الثلاثاء، 24 يونيو 2025

عاقل الأندلس!

 

عاقل الأندلس!



جاء في «السير» للذهبي، و«المقتبس من أنباء أهل الأندلس» للقرطبي: فيما اتفق من ترجمة الإمام يحيى الليثي، أنه كان تلميذاً للإمام مالك يقرأ عليه الموطأ في المسجد النبوي، وقد جاء المنادي بالخبر: يا أهل المدينة، هلموا فشاهدوا الفيل، وكان أهل المدينة لا يعرفون الفيل، فانصرف الناس عن الإمام مالك وبقي عنده الليثي يقرأ عليه، فقال مالك: وأنت لماذا لا تذهب معهم فتشاهد الفيل؟ فقال: جئت من الأندلس لأقرأ عليك «الموطأ» وأرجع به لقومي، لا للفيل، فقال له الإمام مالك: «أنت عاقل الأندلس».

وما نريد أن نقوله أيضاً توطئة لما هو قادم في هذه السطور، أن الإمام مالك كان له تلميذان هما يحيى بن يحيى النيسابوري، وهذا من شيوخ مسلم، ويدخل الإمام مسلم من طريقه لرواية وإسناد «الموطأ»، والإمام يحيى بن يحيى الليثي الذي رفعه الله بعقله، وظلت روايته لـ«الموطأ» الرواية المعتبرة والمعتمدة لكل من يدرس «الموطأ» دراية ورواية.

إن هذا الخلود ثمرة من ثمرات العقل الواعي الذي يولد وعياً حقيقياً بالذات، والعقل الثابت الذي يقود صاحبه لشرف الزمن وقدسية العمر، الذي بغيره تنفرط حبات عقده ويغدو كسنبلة عجفاء في ريح صرصر.

في كتابه الماتع «قوة العقل» يقول جيمس بورج: 
«إن قوة العقل تكمن بالصبر وحبس النفس وتوطين الجوارح على الانضباط الذي من ثمرته الاستمرار الذي من نتائجه وبواكيره الإنتاج، وكذلك تكمن قوة العقل بالشغف بالعلم، وتغيير المعتقدات المعيقة التي تسلب الإرادة وتعيق التفكير».

إن العقل نعمة يحجب بها الإنسان عن مسيره الصوارف، ويزهد عليه الرغائب العاجلة الملهية التي لا يستطيع أن ينفك منها متى ما تولع بها، والإنسان إذا طال به الطريق واستوحش أن يجدّ السير، كان عقله يطلبه حثيثاً، فيأخذ بيده ليفتح له نوافذ الغايات، ويقرع باب الأمل المرجو، ويستطلع له ضمير الغيب المحجب.

إن الانضباط قوة حقيقية وغريزة أبدية في كل المخلوقات، وهي في الإنسان أعمق وأصلب، وهكذا يجب أن تكون.

تأمل في حال أولئك الذين يبدؤون بالشيء ولا ينهونه، ويمضون في الطريق ولا يقطعونه، ويفتحون الكتاب ولا يتمونه، ويكتبون الأماني ولا يعاجلونها بالبدار والمضي.. إن مثل هؤلاء كمثل الظمآن يدير ظهره للنبع الصافي السخي، ويضرب في البيداء فلا يرد إلا السراب، وهو كلما ابتعد عن النبع ازداد عطشاً.

«إن الشغف شعور داخلي وقوة دافعة تقودك إلى الطريق الصحيح» (القبعات، إدوارد دي بونو).

وعندها يكون المرء صادقاً مع نفسه بصيراً بدربه وما يريد، فإن المولى الكريم يعينه ويساعده ويطوي له البيد: (فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ) (الفتح: 18)، والعقل كذلك يحقق موازنة الفوات من داخل الإنسان، فيعيد له توازنه الذي يفقده أحياناً من فوات المرغوب أو حصول المرهوب، وقد ألمح القرآن لمثل هذا، واتفق أن أشارت إليه أنوار آياته: (إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ) (الأنفال: 71).

والنتيجة الحتمية لهذا الشغف ووضوح الغايات وسلامة الوجهة وتكرار التدبر والتأمل، ما قاله العلامة محمد أبو موسى: 
«وكلما فتحت في العلم باباً تبدى لك أبواب، وكلما اكتشفت فيه سراً تبدى لك من وراء السر أسرار» (مقدمة كتاب من بلاغة القرآن، د. محمد البنا).

إن العقل حين تتأكد فيه نزعة الوعي، وتنمو معه القدرة على تقديم الأهم والمهم، يخرج الإنسان بحول الله من مربع الطوارئ العالق فيه من أمد بعيد، وتتباطأ معه وتيرة الحياة الضاغطة على عقله لتنفيذ كل ما هو مستجد.

إن العقل من نعمه أن يحفز في الإنسان التكرار وهو -أي العقل- إن مارست معه التكرار استجاب له لتكون عادة، التي من شأنها أن تكون معتقداً يجدد الشغف والوعي في الإنسان.

وأبشع قيود العقل هي الاهتداء إلى غير الهدى، والاقتداء بلا وعي، في ممارسة عقيمة يسلب المرء بها عقله ويغيبه؛ «إن المعتقدات السيئة تقود إلى نتائج سيئة، والعقل الواعي هو الذي يطرح المعتقد البالي بآخر جديد، متصفاً بسمات الحقيقة والصواب والوضوح، وما ضل من الجماهير إلا بالمعتقدات التي لا يترتب عليها عمل مثمر صحيح» 
(المعتقدات، جوستاف لوبون).

والقرآن حينما تكلم عن الأتباع الذين اختاروا طواعية تغييب عقولهم قال: (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ {22}‏ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ) (الزخرف)، إنها استجابة صريحة لكل صارف، بل لكل جديد يتبعه الإنسان لا كالمهتدي المسدد، ولا كالمتأمل البصير.

إن الفيل الذي ذاع خبره عند الإمام يحيى الليثي هو ذات الصارف في عصرنا هذا، ولكنه اتخذ شكلاً مغايراً، فمغريات الحياة وخلاقها، والإعلام ووسائل التواصل ببرقها الخُلّب، ونوازع النفس المستسلمة لبريق الحداثة والمغريات، وتقلب المزاج بصاحبه وشواغل الحياة.. وغيرها، كل واحدة من تلك تمثل الفيل الذي يصيح الطائف فيه ليشاهده الناس حاله كحال كل جديد صارف، إنك إن عرفت ذلك أدركت واتصل لك أن تفهم حقيقة قول الإمام مالك رحمه الله لتلميذه الليثي: «أنت عاقل الأندلس».

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق