"صاحبة الجلالة" على فراش السلام الدافئ
وائل قنديل
من المهم التذكير بأصل حكاية نقابة الصحافيين وسلطة عبد الفتاح السيسي: سلالم النقابة عادت تنبض بالهتاف، وتهتف ضد بيع الجزيرتين، تيران وصنافير، وتستقبل الغاضبين من التفريط في ثوابت الأمن القومي. ثم كان أن اعتصم صحافيان شابان داخل بيت الصحافة، عقب تحرّشات أمنية مخيفة طاولت منزليهما، وما تلا ذلك من اجتياح قوات الأمن مبنى النقابة، واختطاف الزميلين الصحافيين.
ولمّا استنهضت الجماعة الصحافية طاقات الغضب والتصدّي لعربدة السلطة، كان التصعيد، من النظام، ليصبح المطلوب كسر أنف النقابة والمهنة، ورأينا حصاراً همجياً على بيت الصحافة، أشبه بمحاصرة الكيان الصهيوني مقر المقاطعة في رام الله، والذي انتهى بالإجهاز على ياسر عرفات، وإعلان وفاة السلطة الوطنية، واستبدالها بسلطة مطيعة، مطابقةٍ للمواصفات الصهيونية بها.
تتشابه القصتان: ترك عرفات الحصان وحيداً، وتخلى عن البندقية، وأعلن الإذعان للمشروع الصهيوني الأميركي، مستقيلاً من النضال التاريخي، مطفئاً الانتفاضة الباسلة. وعلى الرغم من ذلك، لم يرض عنه الأوغاد، فحاصروه في "المقاطعة" حتى قتلوه مسموماً، ولم يقدّروا تسليمه بنصوص "أوسلو".
نقيب الصحافيين في مصر، منذ اللحظة الأولى، قرّر أن يكون "أوسلوياً مطيعاً"، مديراً ظهره لتلك الانتفاضة الهادرة للجماعة الصحافية، مرتعداً من حصار قوات الانقلاب، من دون أن يُبدي أية إرادة في المقاومة والتصدّي، بل بالغ كثيراً في إعلان الانسحاق أمام جبروت مشروع 30 يونيو الانقلابي، متحدثاً عن اللاصدام، واللامعركة بين الصحافة وسلطةٍ تكره الصحافة وتحتقرها، مفضلاً سلخ المعركة عن إطارها الوطني العام، واختزالها، أو بالأحرى ابتذالها في تلك الدائرة المهنية الفئوية الضيقة.
وبذلك، قدّم خدمةً جليلةً للنظام، حين حقّق لها هدفها بإقامة جدار عازل بين الجماعة الصحافية والمجتمع ممثلا في قطاعاتٍ من الشعب، تدرك أن الصراع يستهدف حرمانها من المعلومة المجرّدة والرأي الحر المعارض، والحق في التعبير وتعرية الفساد والاستبداد.
وعلى الرغم من ذلك كله، لم يرض عنه "الأسياد"، فحاصروا النقابة، بالهراوة والطبلة، وحشدوا فرق الاقتحام والرقص، فاعتدوا على المهنة وأهلها، ثم جاؤوا بعديد من "الدحلانات" و"العبابيس" وأعطوا الضوء الأخضر لقتل "بيت السلطة الرابعة"، وتنفيذ انقلابٍ صاخب، بغية استبدال كيانٍ آخر مطيع وداجن بها، حتى انتهى الأمر بنقيب الصحافيين "المنتخب" محبوساً مهاناً، صحبة اثنين من أعضاء مجلس النقابة.
ما يجري مع نقابة الصحافيين ليس مجرد انتقامٍ غاشمٍ من السلطة، بل هو في سياقٍ عام، يستهدف خنق العمل النقابي، ومحاصرته داخل مقرّاته، حتى يلفظ أنفاسه الأخيرة، قبل أن يتمكّن من الالتحام بالمجتمع، والانفتاح على المواطن، ذلك المخلوق الذي تكرهه السلطة، منذ أن استجاب لنداء التغيير عام 2011، فأسقط النسخة القديمة منها.
ولو وضعتَ ما يجري مع جماعة الصحافيين، وقبل ذلك، ما تم مع "الأطباء"، إلى جانب العدوان الهمجي على مقرّ نقابة المحامين بأحد مراكز محافظة الدقهلية، والذي شنّته فرقٌ من البلطجية، مدعومة من الأمن، بالتزامن مع التنكيل بنقيب الصحافيين وزميليه، ستدرك أن النظام بدأ عملية تقليم أظافر النقابات، بالتزامن مع تسخينٍ مثير في العلاقات مع الصهاينة، يتطلب إسكاتاً لكل المنابر التي يتوقع منها الغضب والاحتجاج على ما هو قادم من خطوات كارثية، كانت البروفة الأولى لها التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير.
هو خريف مجنون، يشبه تلك اللوثة التي أصابت نظام أنور السادات، حين ذهبت برأسه خمر الغزل الإسرائيلي الأميركي فيه، واستشعاره أنه بات فتى المنطقة المدلّل.
ومن ثم لم يعد يتحمل من يعترض اندفاعه المحموم صوب فراش التطبيع المفروش بالسلام الدافئ، ولعلك لاحظت لحظة الانتشاء التي جعلت السيسي يقهقه، حتى كاد أن يسقط على ظهره، وهو يسأل حوارييه "هنعمل إيه في الفرش"، في اللحظة التي كان الخناق يضيّق فيها على مجلس نقابة الصحافيين: الحبس أو دفع الكفالة.
لا يريد السيسي صحافةً تنغّص عليه نشوته بليبرمان ونتنياهو، ولا يطيق نقاباتٍ مهنيةً ترفض تناول طعام التطبيع الحرام.
لذلك، لم يكن مفاجئاً أن ينفعل غاضباً ضد الأقلام والأفلام التي تتحدّث عن سلبيات المناطق العشوائية، باعتبارها معامل لتفريخ العنف والبلطجة، ويقول إنهم "ناس زي الفل"، مكافأة لزعمائهم على أدوارهم البطولية في عروضٍ راقصةٍ احتفالاً بالتنازل عن الأرض، أو في استعراضاتٍ مسلحة، لإرهاب أعضاء النقابات المتمردة.
السؤال هنا: كيف تكون النقابة عند مستوى المسؤولية والدور التاريخيين، بمواجهة العبث بالوطن؟
هذا موضوع آخر.