الأحد، 1 مايو 2016

خيارات العراق المُرة؛ إما الصّدر وإما التقسيم

خيارات العراق المُرة؛ إما الصّدر وإما التقسيم

معمم ، فقط يعتمد على شعبية وراثية ، ودعم إيراني مشروط.

شريف عبدالعزيز

العراق بلد لم يستطع شعبه أن يتجاوز ذكريات الماضي المريرة ، وهو ما زال يجترها مرة بعد مرة ، حتى أوشك هذا البلد الكبير على الانفجار والانقسام. هذا هو ملخص المشهد العراقي منذ الاحتلال الأمريكي للبلاد سنة 2003 .
فمكونات الشعب العراقي – السنّة والشيعة والأكراد - تعاني من حالة متقدمة جدا من الاختلال الاجتماعي والترابط الوظيفي ، بحيث لم تعد هذه المكونات قادرة على التناغم في مكون مجتمعي مستقر ، فالجميع ينظرون إلى بعضهم البعض نظرة عداء وكراهية ورغبة في السيطرة على الآخرين ، والمحصلة النهائية عراق منقسم ومفتت ومتهالك ، ودولة فاشلة تتربع على عرش الدولة الأكثر فسادا على مستوى العالم لست سنوات مستمرة ضاربة كل الأرقام القياسية السابقة، بحيث لم يعد الحديث عن الكونفدرالية والفيدرالية أو حتى الانقسام الكامل مستغربا أو مستهجنا من الشعب والنخب السياسية بكل طوائفها.

حديث التقسيم من الماضي والحاضر:

وفي هذا الوقت، الذي ما زال الأميركيون الذين يعتبرون المسئول الأول عن تفجير العراق ، يصرون بأن الحفاظ على وحدة العراق هو ديدن سياستهم في البلاد، فإنه على الجانب الآخر، يباشر مسؤولو الأمم المتحدة في بغداد دراسة الكيفية التي يمكن فيها للمجتمع الدولي أن يدير تفكك البلاد بهدوء شديد .
 لذلك لم يكن مستغربا أن يحط نائب الرئيس الأمريكي " بايدن " رحاله في بغداد يوم الخميس 21 أبريل الماضي لبحث الأزمة السياسية في العراق ، فبايدن نفسه هو صاحب فكرة تقسيم العراق سنة2006 عندما كان نائبا في الكونجرس الأمريكي إلى ثلاث دويلات ؛ سنية وشيعية وكردية .
وعلى الرغم من اقتراحه السابق بتقسيم العراق إلى ثلاثة مناطق نفوذ، عمل بايدن طيلة شغله لمنصب نائب الرئيس الأمريكي علنًا على تعزيز وحدة العراق، ولكن في تصريحاته يوم الخميس أمام الموظفين الدبلوماسيين والعسكريين الأميركيين في بغداد، عاد بادين ليؤكد صحة هذا الاقتراح، حيث أوضح بأن الغرب هو الذي رسم خطوط الدول الحالية الاصطناعية، وخلق دولًا مصطنعة تضم مجموعات عرقية ودينية وثقافية متباينة للغاية، قائلًا: "إننا فرضنا عليهم هذه الحدود ليعيشوا ضمنها سويًا".

فمنذ 100 عام تقريبًا، أعلنت جيرترود بيل، المسؤولة والجاسوسة البريطانية التي يعود إليها الفضل في رسم حدود العراق الحديث بعد الحرب العالمية الأولى، عن قلقها حول مشروع التقسيم، حيث انتقدت مشروع خلق دولة جديدة بقولها: "هرعنا إلى هذا العمل متجاهلين كالمعتاد خلق نظام سياسي شامل " .
ويبدو أن إرث بيل ما زال مستمرًا حتى وقتنا هذا؛ ففي الأسبوع الجاري، رشح العبادي الشريف علي بن حسين، وهو سليل الملك فيصل، الذي تم اختياره من قبل السيدة بيل في عام 1921 لحكم العراق، لاستلام منصب وزير الخارجية، ولكن أعضاء البرلمان العراقي رفضوا هذا الاقتراح باعتبار تعيينه يشكل تذكيرًا بحقبة الملكية العراقية الفاشلة .

حديث الاصلاح أم مسمار جحا

" لا أحد يعرف شيئا "
هذا هو لسان حال المتابعين للشأن العراقي اليوم بسبب تعقد المشهد والتجاذب السياسي من أطراف متعددة وتداخلات سياسية إقليمية ودولية ومحلية جعلت المتابع يشاهد وهو مرتبك، مشهد يكتنفه الغموض والتداخل والضبابية، ولكن إشاراته وأطرافه تنبي عن مغزاه أكثر من زخرف عباراته .

فقد انطلقت الاحتجاجات العراقية في 31 يوليو 2015 في ساحة التحرير في بغداد للمطالبة بتحسين واقع الخدمات وخصوصًا الكهرباء، حيث طالبوا بمحاسبة وزير الكهرباء قاسم الفهداوي أو إقالته، بالإضافة للمطالبة بتخفيض رواتب المسؤولين والوزراء والنواب والدرجات الخاصة، وقد قاد الاحتجاجات مجموعة من الشباب المحسوبين على التيار المدني والليبرالي في العراق. ثم صدر بيان مفاجئ من السستاني أعلى مرجع شيعي عراقي في7 أغسطس 2015، دخل به على خط الأحداث بعد طول غياب ، طالب فيه العبادي بأن يكون أكثر جرأة وشجاعة في خطواته الإصلاحية، والضرب بيد من حديد لمن "يعبث" بأموال الشعب، كما طالبه بعدم التردد في إزاحة المسؤول غير المناسب وإن كان "مدعومًا"، وهذه إشارة اعتبرها المراقبون تمردًا من مرجعية النجف المتمثلة بالسستاني على مرجعية قم التي تتصدر المشهد، وهو دليل واضح على تملل المرجعية العراقية من تهميشها طوال الفترة الماضية وعدم إعطائها الصلاحيات المناسبة .

كلمة السستاني والضغط الشعبي جعلت العبادي يستغل الفرصة ،ويقدم على خطوة هي الأقوى في تاريخه السياسي في 9 أغسطس 2015،حيث قرر إلغاء مناصب نواب رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء فورًا، حيث كان يعتلي مناصب نواب لرئيس الجمهورية نوري كامل المالكي ونائب رئيس الجمهورية أسامة النجيفي ونائب رئيس الجمهورية لشؤون المصالحة الوطنية إياد علاوي . ورغم الفرحة العارمة بهذا القرار إلا أن التغيير لم يحدث، فما يزال النواب الثلاثة لرئاسة الجهورية بنفس الحصانة وعدم الملاحقة، وكذلك بنفس القوة والتأثير في العملية السياسة العراقية والدولة العراقية بمفاصلها . ويكتشف العراقيون أن حديث الاصلاح مثل مسمار جحا ، الهدف منه المنافسة السياسية وتصفية الحسابات لا أقل ولا أكثر .

مقتدى الصّدر وركوب الموجة:

من بين أكثر الشخصيات التي أثارت، وتثير، جدلا في الوسط السياسي العراقي، زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، الذي دأب على إطلاق تهديدات متكررة باقتحام المنطقة الخضراء التي تضم مقار الوزارات ومجلس النواب والسفارات والبعثات الدبلوماسية للضغط على رئيس الوزراء لإجراء تغييرات شاملة في التشكيلة الوزارية القائمة على المحاصصة الطائفية واستبدالها بحكومة تكنوقراط تتكفل بالقضاء على الفساد الذي ينخر بنية مؤسسات الدولة في مستوياتها العليا والدنيا .

كالفارس الذي يأتي من وراء التلول لانقاذ محبوبته من الوحش ، خرج مقتدى الصدر في 26 فبراير 2016 بدعوته للعراقيين للنزول للشارع في جمعة مليونية ضد الفساد ، ليظهر حجم التناقض في الشارع العراقي ، حيث نزل مئات الآلاف للشارع وفق دعوة من رجل دين معمم تجعل التيار الليبرالي بموقف لا يحسد عليه . الاستجابة الكبيرة لدعوة الصّدر دفعته لتعليه سقف طموحاته في 27 مارس 2016 حيث أعلن الصدر اعتصامه داخل مجمع الحكومة العراقية المسمى "المنطقة الخضراء"، بينما يتجمهر المؤيدون له خارج المنطقة الخضراء ويقومون بنصب خيام للاعتصام، مطالبين العبادي بالرضوخ لمطالب الصدر المتمثلة بمحاربة الفساد وتقديم حكومة تكنوقراط يترأسها العبادي وسط تأيد شعبي للصدر حتى من أطراف سنية وكردية، حيث يعتبر الصدر هو التيار الأكثر شغبًا في ظل البيت الشيعي، ولطالما غرد خارج السرب ثم يعود للصف مرة ثانية بضغط ضابط الإيقاع الإيراني الذي لم يستطع إلى الآن أحد من مكونات البيت الشيعي أن يتجاوزه بقرار بشكل مستمر . 
وهو ما تجلى سريعا بفض الصّدر لاعتصامه بعد 4 أيام فقط ، وذلك لسببين رئيسسين هما : الضغط الإيراني بعدم انقسام البيت الشيعي في الوقت الحالي الذي يشهد ضغط أمريكي وضغط إقليمي لإعادة رسم خطوط النفوذ الإيراني في العراق، والسبب الثاني هو سحب المالكي لقطع مقاتلة من الجيش والحشد الشعبي الموالية له من المعارك في الأنبار وشمال بغداد إلى الداخل والتهديد بخطر داعش القادم لبغداد إذا لم يرضخ الصدر بإنهاء الاعتصام وهذا ما حدث فعلاً .

لعبة البرلمان والحلقة الأضعف:

بعد سلسلة الاستعراضات الصدرية في بغداد حول المنطقة الخضراء ، أصبحت كرة الإصلاح في ملعب البرلمان العراقي، حيث صرح رئيس مجلس النواب العراقي سليم الجبوري أن المجلس تسلم أسماء الوزراء الجدد وسيشكل لجنة للنظر بسيرتهم الذاتية وكفاءتهم قبل التصويت عليهم في غضون عشرة أيام، وبيّن أن التصويت لا بد أن يكون مسبوقًا بإجراءات قانونية لضمان سلامة العملية السياسية . في 11 أبريل 2016 يتم توقيع ما يعرف ب"وثيقة الشرف " من قِبل الرؤساء الثلاثة وقادة الكتل السياسية، حيث وقعوا على وثيقة الإصلاح الوطني، الوثيقة تتضمن تطبيق الإصلاح الشامل على الأصعدة السياسية والأمنية والاجتماعية والاقتصادية وإنشاء مجلس سياسي استشاري يضم قادة القوى السياسية وإغلاق ملف التعيينات بالوكالة .

وهنا يقوم رأس الفساد في العراق وحاميه الأول " نوري المالكي " الذي يرى مراقبون أنه يمتلك الدولة العميقة في العراق وهو الأكثر قدرة على رسم سياسات إيران ونفوذها بالعراق بعيدًا عن الأمريكيين والقوى الإقليمية الأخرى لما عرف عنه من طبيعته الإقصائية، يقوم المالكي بضرب الحلقة الأضعف في العملية السياسية برمتها ؛ ونعني المكون السنّي ، وذلك عبر كتلته البرلمانية التي قامت باحتجاجات واسعة وصلت إلى حد التشابك بالأيدي من أجل الإطاحة رئيس مجلس النواب " سليم الجبوري " الذي ينظر إليه على أنه ممثل أهل السنّة في المشهد السياسي العراقي ، وصاحب أكبر منصب سياسي للسنّة بالعراق ، وبالفعل يتم إقالة الجبوري ونائبيه في 21 أبريل نفس اليوم الذي زار فيه بايدن العراق !! . وعلى كل الأحوال، فإنه يمكن القول إن تحالف القوى الذي يمثل نواب المحافظات السنّية فشل في الحفاظ على رئيس مجلس النواب بصفته الشخصية الأبرز التي تمثل سنّة العراق في قيادة البلد وفق أسس المحاصصات الطائفية والعرقية، ويؤكد أداء هذه الكتلة من النواب على غياب روح الفريق الواحد والانسجام والتوافق على تبني سياسة مشتركة تسعى لتحقيق أهداف محددة دخلت على أساسها في التـشــكـيلة الوزارية الأولى لرئيس الـوزراء، والتي جاءت بعد تفاهمات أمريكية إيرانية من جهة وتفاهمات داخلية من جهة أخرى في سياق العمل المشترك على تحقيق ما جاء في "وثيقة الإصلاح السياسي" كشرط مسبق لقبول العرب السُنّة بالمشاركة في حكومة العبادي . فكل هذه الوعود والأماني راحت أدراج الرياح مع أول موقف صدامي .

الصراع الشيعي – الشيعي يزداد اشتعالا:

الأزمة السياسية في حقيقتها صراع على النفوذ السياسي الذي هو بوابة الولوج إلى الاستحواذ على الموارد ودائرة المصالح وشبكة العلاقات ، وهو بالتالي صراع يخفي تلك الأهداف في وقت يحمل يافطة القضاء على الفساد واجتثاث المفسدين كما يدعو زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر . كما أن التنافس بين الكتل السياسية يدفعها في معظم الأحيان إلى تبني مواقف تخدم توجهات ومصالح تلك الكتل حتى مع افتراض تعارضها مع المصالح العليا للبلاد .

ومن هذا المنطلق، عملت كتل سياسية منافسة للتيار الصدري على إثارة نوع من الاضطراب في مجلس النواب لإفشال التصويت على حكومة التكنوقراط التي سينظر إليها على أنها جاءت استجابة لرؤية التيار الصدري بما يعكس نوعا من الانتصار للتيار، الذي من المتوقع أن تكون لقراراته الأثر الأكبر في رسم مسار العملية السياسية في الفترة الزمنية الفاصلة عن الانتخابات التشريعية المقبلة،وبروز التيار كواجهة سياسية شيعية تتمتع بقاعدة جماهيرية، هي الأوسع، مستغلة المكانة الدينية التي يتمتع بها مقتدى الصدر بشكل تراتبي، بعد أن أعلن المرجع الشيعي علي السيستاني قبل أسابيع مضت اعتزال التدخل في الشأن السياسي، وهو الإعلان الذي أفقد حزب الدعوة والمجلس الإسلامي وغيرهما فرصة استغلال ورقة المرجعية الدينية التي قدمت الدعم لهما في الدورات الانتخابية السابقة . وفي الوقت الذي بات فيه المرجع الشيعي علي السيستاني خارج دائرة التأثير في المشهد السياسي، فإن الولايات المتحدة اللاعب الأهم الآخر، اعتبرت ما يجري في العراق من توترات سياسية شأن داخلي يخص العراقيين وحدهم .

والتيار الصدري وزعيمه ماضون قدما في اتجاه الإطاحة بالرئاسات الثلاث، وهو ما يعتقده الكثير من المراقبين والسياسيين، فيما تشير قراءة سياسات التيار الصدري منذ ظهوره على المشهد السياسي إلى أن مقتدى الصدر يفتقد إلى وضوح الرؤية في تحديد أهدافه التي يريد الوصول إليها، كما يفتقد الثبات على المواقف، حيث يتبنى موقفا معينا من مسألة ما، ثم ما يلبث أن يتراجع عنه ليتبنى موقفا جديدا قد يكون على النقيض من الموقف الأول ، فهو مهما كانت شعبيته في المقام الأول والأخير دمية في يد ملالي إيران .

لذلك فإن خيارات العراق الآن مريرة ، فهي أما ان تسير على طريق التقسيم ، وأما أن يتصدر مشهدها السياسي معمم غرّ لا يحين من أمور السياسة شيئا ، فقط يعتمد على شعبية وراثية ، ودعم إيراني مشروط.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق