الخميس، 28 أبريل 2022

«الواقعيون.. ووحي الشيطان» (2-10)

«الواقعيون.. ووحي الشيطان» (2-10)

د. حاكم المطيري
 أستاذ التفسير والحديث - جامعة الكويت

«سيد قطب.. ومعركة مصر»

﴿أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُون﴾ [التوبة: ١٢٦]

 

ما «الإسلام الأمريكي» الذي كان يخشاه سيد قطب وحذر منه في مقاله سنة ١٩٥٢م وذلك قبل ثورة «الضباط الأحرار» بثلاثة أسابيع فقط؟

 

وما علاقة هذا الإسلام بأمريكا؟

 

ومتى بدأ في العالم العربي؟

 

وإلى أين انتهى؟

 

وكيف قطع هذا «الإسلام الأمريكي» بمشروع الدولة الوطنية الديمقراطية الطريق على مشروع الإمام حسن البنا «استعادة الخلافة»؟

 

وقطع بالسلمية والواقعية السياسية الطريق على مشروع الشهيد سيد قطب «الثورة الجذرية» و«الحاكمية»؟

 

ولم تكررت بعد ستين سنة أخطاء «الثورة العربية» نفسها حذو القذة بالقذة، لتحاكي الواقع نفسه الذي عاشه وحذر منه سيد قطب؟

 

كيف انتهت ثورة «الربيع العربي» بتصدر «الإسلام الأمريكي» المشهد السياسي ليقوم بإعادة إنتاج النظام «العربي الوظيفي» من جديد، ليمضي معه في قطار التطبيع مع المحتل الصهيوني! وينفذ توصيات المبعوث الدولي في كل بلد فيه «إسلام أمريكي» من اليمن إلى تونس وليبيا؟

 

وكيف أصبح كل هذا الركام الوظيفي من أحزاب «الإسلام الأمريكي» هو صمام الأمان في وجه الطوفان القادم من الفتن؟ فلم يعد في الإمكان أحسن مما أنتجه الأمريكان!

 

تلك قضية خطيرة، وأحداث مثيرة، تستحق من أحرار «الثورة العربية» اليوم أن يحيطوا بها علما، ويعوها فهما، بعيدا عن عواطفهم الحزبية والوطنية، حتى لا يقعوا في الفخ نفسه الذي نصبه العدو المحتل لأسلافهم، وبعيدا عن التضحيات الشخصية أو الجماعية التي لا ينبغي أن تبخس في سجل أعمال أصحابها حين الحديث عنهم كأفراد إلا إنها لا يجوز بأي حال أن تحول بين الأمة ورؤيتها لواقعها كما هو بعيدا عن أوهام تصورات كل أحد عن نفسه وحزبه وأثره في الواقع السياسي، حيث تغيب الحقائق لتحل محلها الأساطير حول واقع الأمة الذي لم يتغير منه شيء إلا في عالم الأوهام ونسج الخيال!

 

وهمٌ يقيد بعضهم بعضا به

وقيود هذا العالم الأوهامُ

 

فمن لم يعرف طبيعة «النظام العربي الوظيفي» الذي يخضع للنظام الدولي و«الحكومة العالمية» منذ تأسيسه لن يستطيع فهم ما يجري اليوم من فتن منتظمة يأخذ بعضها برقاب بعض لا يستطيع أي شعب مسلم الفكاك منها، وفق مخطط غربي شيطاني لا يكاد يخطئ في حساباته وترتيباته؛ لأنه يملك القوة والسطوة والنفوذ والمال والحكم!

 

وليس شأن مصر شأنا محليا يخص المصريين وحدهم، بل هو شأن العالم العربي كله، شاءوا أم أبوا، فسقوط مصر هو سقوط للمنطقة وشعوبها، ونهضتها نهضة للمنطقة كلها، وكل معركة تحرير للأمة لا تبدأ منها وتنتهي بها فلن تؤتي أكلها، فهذا قدر الأمة وقدرها، فالجميع يدفع ثمن احتلالها، كما يجني ثمار تحررها واستقلالها!

 

من هنا البداية:

 

لم يأت بعد الزعيم المصري الثائر «مصطفى كامل» كمثل «سيد قطب» لا في وعيه بطبيعة المعركة مع المحتل الغربي، وامتداد ساحة الصراع معه بامتداد ساحة الأمة وشعوبها، ولا في روحه الثائرة عليه التي لا يعرف الوهن سبيلا إليها، ولا الخور طريقا عليها، وكما أدرك سيد قطب بثاقب نظره خطورة «الإسلام الأمريكي»؛ أدرك قبله «مصطفى كامل» خطورة «الإسلام البريطاني»، الذي شاهد أثره في النخب السياسية فيها، وتوددها له بعد أن احتل مصر سنة ١٨٨٢م، وأعاد صناعة وعيها وروحها وعقلها، تماما كما تتودد اليوم القوى السياسية المصرية الثائرة لأمريكا ورئيسها وتستعطفه، وتستدر شفقته، وتسألها بالرحم التي بينها وبينه، والديمقراطية التي تنشدها مثله؛ النظر في مظلوميتها مع السيسي!

 

وكأن الانقلاب العسكري سنة ٢٠١٣ حدث فجأة بلا تدخل خارجي! ولا علاقة للاستخبارات الأمريكية به ولا يد لها فيه!

 

وكأن أمريكا ليست عدوا محتلا يخضع مصر والعالم العربي كله لسيطرته التي توّجت باتفاقية كامب ديفيد ١٩٧٨م، وتجلت في أوضح صورها بغزو العراق واحتلاله وتدميره سنة ٢٠٠٣م!

 

وقد كتب أبو الثوار المصريين «مصطفى كامل» سنة ١٩٠٣ مقاله «بلادي بلادي» متعجبا من هذه الظاهرة السياسية الاجتماعية جاء فيه:

 

(أي انقلاب حدث في مصر؟ وأي تغيير جرى تحت سمائها حتى ينقلب أهلها من حال إلى حال ويتحول قادة الرأي العام فيها من مبدأ إلى مبدأ؟ ومن مشرب إلى مشرب؟ هل قامت إنكلترا بوعدها وأخرجت جنودها من وادي النيل؟ أعادت السلطة للمصريين؟ أم هل صارت راية مصر وحدها تخفق فوق ربوع السودان والحكام فيه من بني الوطن العزيز؟ هل حدث ذلك كله حتى صار حقا على كل مصري أن يخطب ود انكلترا ويعدها الصديقة الحميمة لمصر ويطلب الاتفاق المتبادل والإخلاص معها ومنها؟

 

كلا ثم كلا.. لا تزال البلاد تحمل عار الاحتلال ونوائبه! ولا يزال الوطن يسأل أهله المطالبة بالحرية والاستقلال ليلا ونهارا، ولو مضت الأعوام والأجيال لأنه الحق الذي لا يضيعه مرور الزمان وانقضاء الدهور) «أوراق مصطفى كامل: المقالات 2 ص313»

 

وكان «مصطفى كامل» قد أطلق -قبل ذلك بربع قرن- صرخته محذرا الأمة وشعوبها من كيد بريطانيا في كتابه «المسألة الشرقية»، ومن خطورة مسعاها في إسقاط الخلافة وتقسيم بلدانها، وصناعة خليفة «عربي بريطاني» حيث يقول: (وقد علمت إنكلترا أن احتلالها لمصر كان ولا يزال سببا للعداوة بينها وبين الدولة العلية، وأن المملكة العثمانية لا تقبل مطلقا الاتفاق مع إنكلترا على بقائها في مصر؛ إذ إن مسألة مصر بالنسبة لتركيا والخلافة تعد مسألة حيوية؛ ولذلك رأت إنكلترا أن بقاء السلطنة العثمانية يكون عقبة أبدية في طريقها، ومنشأ للمشاكل والعقبات في سبيل امتلاكها مصر، وأن خير وسيلة تضمن لها البقاء في مصر ووضع يدها على وادي النيل هو هدم السلطنة العثمانية، ونقل «الخلافة الإسلامية» إلى أيدي رجل يكون تحت وصاية الإنكليز، وبمثابة آلة في أيديهم؛ ولذلك أخرج ساسة بريطانيا مشروع «الخلافة العربية» مؤملين به استمالة العرب لهم، وقيامهم بالعصيان في وجه الدولة العلية، ولكن العرب وغير العرب من المسلمين أرشد من أن يخدعهم الإنكليز بعدما مر من الأمور، وما جرى من الحوادث؛ ولذلك أيضا كنت ترى الإنكليز ينشرون في جرائدهم أيام الحوادث الأرمنية مشروع «تقسيم الدولة العلية» حماها الله، جاعلين لأنفسهم من الأملاك المحروسة مصر وبلاد العرب، أي السلطة العامة على المسلمين!

 

والذي يبغض الإنكليز على الخصوص في جلالة السلطان الحالي [عبد الحميد الثاني] هو ميله الشديد إلى جمع كلمة المسلمين حول راية «الخلافة الإسلامية»، وهو أمر يحول بينهم وبين أسمى أمانيهم، أي إيجاد الشقاق بين المسلمين وبعضهم، وخروج بعض المسلمين على السلطنة العثمانية، ومن ذلك يفهم القارئ سبب اهتمام الإنكليز بالأفراد القليلين الذين قاموا من المسلمين ضد جلالة السلطان الأعظم، وسبب مساعدتهم لهم بكل ما في وسعهم!

 

وإنكلترا تعلم علم اليقين أنها لو استطاعت أن تجعل خليفة المسلمين تحت وصايتها، أي آلة لها، يكون لها سلطة هائلة ونفوذ لا حد له في سائر أنحاء المعمورة، فإنها تستطيع عندئذ -لا قدر الله- أن تنفذ رغائبها عند المسلمين التابعين لها وغير التابعين بواسطة هذا الخليفة؛ ولذلك فهي بعملها على هدم السلطنة العثمانية تعمل على تحقيق غرض بعيد هو أكبر أغراضها، وأمنية سياسية دونها كل الأماني.

 

وكما أن مشروع الاستيلاء على السودان بواسطة مصر هو من المشروعات القديمة عند الإنكليز، ويثبت ذلك إرسال غوردون وسامويل باكر إلى آخر السودان بواسطة حكومة مصر التي أحسنت الظن بالإنكليز، فإن مشروع جعل «الخلافة الإسلامية» تحت وصاية الإنكليز وحمايتهم هو مشروع ابتكره الكثيرون من سواسهم منذ عهد بعيد، وقد كتب كتاب الإنكليز في هذا الموضوع ومنهم المستر بلانت المعروف في مصر، فقد كتب كتابا قبل احتلال الإنكليز لمصر [سنة ١٨٨٢] سماه «مستقبل الإسلام»، وأبان فيه أغراض حكومة بلاده، وأماني الإنكليز في مستقبل الإسلام، وقد كتب في فاتحة كتابه ما نصه:

 

لا تقنطوا فالدر ينثر عقده

ليعود أحسن في النظام وأجملا

 

أي إن هدم السلطنة العثمانية لا يضر بالمسلمين، بل إن هذا العقد العثماني ينثر ليعود عقدا عربيا أحسن وأجمل!

 

ولكن ما لم يقله المستر بلانت هو أن قومه يريدون هذا العقد العربي في جيد بريطانيا لا في جيد الإسلام!

 

ويبين المستر بلانت في كتابه هذا قوة العالم الإسلامي، وكيف أن المدير لأموره يكون قويا واسع السلطة، ويبين كذلك مشروع نابليون الأول، وكيف أنه أراد أن يكون خليفة المسلمين، وأن يقود قواهم، وهو يريد بذلك إلفات أنظار قومه إلى مشروعهم القائمون به الآن، ويبين المستر بلانت أيضا «أن مركز الخلافة الإسلامية يجب أن يكون مكة، وأن الخليفة في المستقبل يجب أن يكون رئيسا دينيا، لا ملكا دنيويا» أي إن الأمور الدنيوية تترك لإنكلترا تدبر أمورها كيف تشاء! ويعقب المستر بلانت ذلك بقوله: «إن خليفة كهذا يكون بالطبع محتاجا لحليف ينصره ويساعده، وما ذلك الحليف إلا إنكلترا»!

 

وبالجملة فحضرة المؤلف لكتاب «مستقبل الإسلام» يرى -وما هو إلا مترجم عن آمال أبناء جنسه- أن الأليق بالإسلام أن ينصب إنكلترا دولة له، ولم يبق للمستر بلانت إلا أن يقول بأن الخليفة يجب أن يكون إنكليزيا!

 

يتضح جليا للقارئ مما قدمناه أن ليس للسلطنة العثمانية، وبالطبع للخلافة الإسلامية في هذه الأيام عدو يجاهر بالعدوان لها، ويعمل على دك أركانها، وتقويض بنيانها غير إنكلترا، ويمكن تعريف «المسألة الشرقية» اليوم بأنها مسألة النزاع القائم بين إنكلترا وبين بقية دول أوروبا بما فيها الدولة العلية..

 

أما واجب العثمانيين والمسلمين أمام عداوة إنكلترا للدولة العلية فبين لا ينكره إلا الخونة والخوارج والدخلاء؛ فواجب العثمانيين أن يجتمعوا جميعا حول راية السلطنة السنية، وأن يدافعوا عن ملك بلادهم بكل قواهم، ولو تفاني الكثيرون منهم في هذا الغرض الشريف حتى يعيشوا أبد الدهر سادة لا عبيدا، وواجب المسلمين أن يلتفوا أجمعين حول راية «الخلافة الإسلامية» المقدسة، وأن يعززوها بالأموال والأرواح؛ ففي حفظها حفظ كرامتهم وشرفهم، وفي بقاء مجدها رفعتهم ورفعة العقيدة الإسلامية المقدسة) انتهى!

 

فقد كان لبريطانيا مشروعها الإسلامي، الذي كانت تخطط له قبل احتلالها مصر سنة ١٨٨٢م، وبدأت أول خطوات تنفيذه باحتلال مصر، ولم يأت عام ١٩٢١م إلا وقد أسقطت الخلافة الإسلامية، واحتلت القدس ١٩١٧ والمدينة ١٩١٨، وأقامت النظام «العربي الوظيفي» بشعار إعادة «الخلافة العربية إلى مكة»!

 

وإذا كل ما حذر منه هذا الزعيم الثائر المثالي الحالم قد وقع بعد وفاته بربع قرن! واستطاعت بريطانيا أن تصفيه هو نفسه في العام نفسه الذي عزمت فيه بواسطة أدواتها على خلع السلطان عبد الحميد سنة ١٩٠٨م، وتوفي «مصطفى كامل» فجأة في ريعان شبابه، بمرض غامض، وهو ابن ٣٤ سنة، فقد كان وجوده في مصر، كما وجود عبد الحميد في إسطنبول، عقبة كؤودا أمام مشروعها «الإسلامي العربي»!

 

وتوفي «مصطفى كامل» شابا حرا نبيلا كريما بعد أن نفخ من روحه في أحرار مصر وثوارها، وأسس «الحزب الوطني»، الذي يؤمن بمشروع «الخلافة والجامعة الإسلامية»، وأنشأ مجلة «المؤيد» صوت الثورة المصرية، وخلفه محمد فريد الذي قال كلمته المشهورة في وجه المحتل البريطاني «كيف تريد مني أن أشترك في حكم البلاد وهي في ظل الاحتلال وأنا أجاهد الاحتلال؟ كيف يتفق النقيضان»!

 

وكان يدعو إلى خروج بريطانيا من مصر، ويدعو الحكومة إلى الاستقالة حتى يتحقق الجلاء، فسجن ثم خرج فضيق عليه، واضطر إلى الهجرة فرارا من المحتل البريطاني، فسافر إلى ألمانيا، فمات هناك فجأة سنة ١٩١٩ وهو ابن خمسين سنة، ومصر تشهد ثورتها على المحتل، ليكون البديل عنه الذي سيمثل الثورة والشعب المصري هو حزب «الوفد»، وليس «الحزب الوطني»!

 

«الوفد» الذي سيقبل لاحقا بتشكيل الوزارة في ظل وجود الاحتلال البريطاني، بعد أن أعاد حزب الوفد تعريف الاحتلال، واعتبر الوجود البريطاني ضروريا لحماية مصر، ليمد من عمر الاحتلال ثلاثين سنة أخرى، وهو ما جعل منه حصان طروادة الذي اخترقت بريطانيا به حصون الشعب المصري، وبلغ من حرصها عليه أن حاصرت قصر عابدين سنة ١٩٤٢م وهددت الملك فاروق ليعيد مصطفى النحاس للوزارة!

 

حتى إذا ثار الشعب المصري سنة ١٩٥٢م وكادت الثورة أن تحقق أهدافها بطرد المحتل، فإذا أمريكا قد جهزت مشروعها لمصر، بالانقلاب العسكري للضباط الأحرار باسم الثورة أيضا!

 

وذلك بعد ثلاث سنوات فقط من نجاح الاستخبارات الأمريكية سنة ١٩٤٩ في أول انقلاب عسكري لها في العالم العربي في سوريا، الذي جاء بحسني الزعيم، المدعوم من القوميين والإخوان المسلمين!

 

فقد بدأت أمريكا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية مباشرة بالسيطرة عبر الانقلابات العسكرية على العالم العربي -الذي كان يخضع للاحتلالين البريطاني والفرنسي- وذلك في سنة ١٩٤٩م، بترتيب أول انقلاب عسكري بقيادة حسني الزعيم؛ لقطع الطريق على الثورة الشعبية في سوريا، وكان الانقلاب بتأييد من حزب البعث وجماعة الإخوان المسلمين، والذين انطلق خطباؤهم في الجامع الأموي في دمشق يحثون الجماهير على التظاهر تأييدا للانقلاب العسكري كما ذكر أكرم الحوراني -في مذكراته ٢/ ٩٤٠- إذ قال: (ففي جامع بني أمية حيا خطيب الجمعة الشيخ بشير الخطيب الانقلاب وقال: إن الله قيض للبلاد منقذا بشخص الزعيم الذي أنقذ الجيش من الانهيار والبلاد من ثورات داخلية.. وقام على أثره خطيبان أحدهما من الإخوان المسلمين والآخر من حزب البعث العربي)!

 

وكما يقول ديفيد أوين في كتابه (أكرم الحوراني): (لقد تأكد حديثا بعد السماح بنشر بعض الوثائق السرية، وبعد ما يقرب من أربعين عاماً من انقلاب حسني الزعيم تورط الولايات المتحدة بأول انقلاب عسكري في العالم العربي، وكان قد أُشيع لسنوات بأنها ساندت انقلاب حسني الزعيم، كما كان مايلز كوبلند عضو المخابرات المركزية السابق قد ذكر في كتابه «لعبة الأمم» عن المساعدات الأمريكية لحسني الزعيم. ولكن روايته لم تؤخذ آنذاك على محمل الجد، واستناداً لما كتبه فإن سورية كانت على حافة اضطراب سياسي عنيف، بينما كانت حكومة الكتلة الوطنية عمياء عنه.

 

ورأى السفير الأمريكي في سورية أن الأوضاع ستأخذ أحد مجرين: إما احتمال قيام الانتهازيين قريباً مع مساعدة السوفييت بانتفاضة دموية، أو أن يسيطر الجيش على السلطة بمساعدة الأمريكيين السرية للمحافظة على النظام، إلى حين إحداث ثورة سلمية.

 

ويقول المؤلف أيضاً: وهكذا شرعت المفوضية الأمريكية بالقيام بعملية هدفها تشجيع الجيش السوري على القيام بانقلاب، من أجل الحفاظ على سورية من الاختراق السوفييتي، وجلبها إلى طاولة السلام مع «إسرائيل»، ولم يكن حسني الزعيم الخيار الأول لفريق العمل السياسي الأمريكي المشرف على العملية، ولكنه أصبح هدفها لأنه لم يكن هناك الكثير مما يمكن عمله، لقد رأى فيه الأمريكيون نواحي إيجابية عديدة، فقد كانت له مواقف شديدة العداء للاتحاد السوفييتي، وكان يرغب في الحصول على مساعدات عسكرية أمريكية، بالإضافة لكونه مستعدا لعمل بناّء بخصوص (القضية الفلسطينية)، واستنادا للوثائق السرية التي سمح بنشرها التقى الزعيم حسني الزعيم مرات مع مسئول من السفارة الأمريكية، للنقاش حول الانقلاب، وقد بدأت هذه اللقاءات في أواخر 1948، وانتهى الإعداد للانقلاب أوائل 1949، وفي شهر آذار من العام نفسه تقدم حسني الزعيم بطلب المساعدة من الأمريكيين للقيام بانقلابه).

 

ومن مصر وسوريا بدأ «الإسلام الأمريكي» يتمدد على طول خريطة العالم العربي والإسلامي ليملأ الفراغ الذي أحدثه تراجع نفوذ الإمبراطورية البريطانية وفرنسا بعد الحرب العالمية الثانية!

 

«الإسلام الأمريكي».. ومصر:

 

لقد كان مقال سيد في مجلة الرسالة سنة ١٩٥٢ عن «الإسلام الأمريكي» مذهلا وخطيرا يوجب على كل من قرأه أن يعيد النظر فيه، ويقرأ عباراته بتمعن ليدرك معانيه، ويقف على مراميه، فهو يتحدث عن مشروع دولي كبير بدأ قبيل توقف الحرب العالمية الثانية لصناعة «إسلام أمريكي»!

وهذا أهم ما ورد في مقاله الذي نشره في مجلة الرسالة قبل ثورة «الضباط الأحرار» بثلاثة أسابيع فقط!

 

حيث يقول سيد باختصار وتركيز شديد، مع ترقيم فقرات مقاله بما يعين على فهمه جدا لمن ألقى السمع وهو شهيد:

 

(١- الأمريكان وحلفاؤهم مهتمون بالإسلام في هذه الأيام، إنهم في حاجة إليه ليكافح لهم الشيوعية في الشرق الأوسط..

 

٢- والإسلام الذي يريده الأمريكان وحلفاؤهم في الشرق الأوسط، ليس هو الإسلام الذي يقاوم الاستعمار، ليس هو الإسلام الذي يقاوم الطغيان، ولكنه فقط الإسلام الذي يقاوم الشيوعية!

 

٣- إنهم لا يريدون للإسلام أن يحكم ولا يطيقون من الإسلام أن يحكم لأن الإسلام حين يحكم سينشئ الشعوب نشأة أخرى، وسيعلم الشعوب أن إعداد القوة فريضة، وأن طرد المستعمر فريضة، وأن الشيوعية كالاستعمار وباء، فكلاهما عدو وكلاهما اعتداء!

 

٤- الأمريكان وحلفاؤهم إذن يريدون للشرق الأوسط إسلاما أمريكانيا، ومن ثم تنطلق موجة إسلام في كل مكان..

 

٥- فالكلام عن الإسلام ينطلق في صحافة مصر هنا وهناك، والمناقشات الدينية تغرق صفحات بأكملها في صحف لم يعرف عنها في يومِ ما حُبّ الإسلام ولا معرفة الإسلام!

 

ودور النشر -ومنها ما هو أمريكاني معروف- تكتشف فجأة أن الإسلام يجب أن يكون موضوع كتبها الشهرية! وكتاب معروفون ذوو ماض معروف في الدعاية للحلفاء، يعودون إلى الكتابة عن الإسلام، بعد ما اهتموا بهذا الإسلام في أيام الحرب الماضية ثم سكتوا عنه بعد انتصار الحلفاء! والمحترفون من رجال الدين يصبح لهم هيل وهيلمان، وجاه وسلطان، ولمسابقات عن الإسلام والشيوعية تخصص لها المكافآت الضخام!

 

٦- أما الإسلام الذي يكافح الاستعمار -كما يكافح الشيوعية- فلا يجد أحدا يتحدث عنه من هؤلاء جميعا!

 

وأما الإسلام الذي يحكم الحياة ويصرفها، فلا يشير إليه أحد من هؤلاء جميعا..)

انتهى كلام سيد مختصرا!

 

فهناك إذن مشروع إسلامي ضخم جدا جدًا تشرف على إنتاجه أمريكا وبريطانيا منذ الحرب العالمية الثانية لتواجهان به الشيوعية العالمية، ويعمل على صناعته وإنتاجه حكومات وظيفية برعاية أمريكية وعلماء دين ورجال فكر وكتاب ودور نشر وصحف ومؤسسات دينية!

 

فأمريكا أم الصناعات وأعظم شركة إنتاج عرفها العالم، وكما تنتج المواد وتصنعها ثم تروجها وتصدرها، فهي أيضا تنتج الأفكار والبرامج وتصنعها وتروجها وتصدرها!

 

وسيصبح الدين نفسه صناعة ومنتجا كغيره من البضائع التي تباع وتشترى وتروج لأغراض سياسية، كما اعترف الأمير بندر بن سلطان سفير السعودية في واشنطن في مذكراته حيث يقول عن توظيف الإسلام في مواجهة روسيا الشيوعية في أفغانستان (لم نستخدم مقولات الشرق الغرب أو العداء الأميركي للشيوعية، بل استخدمنا الدين! قلنا الشيوعيون ملحدون إنهم غير مؤمنين ونحن نحارب لأسباب دينية، وجيّشنا العالم الإسلامي وراءنا، وهو ما توافق تماما مع إستراتيجية الرئيس ريغان لقتال الاتحاد السوفيتي في منطقة لا يستطيعون التأثير فيها كما نؤثّر نحن) «كتاب الأمير–وليام سيمبسون ص ١٤١ – الدار العربية للعلوم ناشرون»!

 

لقد كان سيد قطب يتحدث في مقاله ذلك عن واقع وحقائق ووقائع يشاهدها بأم عينه تعج بها مصر وتضج فيه، بكل وسائل الإعلام والتعليم ومنابر التوجيه!

 

ومن مقال سيد يظهر جليا أبرز ملامح مشروع «الإسلام الأمريكي» وهي:

 

١- أنه حليف للغرب في مواجهة الشيوعية فقط.

 

٢- وأنه لن يواجه الطغيان والاستبداد في بلدانه التي تقع تحت النفوذ الأمريكي البريطاني.

 

٣- ولن يواجه الغرب مهما اعترض على سياسته الاستعمارية.

 

٤- كما أنه يؤمن ويدعو إلى الديمقراطية.

 

٥- وسينطلق المشروع من مصر إلى كل مكان برعاية الأمريكان.

 

٦- ولا يوجد من تلك القوى والنخب في مصر آنذاك من يتصدى له.

 

وقد كان سيد، رحمه الله، سنة ١٩٥٢م يرى مصر كلها تشتغل بإعلامها وكتابها ودور نشرها وصحافتها على صناعة هذا «الإسلام الأمريكي»!

 

وقد سبق مصطفى كامل سيدا بنصف قرن في التحذير من أمريكا ومشروعها حيث كتب في مقاله «القناصل والمرسلون في الشرق» في مجلة اللواء بتاريخ 14 ديسمبر 1903 (وقد أبدينا في غير مرة أن الولايات المتحدة جارت أوروبا في عدوانها ونافستها في حربها الصليبية كأنها ترى نفسها مدينة للمسيح بالأذى لدين نبينا الكريم، فأنشأت المدارس في أنحاء الدولة العلية -الخلافة العثمانية- لتلقن الناشئة المسيحية مبادئ التعصب الحديث وتملا رءوسهم بحوادث التاريخ والنزاع القائم من عصور خلت بين المسيحية والإسلام، وها هي تستعد في هذه الأيام لحملة جديدة على تركيا.. ولسنا في حاجة لأن نتنبأ بأنها ستبالغ في التهديد والوعيد، وأن صحف العالم المسيحي ستنتصر لها وتتهم تركيا بالهمجية)!

 

لقد كان الحضور الأمريكي الثقافي التبشيري في العالم الإسلامي مبكرا على دخولها العسكري بنصف قرن!

 

وقد ذكر سيد خبر اللجنة الأمريكية التي شكلت لدراسة فريضة الزكاة لمواجهة الشيوعية قبل قيام الجمهورية وقبل ثورة الضباط الأحرار!

 

فقال عنها في مقاله المذكور آنفا:

 

(إن الإسلام يجوز أن يستفتى في منع الحمل، ويجوز أن يستفتى في دخول المرأة البرلمان، ويجوز أن يستفتى في أمر الصيام في المناطق القطبية؛ ويجوز أن يستفتى في نواقض الوضوء، ولكنه لا يستفتي أبدا في أوضاعنا الاجتماعية أو الاقتصادية أو نظامنا المالي، ولا يستفتي أبدا في أوضاعنا السياسية والقومية، وفيما يربطنا بالاستعمار من صلات!

 

والديمقراطية في الإسلام، والبر في الإسلام، والعدل في الإسلام.. من الجائز أن يتناولها كتاب أو مقال، ولكن الحكم بالإسلام، والتشريع بالإسلام، والانتصار للإسلام.. لا يجوز أن يمسها قلم ولا حديث ولا استفتاء!

 

وبعد فقد حدث أن هذا «الإسلام الأمريكاني» قد عرف أن في الإسلام شيئا يقال له «الزكاة» وعرف أن هذه الزكاة قد تقاوم التيار الشيوعي لو أخذ بها في الشرق من جديد.. ومن هنا اهتمت «حلقة الدراسات الاجتماعية» التي عقدت في مصر في العام الماضي [١٩٥١م] بدراسة حكاية «الزكاة» هذه، أو بدراسة مسألة «التكافل الاجتماعي في الإسلام».

 

ولما كانت أمريكا من وراء حلقة الدراسات الاجتماعية، فإن ذوي الشأن في مصر لم يروا أن يقفوا في وجه حكاية الزكاة؛ كما وقفوا في وجهها يوم فكر فيها عبد الحميد عبد الحق باشا وهو وزير للشؤون الاجتماعية! إن ذوي الشأن يستطيعون الوقوف في وجه الزكاة يوم يكون الآمر بها هو الله، أما يوم أن يكون الآمرون بها هم الأمريكان، فليس أمامهم إلا الخضوع والإذعان!

 

وعلى ذلك ألفت في مصر لجنة من بعض أساتذة الشريعة في الجامعة، وبعض رجال الأزهر، وبعض الباشوات، لدراسة مسألة «التكافل الاجتماعي في الإسلام»، وبخاصة حكاية الزكاة، لا لوجه الله، ولا لحساب الوطن، ولكن لوجه الأمريكان، ولحساب حلقة الدراسات الاجتماعية!) انتهى كلام سيد رحمه الله.

 

وهذا النص أوضح دلالة على مدى بلوغ النفوذ الأمريكي في مصر أوجه في ظل الحماية البريطانية قبل ثورة «الضباط الأحرار» سنة ١٩٥٢م الذين يفترض أنهم جناح عسكري للإخوان المسلمين في الجيش المصري، وسيثبت بعد ذلك أنه جناح مخترق وممول من السفارة الأمريكية نفسها ليمثل «ثورة الشعب المصري» على النظام الملكي البريطاني! ولقطع الطريق على الثورة الجذرية التي كان يدعو إليها سيد قطب وكان يرقب حدوثها!

 

وسيكون لجناح مدني آخر داخل الجماعة دور مهم وهو القيام بحماية السفارات الأجنبية -خاصة سفارة بريطانيا التي كانت تحتل مصر، وكان الشعب المصري قد ثار ضدها- كما اعترف بذلك يوسف ندا -منسق العلاقات الخارجية للجماعة- في مذكراته حيث يقول: (وصلَنا إخطار مسبق بوقوع انقلاب وشيك. وأُمِرنا بحماية السفارات الأجنبية والبنوك والمباني الحكومية، باعتبارها أهدافًا محتملة للمخرِّبين، كانت مهمتي صعبة؛ إذ كلفوني بالمساعدة في حراسة القنصلية البريطانية في الإسكندرية، وهي أحد الأهداف الرئيسية. لم يكن مر سوى شهور قليلة على حريق القاهرة، فكانت المخاوف عظيمة، كان الإخوان يخشون أن يقع التخريب في أي مكان في مصر، فتدمر الممتلكات ويقتل الناس) «من داخل الإخوان المسلمين – يوسف ندا مع دوجلاس تومبسون».

 

وما فعله يوسف ندا ورفاقه الشباب الثوار سنة ١٩٥٢م وهم يذودون بأرواحهم عن سفارة المحتل البريطاني، سيتكرر بعد ستين سنة وسيقف شباب الإخوان سنة ٢٠١٢م؛ ليحموا بصدورهم وأرواحهم مؤسسات القمع العسكري والأمني -التي تحكم أمريكا مصر من خلالها- ليموت تحت أقدامهم شباب الثورة المصرية!

 

في مشهد لم يكن يخطر إمكان وقوعه على بال ثائر حر لولا أنه كان موثقا بالصوت والصورة!

 

إنها الثورة التي تحمي المحتل وتدافع عنه، وتموت من أجله؛ ليضع على قبور شهدائها الزهور، ويدعو لهم بالرحمة، فقد كانوا شهداء الثورة الديمقراطية السلمية!

 

مصر ومشروع التغريب:

 

لقد قطعت الحملة الصليبية شوطا كبيرا في تغريب مصر ونحت هويتها وإعادة إنتاجها ثقافيا وسياسيا وفكريا منذ الحملة الفرنسية بقيادة نابليون ١٧٩٨- ١٨٠٢م، ثم الحماية البريطانية ١٨٨٢م – ١٩٥٢م، ثم الأمريكية التي توجت باتفاقية كامب ديفيد ١٩٧٨م، حيث بدأ النفوذ الأمريكي فيها منذ أن شرط الرئيس الأمريكي ولسون سنة ١٩١٨م شروطه على دول الحلفاء نهاية الحرب العالمية الأولى -للاعتراف لبريطانيا وفرنسا بنتائج الحرب وخرائط سايكس بيكو- بفتح الطريق أمام أمريكا وشركاتها النفطية وإرسالياتها التبشيرية وجامعاتها الأمريكية، وقد تأسست مباشرة الجامعة الأمريكية في القاهرة سنة ١٩١٩م التي بدأت في إعادة تشكيل وعي النخبة الثقافية والطبقة السياسية، حتى إذا وقعت الحرب العالمية الثانية وانتهت بانتهاء نفوذ بريطانيا وفرنسا فعليا، وتنامي نفوذ أمريكا في مستعمراتهما ووراثتها لهما في العالم العربي والإسلامي، كانت مصر هي قطب الرحى، وحجر الأساس، الذي ستؤسس أمريكا عليه مشروعها للشرق الأوسط الأمريكي، بما في ذلك إعادة صياغة دينه على النحو الذي تريده!

 

وقد وصف سيد -كما في المقال المذكور آنفا- كيف استطاعت تلك اللجنة الأمريكية الاجتماعية حشد أساتذة جامعة القاهرة، وشيوخ الأزهر، ورجال الدولة المصرية، لدراسة هذه الفريضة الشرعية الغائبة، لتوظيفها لخدمة مشروع أمريكا في مواجهة الشيوعية!

 

ما يقتضي معرفة متى بدأ هذا المشروع الذي هو جزء من مشروع النظام العالمي الجديد الذي بدأ يتشكل أثناء الحرب العالمية الثانية ومنذ نشوبها، ودور بريطانيا في صناعته وتأسيسه، وتولي أمريكا قيادته وتوجيهه؟

 

تشرشل و«الحكومة العالمية»

 

كان ونستون تشرشل وزير المستعمرات البريطانية هو نفسه مهندس «النظام العربي الوظيفي»، ومؤسس مصر الحديثة -بعد هزيمة الخلافة العثمانية وتوقيعها معاهدة الصلح بباريس ١٩١٩م- حيث عقد تشرشل مؤتمر القاهرة سنة ١٩٢١م بحضور أربعين مسئولا بريطانيًّا من كبار الضباط والموظفين السياسيين البريطانيين الذين أسسوا النظام العربي الوظيفي الجديد بدوله وحدوده وخرائطه ونظامه وأعلامه بحسب اتفاقية سايكس بيكو، فأصبحت بعده مصر ملكية وتم الإعلان عن فؤاد أول ملك لها تحت التاج البريطاني، كما اختير فيصل بن الحسين ملكا على سوريا ثم العراق، وعبد الله بن الحسين ملكا على شرق الأردن، ووالدهما ملكا على الحجاز، وابن سعود سلطانا على نجد، في ممالك صورية وظيفية هي في حقيقتها مستعمرات تابعة للتاج البريطاني تبعية مطلقة، وكانت مصر والحجاز تدار آنذاك من قبل مكتب القاهرة البريطاني والمندوب السامي مكماهون ثم أدموند اللنبي التابع لحكومة لندن، وكان العراق ونجد والخليج العربي يدار من المكتب البريطاني في بغداد التابع لحكومة الهند البريطانية بواسطة بيرسي كوكس (راجع كتابي «حصار المدينة»).

 

وكما شارك تشرشل في تأسيس «النظام العربي الوظيفي» منذ ١٩٢١م والذي ربط دويلاته في هيئة سياسية بعد ذلك تحت اسم «الجامعة العربية» في مارس ١٩٤٥م، فقد شارك أيضا في تأسيس «الحكومة العالمية» التي ستؤسس بدورها «الأمم المتحدة» سنة ١٩٤٥م!

 

وقد ذكر تشرشل في مذكراته ٢/ ٦٩ بداية مشروع «الحكومة العالمية» فقال وهو يتحدث عن مجريات تقدم جيوش هتلر واليابان وهزائم بريطانيا في الشرق الأقصى كما في الغرب في سنة ١٩٤١م:

 

(ووجدت بعض التسلية في غضون ذلك في دراسة الاقتراحات التي كانت وزارة الخارجية تقوم بدراستها بالتشاور مع وزارة الخارجية الأمريكية حول مستقبل «الحكومة العالمية» بعد الحرب.

 

وقام وزير الخارجية في شهر تشرين الأول، بتوزيع وثيقة مهمة على أعضاء وزارة الحرب، حول هذا الموضوع، أسماها «مشروع الدول الأربع»، نصت على أن يتولى «الإدارة العليا العالمية» مجلس يضم بريطانيا العظمى والولايات المتحدة وروسيا والصين.

 

ويسرني أنني وجدت في نفسي القوة لأضمّن هذه المذكرة-التي بعثتُ بها إلى وزير الخارجية الحادي والعشرين من تشرين الأول عام ۱٩٤٢م -آرائي في هذا الموضوع اذ قلت:

 

١- على الرغم من ضغط الأحداث، فسأحاول كتابة رد ويبدو أن من البساطة بمكان عظيم اختيار هذه الدول الأربع الكبرى، ولكن ليس في وسعنا على أي حال أن نحدد نوع روسيا التي يتحتم علينا مواجهتها أو الطلبات التي ستتقدم بها، وقد يصبح هذا ممكنا بعد وقت قصير.

 

أما بالنسبة إلى الصين فإنني لا أستطيع اعتبار حكومة شونكينغ ممثلة لدولة عالمية عظمى!

 

ومن المؤكد أنه سيكون هناك تصويت من جانب الولايات المتحدة يؤيد أية محاولة لتصفية الإمبراطورية البريطانية فيما وراء البحار.

 

۲ – ويجب أن أعترف بأن أفكاري تتركز بصورة رئيسية في: أوروبا، وفي بعث أمجادها بوصفها القارة الأم لجميع الشعوب والحضارات الحديثة.

 

ولا ريب في أنه سيكون من الكوارث التي لا حد لها إذا سيطرت البربرية الروسية [الشيوعية] على حضارات الدول الأوروبية الغربية واستقلالها.

 

ولما كان من الصعب أن يحدد الإنسان الآن الموقف، فإن الأسرة الأوروبية قد تعمل بصورة متحدة في ظل «مجلس أوروبي»، وإني لأتطلع إلى ولايات متحدة أوروبية، تخفف فيها القيود بين مختلف الدول، وتزول القيود المفروضة على التنقل والسفر، وإني لآمل في أن أرى الاقتصاد الأوروبي يدرس ككل لا في أجزاء. وإني لأرجو أن أرى مجلسا يضم عشر وحدات مثلا، كان يشمل «الدول العظمى» السابقة مع عدد من الاتحادات التعاونية (کونفیدراسیونات) كاتحاد إسكندينافيا والدانوب والبلقان وما شابهها، وأن يكون لهذا المجلس «شرطة دولية» تتولى مهمة الحفاظ على بروسيا [ألمانيا] منزوعة السلاح.

 

وعلينا بالطبع أن نتعاون مع أميركا في مختلف السبل والاتجاهات، وأعظمها، ولكن أوروبا هي أهم ما يشغلنا، ونحن بالطبع لا نود في أن نرى الروس والصينيين يحولون بيننا وبين العمل عندما يكون السويديون والنروجيون والدانماركيون والهولنديون والبلجيكيون والفرنسيون والأسبان والبولنديون والتشيكيون والأتراك يواجهون مشاكل ملتهبة ملحة، ويكونون في حاجة إلى مساعدتنا، لإسماع أصواتهم عاليا.

 

ومن السهل أن يتوسع الإنسان في بحث هذه النظريات، ولكن من سوء الحظ، أن الحرب تتطلب منا الآن أن نوجه إليها أقصى اهتمامك واهتمامي.

 

وهكذا اقتربنا من الذروة العسكرية الكبرى التي كان يتوقف على نتيجتها كل شيء..).

 

ثم يكمل تشرشل مذكراته مباشرة عن الاستعداد حينها في مصر لمواجهة جيوش ألمانيا وإيطاليا المحتشدة في ليبيا حيث يقود رومل الجيوش لغزو مصر، وتستعد بريطانيا لحمايتها ومواجهة رومل في «العلمين» وقد كان تشرشل قد رفض سحب أي قوة من مصر حتى للدفاع عن لندن إذ ستكون القاهرة هي مفتاح النصر على ألمانيا!

 

حيث يقول في مذكراته ٢/ ٧١ (معركة العلمين: مضت إعدادات التخطيط والتدريب بلا توقف، في الأسابيع التي تلت التبدلات التي وقعت في القيادة، في كل من القاهرة والجبهة.

 

وقد تعزز الجيش الثامن بشكل لم يسبق له مثيل من قبل في تاريخه، ووصلت إلى مصر الفرقتان الحادية والخمسون والرابعة والأربعون قادمتين من الوطن، وغدتا أهلا لحرب الصحراء، وارتفعت قوتنا في السلاح المدرع إلى سبعة ألوية تشتمل على أكثر من ألف دبابة، أكثر من نصفها من طراز غرانت وشيرمان الأميركيين، وغدا تفوقنا في الكم مضاعفا، بينما غدونا متعادلين في الكيف، وحشدت لأول مرة في الصحراء الغربية قوة مدفعية ضخمة وحسنة التدريب لتأييد الهجوم المتوقع في كل لحظة).

 

فتشرشل يتحدث في سنة ١٩٤٢م -والحرب مع ألمانيا وإيطاليا واليابان في أوج قوتها – عن ضرورة قيام «حكومة عالمية»، وعن «اتحاد أوربي»، وعن اتحادات إقليمية تحت «الحكومة العالمية» التي ستؤسس «الأمم المتحدة»، وهو يدافع عن مصر أكثر مما دافع عن لندن نفسها التي دكها الطيران الألماني، فقد كان تشرشل يرى بأن حفاظ ديغول على الجزائر وشمال أفريقيا هو مفتاح النصر لتحرير فرنسا، وكذا ستكون القاهرة لو نجح هتلر في احتلال لندن كما احتل باريس، فالمستعمرات العربية وعواصمها أهم في نظر الحملة الصليبية من العواصم الغربية نفسها!

 

حيث يقول عن قادة البحرية الفرنسية الذين كان باستطاعتهم الانحياز إلى مستعمراتها في شمال أفريقيا بدلا من الاستسلام لهتلر:

 

(لقد كان من واجبهم في عام ١٩٤٠م، وكان من مصلحتهم أن يذهبوا إلى شمال أفريقيا، حيث يظلون على رأس الامبراطورية الفرنسية، وكان بإمكانهم أن يحتفظوا في أفريقيا، بمساعدتنا، بقوة بحرية متفوقة.

 

وكان في وسعهم أن ينالوا اعتراف الولايات المتحدة وأن يستخلصوا جميع الذهب الذي كان مودعا لهم وراء البحار.

 

ولو فعلوا هذا آنذاك، لكان المحتمل إخراج إيطاليا من الحرب قبل نهاية عام ١٩٤٠م، ولكان في وسع فرنسا أن تحتل مكانها في مجالس الحلفاء وفي مؤتمر الصلح بين المنتصرين! ولكن قادتهم العسكريين ضللوهم.

 

وعندما حذرتهم بأن بريطانيا ستقاتل وحدها على الرغم من كل ما قد يفعلونه، قال قادتهم العسكريون لرئيس وزرائهم ولمجلس وزرائهم المنقسم على نفسه: بعد ثلاثة أسابيع ستقطم رقبة إنكلترا وكأنها دجاجة ولكن أية دجاجة وأي رقبة)!

 

لقد كانت كل تلك الأفكار عن “الحكومة العالمية” تدرس وتناقش بين وزارة الخارجية البريطانية والخارجية الأمريكية، لقيادة العالم بعد النصر على ألمانيا وحلفائها قبل هزيمة هتلر!

 

وفي هذه السنة ذاتها ١٩٤٢م الذي بدأ العمل بين بريطانيا وأمريكا لتأسيس «الحكومة العالمية» -كما سماها تشرشل لتدير شئون العالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، والتي ستكون مصر والعالم العربي حجر الأساس فيه- بدأت الخارجية البريطانية تؤسس للعلاقة الإستراتيجية مع أول جماعة إسلامية في مصر بشكل مباشر، كما ذكر مارك كورتيس في كتابه (التاريخ السري ص ٦١)، حيث يقول نقلا عن وثائق الخارجية البريطانية:

 

(وبحلول ١٩٤٢ كانت بريطانيا قد بدأت على وجه القطع في تمويل الإخوان.

 

ففي ۱۸ مايو عقد مسئولو السفارة البريطانية اجتماعا مع أمين عثمان باشا رئيس وزراء مصر، نوقشت فيه العلاقات مع الإخوان وتم الاتفاق على عدد من النقاط، كان أحدها هو أن تدفع الحكومة المصرية سرا الدعم المقدم من حزب الوفد للإخوان المسلمين سرا، وأنها ستحتاج في هذا الأمر إلى بعض المساعدة المالية من السفارة البريطانية.

 

وإضافة لذلك، ستدخل الحكومة المصرية عملاء موثوقا بهم في صفوف الإخوان لتراقب الأنشطة عن كثب وتقدم لنا في السفارة البريطانية المعلومات التي يحصل عليها هؤلاء العملاء.

 

وسنحيط بدورنا الحكومة بالمعلومات المتحصلة من مصادر بريطانية.

 

كما تم الاتفاق على أنه ينبغي بذل الجهد لإثارة الانقسام في الجماعة باستغلال أي خلافات قد تحدث بين القائدين حسن البنا وأحمد السكري.

 

كما سيقدم البريطانيون للحكومة قائمة بأعضاء الإخوان من الذين يعتبرونهم خطيرين، لكن لن تتخذ أي أعمال عدائية ضد الجماعة، بل كانت الاستراتيجية التي تم الاتفاق عليها هي القتل عن طريق تقديم الأفضال!

 

واتفق على أن يسمح للبنا بإصدار صحيفة ونشر مقالات تؤيد المبادئ الديمقراطية!

 

ويعد ذلك طريقة جيدة للمساعدة في تفكيك الإخوان، كما أعلن أحد الحاضرين للاجتماع.

 

وبحلول ١٩٤٤م كانت لجنة المخابرات السياسية البريطانية تصف الإخوان باعتبارهم خطرا محتملا، لكنهم بقيادة ضعيفة: فقد اعتقدت أن البنا كان هو «الشخصية البارزة الوحيدة وبدونه يمكن أن ينهاروا بسهولة».

 

بيد أن هذا التحليل القائل بإمكان زوال الجماعة جرت مراجعته في السنوات التالية، عندما تعهدها البريطانيون وتعاونوا معها في مواجهة العداء المتنامي للاستعمار في مصر.

 

وهكذا، فإنه بحلول نهاية الحرب العالمية الثانية، توافرت لبريطانيا بالفعل خبرة كبيرة في التواطؤ مع القوى الإسلامية لتحقيق أهداف معينة، في حين أدرك المسئولون البريطانيون أيضا أن هذه القوى نفسها كانت بصفة عامة معارضة لسياسة بريطانيا الإمبريالية وأهدافها الاستراتيجية، كانوا أعوانا مؤقتين في ظروف محددة لتحقيق أهداف بعينها عندما كانت بريطانيا تفتقر إلى حلفاء آخرين أو إلى قوة كافية خاصة بها لتفرض أولوياتها.

 

وتعمقت هذه السياسة البريطانية النفعية بصورة كبيرة في عالم ما بعد الحرب حيث زادت الحاجة للأعوان في مناخ عالمي أصبح أكثر اتساما بالتحدي بقدر كبير) انتهى التقرير مختصرا.

 

فبريطانيا التي كانت وراء تأسيس النظام العربي الوظيفي وإدارته بكل دوله ليكون بعد ذلك أول اتحاد إقليمي يتم الإعلان عنه في مارس ١٩٤٥ قبل الإعلان الرسمي عن تأسيس الأمم المتحدة نفسها، كانت تراقب نشاط الأحزاب والجماعات التي تعمل بشكل سلمي في ظل هذه الدول الوظيفية، بحيث لا تخرج عن الدور المسموح به لها!

 

لقد احتلت بريطانيا مصر منذ ١٨٨٢م بعد أن دخلت لحماية الخديوي توفيق من ثورة الشعب المصري بقيادة عرابي التي اندلعت ١٨٨١م، وقامت بمحاكمة قادة الثورة ونفيهم أو سجنهم، وبدأ مشروعها الثقافي بتفويض المبشر المستشرق دوغلاس دانلوب بوضع مناهج التعليم في مصر، والذي قطع شوطا كبيرا لتهيئة الساحة الثقافية والفكرية ثم السياسية بعد ذلك لظهور الإسلام البريطاني ثم الأمريكي!

 

وإذا كان تشرشل هو واضع أسس النظام العربي الوظيفي تحت التاج البريطاني، حين كان وزيرا للمستعمرات في الحرب العالمية الأولى، فهو أيضا واضع أسس النظام العالمي و(الحكومة العالمية) أثناء الحرب العالمية الثانية، والتي سيصبح النظام العربي و(الجامعة العربية) أول اتحاد إقليمي يخضع لها مباشرة وقبل الإعلان عن (الأمم المتحدة) نفسها!

 

وستتنازل بريطانيا بسرور عن قيادة «الحكومة العالمية» للولايات المتحدة، التي ستتولى نيابة عن الإنجلو ساكسون قيادة العالم الجديدة وفق شريعة «الأطلنطي» البرتستانتية الليبرالية!

 

حيث يقول تشرشل في مذكراته ٢/ ٩٤:

 

(كان المشروع الأول الذي قدمه الرئيس روزفلت إليّ فور وصولي، وضع بلاغ جليل الشأن، توقعه جميع الدول المشتبكة في حرب مع المانيا وإيطاليا واليابان: وقد أعدت مع الرئيس الأساليب التي اتبعناها في صياغة «شرعة الأطلنطي» فأعددنا مسودات البيان، ثم دمجناها مع بعضها: وقد كنا على اتفاق كامل من ناحية المبدأ والعاطفة حتى وفي اللغة أيضا، وسرعان ما بوغتت وزارة الحرب،  ودهشت من النطاق الذي أعددنا فيه «الحلف الأعظم»، وتبودلت الرسائل بسرعة، وأثيرت بعض النقاط والمصاعب بصدد الحكومات والسلطات التي يجب أن توقع هذا الإعلان، وترتيبها، وقد تنازلنا بسرور عن مكان الصدارة إلى الولايات المتحدة.

 

وعندما عدت الى البيت الأبيض من كندا، كان كل شيء قد أعد لتوقيع ميثاق «الأمم المتحدة»، وتبودلت البرقيات بين واشنطن ولندن وموسكو، ولكن كل شيء قد تقرر الآن وقد بذل الرئيس كل ما لديه من جهد لإقناع لتفينوف، السفير السوفيتي، الذي عاد إلى الظهور بعد تبدل الأحداث، لقبول عبارة «الحرية الدينية»، وقد دُعي لتناول الغداء معنا في غرفة الرئيس خصيصا لهذه الغاية، ولكن كان هذا الرجل بعد التجارب الشاقة التي مر بها في بلاده حريصا كل الحرص.

 

ودار حديث طويل بينه وبين الرئيس روزفلت عن الروح وعن عذاب جهنم!

 

ولعل الوصف الذي تلاه الرئيس علينا في مناسبات عدة عما دار بينه وبين السفير الروسي كان مؤثرا كل التأثير.

 

وقد وعدت المستر روزفلت في إحدى هذه المناسبات بأني سأوصي بتعيينه «رئيسا لأساقفة كنتربري» في حالة فشله في انتخابات الرئاسة المقبلة، لكنني على أي حال لم أقدم مثل هذه التوصية لا إلى الملك ولا إلى مجلس الوزراء لأن الرئيس كسب معركة الانتخابات في عام ١٩٤٤م!

 

ونقل التفينوف، وهو يرتعد فرقا، قضية «الحرية الدينية» إلى ستالين، فقبلها كأمر واقع.

 

وأضافت وزارة الحرب البريطانية عبارة «الضمان الاجتماعي». وهي عبارة وافقت عليها بوصفي واضع أول قانون ضد البطالة.

 

وتم الاتفاق بعد أسبوع من تبادل البرقيات مع جميع أنحاء العالم على «الحلف الأعظم».

 

ونقل الرئيس في مقعده المتحرك إلي في صباح الأول من كانون الثاني. وخرجت من الحمام ووافقت على المسودة: وليس في وسع البيان وحده أن يكسب المعارك ولكنه أوضح من نحن، ولماذا نحارب؟

 

وفي ساعة متأخرة من ذلك اليوم وقع روزفلت وأنا ولتفينوف وسونغ ممثلا للصين هذه «الوثيقة الجليلة» في مكتب الرئيس. وعهد إلى وزارة الخارجية الأميركية بان تجمع تواقيع الاثنين والعشرين دولة الباقية. وأرى أن نسجل هنا الصيغة النهائية للوثيقة:

 

“إعلان مشترك من الولايات المتحدة الأميركية، والمملكة المتحدة لبريطانيا العظمى وشمال إیرلندة، واتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية، والصين، وأوستراليا وبلجيكا، وكوستاريكا، وكوبا، وتشيكوسلوفاكيا، وجمهورية الدومنيكان، السلفادور، واليونان، وغواتيمالا، وهايتي، وهندوراس، والهند، ولكسمبورغ، وهولنده، وجنوب أفريقيا، ويوغوسلافيا: تعلن الحكومات الموقعة أدناه والمذكورة أعلاه:

 

أنها لما كانت قد أسهمت في برنامج مشترك للأهداف والمبادئ التي تضمنها البيان المشترك الصادر عن رئيس الولايات المتحدة الأميركية، ورئيس وزراء المملكة المتحدة لبريطانيا العظمى وشمال إیرلنده، والمؤرخ في الرابع عشر من آب عام ١٩٤١، والمعروف بـ«شرعة الأطلنطي».

 

واقتناعا منها بأن النصر النهائي على أعدائها، ضروري للدفاع عن الحياة والحرية والاستقلال والحرية الدينية، والحفاظ على الحقوق الإنسانية والعدالة في بلادها وفي غيرها من البلدان، ونتيجة لاشتراكها الآن في صراع مشترك ضد قوى الوحشية التي تحاول استبعاد العالم، تعلن عن التالي:

 

١- تتعهد كل حكومة باستخدام جميع مواردها العسكرية والاقتصادية ضد أعضاء الميثاق الثلاثي، والدول المنضمة له والتي تشتبك هذ الحكومة في حرب معها.

 

۲- تتعهد كل حكومة بالتعاون مع الدول الموقعة على هذه الوثيقة، وبأن لا تعقد هدنة منفردة أو صلحا منفردا مع العدو.

 

يمكن للدول الأخرى أن تنضم إلى هذا الإعلان شريطة أن تكون هذه الدول مسهمة إسهاما ماديا، في الكفاح للانتصار على الهتلرية.

 

وقد يرى مؤرخو المستقبل أن أهم نتيجة وصل إليها مؤتمرنا الأول في واشنطن، الذي أطلق عليه اسم «أركاديا» وأخلدها أثرا، هي إقامة ما اشتهر اسمها بلجنة «رؤساء أركان الحرب المشتركة».

 

وقد تقرر أن يكون مقرها في واشنطن.

 

ولما كان وجود رؤساء أركان الحرب البريطانية، على مقربة من حكومتهم ضروريا، فقد رؤي أن يمثلهم في واشنطن عدد من كبار الضباط يجعلون من العاصمة الأميركية مستقرا لهم. وكان هؤلاء الممثلون على اتصال يومي، بل بين كل ساعة وأخري بلندن، وكان في وسعهم أن يعربوا عن آراء رؤساء أركان الحرب البريطان ويوضحوها إلى زملائهم الأمريكان، حول أية مشكلة تتعلق بالحرب، وفي كل وقت من أوقات النهار أو الليل، وكانت المؤتمرات المألوفة التي عقدت في أماكن مختلفة من العالم كالدار البيضاء، وواشنطن، وکويبك، وطهران، والقاهرة، ومالطة، والقرم، قد جمعت بين الرؤساء أنفسهم مدات تطول أحيانا إلى حدود الأسبوعين.

 

وكان نحو من تسع وثمانين جلسة من مجموع المائتي جلسة رسمية التي عقدتها لجنة رؤساء أركان الحرب المشتركة طيلة الحرب، قد عقدت أثناء هذه المؤتمرات، وفي هذه الجلسات اتخذت معظم القرارات الهامة.

 

وكان الإجراء المعتاد أن تعقد كل لجنة من لجان رؤساء أركان حرب الدولتين اجتماعا على انفراد في الصباح، ثم يجتمع الفريقان أثناء المساء…).

 

انتهى ما ذكره تشرشل نفسه عن تأسيس «الحكومة العالمية»، التي تنازلت الإمبراطورية البريطانية فيها عن القيادة للولايات المتحدة، والتي اتخذت من واشنطن عاصمة لها، ولها مجلس حرب مشترك، وشريعة أطلنطية، والتي ستخوض حربا عالمية مع ألمانيا وإيطاليا واليابان، وستؤسس بصفتها «الحكومة العالمية» لاحقا «الأمم المتحدة» كمؤسسة من مؤسساتها، وستكون «الجامعة العربية»، تابعة لها، وستتولى صناعة «الإسلام الأمريكي» الذي سيكون أداة لها في مكافحة الشيوعية ومكافحة عودة الخلافة، والذي أطلق سيد قطب صرخته في وجهه محذرا من خطورته، وهو يرى هذا النظام الدولي و(الحكومة العالمية) تتشكل على أرضه لتتحكم في العالم الإسلامي الخاضع لها عسكريا وسياسيا خضوعا كاملا!

 

لقد كان سيد قطب يرى آنذاك أن ثورة واحدة فقط تحدث في مصر كافية لإنهاء كل هذا النظام الدولي وحكومته العالمية التي ما تزال تحكم العالم العربي وتقتل شعوبه بالملايين!

 

حيث يقول في سنة ١٩٤٦م – في مقال (منطق الدماء يوم الجلاء) في مجلة الرسالة عدد ٦٦١ ص ٢٣٨-  متحسرا من موقف النخب المصرية والعربية تجاه المحتل البريطاني والأمريكي في الحرب العالمية الثانية، وكيف ضيعوا فرصة تاريخية كبرى كان بإمكانهم أن يستغلوها للتحرر من الاحتلالين، لو ثاروا فقط لمدة يومين حتى تضطر بريطانيا -وهي أحوج ما تكون لهم لخوض «معركة العلمين» مع ألمانيا على أرضهم- للاستسلام لشروطهم، بعد أن رأى دماء المصريين تسيل يوم الجلاء سنة ١٩٥٢م بعد أن وقفوا مع الحلفاء:

 

(أيا كان الألم الذي يعتصر قلب كل مصري لمنظر الدماء البريئة تراق، والأرواح الطاهرة تزهق، والبيوت العامرة تخرب، وقلوب الآباء والأمهات تقطر دما، وفلذات الأكباد تخرج في الصباح ولا تعود في المساء!

 

أيا كان هذا الألم الدافق الحار في حنايا كل مصري لتلك الدماء البريئة التي أريقت في “يوم الجلاء”، الذي أرادته الأمة المسالمة تعبيرا بريئا عن الحق الطبيعي في إبداء الشعور؛ وأراده المستعمرون القساة، معركة دموية تهرق فيها الدماء!

 

أيا كان هذا الألم، فإن له ثمنه الذي لن يضيع. فالدم هو عربون الحرية في كل زمان ومكان، والاستشهاد هو ثمن الكرامة على تغير الأزمان، وإن لليوم لغدا، وإن للحرية لفجرا، وإن النصر لآت!

 

وإن لتلك الدماء البريئة لمنطقا يكذب ويجبه الزعماء والساسة من المصريين والعرب أجمعين، الذين وقفوا يناصرون الإنجليز في محنتهم، ويؤدون لهم جميع الخدمات التي تكفل النصر، دون أن يحصلوا في ذلك الوقت حتى على وعد قاطع بالجلاء، اعتمادا على شرف الضمير السياسي البريطاني المزعوم!

 

إن ثورة واحدة مدة ثمان وأربعين ساعة، إبان «معركة العلمين»، وتوالي الأمداد والذخائر، ثورة واحدة تعطل المواصلات، كانت كفيلة بترجيح كفة النصر، وانقلاب وجه الحرب كلها -باعتراف القادة البريطانيين والأمريكان في هذا الأوان- ولكن مصر لم تعملها، وثوقا بشرف هذا الضمير المزعوم! ولم تنتفع بهذا الظرف في قضيتها الوطنية، ضعفا، أو جهلا، من الساسة والزعماء المصريين!

 

ولقد ظل هؤلاء جميعا: الكتاب المأجورون، أو المخدوعون، والساسة الضعفاء، أو الجهال ظلوا يسكبون في سمع الأمة المصرية، والأمة العربية كلها، منطقا زائفا مدخولا عن «الديمقراطيات الغربية»، وعن الضمير البريطاني، وعن «ميثاق الأطلنطي»، وعن «الحريات الأربع»، وعن الحرية والإخاء والمساواة، إلى آخر تلك الخدع الماكرة اللئيمة، التي ألقاها الأقوياء للضعفاء، فتلقفها هؤلاء، وغنوا بها كالببغاء!

 

ظل هذا المنطق البائس المجرم يسكب في سمع الأمة حتى انبعث أخيرا ذلك المنطق الحق الصارم، الذي لا عوج فيه ولا خفاء… ذلك منطق الدماء!

 

انبعث هذا المنطق من جراحات الجرحى، ومن طعنات القتلى، في ميدان الإسماعيلية، وانطلق كذلك من أفواه البنادق الآثمة، التي دوت بالموت والجراح، في الأبدان والأرواح، فغطى هذا المنطق الحاسم الصارم، على ذلك المنطق المريب الكذوب، الذي ظل الكتاب المأجورون أو المخدوعون، والساسة الضعفاء أو الجهلاء، يسكبونه في سمع الأمة ستة أعوام!

 

وإذا كان المنطق الزائف البائس، قد وصل إلى سمع الأمة ووقف هناك، فلقد اخترق المنطق الحق الحاسم سمعها، واستقر في قلبها، وردده ضميرها..).

 

هذا ما كتبه سيد قطب سنة ١٩٥٢ عن مذبحة يوم الجلاء، وعن دماء الشهداء – وكأنما يتحدث عن مذبحة رابعة والنهضة سنة ٢٠١٣م-وعن خور الساسة وضعف الزعماء!

 

وما زلنا مع المثالية والواقعية فللحديث بقية!


«الواقعيون.. ووحي الشيطان» (1-10)



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق