلك من رصيد، ورصيدك الذي أعرفه بمجموعة أصفار!

– قال صاحبنا في اطمئنان: وماذا يصنع أهلي هؤلاء إذا أنا مت على فراشي اللحظة كما يموت البعير؟

والحياة كلها أنفاس: نفس يدخل فلا يخرج، ونفس يخرج فلا يدخل!

هل يتخذون لهم نفقا في الأرض أم سلما في السماء؟

{قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ}.

 وأنا يا صديقي لا أريد -كما قلت- أن أموت… ولكن الموت والحياة غيب من غيب الله، فلا يجوز أن يكونا في حساب أحد يريد أن يؤدي واجبا، أو يغير منكرا، أو يذهب ويجيء في تجارة أو معاش..).

انتهت المحاورة بين سيد قطب -الذي لم يكن معه أحد، ولا وراءه جماعة تشد عضده، ولا هيئة تكفل معيشته حتى تلك السنة ١٩٥٢م- وصديقه الإسلامي الذي كانت تشده الواقعية إلى الإخلاد إلى الأرض، وترتيب أوضاعه للخلود فيها ما دام حيا، وترتيب أوضاع أولاده، وأهله من بعده!

إنه الخطاب الدعوي نفسه الرائج الذي يتردد في جنبات الساحة الدعوية إلى اليوم، ويستدل أصحابه على واقعيته بشبهات ظلامية شيطانية يتراكم بعضها فوق بعض، لو أخرج محاورهم ألف حجة قرآنية نورانية لا يكاد يرونها!

حتى غدا عامة المسلمين أكثر استعدادا للثورة والجهاد والتضحية والشهادة في سبيل الله من هذه «النخب الإسلامية» الواقعية!

لقد عبّر سيد قطب عن رؤيته لأزمة الأمة هذه عموما، وأزمة الجماعات الإسلامية خصوصا، بمقاله «قيادتنا الروحية»، المنشور في مجلة الرسالة عدد ٧٠٥ بتاريخ ٦/ ١/ ١٩٤٧م، حيث يقول عن سبب ظهور الإسلام في بدايته ويعزو ذلك إلى دعوته الإنسانية إلى المثل والقيم: (وكان يرتفع [الإسلام] بها في «الاستشهاد» إلى ضمان هذه الفضائل جميعًا؛ وإلى الارتفاع عن الحياة المحدودة إلى حياة أخرى غير محدودة، وإلى الخلاص من أشد قيود الغريزة: من حب هذه الحياة المادية، إلى حب الفكرة المجردة.

بهذا الرصيد الروحي الفخم وثب الإسلام بحفنة من الرجال في الصحراء، شعث غبر، فارتفع بهم على هامات الإمبراطوريتين الشائختين في فارس والروم، وبهذا الرصيد الضخم انطلقت الشعلة في الهشيم فأحالته نارًا ونورًا ينهض بالبشرية وينير لها الطريق، واندفع الإسلام يعبر الصحارى والجبال والبحار حتى يصل إلى سد الصين شرقًا وإلى بحر الظلمات غربًا في مثل لمح البصر بالقياس إلى عمر الدهر، فكانت هذه إحدى معجزاته الكبرى.

وعند ما انطلق الفاتحون في مشارق الأرض ومغاربها لم ينطلقوا للاستعمار والفتح، ولكن لنشر الفكرة العليا، وكلما هبطوا واديًا حرروا أهله من مستعبديهم ومن حكامهم ومن ذات أنفسهم، حرروهم من السلطان الغاشم، والاستغلال القبيح، ومن الضلالات والأوهام أيضًا؛ وردوا لهم كرامتهم الإنسانية وساووهم بأنفسهم {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}.

واختفت في فجر الإسلام نزعات العصبية، ونزعات اللون، ونزعات الجنس، ونعرات العزة بغير الله (كلكم لآدم، وآدم من تراب)!

اندفع الإسلام بهذه السرعة الخارقة، وبهذه القوة الجارفة، لأن الذين اندفعوا به قد ارتفعوا على أنفسهم، وتساموا على ذواتهم، وخفتت في أرواحهم سورة الفردية، وغلت فيها فورة الغيرية [الروح الجماعية]؛ ولأنهم تخلصوا من أوهام الحياة المادية المجسمة، وعشقوا فكرة روحية مجردة.

 وصار لقاء الله في سبيل مبادئه، أحب إليهم من لقاء أهلهم وأبنائهم، ورغبوا في النعيم الموعود برضاء الله عن النعيم الذي يلذونه في هذه الحياة: {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفي بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم}..

فأين هي «القيادة الروحية» لهذا الجيل؟ القيادة التي تخلق الشخصيات العظيمة كما خلقتها قيادة جمال الدين؛ وترتفع بالأفراد والجماعات عن المطالب الوقتية إلى المطالب العليا؟

هنالك جماعات تدعوا دعوات إسلامية، ولكنها جماعات هزيلة الروح، ناضبة، خامدة، أضعف من أن تنفخ في الجيل الهابط المنحل!

ترى هل يتمخض الانحلال عن «قيادة روحية» عظمى كما عودتنا روح الإسلام على مدى الزمان؛ نرجو أن تكون هناك وثبة قريبة، وأن يظلنا موعدها المرموق) انتهى كلامه!

فلم ير سيد طول عهد الملكية في مصر، الذي عاش أهم أحداثه شابا منذ ثورة ١٩١٩م، وإلى سنة ١٩٤٧م تلك «القيادة الروحية»، ولم يجد تلك «الجماعة الإسلامية» المثالية المبدئية إلا بعد الثورة وقيام الجمهورية!

الروح الثورية والدعوة السلمية:

لقد ولد الشهيد سيد سنة ١٩٠٦ في العام الذي ولد فيه الشهيد حسن البنا، وتخرجا من دار العلوم نفسها، وقد أسس البنا الجماعة سنة ١٩٢٨م، وأصبح سيد كاتبا أديبا سنة ١٩٣٤، ثم تولى البنا إصدار المنار بعد وفاة شيخه محمد رشيد رضا ١٩٣٥م، ورثى البنا شيخه رشيد رضا وذكر بأن جماعته «الإخوان المسلمون» هي امتداد لدعوة شيخه «حركة الدعوة والإرشاد» فقال البناء في افتتاح «مجلة المنار» (35/ 3): (بعونك اللهم، وفي رعايتك، وتحت لواء دعوتك المطهرة، وفي ظل شريعتك القدسية، وعلى هدي نبيك الكريم العظيم: سيدنا محمد ﷺ تستأنف هذه المجلة «المنار» جهادها وتظهر في الميدان من جديد.

رحمة الله ورضوانه ومغفرته للسيد محمد رشيد رضا منشئ المنار الأول، ومشرق ضوئها في الوجود، فلقد كافح وجاهد في سبيل الدعوة إلى الإسلام، والدفاع عنه، وجمع كلمة المسلمين، وإصلاح شئونهم الروحية والمدنية والسياسية، وهي الأغراض التي وضعها أهدافا لجهاده الطويل حتى جاءه أمر ربه بعد أن قضت «المنار» أربعين عاما كانت فيها منار هداية ومنهج سداد.

ولقد ترك السيد رشيد فراغا واسعا فسيحا، وقضى وفي نفسه آمال جسام، وشاهد قبل وفاته تطورا جديدا في حياة الأمة الإسلامية، فاستبشر بهذا التطور الجديد، وشام منه خيرا، وأمل فيه كثيرا، وعزم على أن يساير هذا التطور بالمنار ودعوة «المنار»، وأن يجعل منها في عامها الجديد الخامس والثلاثين لسان صدق لجماعة جديرة بالدعوة إلى الإسلام وجمع كلمة المسلمين، تخلف «جماعة الدعوة والإرشاد»، وتقوم على الاستفادة بالظروف الجديدة التي تهيأ لها المسلمون في هذا العصر، وقد كتب -رحمه الله- في هذا المعنى في فاتحة هذا المجلد ما نصه: (سيكون «المنار» منذ هذا العام لسان جماعة للدعوة إلى الإسلام، وجمع كلمة المسلمين، أنشئت لتخلف جماعة الدعوة والإرشاد في أعلى مقصديها…).

قضى السيد محمد رشيد حياته وفي نفسه هذه الآمال الجسام: أن يكون “المنار” بعد سنته هذه لسان حال جماعة للدعوة إلى الإسلام، وأن تتألف هذه الجماعة من ذوي العقل والدين والمكانة في الشعوب الإسلامية، وأن يشد الأزهر أزر هذه الجماعة وتشد أزره، فيكون من تعاونهما الخير كله.

ولقد كان السيد -رحمه الله- صادق العزم، مخلص النية في آماله هذه فاستجابها الله له، وشاءت قدرته وتوفيقه أن تقوم على المنار «جماعة الإخوان المسلمين» وأن يصدره ويحرره نخبة من أعضائها، وأن ينطق بلسانها، ويحمل للناس دعوتها.

يا سبحان الله، إن جماعة «الإخوان المسلمين» هي الجماعة التي كان يتمناها السيد رشيد رحمه الله، ولقد كان يعرفها منذ نشأتها، ولقد كان يثني عليها في مجالسه الخاصة، ويرجو منها خيرا كثيرا، ولقد كان يهدي إليها مؤلفاته فيكتب عليها بخطه: من المؤلف إلى جماعة «الإخوان المسلمين» النافعة؛ ولكنه ما كان يعلم أن الله قد ادخر لهذه الجماعة أن تحمل عبئه، وأن تتم ما بدأ به، وأن تتحقق فيها أمنية من أمانيه الإصلاحية، وأمل من آماله الإسلامية، لقد تمنى السيد رشيد رضا في الجماعة التي اشترطها أن تقوم بأعلى مقصدي جماعة «الدعوة والإرشاد» أي ما عدا التعليم المدرسي، ثم رجا أن توفق الجماعة الجديدة لهذا أيضا، وستحقق جماعة «الإخوان المسلمين» هذا الرجاء بتوفيق الله…).

 وقد تحقق حلم الشيخ رشيد رضا بقيام جماعة إصلاحية تجمع بين الدعوة والإرشاد والعمل السياسي على يد تلميذه الإمام حسن البنا الذي أسس الجماعة الجديدة «الإخوان المسلمون» ١٩٢٨م بمباركة شيخه وتوجيهه، ودعا البنا تلاميذ رشيد رضا وأتباعه عبر مجلته «المنار» الجديد إلى التعاون معه على هدي الكتاب والسنة حيث قال البنا فيها (35/ 3): (ستعود المنار -إن شاء الله- إلى الميدان تناصر الحق في كل مكان، وتقارع الباطل بالحجة والبرهان، وشعارها الدعوة إلى الإسلام، والدفاع عنه، وجمع كلمة المسلمين، والعمل للإصلاح الإسلامي، في كل نواحيه الروحية والفكرية والسياسية والمدنية، ولقد كان للمنار خصوم وأصدقاء شأن كل دعوة إصلاحية، فأما أنصارها، فنرجو أن يجدوا في مسلكها الجديد ما يعزز صداقتهم لها وصلتهم بها، وأما خصومها فإن كانت خصومتهم للحق بالحق فإننا على استعداد تام للتفاهم معهم على أساس كتاب الله وهدي رسوله ﷺ والعمل لخدمة هذه الحنيفية السمحة.

لم يكن الشيخ رشيد -رحمه الله- معصوما لا يجوز عليه الخطأ، فهو بشر يخطئ ويصيب، ولسنا ندعى لأنفسنا العصمة فنحن كذلك، وما من أحد إلا ويؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم ﷺ، ولا نريد أن نعرف الحق بالرجال، ولكننا نريد أن نعرف الرجال بالحق، ومتى كان ذلك رأينا جميعا، ومتى كان شعارنا أن نرد التنازع إلى الله ورسوله كما أمرنا، فقد اهتدينا ووصلنا إلى الحقيقة متحابين، وانقضت الخصومة وولى الباطل منهزما زهوقا.

على هذه القواعد ندعو الأمة والهيئات الإسلامية جميعا إلى التعاون معنا، سائلين الله -تبارك وتعالى- أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه، والله حسبنا ونعم الوكيل).

انتهى كلام الإمام البنا سنة ١٩٣٥م عن دعوته التي هي امتداد لدعوة شيخه رشيد رضا، وهي دعوة سلمية لم يأبه بها سيد الثائر، لا قبل وفاة رشيد رضا ولا بعده، ولم يرها سيد سبيلا للتحرر من المحتل، خاصة وأنه كان مع حزب الوفد كما أستاذه العقاد؛ ثقة منهما أنه القادر على تحرير مصر من المحتل البريطاني؛ كما كان يطمح الشعب المصري، حتى وقع النحاس مع بريطانيا معاهدة ١٩٣٦م؛ فتخلى العقاد عنه، وفقد الحزب رصيده الشعبي خاصة سنة ١٩٤٢م حين حاصرت القوات البريطانية -أثناء الحرب العالمية الثانية- قصر عابدين وأرغمت الملك فاروق على تكليف مصطفي النحاس بتشكيل الحكومة؛ فتحطم حلم سيد بالأحزاب واعتبر الجميع «أقزام الدبلوماسية»، وصناعة الاستعمار، إلا أنه لم يجد «الجماعة الإسلامية» الثائرة، التي تقود حركة التحرير ضد المحتل البريطاني، وضد القصر الملكي الذي تحكم بريطانيا مصر من خلاله!

ففي الوقت الذي كان سيد يؤمن بالثورة على الاستعمار وعلى القصر، ويدعو إليه؛ كان البنا يقرر في المؤتمر الخامس للجماعة سنة ١٩٣٨م طريقته السلمية التي ترفض الثورة حيث يقول: (ويتساءل كثير من الناس: هل في عزم الإخوان المسلمين أن يستخدموا القوة في تحقيق أغراضهم والوصول إلى غايتهم؟ وهل يفكر الإخوان المسلمين في إعداد ثورة عامة على النظام السياسي أو النظام الاجتماعي في مصر؟

ولا أريد أن أدع هؤلاء المتسائلين في حيرة، بل إني أنتهز هذه الفرصة فأكشف اللثام عن الجواب السافر لهذا في وضوح وفي جلاء، فليسمع من يشاء:

وأما الثورة فلا يفكر الإخوان المسلمون فيها، ولا يعتمدون عليها، ولا يؤمنون بنفعها ونتائجها، وإن كانوا يصارحون كل حكومة في مصر بأن الحال إذا دامت على هذا المنوال ولم يفكر أولو الأمر في إصلاح عاجل وعلاج سريع لهذا المشاكل، فسيؤدي ذلك حتما إلى ثورة ليست من عمل الإخوان المسلمين ولا من دعوتهم، ولكن من ضغط الظروف ومقتضيات الأحوال، وإهمال مرافق الإصلاح، وليست هذه المشاكل التي تتعقد بمرور الزمن ويستفحل أمرها بمضي الأيام إلا نذيرًا من هذه النذر، فليسرع المنقذون بالأعمال).

كما كان البنا يرى وجوب حل الأحزاب والالتفاف على الملك فيقول: (كما يعتقد الإخوان أن هناك فارقًا بين حرية الرأي، والتفكير، والإبانة، والإفصاح، والشورى، والنصيحة، وهو ما يوجبه الإسلام، وبين التعصب للرأي، والخروج على الجماعة، والعمل الدائب على توسيع هوة الانقسام في الأمة، وزعزعة “سلطان الحكام”، وهو ما تستلزمه الحزبية ويأباه الإسلام ويحرمه أشد التحريم، والإسلام في كل تشريعاته إنما يدعو إلى الوحدة والتعاون.

هذا مجمل نظرة الإخوان إلى قضية الحزبية والأحزاب في مصر.. كما اقترحوا التوسط في هذه القضية على صاحب السمو الأمير عمر طوسون.. كما طلبوا من جلالة الملك حل هذه الأحزاب القائمة حتى تندمج جميعا في هيئة شعبية واحدة تعمل لصالح الأمة على قواعد الإسلام).

بينما كان سيد يصدح ثائرا سنة ١٩٣٢م بقصيدته «مأساة البداري» وفيها يعبر عن رؤيته السياسية لما يجري في مصر وهو ابن ٢٦ سنة ويقول فيها:

 في مصر قد تلقى الكلاب رعايةً

بينا يُحقّر شعبها ويُحطّمُ!

في مصر لا يلقى المسيء جزاءه

لا بل يكافأ دونه ويكرّمُ

في مصر ما لا يحفظ التاريخ من

فحش يعج بها وفحش يكتمُ

في مصر! لو في مصر بعض كرامة

غضبت وفار على جوانبها الدمُ!

ماذا يعز على الهوان نصونه؟

لم يبق من حرماتنا ما نكرمُ

الموت؟ يا للموت! أشرف شرعةً

مما نسام به ومما نوسمُ

وبلغ بسيد قطب السخط على الأوضاع في مصر أن كتب مقاله «ويلات السلم» سنة ١٩٤١م، أثناء الحرب العالمية الثانية، وهو يرى الشعب الفرنسي يستجمع قوته لتحرير وطنه من جيوش هتلر، ويرثي حال مصر وشعبها وهي خانعة وادعة تحت الاحتلال البريطاني، والمعركة بين جيوش الحلفاء وألمانيا تجري على أرضها! فأخذ يحرض للثورة والجهاد والحرب وفيه يقول: (لا يحاول أحد أن يكتم عنا ما نحسه في أعماقنا، ولا يجادل أحد فيما تلمسه أيدينا وتراه عيوننا، ولا يفهم أحد أنه من الخير لنا أن نعصب عيوننا فلا نرى سوءاتنا!

إن في مصر من «ويلات السلم» ما لا يتصوره أي أجنبي عنها؛ وفرنسا المنحلة المريضة الغارقة في الشهوات كانت قديسة طهورًا بالقياس إلينا!

كانت أمة ولسنا نحن أمة، وهذا أخصر ما يصورنا من ألفاظ:

في مصر ما لا يحفظ التاريخ من

فحش يعج بها وفحش يكتم

كما قلت في قصيدة منذ سنوات!

وليس هذا الفحش بقاصر على ما ينصرف الذهن إليه أول وهلة، ولكنه فحش يشمل كل شيء، يشمل الضمائر، والأسرار، ويشمل التصرف الشخصي اليومي للألوف والملايين!

في مصر فحش من الفقر من الغنى، فحش من الحرمان، وفحش من المتاع، وفيها فحش من النعومة التافهة، يقابله فحش من الخشونة العارمة!

وفي مصر مشاحنات ومنازعات، ولكنها ليست على شأن جليل، ولا غرض عظيم!

وفي مصر أثرة عمياء صغيرة المطامع قريبة الآفاق، لا تعدو لذة كلذة الحشرات والهوام!

ومنشأ هذه كله طول عهدنا بالسلم الرخيصة، والدعة المريضة، والأمان التافه!

 كل ذلك عبث بأعصابنا فأوهنها، وبآمالنا فقرب مداها، وبهمومنا فأصغر قيمتها، والخطر الذي يثير الأعصاب، وينبه الحواس، ويكبر الهمم، ويغذي الطموح قد حرمتنا الأقدار إياه، فمنحتنا طبيعة سمحة لا تحوجنا للجهد ولا تثير فينا «الجهاد»، وسلبتنا نعمة «الاستقلال» أحقابًا متطاولة فلم نضطلع من عهد طويل بأعباء الاستقلال!

علم الله لقد كانت أكبر أمنية لي أن أعيش حتى أرى مصر تخوض معركة!

معركة واحدة، تطهرها كما تطهر النار الخبث، وتبعث فيها الرجولة الكامنة، والتضامن الوطيد، وتشفيها من رخاوة السلم، وانحلال الدعة، ونعومة الفراش!

وإن مصر لكاسبة لو خاضت المعركة! كاسبة ولو تحطمت دورها، وتمزقت أجسادها، لأنها ستبني أخلاقًا، وتوحد كيانًا، وترتفع فوق مستوى الحرص الحيواني على الحياة إلى مستوى الحرص الإنساني على الكرامة؛ ولأن حيويتها ستنبض في ساعة العسرة، وأعصابها ستشتد في مواجهة الخطر، فتعوض في المستقبل أضعاف ما تخسر من دور وما تفقد من أجساد).

فما كان لسيد وهو يحمل مثل هذه الروح الثائرة الهادرة، أن يأبه لدعوة الشيخ البنا السلمية، ولا يرى فيها سبيلا لخروج مصر مما هي فيه، فقد كانت المثالية هي حاديه، لا الواقعية، غير إن كل شيء سيتغير بعد الثورة وقيام الجمهورية!

وما زلنا مع الواقعية والمثالية، فللحديث بقية!