هل ستكون نهاية أميركا على يد ترامب؟
عبر التاريخ، ليس ثمة إمبراطورية ظنّت أنها خالدة إلا وسقطت، ولا دولة بالغت في جبروتها إلا وانقلب عليها الزمان.. من روما إلى الاتحاد السوفياتي، ومن بريطانيا العظمى إلى الدولة العثمانية، كل كيان تمدد بقوة الحديد والنار، وانشغل بإشعال الحروب الخارجية لقمع خصومه وفرض هيمنته، انتهى إما بتفكك داخلي أو بهزيمة ساحقة.
اليوم، ونحن نتابع تطورات العدوان الأميركي المتجدد ضد إيران، بقيادة دونالد ترامب -الرئيس السابق والحالي، المثير للجدل- يبرز سؤال كبير يتردد في أذهان كثيرين، خصوصًا في العالمين العربي والإسلامي: هل ستكون نهاية الإمبراطورية الأميركية على يد ترامب؟
ترامب أدخل أميركا في مرحلة من التورط الأعمى في صراعات لا تخدم إلا أهداف الكيان الإسرائيلي، دون أي اعتبار للنتائج الإستراتيجية أو الأخلاقية
خضوع كامل للوبي الصهيوني
منذ لحظة توليه الحكم في عام 2017، أظهر ترامب انحيازًا فجًّا وغير مسبوق لإسرائيل، جعل من الولايات المتحدة أداة صريحة في خدمة المشروع الصهيوني؛ فقد نقل السفارة الأميركية إلى القدس، وشرعن الاستيطان، وقطع المساعدات عن وكالة الأونروا، وفرض "صفقة القرن" التي حاول بها تصفية القضية الفلسطينية تمامًا.
لكن ما هو أخطر من كل ذلك، أن ترامب أدخل أميركا في مرحلة من التورط الأعمى في صراعات لا تخدم إلا أهداف الكيان الإسرائيلي، دون أي اعتبار للنتائج الإستراتيجية أو الأخلاقية.. هاجم سوريا، واغتال الفريق قاسم سليماني على الأراضي العراقية، ومنذ أيام -وفقًا لتقارير متعددة- جاء شنه ضربات عسكرية على منشآت إيرانية حساسة، مدفوعًا لا بمصالح وطنية أميركية، بل بأوامر مباشرة من لوبيات الضغط الصهيوني في واشنطن.
استعراض أم بداية النهاية؟
الضربة الأخيرة التي استهدفت مواقع نووية في إيران، والتي أعلن عنها ترامب بفخر في خطاباته، قد تبدو للبعض استعراضًا انتخابيًّا في موسم ساخن. لكن في العمق، هذه الخطوة تعني شيئًا أكثر خطورة: انهيار العقلانية في مؤسسة القرار الأميركي؛ فعندما تصبح المصالح الانتخابية والمزايدات الحزبية هي التي تتحكم في قرار شن الحروب، تتحول الدولة من قوة عظمى مسؤولة إلى كيان متهور، لا يختلف كثيرًا عن المليشيات المسلحة.
ترامب لم يكن أول من ضرب إيران أو هددها، لكنه فعل ذلك من موقع الضعف الأخلاقي! بلاده تعاني من انقسامات عنصرية، وتمزقات اجتماعية، وتراجع اقتصادي، وديون خارجية قياسية، ونظام ديمقراطي لم يعد يقنع أحدًا بصدقيته.
هناك انقسام عميق حول موقع أميركا في العالم: أيجب أن تستمر كشرطي للعالم أم إن وقت الانسحاب قد حان؟ ترامب كان يجيد اللعب على هذا التناقض، تارة يعلن الانسحاب من الشرق الأوسط، وتارة يقصفه!
الداخل الأميركي المتصدع
ما يجري داخل الولايات المتحدة أخطر بكثير من أي مواجهة عسكرية خارجية؛ فالمجتمع الأميركي منقسم بشكل لم يُشهد منذ الحرب الأهلية في القرن التاسع عشر.. قوى اليمين العنصري تتنامى، والجماعات المتطرفة تنتشر، والثقة في النظام السياسي تنهار، والشرطة تقتل المواطنين السود في الشوارع دون خوف من العقاب.
وفوق كل ذلك، هناك انقسام عميق حول موقع أميركا في العالم: أيجب أن تستمر كشرطي للعالم أم إن وقت الانسحاب قد حان؟ ترامب كان يجيد اللعب على هذا التناقض، تارة يعلن الانسحاب من الشرق الأوسط، وتارة يقصفه! تارة يهاجم "الناتو"، وتارة يستخدمه للضغط على روسيا والصين! تارة يقول إن "أميركا أولًا"، وتارة يجعل إسرائيل أولًا!
هذا التذبذب، الناتج عن شخصية ترامب، عمّق حالة الضياع في السياسة الخارجية الأميركية، وأفقدها الكثير من هيبتها.
الإمبراطوريات تسقط من الداخل
لو راجعنا التاريخ قليلًا، لوجدنا أن أكثر الإمبراطوريات فتكًا وجبروتًا لم تسقط بسبب عدو خارجي بقدر ما تآكلت من الداخل.. روما العظمى كانت تملك أقوى جيوش الأرض، لكنَّها انهارت بسبب الفساد والصراعات الداخلية، والاعتماد المفرط على القوة دون حكمة.
والاتحاد السوفياتي، بقوته النووية وجيشه الجرار، تفكك لا بسبب أميركا، بل بسبب حرب أفغانستان المدمّرة، والتورط في سباق تسلح استنزف الاقتصاد، والقمع الداخلي الذي أدى إلى انفجار اجتماعي.
اليوم، ترامب يقود أميركا في اتجاه مشابه؛ فيه تورط بنزاعات غير محسوبة، واستعداء حلفاء تقليديين، ودعم مطلق لكيان عنصري يمارس الفصل العنصري في فلسطين، وتفكيك الداخل الأميركي لصالح رؤى يمينية متطرفة.
يغيب عن أذهان كثيرين أن الدعم المفرط لإسرائيل ليس فقط خيانة للقيم الأميركية المعلنة، بل هو أيضًا سبب مباشر في تآكل سمعة أميركا عالميًا؛ فكلما أُُحرقت غزة، أو قُصفت منشآت في لبنان.. انفضت الشعوب من حولها
إيران: التحدي الكبير
إيران، برغم كل الضغوط، ما زالت لاعبًا إقليميًّا مؤثرًا لا يمكن تجاوزه. ورغم الضربات، فإن قدرة الجمهورية الإسلامية على الصمود والرد وتوظيف الغضب الشعبي ضد أميركا أكبر مما يتصور ترامب ومستشاروه.
أميركا لم تكسب شيئًا من عدوانها على العراق، ولا على أفغانستان، بل خرجت بخفي حنين من كلا البلدين. فهل تعتقد أنها ستنجح مع دولة أكثر تماسكًا وذكاءً ودهاءً مثل إيران؟ أم إن ترامب فتح بهذا العدوان أبواب جحيم إستراتيجي جديد على أميركا، سيكون ثمنه باهظًا؟
دعم ترامب لإسرائيل سلاح ذو حدين
يغيب عن أذهان كثيرين أن الدعم المفرط لإسرائيل ليس فقط خيانة للقيم الأميركية المعلنة، بل هو أيضًا سبب مباشر في تآكل سمعة أميركا عالميًا؛ فكلما أُُحرقت غزة، أو قُصفت منشآت في لبنان، أو اغتيل قادة في سوريا، وكانت أميركا الراعي المباشر لذلك.. انفضت الشعوب من حولها، وازدادت العزلة الدولية حولها. بل حتى داخل أميركا، بدأت قطاعات واسعة من الشباب والطلبة والنشطاء ترفض هذا الانحياز، وتعلن صراحة أن إسرائيل دولة احتلال وأن دعمها جريمة.
ترامب، بإصراره على جعل الولاء لإسرائيل معيارًا للوطنية، يدفع أميركا إلى موقف غير أخلاقي، بل وانتحاري.
نهاية أميركا قد لا تكون اليوم أو غدًا، لكن بوادرها تتشكل بوضوح في سياسات رعناء.. والتاريخ لا يرحم الغافلين
هل تكون نهاية الإمبراطورية؟
ربما لا يُسقط ترامب أميركا وحده، لكن لا شك أنه يمثل أخطر تجليات الانحدار الإمبراطوري.. هو نتاج نظام سياسي فاسد، رأسمالي جشع، ومنحاز للمال والسلاح واللوبيات. وإذا عاد إلى الحكم، أو استمر تياره الشعبوي في السيطرة، فإن انهيار المشروع الأميركي العالمي سيتسارع.
نهاية أميركا قد لا تكون اليوم أو غدًا، لكن بوادرها تتشكل بوضوح في سياسات رعناء كسياسة ترامب.. والتاريخ -لمن يقرؤه بوعي- لا يرحم الغافلين.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق