الأحد، 29 يونيو 2025

رواية «تغريبة معروف الإسكافي» (9)


رواية «تغريبة معروف الإسكافي» (9)

أ.د. حلمي القاعود


 الفصل التاسع

-     لبيك يا سيدي.. اطلبْ تُعْطَ. هل تريد تخريب مدينة أو تعمير مدينة أو تقتل ملكاً؟ اطلب ما تشاء أنفّذْ في الحال.

لم يصدق الوزير نفسه فقد شاهد الخادم الجني بعد أن دعك الخاتم، وذهل الملك لما يرى، وفكر الوزير سريعًا في أول طلب يأمر به أبا السعادات، فقال له مباشرة دون أن يستشير الملك:

-     ارم هذا- وأشار إلى معروف- في أبعد مكان صحراوي لا يوجد فيه إنس ولا جان.

-     سمعا وطاعة يا سيدي.

كان الوزير يريد أن يَهْلكَ معروف جوعًا ويموتَ عطشًا، فلا ينقذه أحد، وبذلك يصفو له الجو، ويظفر بالأميرة زوجًا له، ويستولي على المُلك ويهتف الناس باسمه في كل مكان، ولم يدر معروف إلا وهو في قبضة أبي السعادات يطير في أجواء السماء، بسرعة خارقة، ورأى الهلاك بأم عينيه، فأخذ يبكي ويستجدي أبا السعادات أن يتلطف به ولا يؤذيه، وسأله:

-     إلى أين ستذهب بي؟ 

-     أمرني سيدي الذي يملك الخاتم أن أرميك في الأرض الخراب حيث لا طعام ولا شراب.

-     لماذا؟ إني لم ارتكب ذنبًا ولا جرمًا؟

-     اخرس يا قليل الأدب، مثلك امتلك خاتمًا خطيرًا وفرط فيه؟

-     كلا، لم أفرط به، لقد خدعني الوزير الشيطان.

-     لقد أغضبت ربك، وشربت المنكر ففقدت عقلك، وسلمت الخاتم لمن تفرج عليه واستخدمه لمصلحته، وكنت أول الضحايا. إنك تستحق ما جرى لك، ولولا أني أخاف الله لرميتك من مسافة ألف قامة فلا تصل إلى الأرض حتى تمزقك الرياح وتتحول إلى فتات!

سكت معروف ولم يتكلم حتى وصل به إلى الأرض الخراب فرماه هناك.. وتركه عائدًا من حيث أتى. 

كأنه يستيقظ من كابوس ثقيل. رأى معروف صحراء موحشة خالية، ليس فيها أنيس أو جليس. بحث عن أثر إنسان أو حيوان أو طير أو شجر، فلم يعثر على شيء، لمح من بعيد نقاطًا داكنة كثيرة تبرز من أرض الصحراء ولا تتحرك، كأنها نباتات غليظة جافة، فراح يخطو نحوها في وقدة الظهيرة على أمل أن يجد عندها أحدًا، ولكنه فجع حين وصل إليها ورأى جماجم تبدو موصولة بأجساد مغروسة تحت التراب، وتلفت ليجد كأن غابة ممتدة من الجماجم تملأ الأفق، أصابه رعب وهلع واستغفر ربه، وقال في نفسه: " رحمتك يا رب! إني يا ربي ما ظلمت أحدًا، الشيطان أغواني بالخمر، فسلمته الخاتم، اغفر لي يا ربي، إني أتوب إليك، ولن أعود إلى هذه الفعلة أبدًا، إني أرجوك أن ترحمني في هذه الصحراء المقفرة التي لا أشاهد فيها إلا الجماجم الميتة، والرعب القاتل. لقد كنت "صرماتيًا" فقيرًا، وكنت راضيًا قانعًا، وتعلمت أشياء كثيرة في الكتّاب وفي المسجد، وحفظت كثيرًا من الحكم والمواعظ والقصص والحكايات من شعراء الربابة ورواة المقاهي، وكنت مستقيمًا وما زلت رغم هذه الزلة الكبيرة التي خدعني لاقترافها هذا الشيطان المسمى بالوزير، ولكن العرّة حطمتني، ولم أستطع التصدي لها خوفًا من الفضيحة، فهربت وكان ما كان.

إني طامع يا ربي في عفوك: إن أبا نواس مع ما ارتكبه من كبائر يرجو رحمتك وغفرانك، وأنا أرجوك أيضًا.. كنت أسمع مبتهل صلاة الفجر في المسجد وهو يردد دعاءه:

 يا ربِّ إنْ عَظُمَتْ ذُنُوبِي كَثْرَةً       فلقد عَلِمْتُ بِأَنَّ عفوك أَعْظَمُ

إِنْ كَانَ لاَ يَرْجُوكَ إِلاَّ مُحْسِنٌ      فَمَن الذي يَدْعُو ويَرْجُو المجرم

أَدْعُوكَ رَبِّ كما أمرت تَضَرُّعاً      فَإِذَا رَدَدَّتَ يَدِي فمن ذا يَرْحَمُ

مَالِي إِلَيْكَ وَسِيلَةٌ إِلاّ الرَّجَا              وَجَمِيلُ عَفْوِكَ ثُمَّ إِنِّي مُسْلِمُ

وها أنذا أطلب جيل عفوك ورحمتك.."، وبينما كان غارقًا في حديثه إلى نفسه، فوجئ بعاصفة رملية تقبل عليه، تكشّفت عن مجموعة من البغال، عليها مجموعة من العساكر، كل منهم يضع أمامه رجلًا مقيدا من يديه ورجليه، وينام على بطنه بحيث كان نصفه الأعلى مائلًا في الشمال، والأسفل مائلًا في اليمين، وتوقف الركب عند مزرعة الجماجم، فأنزل الجنود الرجال المقيدين، وراحوا يحفرون حفرًا عميقة بحجم الرجال، ثم وضعوهم واحدًا بعد الآخر في الحفر، وردموا عليهم التراب ولم تبق إلا رءوسهم الحية في الهواء، وانصرفوا بعد دفن الرجال المقيدين إلى رءوسهم،  ولما رأوني قال كبيرهم بصوت صارخ أجش:

-     من أنت؟

-     أنا معروف.

-     معروف من، ولماذا أتيت إلى هنا؟

فكر معروف هل يخبرهم بأمره، فيضع نفسه في مشكلات أكبر، أو يكتفي بالقول إنه غريب ضل الطريق؟ فآثر الإجابة الأخرى:

-     أنا غريب يا سيدي ضل الطريق.

-     اركب معنا.

ومضى العساكر ومعهم معروف إلى مكان لا يعرفه.

تحركت آلة التفكير الخبيثة في رأس الوزير، ووجدها فرصة مناسبة للانقضاض على الحكم، فقد حاز الخاتم الذي يغيّر الأشياء ويقنع الناس بالقوة غير المرئية بأحقيته في الحكم والثروة والجاه، وقبل ذلك وبعده الفوز بالأميرة التي انحازت إلى معروف وأزْرتْ به.

قال الوزير للملك بعد أن قبض أبو السعادات على معروف، وطار به إلى المجهول:

-     أرأيت أن كلامي صحيح، وأن صهرك كذاب ونصاب؟

قال الملك في إقرار واستسلام:

-     الحق معك يا وزير، أعطاك الله العافية.

وبعد لحظات قال للوزير:

-     أعطني الخاتم لأتفرج عليه.

التفت إليه الوزير غاضبا وبصق في وجهه، وأظهر نواياه المخبوءة، وقال له:

-     يا قليل العقل: كيف أعطيه لك وأبقى خادمك بعد أن صرتُ سيّدك؟

ثم دعك الخاتم فحضر الخادم الجنّي، فأمره قائلًا:

-     احمل هذا الكلب (وأشار إلى الملك) وارمه في المكان الذي رميت فيه صهره النصاب.

فحمله وطار به في كبد السماء، فقال له الملك:

-     يا مخلوق ربي، ما ذنبي لتطير بي؟

فقال له الخادم أبو السعادات:

-     لا أدري ما هو ذنبك؟ ولكن سيدي أمرني، وأنا لا أقدر على مخالفته، لأنه يملك الخاتم.

فلم يجد مفرًا غير الصمت والاستسلام، ولم يزل الخادم الجنّي طائراً به حتى رماه في المكان ذاته الذي رمي فيه معروفا، ثم رجع وتركه هناك فرأي الملك غابة الجماجم، وشاهد الحراس وهم يزرعون رجالا آخرين في باطن الأرض، ويبقون على رءوسهم وحدها حية، ثم حمله العساكر بعد استجوابه إلى حيث لا يعرف، وهناك رأى معروفاً يبكي فأخبره بحاله وقعدا يبكيان على ما أصابهما، ولم يجدا طعامًا ولا شرابًا. 

انتصر الوزير!

قضى على معروف والملك.

استبد بالمُلك، وانتقل إلى الديوان، واستدعى العساكر جميعًا، وأخبرهم بمصير معروف والملك، بعد أن وضّح لهم قصة الخاتم، وخيّرهم قائلًا:

-     إن لم تجعلوني سلطاناً عليكم أمرت خادم الخاتم أن يحملكم جميعاً ويرميكم في الأرض الخراب فتموتوا جوعاً وتهلكوا عطشاً.

استسلموا له قهرا، وأجابوه على لسان رئيسهم:

-     رضينا بك سلطاناً علينا، ولا نعصي لك أمراً. مقابل ألاّ تؤذينا.

فخلع عليهم الخلع، وصار يطلب من أبي السعادات كل ما يريد فيحضره بين يديه في الحال. وأمر أتباعه أن يوزعوا أموالا كثيرة باسم الملك الجديد، على الناس في الشوارع والخانات والأسواق والدكاكين وأصحاب الورش والحلاقين والحدادين والعطارين ومكاتب التعليم والمشافي وكل مكان فيه بشر، ليهتفوا للوزير الذي صار ملكا، وليلعنوا الملك السابق ويحتقروه ويزدروه، وينسوا عدله وفضله وكرمه وحبه لرعيته. وقد سارع الأتباع من القادة والكبراء إلى دعوة الناس لمبايعة الوزير- الملك، وإعلان الولاء له والطاعة، والدعاء من أجله فوق المنابر والأسواق والخانات وكل مكان يضم تجمعات الناس، وأقيمت الأفراح والزينات في أرجاء المدينة احتفالا بارتقاء الوزير سدة الحكم، وإعلان نقسه ملكا. وسارت المواكب في كل مكان تعلن الفرح والابتهاج بالملك الجديد، وتلعن الملك الذي كان.

ورأى الملك الجديد أن الأمور استتبت له ودان له الناس بالولاء والطاعة، وما عليه الآن إلا أن يخطو الخطوة المهمة التي يحلم بها.

حين علمت الأميرة بما جرى لزوجها وأبيها مسّها الضرّ، وألمّ بها الحزن العميق. زوجها الحبيب ذهب. ووالدها الغالي اختفى، وبقيت لها الحسرات والأسى، راحت  في خضم المحنة تتذكر نفسها طفلة يلاعبها أبوها ويدللها، ويهيئ لها الرفاهية في شتى صورها وخاصة بعد أن فقدت أمها. كان يعمل على إسعادها في كل الأحوال والمناسبات، ونزل على إرادتها حين رفضت الاقتران بذلك الوزير الخائن الذي تنكر لأبيها وأنعمه. أما معروف فقد كان نعم الزوج والحبيب والصديق الذي شعرت في قربه بكينونتها وأنوثتها، ووجدت في روحه أنسا وبهجة لم تعرفهما من قبل.. 

سمعت نقرات على بابها، فأذنت للخادم بالدخول، وسمعتها تقول:

-     مولاي الملك يطلب أن تحضري إليه في الديوان!

فردت من فورها:

-     كيف يسمح لنفسه بذلك؟ إنني ابنة الملك التي كان ينحني أمامها!

قالت الخادم:

-     ما أنا إلا رسول يا سيدتي.

-     اذهبي، وسوف أرد عليه.

حين استبطأها أرسل إليها خادمان ليحملاها حملا إذا رفضت المثول بين يديه، وحين عرفت ذلك أخبرتهما أنها ستلحق بهما، وهناك سمعته يقول في صلافة وعجرفة:

-     سأدخل عليك الليلة، فجهزي نفسك كي أشبع أشواقي إليك.

بكت الأميرة وانهمر الدمع غزيرا من عينيها، ليس حزنا على نفسها بقدر ما كان حزنا على أبيها وزوجها، وتماسكت إلى حدما، ووجهت إليه الكلام، متحدية إرادته:

-     أما تستحي أيها المخلوق من الله؟ إنني على ذمة رجل، فكيف تريد أن تدخل بي؟

-     لقد مات زوجك وأبوك. وأصبحت بلا زوج!

-     ألم تتعلم أن موت الزوج يوجب العدة على المرأة حتى تستطيع الزواج؟

-     لا شأن لي بالعدة أو غيرها، ولا أحتاج إلى عقد قران، ولا يهمني حلال أو حرام. ولا أومن بدين ولا عقيدة إلا المصلحة والمنفعة واللذة. وقد أعلنت ذلك على الملأ والناس يعرفونه. لقد أصبحتِ ملْكا لي، ولا بدمن دخولي عليك في هذه الليلة.

هدّها القهر والذل وجشع الخائن، ففكرت بعض الوقت، فوجدت أنها مهزومة لا محالة إذا استمرت في معارضته. إنها ضعيفة مسكينة ولا أحد يساندها أو يحميها أمام هذا الغول الشرس، وراقت لها فكرة، فقالت له:

-     لا بأس! فليكن الليلة!

فرح الخائن، وانشرح صدره، فقد ظن أن حلمه تحقق أخيرا، وسيدخل بمن أغرم بحبها، وأمر  من فوره بوليمة للفرح، وقال لأعوانه:

-     أطعموا الناس جميعا!

علم شيخ الإسلام بما ينتويه الخائن، وعزمه على الدخول بالأميرة دون عدة، ودون عقد زواج؛ فأعلن على رءوس الأشهاد أنه لا يحلّ له الدخول على الأميرة حتى تنقضي عدتها ويعقد قرانها.

رد عليه الخائن بغلظة:

-     أنا لا أعرف عدةٌ ولا مدةٌ، ولا أون بالإسلام ولا أي دين آخر، فلا تكثر من الكلام.

سكت شيخ الإسلام اتقاء لشره، وقال للعساكر:

-     إن هذا كافرٌ لا دينٌ له ولا مذهب.

وراح يردد في نفسه وهو منصرف إلى بيته: "زواج الملك من الأميرة باطل!!".

"إن هذا الشيطان جنّد عددا من أتباعه ليقولوا للناس: إن الزواج فكرة قديمة سخيفة، والدين خرافة، والوحي أكذوبة، والشريعة قيود من عهود التخلف والجهل، وغير ذلك من أفكار ضالة، ولكنه لن يفلت من غضب الله...".

عند المساء دخل الوزير الذي صار ملكا على الأميرة، فرآها لابسةً أجمل ما عندها من الثياب ضاحكة مستبشرة، فبدت بدرا في ليلة اكتماله، يضيء في سماء صافية.

قال لها مأخوذا بجمالها:

-     عمي مساء يا أميرتي. 

فقالت له:

-     ليلة مباركة يا مليكي.

يتبع...

30 يونيو 2025


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق