الجمعة، 20 مايو 2016

من أين تبدأ دراسة الحضارة؟


 من أين تبدأ دراسة الحضارة؟ 




ا.محمد إلهامي

يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي: «كانت هذه الحضارة (الغربية)، بمعناها الواسع، مجموع عقائد ومناهج فكرية، وفلسفات ونظم سياسية واقتصادية، وعلوما طبيعية وعمرانية واجتماعية، وتجارب خاصة مرت بها الشعوب الأوروبية التي تزعمت هذه الحضارة في رحلتها الطويلة، وكانت مظهر تقدم العلم البشري وعلوم الطبيعة، وعلم الآلات والعلوم الرياضية، ومجموع نتائج جهود علماء وباحثين عبر القرون؛ فكانت مزيجا غريبا من أجزاء لا يكون الحكم عليها واحدا متشابها»[1].

«إن من أصعب العمليات وأدقها هو تحليل الحضارة التي اختمرت تحليلا كيميائيا وفرز العناصر التي دخلت فيها في عهود مختلفة، وفترات تاريخية معينة، وإرجاعها إلى أصلها ومصدرها، وتحديد مقاديرها ومداها من التأثير والقبول، وتعيين من يرجع إليه الفضل في هذا العطاء الحضاري والتغيير الجذري»[2].

وإذا كان ثمة طوفان من المعلومات تفنى الأعمار دون الإحاطة بشيء منه، فقد كان حتما أن تنشأ تخصصات، وأن يكون بعضها أهم من بعض، وأدلَّ على الحقيقة من بعض، ومن ثم فلا بد من أن تكون أولويات للدراسة، خصوصا مع ضخامة التحدي وأهمية الإنجاز.

العقائد والفلسفة

ومن المنطلق الإسلامي الذي نعتمده أصلا وأساسا ومعيارا، فإننا لا نجد صعوبة في أن نبدأ من «العقائد والفلسفة»، فالعقيدة هي أصل الأصول وهي القضية المحورية وهي التي تهيمن على نصوص القرآن الكريم والحديث الشريف، وقد استغرق تأسيس العقيدة والدعوة إليها الوقت الأطول في عمر البعثة النبوية (13 عاما)، وهي التي يُحاسب الله عليها يوم القيامة، فكل الأعمال تبع لها، «إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا» [النساء: 116].

وهذه الحقيقة تبدو من الوضوح والسطوع بحيث أقَرَّ بها من لا يؤمنون بهداية القرآن ولا يعتمدون المنطلق الإسلامي كأصل يُصدر عنه ويُرجع إليه، فالحضارات الكبرى إنما تأسست على الديانات الكبرى كما لاحظ بحق المؤرخ البريطاني كريستوفر داوسون[3]، والإنسان بطبيعته «كائن ديني»[4]
كما تقول كارين أرمسترونج – وهي للمفارقة راهبة كاثوليكية سابقا ولا تنتمي حاليًا لأي دين! – والدين ظاهرة تعم البشر جميعا وتلك «حقيقة من الحقائق التاريخية والنفسية»[5]، وبعد دراسات مستفيضة في الحضارات خرج جوستاف لوبون بهذه الخلاصة لتفسير الحوادث التاريخية الكبرى، يقول: «بعد إنعام النظر في هذه الحوادث (التاريخية الكبرى) يتبين أن وراء أسبابها الظاهرة في الغالب سببا حقيقيا، هو التغير الكلي في أفكار تلك الأمم، فليست التقلبات السياسية الحقيقية الكبرى هي التي تدهش الباحثين بعظمها وعنفها، وإنما الانقلاب الصحيح الجدير بالاعتبار الذي يؤدي إلى تغير حال الأمم المدنية يحصل في الأفكار والتصورات والمعتقدات»[6]، ويقول حسن حنفي: «الوعي الحضاري بالنسبة لنا هو الوعي الفلسفي، فالفلسفة أم العلوم… الوعي الفلسفي هو أساس الوعي السياسي والاقتصادي والاجتماعي»[7].

ومن ثَمَّ فإن محاولة دراسة أي موضوع إنساني بعيدا عن الدين هي نوع من العبث! فكيف إذا كان الموضوع هو الحضارة التي هي مجمع النشاط الإنساني وخلاصته؟!

والدين الذي نعنيه هو «العقيدة» و«الفكرة المهيمنة»، فالدين في حقيقته هو فكرة رسخت وتعمقت حتى انعقد عليها القلب فصارت «عقيدة»، حتى لو كانت هذه العقيدة هي «اللا دين»! ومن المهم أن ندرك أن الانخلاع الغربي من المسيحية لم يكن في حقيقته انخلاعا بقدر ما كان اعتناقا لدين جديد وفكرة جديدة، إذ لا يسع الإنسان أن يظل بلا أفكار، وسواء قلنا إن هذا الدين الجديد هو «العلم» أو «المادية» أو حتى «النسبية في العقائد»، فكل ذلك لا يغير من حقيقة أن كل هذه المسميات إنما هي في عمقها «دين» أيضا!

وخروجا من الخلاف والتشويش الذي ينتج عن لفظة «دين»، نستعمل لفظ «العقيدة» أو «الفلسفة» أو «الثقافة» أحيانا، والمقصود في كل الأحوال: أن أي دراسة للحضارة يجب أن تبدأ من هنا.

التاريخ

ونعني به التاريخ الحضاري لا السياسي فحسب، وإن كان التاريخ السياسي هو أقوى المؤثرات في تواريخ الأمم، والتاريخ الحضاري هو تاريخ الأفكار والنظم والعلوم والآداب والفنون، وهو مرتبط بالجغرافيا والبيئة، فهو في النهاية الترجمة الحقيقية والأمينة لهذه الحضارة: هويةً وطموحا وطبائع، وكما يقول د. جمال حمدان بعبارة بليغة: «من الواضح كذلك إلى حد البديهي أن دراسة الشخصية الإقليمية لا تقتصر على الحاضر وإنما هي تترامى بعيدا عن عبر الماضي، وخلال التاريخ، لأنه بالدور التاريخي وحده يمكن التعرف على الفاعلية الإيجابية للإقليم وعلى التعبير الحر عن الشخصية الإقليمية. فالبيئة قد تكون في بعض الأحيان خرساء، ولكنها تنطق من خلال الإنسان، ولربما كانت الجغرافيا أحيانا صماء، ولكن ما أكثر ما كان التاريخ لسانها. ولقد قيل بحق إن التاريخ ظل الإنسان على الأرض. بمثل ما أن الجغرافيا ظل الأرض على الزمان، بينما يضيف قولٌ آخر إن معظم التاريخ إن لم يكن جغرافية متحركة، فإن بعضه على الأقل جغرافية متنكرة»[8].

إن العقائد والفلسفة تضطرنا – أول ما تضطرنا – إلى دراسة المؤسسين والأبطال الذين كانت أعمالهم منعطفات مؤثرة في مسيرة الأمم، ولا يسعنا أن نفهم هؤلاء ولا أن نقدر أعمالهم بغير دراسة متعمقة لتاريخهم والظروف التي أحاطت بهم. ولئن كان الرسل والأنبياء أنفسهم – وهم الذين ارتبطوا بالسماء فكانوا أولى الناس ألا يتأثروا بشيء من الأرض ومن الزمن – قد بُعثوا وهم يحملون بعض خصائص أقوامهم[9]، فكيف بغيرهم؟! إنه لا يسع أحدا أن يتحرر من الزمان والمكان والبيئة المحيطة!

النظام السياسي


فالسياسة هي أكثر العوامل تأثيرا في الناس، وهي المهيمنة على كافة الأنشطة الأخرى.

وبرغم أنها منبثقة من «العقيدة» إلا أنها الأقدر على تنفيذ تعاليمها وترجمتها إلى أفعال ومؤسسات ونظم وطرائق، كذلك قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: «إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن»[10]، وهو ما جرى في أمثال العرب قديما: «الناس على دين ملوكهم»، «الناس أتباع من غلب»، «إذا تغير السلطان تغير الزمان»[11].

كذلك فبرغم أنها منبثقة من «العقيدة» إلا أنها الأقدر على تحريف هذه العقيدة والانحراف عن هذه الفلسفة، وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «… وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين»[12]، وكذا قال عمر بن الخطاب لزياد بن حدير: «هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قال: قلت: لا، قال: يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين»[13]
وفي هذا المعنى قال عبد الله بن المبارك:

وهل أفسدَ الدينَ إلا الملوكُ … وأحبار سوء ورهبانها؟

وفي خلاصة تاريخية بديعة يقول ابن كثير: «كانت همة الوليد في البناء، وكان الناس كذلك يلقى الرجل الرجل فيقول: ماذا بنيت؟ ماذا عمرت؟ وكانت همة أخيه سليمان في النساء، وكان الناس كذلك، يلقى الرجل الرجل فيقول: كم تزوجت؟ ماذا عندك من السراري؟ وكانت همة عمر بن عبد العزيز في قراءة القرآن، وفي الصلاة والعبادة، وكان الناس كذلك، يلقى الرجل الرجل فيقول: كم وردك؟ كم تقرأ كل يوم؟ ماذا صليت البارحة؟ والناس يقولون: الناس على دين مليكهم، إن كان خمارا كثر الخمر، وإن كان لوطيا فكذلك وإن كان شحيحا حريصا كان الناس كذلك، وإن كان جوادا كريما شجاعا كان الناس كذلك، وإن كان طماعا ظلوما غشوما فكذلك، وإن كان ذا دين وتقوى وبر وإحسان كان الناس كذلك»[14].

وإذا كان الحاكم في الممالك القديمة يستطيع التأثير بما يصبغ المملكة على نمطه حتى في الممالك القديمة، فكيف يبلغ التأثير الآن بعد أن صارت السلطة – منذ عصر الدولة المركزية – قوة خارقة لم يُؤتها ملك أو سلطان من قبل؟! لقد صارت السلطة تمتلك من وسائل التأثير عبر الإعلام والقوانين ما يمكنها من دخول كل بيت والتحكم في كل نشاط، حتى لتستطيع السلطة صُنع جمهور على نمطها وقالبها، بالرغبة والرهبة، لا سيما إن كانت مستبدة، حتى قال جمال الدين الأفغاني: لا يصلح في الشرق «كما تكونوا يولى عليكم»، ولكن: «كما يولى عليكم تكونون».

ثم إن السياسة تتحكم في واقعنا، هنا والآن، أي أن دراستها تمدنا بتوصيات سريعة لمعالجة قضايا اللحظة الراهنة، وتحقيق استجابة لتحديات الواقع.

فهذه الثلاثة: العقائد والفلسفة، التاريخ، السياسة هي – بحسب ما نرى – أولويات الاستغراب (دراسة الغرب) التي يجب أن يُبدأ منها، وهي تشتمل من وجوه كثيرة على باقي مجالات الاستغراب كالنظام الاجتماعي والاقتصادي والقانوني والشعر والأدب والفنون، فكل هذا إما متأثر بشكل مباشر بواحد من هذه الثلاثة أو أن دراسة هذه الثلاثة تُلزم بجمع مادة أصيلة ووافية عن باقي هذه المجالات.

المصادر
      [1] الندوي: موقف العالم الإسلامي تجاه الحضارة الغربية ص10.

      [2] الندوي: الإسلام أثره على الحضارة وفضله على الإنسانية ص12، 13.

       [3] Christopher Dawson: The Dynamics Of World History, p. 128

      [4] وهذه هي خلاصة كتابها (The Case Of God) والذي صدر في سبتمبر 2009، وترجم إلى العربية بعنوان «الله لماذا»، ونشرته دار سطور في القاهرة. وبعده بشهرين في (نوفمبر 2009م) نُشِر كتاب الصحفي الإنجليزي نيكولاس واد، الذي جعل له عنوانا موحيا «غريزة الإيمان» (The Faith Instinct)،  وفيه يتحدث عن الإنسان مخلوق وداخله «جين» الله. وقبلهما كان دين هامر قد كتب كتابه الشهير الذي أثار زوبعة في وقته (سبتمبر 2004م) «الجين الإلهي» (The God Gene)  لأنه قال بوجود جينات في جسم الإنسان هي المسئولة عن تعلقه بالروحانيات، وكان العنوان التوضيحي للكتاب «How Faith is Hardwired into our Genes»  أي «كيف أن الإيمان مستقر في جيناتنا».

      [5] ول ديورانت: قصة الحضارة 1/98، 99.

      [6] جوستاف لوبون: روح الاجتماع ص9، 10.

      [7] حسن حنفي: مقدمة في علم الاستغراب ص101.

      [8] د. جمال حمدان: شخصية مصر 1/13.

      [9] بعث الله تعالى الأنبياء من صميم أقوامهم {مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران: 164] {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} [الأعراف: 65، 73، 85] ويتكلم بلغتهم {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4] ويعرف شؤونهم فيدعوهم إلى ترك ما هم عليه من الضلالة.

      [10] المبرد: الكامل في اللغة والأدب 1/214، ابن تيمية: مجموع الفتاوى 11/416.

      [11] الثعالبي: التمثيل والمحاضرة ص131، الميداني: مجمع الأمثال 2/358.

      [12] أحمد (17156)، وأبو داود (4252)، والترمذي (2229)، وصححه الألباني (السلسلة الصحيحة 4/110) وشعيب الأرناؤوط.

      [13] الدارمي (214)، وصححه الألباني (مشكاة المصابيح: 269).

      [14] ابن كثير: البداية والنهاية 9/186.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق