السبت، 18 مارس 2023

كيف عرفت المستشار يحيى الرفاعي


كيف عرفت المستشار يحيى الرفاعي

المفكر الإسلامي الدكتور محمد عباس

ذات ليلة، قبيل منتصف الليل،فوجئت برنين الهاتف من رقم لا أعرفه:

- أنا المستشار يحيى الرفاعي، هل تعرفني

وقابلت سؤاله بما يستحقه من تبجيل لضمير مصر كلها لا ضمير القضاء وحده أو العدالة فقط. 

سألني أين أنت؟ قلت له أنني في بيتي في مصر الجديدة، قال لي أريد رؤيتك الآن فورا لأمر هام جدا يتعلق بمحاكمتك في قضية وليمة لأعشاب البحر.

كان معي محامين كثر، ومهما كان حجم القضية فإن المستشار الرفاعي أكبر منها، قلت له ضاحكا:

- لو قبلت دعوتي على العشاء سأحضر فورا.

- تعال إلى المكتب أولا والعشاء أمره سهل.

منتصف الليل وصلت إلى مكتبه في وسط البلد. 

التقيته للمرة الأولى، مكتبه كان شديد الفخامة، اصطحبني إلى قاعة للاجتماعات ملحقة بالمكتب، لأفاجأ بعشاء فاخر من فندق خمس نجوم، خجلت من نفسي كثيرا. 

تعشينا وعدنا إلى المكتب, كانت له هيبة ملك، بكسر اللام أو بفتحها، وكانت كلماته تخرج، لا من لسانه وشفتيه ولا من حنجرته ولا حتى من رئتيه وصدره بل من أعمق أعماق قلبه يغشاها نوع جليل من الحزن. 

قال لي أنه يعرفني منذ زمان طويل من مقالاتي في الشعب، وأن معظم القضاة يعرفونني منذ مقالي المدوي : "رسالة إلى النائب العام" حيث توقع الغالبية أنني سأعتقل بعد هذا المقال لحدته الشديدة وصراحته (لا يمكن في الظروف الحالية إعادة نشر المقال لكنه موجود في كتبي المنشورة).

قال ضمير القضاة وروح العدالة:

- أنا أتابع قضيتك في وليمة لأعشاب البحر، وهم بين أمرين: لابد أن يسجنوك فقد هززت أركان حكمهم بشدة وأحرجتهم إحراجا شديدا، وفي نفس الوقت لا يمكن أن يحبسوك وإلا أثبتوا التهمة على أنفسهم بأنهم يعاقبون من تصدى للاعتداء على لفظ الجلالة وازدرى الإسلام وأساء للرسول صلى الله عليه وسلم. وهم بين ضرورة حبسك واستحالة حبسك لا يملكون إلا حلا واحدا وقد عثرت عليه لذلك طلبتك فورا. لقد كنت أتابع قضيتك، كانت برقم 35 جنايات باب الخلق، واليوم تغيرت الدوائر، ولقد فوجئت بإلغاء الدائرة كلها، ومعنى هذا أنهم نقلوا قضيتك إلى دائرة أخرى لا تعرفها أنت وستعرض قضيتك عليها فيحكم عليك بالحبس غيابيا وتهلل أجهزة إعلامهم لحبسك وكأنه حكم قضائي صدر ضدك وليس لسبب إجرائي، لكن في خلال أسابيع قليلة سيسقط الحكم بحضورك في الجلسة  التالية، وبهذا يحققون الغرضين، فقد حبسوك، لكن لأجل الشكل لا لأجل الموضوع. لوكان هناك وقت لأرسلت من يبحث عن رقم قضيتك الجديد،لكن لا وقت هناك، وقد يصدر الحكم غدا أو بعد غد، فعليك أن تذهب باكرا جدا إلى محكمة باب الخلق لتعرف رقم الدائرة الجديد وميعاد الجلسة.

في الصباح الباكر كنت في المحكمة، قدرت أن الأمر لن يستغرق نصف ساعة، لكنني ذهلت من حجم المحكمة، دخلت ألف مكتب أسأل عن القضية وكل مكتب يحيلني إلى المكتب الآخر، وصلت إلى حالة من الإرهاق التام، في الواحدة والنصف رجعت إلى موظفة سألتها أكثر من مرة، كانت محجبة، شرحت لها الأمر باختصار، تأففت في البداية من تكرار رجوعي إليها، قلت لها غاضبا أنت محجبة تعرفين الله وهذه القضية في سبيل الله، تساءلت في دهشة : أي قضية؟ شرحت لها الأمر باختصار فقالت: ولاد الكلب اللي بيشتموا ربنا؟ أجبتها، فقالت إذن هم يخفون القضية ليحبسوك، وقد تكون قضيتك غدا، اذهب فورا إلى دار القضاء العالي، إلى الأستاذ سيد سكرتير النائب العام فكل قضايا الجنايات تكون في مكتبه قبلها بيوم.هرعت إلى الشارع، تركت سيارتي،وفقني الله لتاكسي يقف! قلت له: خذ ما تشاء ولكن أريد أن أكون في دار القضاء العالي في خلال ربع ساعة. وفقنا الله فقطع المسافة في زحام الذروة في دقائق، صعدت إلى الأستاذ سيد، قلت له: أنا الدكتور محمد عباس فإذا به يهتف تلقائيا: إيه اللي جابك. ثم استدرك دون النظر إلى الأوراق: قضيتك غدا الدائرة 23 جنايات باب الخلق.

هاتفت ضمير العدالة والقضاء بل ضمير العصر

قال:

- صدق توقعي، سأحضر معك غدا.

في الغد حضر معي، وحدث أثناء المحكمة أمر ضايقه فغضب غضبا شديدا انعكس على تنفسه وضربات قلبه، كان ذلك بسبب أن الأستاذ مجدي حسين وكان متهما في القضية شكا له من أن ضيق القيد (الكلابش) قد جرح معصمه. ورجا المستشار الكبير الضابط الشاب أن يوسع القيد لكنه رفض في تأفف.

اتصلت به في المساء لأطمئن عليه

كان قد انتقل إلى دار الفؤاد.

في اليوم التالي عزمت على الذهاب فورا لزيارته..

 لكنه كان قد طار إلى أمريكا لإجراء عملية قلب مفتوح.

اتصل بي من أمريكا ليسألني عن موعد تأجيل القضية.

قلت له أنهم أجلوها أربعة أسابيع، فقال لي: سأعود لأحضر معك، أخذت أتوسل إليه أن ينساني تماما وأنني أفضل السجن عن قطع رحلة علاجه. لكنه قطعها وحضر رغم رفض الأطباء!.

(كتبت هذا بتفصيل أكثر في مقالات نشرت في الشعب الإليكترونية) وأخبرني أحد المحامين الذين يعرفونه بسر أخفاه عني، كان قد احتاج إلى مذكرة دفاع عني في الشق الجنائي، فطلبها من أحد زملائه، ودفع له فيها عشرة آلاف جنيه من جيبه. كان الجنيه لم يعم بعد وكان يساوي الدولار تقريبا.

***

هذا هو رمز القضاء والقضاة والعدالة والضمير.

تراني أقدر على مجازاته؟

بالتأكيد لا

لكن الله يجزيه عني وعن القضاء والعدالة خيرا

ولولا هذا الحديث لشعرت بالعجز المؤلم: عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من صنع إليه معروف فقال لفاعله: جزاك الله خيرا فقد أبلغ في الثناء) رواه الترمذي وقال: حديث حسن جيد غريب.

جزاك الله خيرا أيها المستشار الجليل العظيم

للقصة فصول أخرى

لكنني الآن لا أملك إلا الصمت

بقلب خاشع مفعم بالامتنان يدعو الله أن يسكنه الفردوس الأعلى

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق