الأربعاء، 15 مارس 2023

معركة عضّ الأصابع: إيران في مذكرات بومبيو

 معركة عضّ الأصابع: إيران في مذكرات بومبيو

رجلان إيرانيّان يمرّان أمام لوحة جداريّة تُظهر دولة الاحتلال 
معصوبة العينين بواسطة قنبلة، طهران، تشرين الأول 1989. 
(وكالة الصحافة الفرنسية).

تُعدُّ العلاقات بين إيران من جهةٍ و"إسرائيل" وأميركا من جهةٍ أخرى إحدى أكثر القضايا إثارةً للجدل في العالم العربيّ. يرى البعض أنَّ طهران مجرّد أداة تستخدمها واشنطن لابتزاز دول الخليج ودفعها للاحتماء بمظلة الحماية العسكريّة والأمنية الأميركية، وأنّها تُوظَّف في مشروعٍ طائفيٍّ يستهدف حواضر "العالم السنّي"؛ الدور الذي أسفر عن مقتل مئات الآلاف وتشريد الملايين في سوريا والعراق واليمن. فضلاً عن أدوارٍ سلبية أُخرى لطهران، مثلما حدث في دعمها الغزو الأميركيّ لأفغانستان عام 2001، والذي أقرّ به وزير الخارجية الإيراني السابق جواد ظريف في مذكراته "سعادة السفير". 

في المقابل، يرى آخرون أنَّ طهران تقود محوراً للمقاومة ضدّ "إسرائيل"، يشمل دعم العديد من التنظيمات الفلسطينيّة بالمال والتدريب والعتاد والخبرات، مما انعكس على تطوّر قدرات المقاومة التي أصبحت قادرةً على قصف تل أبيب، إضافةً لدعمها "حزب الله" في لبنان، مما أجبر الاحتلالَ على الانسحاب من الجنوب اللبنانيّ بعد 18 عاماً من احتلاله. يُبرِّر هذا الفريق سياساتِ طهران في سوريا والعراق وغيرها، بأنها تحقّق مصالح استراتيجية وتقدّم الحماية لحلفائها في المنطقة، وتحافظ على خطوط الإمداد البريّة لـ"حزب الله" في لبنان.

يعتمد كلا الطرحين في سرديته على أحداثٍ ووقائع حقيقية، لكن تغيب عنهما قراءةُ تعقيد المشهد وتداخل الأحداث ووجود خلافات داخل الدولة نفسها، بل حتى داخل الإدارة الرئاسية الأميركية الواحدة تجاه إدارة ملف العلاقات مع إيران.

"حربٌ بين الحروب"

يوضّح مايك بومبيو، مدير وكالة المخابرات المركزية (CIA) ووزير الخارجية في عهد ترمب، في مذكراته المعنونة بـ: "لا تُعطِ شبراً: القتال من أجل أميركا التي أحب" (2023)، Never Give an Inch: Fighting for the America I Love، تفاوت نظرة تل أبيب وواشنطن تجاه طهران، قائلاً: "بالنسبة لوكالة المخابرات المركزية الأميركية فإنَّ النظام الإيراني يمثّل مشكلة، لكن بالنسبة للموساد فالنظام الإيرانيّ هو المشكلة". إذ لدى أميركا مشاكل كثيرة مع الصين وروسيا وغيرهما، ولا تمثّل لها إيران تهديداً وجودياً، بينما الأمر مختلف بالنسبة لـ"إسرائيل"، إذ تمثّل إيران لها التهديد الخارجيّ الأبرز، وهو ما تؤكد عليه التقارير الاستراتيجية السنوية الصادرة عن مركز "هرتسيليا" المعني بقضايا الأمن القومي في دولة الاحتلال.

اقرؤوا المزيد: المُسيّرات.. لِمَن سماء البلاد؟

تخشى تل أبيب من تغيير المشروع النوويّ الإيرانيّ للتوازنات في المنطقة حال وصوله لصنع قنبلةٍ نوويّة، كما تُقلقها خطواتُ إيران لتعميق نفوذها في المناطق القريبة من فلسطين المحتلة، عبر دعم تنظيمات وجماعات متنوعة في لبنان وسوريا والعراق واليمن وغزّة، ومدّها بصواريخ دقيقة وطائرات مسيّرة وأسلحة تتيح فتح عدة جبهات متزامنة ضدّ "إسرائيل". كذلك تخشى من تعرّض مصالحها في الخارج لهجمات على يد طهران والمقربين منها، مثلما حدث مطلع التسعينيات عبر استهداف السفارة الإسرائيلية وجمعية ثقافية يهودية في الأرجنتين بهجماتٍ دامية مات فيها العشرات، فضلاً عن تعرّض إسرائيليين لمحاولات اختطاف في تركيا وقبرص وجورجيا عام 2022 على يد مجموعات إيرانيّة.

في المقابل، تشنّ "إسرائيل" ما تطلق عليه "حرباً بين الحروب" على إيران. يشمل ذلك توجيهها ضربات لمنشآت صناعة الصواريخ والطائرات المسيّرة مثلما حدث في أصفهان مؤخراً، وتصفية علماء نوويين كاغتيال محسن فخري زادة، وشن هجمات سيبرانية ضد مفاعل نطنز، واغتيال بعض كوادر الحرس الثوري مثل العقيد حسن خدائي في طهران بحجة ضلوعه في محاولات لاختطاف إسرائيليين. إضافةً إلى ذلك، تستهدف "إسرائيل" التواجد الإيرانيّ في سوريا، وهو ما بلغ عام 2022 بمفرده نحو 32 ضربةً عسكريّة، كما تستهدف بشكلٍ دوريٍّ عمليات نقل الأسلحة من إيران إلى "حزب الله" في سوريا ولبنان عبر العراق، بهدف عرقلة مشاريع طهران وتقويض نفوذها.

إرثٌ من العداء

تحمل طهران إرثاً من المرارة تجاه دور الاستخبارات الأميركيّة في تنفيذ انقلاب الشاه ضدّ حكومة مصدق في خمسينات القرن العشرين، كما تشتكي من العقوبات الأميركية التي أضرّت بالاقتصاد الإيراني. 

في المقابل، تحمل الذاكرة الأميركية إرثاً من الإهانة يعود إلى وقائع اقتحام سفارتها في طهران بعد الثورة واحتجاز 52 أميركياً لفترة طويلة، ومقتل 8 جنود أميركيين إثر اصطدام طائراتهم خلال محاولة فاشلة لإطلاق سراح الرهائن. فضلاً عن دور إيران في تنفيذ هجوم على قاعدة لمشاة البحرية الأميركية في لبنان عام 1983، مما أدّى إلى مقتل 241 عسكريّاً. بالإضافة إلى مقتل 19 جندياً أميركيّاً في تفجير الخُبَر عام 1996، على يد "حزب الله السعودي" المدعوم إيرانيّاً. وكذلك إقامة عدد من قادة تنظيم القاعدة في إيران دون تسليمهم للأميركان، وصولاً إلى اتهام الحرس الثوري بالوقوف خلف مقتل 600 جندي أميركي في العراق بحسب بومبيو في مذكراته.

اقرؤوا المزيد: السايبر.. عنوان الحرب القادمة؟

إذن، يوجد تاريخ من الخصومة الإيرانية الأميركية، مثلما توجد مساحة من التقاطعات. كما تتفاوت نظرة الحزب الديموقراطي عن نظرة الحزب الجمهوري في كيفية إدارة العلاقة مع إيران. لقد تبنّى الديموقراطيون، وبالأخص في عهد أوباما، سياسة تقوم على الدبلوماسية مع إيران بشأن برنامجها النووي، وهو ما قاد إلى عقد اتفاقٍ نوويّ عام 2015 خلال عهد الرئيس حسن روحاني، الذي سعى إلى تطوير العلاقات مع الغرب وتحسين وضع الاقتصاد الإيراني. 

بالطبع، كان ذلك يجري بالتزامن مع ممارسة ضغوط محسوبة ضدّ إيران، من قبيل فرض عقوباتٍ اقتصاديّة واستهداف المنشآت النوويّة بهجماتٍ سيبرانية، لدفع طهران لتحسين سلوكها وفق المعايير الأميركية. 


الصبرُ مقابل الكسر

لم يدم ذلك، فمع وصول إدارة ترمب للحكم تغيّر الوضع، إذ اعتبرت أميركا - بحسب بومبيو - أنّ "إيران هي أكبر دولة راعية للإرهاب في العالم، وتسعى بقوة للهيمنة في الشرق الأوسط، وترغب في محو إسرائيل من على وجه الأرض".

وقد اعتمدت الاستراتيجية الأميركية في عهد ترمب وفق بومبيو على "بناء سياسات تقوم على أن إيران هي أكبر مسبب للمشاكل في الشرق الأوسط، وإعادة تعزيز العلاقة مع إسرائيل، وإنشاء شراكات أمنية خليجية إسرائيلية جديدة، مع التأكيد على عدم تبني نهج لتغيير النظام الإيراني بالقوة، وإدراك أنّ الضغط على النظام الإيراني سيزيد بشكلٍ كبير من احتمال انهياره". وهي استراتيجية نسّقت واشنطن تنفيذها مع تل أبيب، فيوضح بومبيو أنه وقت إدارته للاستخبارات اجتمع رفقة فريقه المُكلّف بالملف الإيراني مع رئيس الموساد يوسي كوهين وفريق الاستخبارات الإسرائيلي المختص بالملف الإيراني، واتفقوا على العمل المشترك في كافة المشاريع المتعلّقة بإيران. كما أوضح بومبيو أنَّ التواجد الأميركي في قاعدة التنف في سوريا، قرب مثلث الحدود العراقيّة الأردنيّة السوريّة، يهدف إلى دعم الجهود الإسرائيلية لإبعاد الإيرانيين عن حدود فلسطين المحتلة.

 

وصل التنسيق الأميركي الإسرائيلي بخصوص إيران ذروته في موضوع الانسحاب من الاتفاق النووي، فبحسب مذكرات كوشنر: "عقد نتنياهو في 30 نيسان 2018 مؤتمراً صحفيّاً في تل أبيب كشف خلاله أنَّ الموساد اقتحم مخزناً سريّاً في طهران، وحصل على آلاف الوثائق التي تُظهِرُ أنَّ إيران منخرطةٌ في برنامجٍ سريٍّ لتطوير واختبار الأسلحة النوويّة. وعقب ذلك أعلن ترامب في 8 أيار 2018 الانسحابَ من الاتفاق النوويّ مع إيران، وتدشين حملة الضغط الأقصى ضدها، واعتبر أن الاتفاق السابق الذي وقّعه أوباما سلّم إيران 100 مليار دولار، وُظِّفت في جزءٍ كبيرٍ منها في دعم "حزب الله" و"حماس" وغيرها من الجماعات التي تعمل بنشاط لزعزعة استقرار العراق ولبنان وسوريا واليمن ودول أخرى".

مع ذلك، فإنّ إيران تتمسك بمقاربة الصبر الاستراتيجي، وتحسب ردود أفعالها بحذر، وتسعى لتعزيز علاقاتها مع روسيا والصين والتمدّد في أفريقيا وأميركا اللاتينية لترسيخ دورها الدولي، وتواصل دعم حلفائها في لبنان وفلسطين والعراق واليمن لامتلاك مزيد من الأدوات التي تجابه بها الضغوط الأميركية والإسرائيلية الساعية لتحجيم نفوذها.

"إذا واجهنا الإيرانيين…"

لم تكن سياسة إدارة ترمب تجاه إيران محلّ اتفاقٍ بين فريق الأمن القوميّ الأميركيّ بحسب بومبيو، إذ عارض وزير الخارجية تيلرسون ووزير الدفاع ماتيس الانسحاب من الاتفاق النووي، وخشيا من أن يثير عشَّ الدبابير الإيرانية ويجرّ أميركا و"إسرائيل" إلى حرب مع إيران، وأوصيا بعدم مواجهة طهران بشكلٍ مباشرٍ والاكتفاء بالردِّ عليها في العراق، حتى أن ماتيس قال لبومبيو: "إذا واجهنا الإيرانيين، فإنهم سيتحكمون في وتيرة التصعيد، وسينتهي بنا الأمر في موقفٍ سيء للغاية". لكنّ ترمب أزاح تيلرسون من منصبه واستجاب لتوصيات الصقور في إدارته (مثل: بومبيو وكوشنر) تجاه إيران، وهو ما تتفق معه السعودية والإمارات و"إسرائيل".

اقرؤوا المزيد: ماذا تكشف مذكرات كوشنر عن اتفاقيات التطبيع؟

أدّت سياسة الضغط الأقصى وتشديد العقوبات -بحسب بومبيو- إلى انسحاب الشركات الأوروبية من إيران، وخلال ثلاثة أعوام (2018-2020) انخفض الناتج المحلي الإجمالي لإيران من 445 مليار دولار إلى 192 مليار دولار. كما وانخفضت صادرات النفط الإيرانية من 2.5 مليون برميل يومياً في أيّار/ مايو 2018 إلى 70 ألف برميل فقط في أيّار/ مايو 2020، وهو ما يشير إلى صرامة العقوبات الأميركية، وعدم نظرة واشنطن إلى طهران كحليف أو حتى كصديق.

وصلت العلاقات إلى ذروة تأزمها قرب نهاية عهد ترمب، فعقب إسقاط طهران لطائرة مسيرة أميركية في حزيران/ يونيو 2019، وتنظيم مظاهرات حاشدة حاولت اقتحام السفارة الأميركية في بغداد عقب غارات للبنتاجون استهدفت معسكرات "كتائب حزب الله" العراقية بحجة ضلوعها في قتل متعاقد أميركي في العراق في كانون الأوّل/ ديسمبر 2019، قرّرت إدارة ترمب أنّه قد حان الوقت لإزاحة قاسم سليماني (قائد فيلق القدس) من المشهد، باعتباره وفق تعبيرات بومبيو: "رأس الأخطبوط الذي لفّ أذرعه حول دول عديدة في الشرق الأوسط، وهو ما يسهل الجهود اللاحقة لتفكيك الأجزاء المتبقية من النفوذ الإيراني". 

حساب المصالح

إنّ الأحداث سالفة الذكر تؤكد وجود عداءٍ حقيقيٍّ بين إيران من طرف، و"إسرائيل" وأميركا من الطرف الآخر. فلكلّ دولة مشروعها ومصالحها، يصطدمون معاً في العديد من الملفات، تحديداً في فلسطين ولبنان، فضلاً عن ملف أوكرانيا مؤخراً عقب دعم طهران لموسكو بطائرات مسيرة. 

مع ذلك، فإنّ هذا لا يعني عدم إمكانية التعاون في ملفاتٍ أخرى حال وجود مصالح آنية مشتركة، مثلما حدث في صفقة "إيران كونترا" لضبط إيقاع الحرب مع العراق، أو في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" منذ عام 2014. كما لا يمنع ما سبق من محاولة كل طرف توظيف الآخر لضبط التوازنات في المنطقة؛ الأمر الذي يمكن رؤيته بوضوح في كتاب مدير الـ (CIA) ووزير الدفاع السابق روبرت جيتس "الواجب"، عند حديثه عن حقبة الحرب العراقية الإيرانية قائلاً: "كانت مقاربة الولايات المتحدة خلال إدارة ريجان واقعية جداً، لم نكن نريد أن يحقّق أياً من الطرفين نصراً كاملاً، وبين الحين والآخر كنّا نؤمّن دعماً سريّاً متواضعاً لكليهما".


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق