أحمد بن راشد بن سعيّد
في يوم السبت الماضي، نشب حريق ضخم في مسجد بلدة فكتوريا بولاية تكسَس الأميركية، ما أدّى إلى تدمير معظمه. كثيرون سارعوا إلى ربط الحريق ببدء عهد الرئيس الأميركي، ترمب، الذي اتّخذ مواقف متشدّدة ضدّ المسلمين خلال حملته الانتخابيّة، لاسيّما أن الحادث حصل بعد ساعات من اتخاذه قراراً بمنع مواطني 5 دول عربيّة من دخول الولايات المتحدة. في مساء اليوم التالي، ارتكب عنصري، اسمه ألكسندر بوسينيت، مجزرة في مسجد مدينة كيبيك الكنديّة، ما أسفر عن مقتل 6 أشخاص كانوا يؤدّون صلاة العشاء، وإصابة 5 آخرين بجروح خطيرة.
كيف تناولت قناة العربية الحادثتين؟ حريق مسجد تكسَس تجاهلته تماماً، بالرغم من انتشار الخبر عالميّاً. موقف يصعب فهمه خارج سياق التعاطف مع «العهد الجديد» في أميركا، والسعي إلى عدم الإيحاء بأنّ إدارة ترمب تحارب الإسلام، وهو ما أبانه التناول الإخباري للقناة، فضلاً عن «محلّليها» الذين ما فتئوا يمدحون ترمب على صلابته ضد «الإرهاب». لكن القناة استغلّت تبرّع عدد من الأميركيين، لإعادة بناء المسجد، لتتناول القصّة. حادثة الحرق لم تثر شهيّتها، لكن حادثة التبرّعات فعلت، لأن الأولى تشي بجريمة ارتكبها غير مسلمين ضدّ مسلمين، بينما الثانية تشي بـ «عمل خير» قام به غير مسلمين من أجل مسلمين. من أساليب الدعاية «السيطرة على الضرر»، الذي يسعى من خلاله الدعائي إلى إخفاء أو تهميش الانتهاكات، ثم إذا أصبحت جزءاً من الخطاب العام، لجأ إلى التعامل معها بطريقة توحي بنزاهته، وهو الدور الذي تؤدّيه عادةً لجان التحقيق وجلسات الاستماع في المجتمعات الديموقراطية. قناة العربية أخفت حرق مسجد فكتوريا، لكنها أتت بـ «حسنات» التعامل» معه، وهي «تبرّعات» الأميركيين، ناشرة يوم الأحد تأطيراً صارخاً يقول: «انهيال تبرعات الأميركيين لإعادة بناء مسجد تكسَس». وفي ثنايا الخبر، حرصت القناة على عدم الإيحاء بأن الحريق متعمَّد مُوردةً كلمة «احترق»، وكأنّ المسجد «فجّر» نفسه احتجاجاً على ترمب!
ويبدو أن القناة شعرت بحرج من تناول حريق مسجد فكتوريا، فسارعت إلى تناول خبر الاعتداء عل مسجد كيبيك. لكنّها كانت «ناعمة جدّاً» في تناولها، فالضحايا مسلمون، ولا يبدو أنّ الجاني مسلم، ولذا كتبت: «المشتبه بتنفيذه هجوم مسجد كندا يطلب تسليم نفسه للشرطة». طبعاً، هجوم وليس اعتداء، فالضحايا مسلمون لا أصحاب ديانة أخرى، والمبنى المعتدى عليه مسجد لا كنيس ولا كنيسة. الجريمة لا تستحق أيضاً وصف «مجزرة»، وهو التعبير الذي تطلقه القناة على جرائم قتل جماعي يرتكبها منتسبون إلى الإسلام، ولهذا سمّتها «عمليّة إطلاق نار». ستة مصلّين يُستشهدون، وخمسة في حال حرجة، وليست سوى «عمليّة». رئيس الوزراء الكندي، ترودو، وصف الجريمة بـ «الاعتداء الإرهابي على مسلمين»، وهو ما لم يعجب «العربيّة»، فوضعته بين مزدوجين، مضيفةً أنّ الشرطة تتعامل مع «الهجوم» بوصفه «عملاً إرهابياً»، ونأت بنفسها عن هذا الوصف بعبارة: «على حدّ قولها».
بعد ذلك تلقّفت «العربيّة» إشاعةً مؤدّاها أنّ مسلماً اسمه محمد خضير شارك في المذبحة. هنا، تُغيّر القناة تأطيرها بالكامل، فيصبح «الهجوم» «اعتداءً»، ويصبح «المشتبه بتنفيذ الهجوم» «منفّذاً»: «أحد منفّذي اعتداء المسجد يُدعى محمد خضير». لكن تبيّن للقناة فيما بعد أنّ خضير لم يكن سوى شاهد، ولم يشارك في القتل. يا لسوء الحظ! سارعت القناة إلى حذف الشائعة، من دون اعتذار بالطبع، ونشر خبر جديد عنوانه: «هجوم مسجد كندا: محتجزان أحدهما مشتبه، والآخر شاهد». وهكذا اختفت مفردة «الاعتداء»، وعادت مفردة «الهجوم»، فالتصنيف إيديولوجي وليس وصفيّاً.
ومع هذا، فقد ظهر على شاشة «العربية» فجر الثلاثاء هذا العنوان: «شخصان دخلا المسجد وصرخا: الله أكبر قبل إطلاق النار على المصلّين». كما نشر موقع «العربية» أمس صورة القاتل وهو يبتسم، ومعها هذا التأطير: «لاعب الشطرنج وقتْله لمغربي وتونسي وجزائرييْن». لم تقل «لمسلمين»، والقاتل ليس «إرهابياً» ولا حتى «عنصريّاً»، ولم يرتكب مجزرة كما عوّدتنا «العربية» في وصف جرائم مشابهة في أورلاندو ونيس وبرلين. تحوّل قاتل كيبيك إلى «قطّة وديعة»، مجرد لاعب كان يستمتع بالحياة.
هذا التناول المزدوج للأحداث ليس شيئاً معزولاً، بل جزء من خطاب له إيديولوجيته ومفرداته. و «قصة المسجدين» ليست سوى فصل من هذا الخطاب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق