الجمعة، 25 مارس 2011

الرهبانية الجديدة


الرهبانية الجديدة

بقلم د . عبدالله الحامد
من أجل الخروج من هذه الأزمة لا بدّ من الإصلاح السياسي أولا، وجلاء موقف الإسلام من الاستبداد، قبل الحديث عن برامج التعليم عامة والديني خاصة، ولكن الإصلاح السياسي لا ينجح دون حافز ديني، والحافز الديني لا يكون دون بيان أن التوحيد قسمان روحي ومدني، وأن الطواف حول قصور الأمراء الطغاة؛مخل بالتوحيد كالطواف حول قبور الأولياء، كما قال تعالى" قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، أن لا نعبد إلا الله، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله"
ا– السبب الأكبر في ضعف الأمة:

الحمد لله الذي خلق الإنسان، وجعله خليفة في الأرض، وأنزل الكتاب والميزان، ليقوم الناس بالقسط، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، الذين أقاموا حضارة الإيمان، التي حلقت بجناحي الحرية السامية والعدالة، وبهما نشروا الإسلام رحمة للعالمين، في مشارق الأرض ومغاربها وعلى من اتبعهم في هذا المنهاج، في كل زمان ومكان.
وبعد فما ضعف المسلمون، إلا عندما وقعوا في محظورين:
الأول: أنهم جزأوا الدين فآمنوا ببعضه وهو العبادات الروحية، وتركوا بعضه الآخر وهو العبادات المدنية فحرفوا الدين فوقعوا فى داء الأمم من" المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين " ( الحجر : 90-91 ) .
الثاني: ثم ضعفت في نفوسهم معاني العبادات الروحية المنشطة، فلم تعد الصلاة تنهى عن فحشاء مدنية، ولا منكر اجتماعي أو سياسي، وتحولت إلى عادات مثبطة منومة، وكان الدين مضموناً روحياً ومدنياً حركياً شاملاً، فأمسى طقوس مناسك روحية فردية جزئية سلبية، وتلك هي الرهبانية الجديدة.
وعندما جاء الإسلام تمثله المسلمون الأولون، وأدركوا أن الإيمان شطران: مناسك روحية ومسالك مدنية، فكانوا نموذجاً حضارياً فريداً، كان الدين منبع سيادتهم في الدنيا، ودليل سعادتهم في الأخرى، وأضحى حافزاً للتفوق الحضاري الذي به عمارة الدارين، دار الدنيا ودار الآخرة معاً.
بيد أن جوهر الدين انطمر عبر الأمكنة والأزمنة، وأفل كثير من مصابيحه الحضارية، فباتت أشكالاً معزولة، لا تحقق عزة في الدنيا، ولا نجاة من الهلاك في الآخرة، وتلاشت قوة الأمة ومنعتها، وصارت نهباً للطغيان الداخلي، الذي فتح شهية العدوان الخارجي.
وعبر تأويل نصوص الشريعة المحكمة، برروا الظلم والجهل والتأخر، والفقر والذل والمرض، واستغلهم الخادعون من طلاب الحطام الدنيوي، والمخدوعون من أهل الزهد الرهباني السلبي، لتبرير كل واقع فاسد، وكل حادث مهين، فبرروا كل عدوان وطغيان. وصدق الرسول الكريم: «أخوف ما أخاف على أمتي: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، والأئمة المضلين».

ب – البحث عن المخرج:

ولن تتحقق للأمة عزة ولا قوة، إلا بعرى الدين المتينة، ولا سبيل إلى ذلك إلا بتحريك ما ركد من مياهه، وإشعال ما خبا من مصابيحه، ليعود الدين توحيداً صحيحاً، نقياً من ظلمات الشرك الخفي والجلي، وفقهاً ملهماً للنهوض والرقي، وينبوعاً يغسل أدران أمراض العقول والنفوس والأجساد، وروحاً يولد طاقات الأمة.
ولا يتم ذلك إلا بأمرين:
الأول: فقه الدين شاملاً، بالإيمان به كله سواء أكان شعائر مناسك أم شرائط معائش.
الثاني: ولا يتم ذلك إلا بتفعيل مقاصد الدين الراكدة، والتي بقيت مصطلحاتها وحرفت مفاهمها لكي تستخدم في نشر قيم الخمول.
والخطوة الأولى أن يبادر الفقهاء المثقفون من علماء الشريعة خاصة، والعلماء والمثقفون من أهل الإصلاح عامة، الذين يدركون دورهم الريادي الطليعي إلى تصحيح المفاهيم المغلوطة، وتحريك المياه الراكدة، ونصب القدوة الحسنة، وواجب على كل مثقف أن يدلي بعمله وقوله، وواجب على من يجد في قوله أو عمله نقصاً أو خطأً أن يقوم ويسدد. وبهذا وذاك نشق الطريق المسدود ونصل إلى الهدف المنشود.
ج – الصالحات المدنية مؤهل وراثة الأرض

إن القيام بشطر الشريعة المدني: العدل والعمران، هو أساس بقاء الأمم والحضارات والدول، وذلك جاء في القرآن الكريم ربط وراثة الأرض بعمل الصالحات في الأرض، ولا يكون ذلك دون إقامة شرط البيعة الإسلامية الأكبر : قوامة الأمة على حكامها، لأنها هي المخولة بحفظ الشريعة، من دون ذلك لا يمكن بناء الدولة العادلة.
وكلما جاء الصلاح أو الفساد مرتبطاً بالأرض أو بوراثتها فإنما المقصود الصلاح المدني، قال تعالى: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنَّهم في الأرض}، ومن يشكل عليه فهم كتاب الله المقروء، فليقرأ كتابه الكوني، ليدرك أن أساس بقاء الحضارات هو القيم المدنية.
إن من يتأمل تاريخ المسلمين، يدرك أن أهم سبب في انهيار الأمة، هو غياب أعراف المجتمع المدني. ومن هذا وذاك تعرف مقاصد الإسلام الكبرى ووسائل تنفيذها، في حفظ أمة الإسلام؛ أفراداً وجماعات ومجتمعاًت ودولا.
ومن يتأمل تاريخ نهوض الإفرنج، يدرك أن أهم سبب في تفوقهم، هو قوة ثلاثية المجتمع المدني، بأضلاعها الثلاثة:
الضلع الأول الأساس : منظومة القيم، كالحرية السامية والعدالة والشورى، والكرامة والمساواة، والتعددية والجدية والروح العملية إلخ.
الضلع الثاني : التجمعات الأهلية المستقلة عن الدولة، من نقابات وجمعيات وروابط، بصفتها تجسيدا لسلطة الأمة باعتبار الأمة هي (صاحبة السلطان على كل حاكم)، وهي الأدرى بمصالحها، وهي ولية أمر نفسها.
 ( شرحت ذلك في كتيب ( ثلاثية المجتمع المدني/الدار العربية للعلوم/ بيروت).
الضلع الثالث: توزيع عبء الدولة على ثلاثة أعمدة بدلا من عمود واحد، من خلال الفصل بين السلطات وقيام مجلس النواب بمحاسبة ومراقبة الحكومة، وتعزيز استقلال القضاء، بذلك تتجسد سلطة الأمة على الحاكم، التي قررها الله فى القرآن، وعبر عنها الإمام إبن تيمية بعبارته الشهيرة " الامة هي المخولة بحفظ الشرع، وليس الحاكم،(انظر تفصيل ذلك فى كتيب (البرهان فى قوامة الأمة على السلطان) .
د - أولوية نشر ثقافة المجتمع المدني:

إن معضلة الأمة الكبرى عبر العصور، هي الحكم الجبري، لأنه لابد أن يئول إلى حكم كسروي صحراوي جائر، وزادها ضراوة أن الفقهاء الغافلين والخادعين؛ ينسون أنه إخلال بالعقيدة، وأنه هو الكفر البواح، وفوق ذلك يقدمون خطابا دينيا يندمج في الاستبداد والتخلف، ويتآلف معهما، إن لم يقدموا الاستبداد على أنه الإسلام.
الاستبداد هو الذي أنتج الأزمة الحضارية التي أدت إلى انهيار الأمة الداخلي وإلى هيمنة الأجانب على شؤونها، وهذه الأزمة تمتد جذورها إلى خلل حدث منذ بضعة عشر قرناً، في التربية الاجتماعية، ومنهاج التعليم وأهدافه ووسائله.
إن كوارث الخليج منذ عام 1411هـ ( 1990م ) التي أسقطت الأقنعة الزائفة، وعرت التماثيل الفارغة، إنها إعلان عن إخفاق المنهج التربوي الذي اندمج في الطغيان، وعندما ركدت مناهج التعليم عامة والديني خاصة، فانحصر العلم في كثرة المؤلفات وتحصيل المعلومات وانفصل عن العمل.
ومن أجل الخروج من هذه الأزمة لا بدّ من الإصلاح السياسي أولا، وجلاء موقف الإسلام من الاستبداد، قبل الحديث عن برامج التعليم عامة والديني خاصة، ولكن الإصلاح السياسي لا ينجح دون حافز ديني، والحافز الديني لا يكون دون بيان أن التوحيد قسمان روحي ومدني، وأن الطواف حول قصور الأمراء الطغاة؛مخل بالتوحيد كالطواف حول قبور الأولياء، كما قال تعالى" قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، أن لا نعبد إلا الله، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله"كما قاربت ذلك في كتيب"لا نجاح لإصلاح سياسي دون حافز ديني".
من أجل ذلك ينبغي العودة إلى الإسلام نقيا من غبار الاستبداد، الذي شوه وجه دين الحرية والعدل والمحبة والكرامة، فحوله إلى دين يمارس باسمه القمع والظلم والطبقية والحقد والإهانة.، ولا سبيل إلى كشف ما في الصياغة العباسية للتربية والثقافة الإسلامية، إلا برؤية (مصباح) الكتاب والسنة، في (زجاجة) التطبيق النبوي والراشدي، و(مشكاة) سنن الله السياسية والحضارية، من أجل ترتيب الأولويات، ولكي يدرك المحافظون على الصياغة العباسية للتربية والثقافة الإسلامية، -وفقنا الله وإياهم-
إن الأمة لا تعاني من نقص كمي في برامج التربية والتعليم، وإنما تعاني من فقر في الأفكار والمفاهيم.
لا يكون للإصلاح السياسي نجاح من دون تفعيل قاعدة الجهاد المدني، من أجل ذلك لا بدّ للمهتمين بالدعوة والإصلاح، من نشر ثقافة الجهاد المدني السلمي.
وأسأل الله أن يوفق الجميع إلى الصواب، وأن يجنبنا الزبد والخطل، في الفكر والقول والعمل، وأن ينفع بهذا الكتيب وأن يجعله هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم وأن يقبله بفضله وإحسانه
.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق