الثلاثاء، 3 أكتوبر 2023

عن اللي بالي بالك!

 عن اللي بالي بالك!

يوسف الدموكي

صحفي، وطالب بقسم التلفزيون والسينما 

في كلية الإعلام بجامعة مرمرة

في ظلّ خوفٍ يخيّم على البلاد، وسط دولة بوليسية عسكرية يَمثُل كلّ من يتفوّه فيها أمام مقصلة الأعمار والأرواح، ويؤتَى بكلّ من يتجرّأ بشق كلمة ليكون عبرة لمن يعتبر، ومن لا يعتبر، ويكبَّل الشجعان بالأغلال والقضبان، وتراقب النسور فوق الأكتاف الأفراخ الذين يحاولون النقنقة بين الأعشاب، والعصافير التي تحاول الزقزقة فوق الأعشاش، يحاول الشعب اللذيذ، خفيف الروح، كعادته العثور على حيلة وسط كلّ "تقفيلة".

على مرّ التاريخ، ووسط الألقاب التي أطلقها العامة هنا على المجانين الذين يحكمونهم، فإنّهم يعودون ليتحايلوا على المتصيّد الذي ينتظر كلمة تسيء إلى جلالته، بحيلة ظريفة، تقتضي أن تدعو في أيّ مكان، أو تذكره بضمير الغائب وسط أيّ جمع، ليفهم الجميع قصدك، دون أن تتفوّه باسمه، فحين تشتري كيلو السكّر بأربعة أضعاف سعره الحقيقيّ، واقفًا عند البقال، وسط المواطنين، ستقول ببديهية شديدة "منه لله"، سيرد الجميع في نفَس واحد "آمين يا رب"! هل ذكرت اسمه؟ هل عرّفتهم بمن تقصد؟ أبدًا، ولكن الجميع يعرف من دون أن يقول إنه يعرف.

ثم حين تكون في المواصلات، ويطلب منك السائق أجرة زيادة عن الطبيعية، لأنّ البنزين ارتفع سعره، والصيانة زاد أجرها، والإيجارات والمعيشة وخلافه، فإنك لن تذكر السائق بأيّ سوء، ولن تقصده بأيّة دعوة، ستقول له: "ربنا ياخده"، لن يتردّد الركاب ثانيةً حول مقصدك الحقيقيّ، لن يرتابوا، ولن يظن السائق بالخطأ أنك تدعو عليه، وإنما سيردّد الجميع معك: "آمين".

وفي البنك، بينما تحاول سحب حوالة دولارية، ويخبرونك بأن تنتظر لأنّ هناك عجزًا، وأنت ببدلتك الرسمية المنمّقة، وسط حضورٍ من طبقة مخملية، ومواطنين عاديين، بين رجال أعمال كبار أتوا لسحب نقود يحاولون بها إدخال بضاعتهم العالقة في الموانئ، وبين عجائز معدمات آتيات لسحب معاش ضئيل، بالكاد سينفقنه على البضاعة الشحيحة التي سيجلبها السادة الأوائل من الموانئ، ستقول: "حسبي الله ونعم الوكيل"، ولن يشكّ موظف البنك، ولا رجل الأعمال، ولا الأرملة الفقيرة التي أتت لسحب معاش زوجها المتوفى بالمرض، في أنك تقصد أحدًا غير جنابه.

يتحايل الناس على المتصيّد الذي ينتظر كلمة تسيء إلى جلالته، بحيلة ظريفة، تقتضي أن تدعو في أيّ مكان، أو تذكره بضمير الغائب وسط أيّ جمع، ليفهم الجميع قصدك

وعلى مواقع التواصل، بعد يوم عصيب عليك، أو ضيق يفتك بصدرك، ستكتب دون أن تخاطر بنفسك، بينما تشعر بشدّة أنك تريد أن تصرخ في أيّ مكان، ولو افتراضياً، من خلف أزرار أقصى صوت لها "التكتكة"، تقول: "يا رب انتقم منه"، سيقول الآلاف "آمين"، من دون أن تذكر من هو، ولا أن تضع صورةً أو اسمًا، أو رمزًا، مجرد "هاء الغائب" تكفي، لأنّ يحضر بوجهه في أذهان الجميع.

وإن كنت تراهن يا سيدي القارئ على أن أذكر لك اسمه، فلن أذكره، لأنّك عرفته، حتى من دون كتابة اسم دولة أو شعب، أو إلقاء رمزية أو كناية، أو وضع تلميح أو دلالة؛ وذلك أفضل دليل عمليّ على الغائب الحاضر، المذكور الغنيّ عن الذكر، الذي يخاف الناس من استحضاره، ويقرفون من استحضاره في آن واحد، لكنهم جميعًا أمام الله، في سجودهم، يصرخون باسمه عاليًا رغم سريّة صلواتهم، حتى إذا دخلت أيّ مسجد على أيّ قوم يصلّون، أو أيْ سوق على أي قوم يبيعون ويشترون، أو أي شارع على أي قوم يسيرون ويتوقفون، لن تجد اسمًا يرنّ في أذنك، ولن ترى وجهًا يتجلّى أمام ناظريك، ولن تسمع دعاءً يضجّ بداخلك، إلا وهو لا يقصد أحدًا سواه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق