الخميس، 10 مارس 2011

لماذا اعتبر الإسلام الإصلاح السياسي السلمي جهادا ؟


لماذا اعتبر الإسلام الإصلاح السياسي السلمي جهادا ؟

بقلم د . عبدالله الحامد
إن من ضعف الفقه في الدين أن تجد عامة المتدينين والمتخصصين بعلوم الشريعة، يقومون بفصل فظيع بين ركني الشريعة الروحي الخاص والمدني العام، فقد يقيمون الدنيا ويقعدونها، من أجل موضوع غيبي اجتهادي، ليست المعركة فيه بين حق وباطل، إنما هي بين راجح ومرجوح، كصراعهم في مسألة القرآن مخلوق أم غير مخلوق، ويتركون شطر الشريعة المدني، وكأنه خارج إطار الشريعة، وهم بذلك يمارسون رهبانية صريحة، وهم علمانيون أكثر من العلمانيين أنفسهم.

أ – غفلة المنتسبين للشريعة عن جانبها المدني:

من يتأمل النصوص الشرعية، في (زجاجة) التطبيق النبوي والراشدي، و(مشكاة) سنن الله السياسية والحضارية،يدرك أن الشريعة الإسلامية، لا يمكن أن توصل الناس إلى سعادة الدنيا والآخرة معاً، آفراداً وجماعات ومجتمعاتها إلا إذا قامت على محورين متوازنين:
المحور الروحي: شعائر المناسك كإقامة الصلاة والصوم والحج، وجوهره الصلاة.
والمحور المدني: إقامة الدولة الشورية العادلة، وما فيها من معائش ومساكن ومراكب، ونحوها من ما يحقق (الرقي المدني)، وجوهره العدالة.
وكثير من المتدينين لا يلاحظون إن فريضة الأمر بالمعروف ليس مقصورة على شعائر المناسك، كإشادة القباب على القبور، وترك الصلاة والصوم. فليس من السنة أن يحصر المحتسب جهده في إنكار المنكرات على شق التوحيد الروحي: المناسك، ويتشدد في ذلك حتى يغلو ويتنطع ـ لا سيما ـ وهي حقوق لله مبناها على الظاهر، وعلى الستر ودرء العقوبة بالشبهة، وعلى العفو من الله والمغفرة، والله لا يعاقب عليها إلا بعد إقامة الحجة، كما صرح القرآن فى قوله تعالى:{ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً}، وهي من ما لا تترتب عليه عقوبة دنيوية، وهي من ما لا تختل به حياة الأمة والدولة.
وفي مقابل هذا التشدد تساهل شنيع فظيع، في إقامة شطر الشريعة الدين المدني، الذي به تحرس العدالة الاجتماعية، ولا قوام للأمة دون عدل ومساواة وحرية سامية وكرامة، وأخلاق قوة اجتماعية ومعرفية وعملية. ولا عدالة من دون شورى، ولا شورى من دون تجمعات أهلية، ولا تجمعات من دون حريات مدنية.
إن من ضعف الفقه في الدين أن تجد عامة المتدينين والمتخصصين بعلوم الشريعة، يقومون بفصل فظيع بين ركني الشريعة الروحي الخاص والمدني العام، فقد يقيمون الدنيا ويقعدونها، من أجل موضوع غيبي اجتهادي، ليست المعركة فيه بين حق وباطل، إنما هي بين راجح ومرجوح، كصراعهم في مسألة القرآن مخلوق أم غير مخلوق، ويتركون شطر الشريعة المدني، وكأنه خارج إطار الشريعة، وهم بذلك يمارسون رهبانية صريحة، وهم علمانيون أكثر من العلمانيين أنفسهم.
فتلاعب السلطان بأموال الأمة، وإنفاقها على الشهوات والمحاسيب، أمر يؤدي إلى انهيار الاقتصاد، وتحول الأمة من أمة غنية، إلى فقيرة مستجدية، تفرض عليها الدول ما تفرض، وذلك أمر يؤدي إلى الفقر، وكاد الفقر يكون كفراً، من أجل ذلك يتبين أن حفظ مال الأمة أحد فروض الدين العظام.
والاستبداد بالإدارة والقيادة، وما فيه من رشوة ومحسوبية، وتولية غير الأكفياء، أمر يؤدي إلى الفساد الإداري يؤدي إلى انهيار الدولة بالفوضى والشقاق، من أجل ذلك كان صلاح الإدارة أحد فروض الدين العظام، ولا صلاح للقضاء إلا باستقلاله التام عن السلطة التنفيذية، وبإعداد ثقافة قضائية، تمكن القضاة من حلول المشكلات. من أجل ذلك صار استقلال القضاء أحد فروض الدين العظام.
وشيوع منهاج التربية الرخوة ، في مجال التعليم والإعلام، ليس أقل ضرراً من ما قبله، وفيه ضياع العقول والأعراض، من أجل ذلك صار صلاح التربية والتعليم خاصة والتربية الإجتماعية عامة، أحد فروض الدين العظام.
ب – لماذا ركز الرسول الجهاد على الشق المدني السياسي؟

ومن أجل ذلك جاءت كلمة الجهاد مركزة على شطر الشريعة المدني. وواضح من الأحاديث الشريفة هذا التركيز، ومن الأدلة على ذلك:
أن النبي صلى الله عليه وسلم فى حديث الجهاد المدني " خير الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر " ( رواه أبو داوود والترمذي وابن ماجة والنسائي وأحمد وصححه الألباني ) وصف النبي الإمام بالجور الذي يجب جهاده، والجائر يقابل العادل، وهما صفتان مدنيتان.
ولا جرم أن لكل عامل صفة بارزة، فالصفة البارزة في إمام المسجد هي فقه الصلاة والورع، والصفة البارزة في سائق السيارة، هي مهارة القيادة وحدة البصر.

والصفة البارزة في الحاكم هي العدالة أو الجور، فلم يصفه النبي بالفسق ولا بالفجور ولا بترك الصلاة أو الصيام ونحوها من شعائر الدين الروحية بل وصفه بالجور، وهذا يشير إلى أن الحاكم مهما صام وصلَّى، وبنى المساجد، وطبع المصاحف، لا تغفر هذه الأمور تهاونه في وظيفته الأساسية: وهي إقامة فريضتي العدالة .
ولذلك جاء وصف الكلمة في بعض الروايات (بالعدل)، والعدل في هذه الرواية، يخصص ما ورد في الروايات الأخرى (بكلمة حق) أو(كلمة خير)، لأن الحاكم في غالب الأمور لن يقتل من أمره بالصلاة أو بالعفة ونحوها، لأن غالب الحكام يتظاهرون أمام الناس بكافة محاسن الأخلاق، ويستطيعون أن يخفوا كل الموبقات المدنية من زنا وشرب خمور والروحية من ترك صيام وترك صيام، إلا مسألتي العدالة، ولأنهما ليست مسألة شخصية، يغلق عليها الإنسان داره، بل هي في كل شارع وحي ومدينة.

ج – الغفلة عن مقاصد الشريعة أفظع البدع:

وما أصيبت الأمة في كيانها، إلا غفلت عن منهج فقه الكتاب والسنة، فلم تضع (مصباح) الكتاب والسنة في (زجاجة) التطبيق النبوي والراشدي، و(مشكاة) سنن الله السياسية والحضارية،فضربت الرياح المصباح فانطفأ تارة وتذبذب تارة، وأصابه الغبش تارة أخرى، عندها أوّلت النصوص الدينية الصريحة، واعتمدت على غير الصريحة، ونشرت الأحاديث الموضوعة والضعيفة التي تنامى نباتها فى ظلال كهوف الحكم الصحراوي الكسروي وتركت النصوص القطعية، فعم الجهل بشطر العقيدة المدني: الذي محوره إقامة الدولة العادلة.
فسكت الناس عن أمر الحكام بالعدالة ونهيهم عن الظلم والاستبداد، وأخذوا من الدين ما يوافق أهواءهم ويجنبهم مشقة الصبر، وظنوا أن الأمر بالعدالة والشورى من فروع الملة، بل أسقطوا مسألة الإمامة كلها من العقيدة واعتبروها من فروع الدين، ونسوا شروط إقامة الدولة العادلة، من معالم العقيدة السياسية الإسلامية المعتبرة، وأن العدالة عمود شق الشريعة المدني، كما أن الصلاة عمود شق العقيدة الروحي، وأن خيمة الإسلام لا تقوم دون توازن العمودين، فمن أخل بعمود فقد أخلَّ بالآخر، وقد أخل بمفهوم تحقيق التوحيد.
والإسلام عقد منظوم، لا يؤخذ منه جانب دون جانب، إلا في حالة الدعوة المتدرجة إليه، أما الاستمرار على ذلك فهو جهل بالشريعة، يؤدي إلى شيوع الفساد وخراب البلاد، كما قال الإمام الشاطبي، مؤكداً على أن ترك ضم أطراف الشريعة إلى بعض، هو أسباب الوقوع في الزيغ والغلط 
  • "ومدار الغلط في هذا الفصل إنما هو على حرف واحد، وهو الجهل بمقاصد الشرع، وعدم ضم أطرافه بعضها ببعض".
  • "فإن مأخذ الأدلة عند الأئمة الراسخين، إنما هو على أن تؤخذ الشريعة كالصورة الواحدة، بحسب ما تثبت به كلياتها وأجزاؤها المترتبة عليها، وعامها المترتب على خاصها، ومطلقها المحمول على مقيدها، ومجملها المفسر بمبينها، إلى ما سوى ذلك من مناحيها".
  • "وما مثلها إلا مثل الإنسان الصحيح السوي، فكما أن الإنسان لا يكون إنساناً؛ باليد وحدها، ولا بالرجل وحدها، ولا بالرأس وحده، ولا باللسان وحده، بل بجملته التي سمي بها إنساناً، وكذلك الشريعة لا يطلب منها الحاكم على حقيقة الاستنباط إلا بجملتها، من أي دليل كان، وإن ظهر لبادئ الرأي نطق ذلك الدليل، فإنما هو توهمي لا حقيقي".
فشأن الراسخين في العلم، تصور الشريعة صورة واحدة، يخدم بعضها بعضاً، كأعضاء الإنسان إذا صورت صورة متحدة. وشأن متتبعي المتشابهات أخذ دليل ما، أي دليل كان عفواً أو أخذا أوليا، وإن كان ثم ما يعارضه من كلي أو جزئي فكان العضو الواحد لا يعطي في مفهوم أحكام الشريعة حكماً قطعياً، فمتتبعه متبعُ متشابه، ولا يتبعه إلا من قلبه زيغ، كما شهد به الله، {ومن أصدق من الله حديثاً} (النساء: 87) (الاعتصام: 312/1).
جاهل بالدين بل مبتدع بدعة كبرى؛ من قصر جهده وجهاده على العناية بقيم الإسلام الروحية الخاصة: المناسك، وترك قيم الإسلام العامة المدنية: شرائط المعاش الإدارة التي أساسها أمران: العدالة والشورى فى البيت والمدرسة والديوان.
لقد أخذ بجانب من الدين وترك الآخر. فليحذر المؤمن من أن يقع في الضلال وهو لا يدري، فيكون من الذين يضلون الناس بغير علم، وإن كانوا من الزهد والإخلاص بمكان مكين، وإن كانوا من العلم والحفظ من المكثرين، فالله قد حذرنا بأن الأمم السابقة، لم تهلك بسبب الجهل فحسب، بل إن علم الشقشقة والثرثرة والرهبنة، من أسباب الضلال  {فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم }. وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن الضلال نوعين وحذر منهما معا: ضلال روحي وضلال مدني.
وحذر من الضلال الروحي الأول: في ما رواه أبو هريرة 
" لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعأ بذراع " فساله الصحابة : يا رسول الله اليهود والنصارى ، قال : فمن " (رواه مسلم ) .
وحذر من الضلال المدني : فى ما رواه أبو سعيد الخدري " لتتبعن سنن من كان قبلكم ، شبرا بشبر وذراعا بذراع " فساله الصحابة : فارس والروم ؟ قال : فمن ؟ " ( رواه البخاري ) ، قال ابن حجر " حيث قال " فارس والروم " كان هناك قرينة تتعلق بالحكم بين الناس وسياسة الرعية ، وحيث قال اليهود والنصارى كان هناك قرينة تتعلق بأمور الديانات؛ أصولها وفروعها "
وهذا الحديث من الأسس التي بنيت عليها ثنائية الروحي والمدني
(فى كتاب عمودان لفسطاط الإسلام: روحي ومدني/ دار الناقد الثقافي/ دمشق).

لأن للإسلام قدمين لن يمشي على الأرض فضلاً عن أن يسعى أو يحلق في الآفاق إذا شل أحدهما، ويعرج إذا مرض أحدهما، فلنتذكّر وعيد الله الذين حصروا الدين في جانب، وتركوا ما عداه {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون} [البقرة: 85].
أجل إنه خزي في الحياة الدنيا قبل الآخرة، أصاب أمتنا الإسلامية عامة والعربية خاصة: جبر وخوف جور ومرض وجهل وفقر وتفرق وذل. وذلك جزاء من أخلَّ بشطر الشريعة المدني جانب العدالة والشورى، فمن همشه في فتاواه ومؤلفاته فقد أخلَّ بثاني اثنين من أصول الدين، إنه الخزي الفظيع.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق