هل ستعود إسرائيل إلى سيناء من جديد؟
نبيل الفولي
صارت العمليات العسكرية الإسرائيلية المحدودة في سيناء خبرا معتادا في الإعلام، وإن كانت وسائل إعلام مصرية ما زالت تدرب العقل المصري على قبول هذه الأخبار قبولا اعتياديا، بعرضها بصيغة تجمع النفي والإثبات والتأكيد والشك معا.
وتتجاوز هجمات الجيش الإسرائيلي في حقيقة الأمر مجرد الرد على هجمات صاروخية -صحيحة أو مزعومة- تُشَن عليه من سيناء، إلى أهداف تبدو أبعد مدى من هذا؛ فهل تعيد تل أبيب رسم علاقتها بسيناء من جديد مستغلة في هذا "تفهم" القيادة السياسية المصرية الحالية لمتطلبات أمن إسرائيل، واستعدادها للتنازل عن سيناء -أو جزء منها- حلا للمعضلة الفلسطينية الإسرائيلية؟!
العمق الإستراتيجي
تعاني بنية الدولة في إسرائيل في الأصل من مشكلتين متناقضتين: الأولى ضعف العمق الإستراتيجي، والثانية عدم تحمل كلفة التوسع خلف الحدود وإن توفرت لديها القدرة العسكرية، وتحاول الدولة العبرية المحتلة علاج هاتين المشكلتين بوسائل مختلفة.
تعاني بنية الدولة في إسرائيل في الأصل من مشكلتين متناقضتين: الأولى ضعف العمق الإستراتيجي، والثانية عدم تحمل كلفة التوسع خلف الحدود وإن توفرت لديها القدرة العسكرية، وتحاول الدولة العبرية المحتلة علاج هاتين المشكلتين بوسائل مختلفة.
وتأتي إشكالية العمق من أن المساحة التي تقوم عليها دولة الاحتلال الإسرائيلي هي معظم فلسطين التاريخية (أرض 48 والضفة الغربية التي توصف دوليا بأنها محتلة) التي تبلغ مساحتها حوالي 27 ألف كيلومتر مربع فقط، ولا يشغل قطاع غزة شبه المستقل سوى 360 كيلومتر مربع من هذه المساحة؛ أي حوالي 1.33% فحسب، ويبلغ أقصى عرض للدولة حوالي 180 كم، وأقصى طولها 4500 كم.
وبهذا تبدو الدولة العبرية المحتلة فقيرة جغرافياً إلى حد خطير. ومع أنها لا تبدو وحيدة عالميا ولا إقليميا في هذا المضمار، إلا أن طبيعة إسرائيل أو تاريخها يزيد صعوبة هذا الاختناق الجغرافي؛ إذ قامت على العدوان والاحتلال والتهجير، ومن هنا وضعت نفسها في جو من العداوة والثارات التي لا تذيبها الأيام.
ومع أن شاطئ البحر المتوسطيمثل متنفسا جغرافياً مهما لإسرائيل، إلا أنه لا يمكنه إزالة الخطر الذي يحيط بالدولة المحتلة ويهددها في العمق؛ فالشاطئ المتوسطي قد يمثل مهربا -كما حدث مع الغزاة الصليبيين من قبل- أو بابا لتهديد الجيران عند السيطرة عليه بقوات بحرية قوية، إلا أنه لا يحمي عمق الدولة ولو من صواريخ تقليدية جدا تأتي من وراء الحدود.
سيناء -التي تزيد مساحتها على مساحة فلسطين المحتلة بأكثر من ضعفين ونصف ضعف- مثلت لإسرائيل بعد حرب يونيو/حزيران عام 1967 وقبل الانسحاب منها عام 1982 عمقا إستراتيجياً مهما من الجهة الجنوبية |
حاولت إسرائيل باستمرار معالجة هذه الإشكالية المعقدة، وركزت في هذا على وسيلتين أساسيتين؛ أولاهما: السعي بقوة إلى التطبيع وعقد معاهدات سلام أو علاقات سياسية مع الدول العربية خاصة في الدائرة الجغرافية القريبة، والثانية: ضمان التفوق العسكري الإسرائيلي الكاسح على الجيران العرب. وهذا الأخير يمثل الوسيلة الأبرز إلى الآن في الإستراتيجية الإسرائيلية لعلاج هذه المشكلة.
وثمة تفهم دولي كبير لهذا العنصر في السياسة الإسرائيلية رغم الخوف والامتعاض الإقليمي؛ فلا يمانع أي من الأطراف الدولية الكبرى -حتى من يعترض منها على بعض السياسات الإسرائيلية اعتراضا معلنا- من إمداد إسرائيل بأسلحة متطورة ونوعية، ففرنسا مثلا من أكثر الدول تعاونا في هذا المجال مع إسرائيل.
وهي مع هذا تنتقد سياسات القمع الإسرائيلي تجاه الفلسطينيين، وتعمدها إضعاف السلطة الفلسطينية التي ترى أطراف أوربية متعددة أنها تمثل مفتاحا مهما لحل القضية الفلسطينية عبر ما سُمي "حل الدولتين".
إلا أن التفوق العسكري الواضح لإسرائيل على مجموع الدول العربية، لم يمنع جماعة مثل حزب الله اللبناني وتشكيلا عسكريا وسياسيا منظما مثل حركة حماس الفلسطينية -بإمكاناتهما المتواضعة جدا بالنسبة للإسرائيليين- من تهديد العمق الإسرائيلي، ودفع الجيش العبري للانسحاب من مساحات من الأرض احتلها بالقوة في جولات حربية سابقة.
وفي هذا السياق؛ فإن سيناء -التي تزيد مساحتها على مساحة فلسطين المحتلة بأكثر من ضعفين ونصف ضعف- مثلت لإسرائيل بعد حرب يونيو/حزيران عام 1967 وقبل الانسحاب منها عام 1982 عمقا إستراتيجياً مهما من الجهة الجنوبية.
فأي حرب تندلع بينها وبين مصر في هذه الظروف -وهو ما حدث في حرب أكتوبر/تشرين الأول عام 1973- ستترك للجيش الإسرائيلي حتى في حال الهزيمة مساحة للتراجع والمناورة والانسحاب إلى ما دون العمق الإسرائيلي.
وقد كانت المقايضة الإسرائيلية على سيناء في عملية السلام -التي عقدتها مع أنور السادات برعاية أميركية عام 1979- ذات شقين من الربح والخسارة: الأول أن تربح إسرائيل تحييد عدوها الأول (مصر) في الصراع العربي الإسرائيلي، والثاني أن تخسر إسرائيل شبه جزيرة سيناء التي كانت تمثل لها حماية ممتازة للعمق.
وقد حاولت تل أبيب تعويض هذه الخسارة باشتراط خلوّ ثلثيْ شبه الجزيرة الشرقييْن من الأسلحة الثقيلة والمتوسطة، ووجود القوات المتعددة الجنسيات.
لكن اتضح عقب ثورة 25 يناير/كانون الأول 2011 المصرية أن هذا الشرط ليس راسخا بدرجة كافية؛ فأي حكومة تأتي في القاهرة غير متعاطفة أو متفاهمة مع تل أبيب -كما كان الحال في العام الذي حكم فيه الرئيس محمد مرسي- يمكنها أن تلتف على هذه الاتفاقية، أو تتعلل بتهديد الإرهاب المسلح لها.
كلفة التوسع
ثمة قصة شفوية متداولة عن ملك الأردن السابق حسين بن طلال، تحكي أنه تحدث إلى بعض الأردنيين في أواخر الثمانينيات قائلا: في كم ساعة تستطيع إسرائيل احتلال الأردن؟ فأجابه بعض الحاضرين قائلا: في ساعتين، فعقّب الملك قائلا: وأنا منذ ثمانية وثلاثين عاما أحول دون ذلك!
ثمة قصة شفوية متداولة عن ملك الأردن السابق حسين بن طلال، تحكي أنه تحدث إلى بعض الأردنيين في أواخر الثمانينيات قائلا: في كم ساعة تستطيع إسرائيل احتلال الأردن؟ فأجابه بعض الحاضرين قائلا: في ساعتين، فعقّب الملك قائلا: وأنا منذ ثمانية وثلاثين عاما أحول دون ذلك!
ومع أن معركة الكرامة عام 1968 أجابت عن السؤال بطريقة مختلفة حين عجز الجيش الإسرائيلي عن عبور نهر الأردن أمام بسالة القوات الأردنية والفدائيين الفلسطينيين.
تجربة إسرائيل في عيش رعاياها -المحدودين على كل حال- إلى جانب سكان الأرض التي تحتلها أثبتت فشلها في أكثر من 70% من الحالات، بل تحولت بعض هذه المناطق إلى جحيم للإسرائيليين جيشا ومدنيين |
إلا أن القصة تبدو كاشفة عن جانب من السياسة الإسرائيلية يتعلق بعدم تحمل الإسرائيليين كلفة التوسع خلف الحدود، رغم التفاوت المعروف في القوة العسكرية بين العرب وإسرائيل، وهي المشكلة الثانية التي سبقت الإشارة إليها ضمن المشكلات البِنَيوية التي تعاني منها الدولة العبرية المحتلة.
إن تجربة إسرائيل في عيش رعاياها -المحدودين على كل حال- إلى جانب سكان الأرض التي تحتلها أثبتت فشلها في أكثر من 70% من الحالات، بل تحولت بعض هذه المناطق إلى جحيم للإسرائيليين جيشا ومدنيين، كما كان الحال في غزة قبل الانسحاب منها عام 2005، وكما هو الحال في مناطق عدة من الضفة الغربية الآن.
إن السياسة الوحيدة التي نجحت بها إسرائيليا في تقليص الاحتكاك بسكانها وتهديد أمنهم، هي التهجير التام أو شبه التام للسكان وإقامة مستوطنات يهودية، إلا أن هذا نقل التوتر إلى نقاط أخرى تنفجر في وجه الإسرائيليين من وقت إلى آخر.
فالتهجير الداخلي؛ أي في حدود فلسطين من أرض 48 إلى الضفة والقطاع، أدى لتحول هذه المناطق إلى عدو خطير للدولة الإسرائيلية، وكذلك الأمر بالنسبة للتهجير الخارجي إلى الأردن الذي يبدو ضعيفا جدا من الناحية العسكرية قياسا بإسرائيل، إلا أنه يبدو من أشرس الأماكن التي يمكن أن تفكر إسرائيل في احتلالها.
وقد كان الحرص الإسرائيلي على بقاء سيناء -بعد إعادتها إلى مصر- منزوعة السلاح في معظمها وبلا تنمية وبكثافة سكانية ضئيلة جدا، جزءا من الإستراتيجية الإسرائيلية لعلاج هذه المشكلة، كما كانت جزءا من علاج مشكلة ضعف العمق الإستراتيجي.
إن أفكارا كثيرة تداولها المصريون عقب تحرير سيناء من الاحتلال الإسرائيلي عام 1982 تدور حول ضرورة إدماج أرض الفيروز في الدولة الأم بتسريع وتيرة التنمية فيها؛ حتى تُحرَم إسرائيل من الاستفادة منها في حال احتلاها مستقبلا، وتكون سدا بشريا قويا يُفشل أي تمدّد معادٍ في المنطقة.
اليوم تعود سيناء إلى صدارة المشهد المصري الإسرائيلي الفلسطيني في أجواء مثالية بالنسبة لتل أبيب، حيث يسيطر على مقاليد الدولة المصرية من يدرك أهمية سيناء الكبرى لإسرائيل، ولا يدري -من الناحية العملية- أهميتها وخطورتها البالغة على مصر |
إلا أن جزءا قليلا جدا من هذه الأفكار تحوّل إلى واقع، وبقيت سيناء شبه محررة وشبه محتلة، ولم تتلاشَ فرص إسرائيل في الاستفادة منها في أي معركة تنشب بينها وبين مصر إلى الآن.
سيناء في المشهد اليوم
واليوم تعود سيناء إلى صدارة المشهد المصري الإسرائيلي الفلسطيني في أجواء مثالية بالنسبة لتل أبيب، حيث يسيطر على مقاليد الدولة المصرية من يدرك أهمية سيناء الكبرى لإسرائيل، ولا يدري -من الناحية العملية- أهميتها وخطورتها البالغة على مصر.
واليوم تعود سيناء إلى صدارة المشهد المصري الإسرائيلي الفلسطيني في أجواء مثالية بالنسبة لتل أبيب، حيث يسيطر على مقاليد الدولة المصرية من يدرك أهمية سيناء الكبرى لإسرائيل، ولا يدري -من الناحية العملية- أهميتها وخطورتها البالغة على مصر.
فـ"سيناء -كما يقول الراحل العظيم جمال حمدان- ليست مجرد فراغ، أو حتى عازل، إنها عمق جغرافي [لمصر] وإنذار مبكر يمكن أن نشتري فيه الزمان بالمكان" (حمدان: سيناء في الإستراتيجية والسياسة والجغرافيا ص 40).
وتُؤكد الزعمَ السابق أحداثٌ كثيرة جرت على أرض سيناء منذ وقوع الانقلاب المصري في يوليو/تموز 2013؛ بدءا بتهجير سكان رفح المصرية لتبقى المساحة الحدودية مع قطاع غزة خالية من السكان، وكانت أكثر المواضع سكانا على طول الشريط الحدودي الشمالي الشرقي لمصر، ومرورا بتحويل سيناء إلى أرض حرب لا تميز جماعات العنف والخارجين على القانون من المواطن المسالم، وانتهاء بعرض السيسي إقامة دولة فلسطينية في غزة وجزء من سيناء.
وهذا كله كرم لم تكن تحلم به إسرائيل؛ فهذا التوتر العالي سيحوّل سيناء إلى أرض طاردة للسكان، بعد أن كانت جاذبة لهم بصورة نسبية خلال السنوات العشر الأخيرة؛ لتصبح أرضا جرداء أو شبه جرداء تجتاحها إسرائيل -حين تريد- خلال ساعات، وتستقر فيها آمنة مطمئنة حين تشاء.
ولعل المستقبل لا يحمل احتلالا إسرائيليا صريحا لسيناء، إلا أن يتدخل الهوس الديني والسياسي الشائع في الساحة الإسرائيلية، غير أن تل أبيب ستحرص على بقاء سيناء في أدنى مستويات القدرة على الاستفادة منها مصريا؛ سواء بالسعي إلى تهجير بعض الفلسطينيين إليها، أو مقاومة أي تنمية تتم فيها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق