الأحد، 28 يناير 2018

السيسي.. من تسريبات القدس إلى احتجاز عنان

السيسي.. من تسريبات القدس إلى احتجاز عنان

ساري عرابي
كان ثمّة ما يؤكّد صحّة ما نشرته صحيفة نيويورك تايمز -ثم بثّته مفصّلاً قناة "مكملين" المصرية المعارضة- من تسريبات صوتية، يوجّه فيها ضابط مخابرات حربية عددًا من الإعلاميين والفنانين المصريين، لتبنّي موقف محدّد من موقع مدينة القدس في أيّ تسوية محتملة، وهو الموقف الذي يتّفق في النتيجة مع القرار الإسرائيلي المستند في هذه اللحظة إلى إرادة دونالد ترمب.
بيد أن التطورات التالية في المشهد المصري -والتي كان أبرزها إصدار "القيادة العامة للقوات المسلحة" المصرية أخيرًا بيانًا تهاجم فيه رئيس أركان الجيش الأسبق سامي عنان، وتوّجه له سلسلة اتهامات خطيرة تمسّ كرامته ودون أي اعتبار لتاريخه- تشير إلى حجم التعقيد والارتباطات في المشهد المصري، بما لا ينفصل عن القضية الفلسطينية خاصة، والمشهد الإقليمي عمومًا.
عودة إلى التسريباتالقاسم المشترك الأوّليّ الظاهر بين التسريبات المشار إليها واتهام عنان ثم احتجازه، هو تضمن التسريبات توجيهات من الضابط نفسه للإعلاميين بالقيام بحملة تحطيم معنوية للفريق أحمد شفيق، بسبب قراره منافسة عبد الفتاح السيسي في الانتخابات الرئاسية المقبلة، والأسباب التي حملت قيادة الجيش المصري على احتجاز عنان هي ذاتها أسباب الموقف السابق من شفيق.
التطورات التالية في المشهد المصري -والتي كان أبرزها إصدار "القيادة العامة للقوات المسلحة" المصرية أخيرًا بيانًا تهاجم فيه رئيس أركان الجيش الأسبق سامي عنان، وتوّجه له سلسلة اتهامات خطيرة تمسّ كرامته ودون أي اعتبار لتاريخه- تشير إلى حجم التعقيد والارتباطات في المشهد المصري، بما لا ينفصل عن القضية الفلسطينية والمشهد الإقليمي

تضمنت التسريبات كذلك ما يمكن أن يفهم منه وجود كتلة معارضة داخل جهاز المخابرات العامة لتوجهات السيسي، وقد قيل إنّ هذه الكتلة تدعم أحمد شفيق. فبعد التسريبات -بوقت قصير- أُقيل مدير جهاز المخابرات العامّة خالد فوزي، ووُضع -بحسب مصادر- في الإقامة الجبرية، وعُيّن بدلاً منه مسيّرًا للجهاز عبّاس كامل مدير مكتب السيسي، وممّا قيل بهذا الخصوص إن فوزي أقيل لدعمه سامي عنان في ترشّحه للرئاسة.
التسريبات -التي تناولها البعض من جهة البحث في صحّتها- امتلكت دليل إثباتها الداخليّ؛ فالضابط نفسه أجرى اتصالاته مع عدّة أشخاص، ومع شخص واحد عدّة مرات، في موضوعات متعدّدة، وتدخّل لحلّ مشكلة أحد الإعلاميين مع القناة التي يعمل فيها، فاضطر للحديث مع مدير القناة، ومع ضابط رفيع في جهاز الأمن الوطني موجود في القناة للإشراف على عملها.
وهذه الاتصالات جرت على مدى أيام متعددة، وهو أمر يؤكّد صحّة التسريبات؛ إذ لا يُعقل أن يتمكن هاوٍ من تمرير الخديعة على كل هؤلاء أياما وربما أسابيع، إلا إذا كانت أجهزة الدولة بهذا القدر الفاحش من الفشل والاهتراء!
إلا أنّ دليل إثباتها الخارجيّ هو الأهم، أي وجود ما يصدق مضامين هذه التسريبات في الواقع، وإذا كان ما جرى للفريق شفيق من احتجاز ثم انسحاب من الترشّح للرئاسة يتطابق مع إرادة ضابط المخابرات في التسريبات، فإنّ سياسات السيسي -منذ انقلابه على الرئيس محمد مرسي- تؤكّد توجّهاته المتطابقة مع اليمين الإسرائيلي فيما يتعلق بتسوية القضية الفلسطينية.
حَسَمَ اليمين الإسرائيلي توجّهاته العامّة بخصوص الصراع، وذلك في سعيه لاستغلال متغيريْن: أميركي وإقليمي، والمتغيران مرتبطان ببعضهما عضويًّا.
فالتوجهات المتصهينة في إدارة ترمب -والتي يجسّدها نائبه مايك بنس، ويديرها بفاعلية ظاهرة صهره جاريد كوشنر- تبلورت في صيغة تحالف بين عدد من الدول العربية وبنيامين نتنياهو، وإدارة ترمب. وذلك بتربيط المصالح الخاصّة المتعلقة بالصراعات على الحكم في تلك الدول العربية بالمصلحة الصهيونية، وخلق تحالفٍ شرقِ أوسطيّ يضمّ "إسرائيل"، وتقع مصر بقيادة السيسي في قلبه.
السيسي معجزة إسرائيلبدأ التحالف يتلمّس طريقه حينما أنضج الأمير محمد بن سلمان تحالفه مع كوشنر، وهو الأمر الذي انتهى إلى مصالحة سعودية مصرية، واسترجاع للتحالف السعودي الإماراتي. وقد ظهرت نوايا الفكرة في بيان قمة ترمب بالرياض الذي نصّ على إقامة "تحالف شرق أوسطيّ".
بينما بدأت شخصيات سعودية شبه رسمية تجاهر بمسلكيات تطبيعية، كما فعل الجنرال المتقاعد أنور عشقي، ورئس الاستخبارات السابق الأمير تركي الفيصل، بالإضافة إلى ما قيل عن زيارة سرّية لولي العهد السعودي محمد بن سلمان إلى "إسرائيل".
وفي أحداث مفصلية -مثل حادثة البوابات الإلكترونية على مداخل المسجد الأقصى- بدا الموقف السعودي شديد الغرابة والشذوذ، إذ عكسته اللجان الإلكترونية التي قادت حملات تهاجم الشعب الفلسطيني وتدعو للتخلّي عن قضيّته والتطبيع مع "إسرائيل"، في حين مُنعت الشخصيات المؤثّرة من التفاعل مع قضية الأقصى.
رغم أن السيسي كان أوّل من استخدم مصطلح "صفقة القرن" أثناء زيارته للبيت الأبيض في أبريل/نيسان 2017؛ فإنّ مؤشّرات كبيرة على وجودها ظهرت قبل ذلك، ودلّت على ضغوط مصرية مورست على الرئيس عبّاس قُبيل مؤتمر القمّة العربية المنعقد في مارس/آذار الماضي في البحر الميت بالأردن، لإقناعه بتقديم مبادرة جديدة أخفض سقفًا من المبادرة العربية

وفي هذا الإطار؛ راجت سلسلة تسريبات صحفية عربية قالت إن وليّ العهد السعودي دعا الرئيس الفلسطيني محمود عباس -في زيارتين للمملكة أواخر العام الماضي- للتعاطي الإيجابي مع مبادرة ترمب، والقبول ببلدة أبو ديس بديلاً عن القدس عاصمة للفلسطينيين.
وقد أكدت هذه المعلومات نيويورك تايمز وكتابُ "نار وغضب"، ثم أكدها عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية أحمد مجدلاني، الذي لا يمكنه الإدلاء بتصريحات حسّاسة من هذا النوع إلا بإيعاز من الرئيس عبّاس.
ما آلت إليه توجّهات الأمير محمد بن سلمان كان هو منطلقات السيسي منذ انقلابه على الرئيس مرسي، فقد افتتح انقلابه بتدمير الأنفاق التي شكّلت شريان الحياة لقطاع غزّة، وإظهار عداء واضح للمقاومة الفلسطينية، ومحاولة مكشوفة لتحطيم حركة حماس، مبديًا انحيازًا متطرّفًا لـ"إسرائيل" في حربها على غزّة عام 2014.
وطوال المدّة الماضية من حكم السيسي؛ استمرّت قوّاته في إدارة عمليات تهجير واسعة في سيناء متركّزة في منطقة رفح المصرية، وممتدة إلى مناطق أخرى في العريش والشيخ زويد، مع تصاعد التسريبات التي تتحدث عن إحياء مقترح إقامة دولة الفلسطينيين وتوطين لاجئيهم في غزّة وأجزاء من سيناء.
وهو الأمر الذي كشفه الرئيس عبّاس مبكّرًا عام 2014، حينما قال إنّه رفض مقترحًا من مسؤول مصريّ رفيع بضمّ أجزاء من سيناء إلى قطاع غزّة لإقامة الدولة الفلسطينية عليها. وفي تسريبات أخيرة، ربط الرئيس المخلوع حسني مبارك الأحداثَ في سيناء بمخططات توطين الفلسطينيين فيها!
ورغم أن السيسي كان أوّل من استخدم مصطلح "صفقة القرن" أثناء زيارته للبيت الأبيض في أبريل/نيسان 2017؛ فإنّ مؤشّرات كبيرة على وجودها ظهرت قبل ذلك، ودلّت على ضغوط مصرية مورست على الرئيس عبّاس قُبيل مؤتمر القمّة العربية المنعقد في مارس/آذار الماضي في البحر الميت بالأردن، لإقناعه بتقديم مبادرة جديدة أخفض سقفًا من المبادرة العربية.
ورغم أن هذه الضغوط لم تنجح في إقناع عبّاس، إلا أنّ الأمين العام للجامعة العربية أحمد أبو الغيط كان قد أعلن -قبل المؤتمر- وجود مبادرة جديدة للسلام سيقدّمها الفلسطينيون!
سنضع كل هذه المعطيات -والتي آخرها ما كشفته التسريبات عن قبول مصريّ برام الله بديلاً عن القدس، والجهود المبذولة لتعطيل أيّ قمة عربية أو إسلامية بشأن القدس- إلى جانب الحملة الإسرائيلية المتعدّدة المستويات، والتي سعت لتغطية انقلاب السيسي ودعمه وتثبيت أركانه لدى كل المحافل الدولية.
وقد جرى ذلك على نحو مكشوف لم يستطع فيه الإسرائيليون إخفاء إنجازهم بوصول السيسي إلى حكم مصر، إلى الدرجة التي يقول فيها عاموس جلعاد -وهو حينها رئيس الهيئة السياسية والأمنية في وزارة الحرب الإسرائيلية- إن "السيسي معجزة إسرائيل".
خلاصة الرؤية الإسرائيليةتقوم الرؤية اليمينية الإسرائيلية على منع قيام دولة فلسطينية ذات معنى في الضفة الغربية، وإخراج القدس تمامًا من أيّ تسويات قادمة، وتُعبّر عن ذلك سلسلة "قوانين أساس" في الكنيست، وسلسلة مقترحات تشريعية، بالإضافة للسياسات الاستيطانية التي جعلت قيام دولة فلسطينية بالضفة الغربية في حكم المستحيل.
تعزل الإجراءات الاستعمارية الإسرائيلية الفلسطينيين في تجمعات سكانية منفصلة عن بعضها بعضا، وبما يضمن هيمنة إسرائيلية مطلقة على طرق تواصل التجمعات الفلسطينية، وهيمنة على محيط الضفة الغربية ومرتفعاتها، وبما ينتهي في النتيجة إلى ضمّ مستوطنات الضفة الغربية والمناطق القريبة من الجدار، ومناطق واسعة من المنطقة "ج"، أي ضمّ أكثر من 60٪ من الضفّة!
خطة اليمين الإسرائيلي لا تختلف كثيرا عن خطّة ترمب كما هي في التسريبات التي تكشف عنها باستمرار منذ منتصف العام الماضي، وهذه الخطة تحتاج إلى تسوية مع دول عربية ذات صلة.
السياقات التي تحفّ السيسي -وهو المتهم بسفك الدماء واقتراف آلاف الجرائم، وتبديد ثروات مصر ومقدّراتها، وترابها القومي ونيلها وغازها في المتوسط؛ وبلا تفسير واضح- فإنّه لا يمكنه أن يسمح بأي مدخل للتداول على السلطة، ولو كان محدودًا وداخل نادي العسكر نفسه. فأيّ اختراق -مهما كان صغيرًا في المشهد المصري- من شأنه أن يكون بداية طريق محاكمة السيسي، وهو ما لن يقبل بوجود

وفي حين لا يزال الأردن ممانعًا في قبول هذه الخطّة، كما يُقال؛ فإنّ تسريبات ضابط المخابرات الحربية، وسياسات السيسي تجاه القضية الفلسطينية، تؤكّد دور السيسي في محاولة إنجاح رؤية اليمين الإسرائيلي. ويظلّ محتملاً أن تتضمن الخطّة محاولة لمنح الفلسطينيين البديل في غزّة وسيناء دون القدس، ودون الضفّة!
يرى اليمين الإسرائيلي أن إدارة ترمب فرصة قد لا تتكرر، وتتطلب العمل اللَّحوح لتصفية القضية الفلسطينية نهائيًّا. وفي هذا السياق، التقت مصالح التحالف الشرق أوسطي الجديد الذي ينظم نثْرَه ترمب وصهرُه كوشنير.
فالطموحات الجارفة في كل من أبو ظبي والرياض تتطلب دفع أثمان هائلة للإدارة الجديدة في البيت الأبيض، ولمداخلها ومنافذها المتمثلة في "إسرائيل"، وعادة ما تكون فلسطين -لدى هذا الصنف من الحكومات العربية- "الجدار المائل" الذي يمكن التضحية به!
يتضح إذن أن السيسي جاء في سياق إسرائيلي صِرف وسابق على التحولات التي جرت في السعودية، وهو ما يشير إلى احتمالات قويّة لارتباطات قديمة جمعت السيسي بالإسرائيليين الذين دعموه بشكل واضح فور انقلابه، ولكنّ مجيء ترمب وتشكُّل محور شرق أوسطي تندمج فيه "إسرائيل"، غيّرا المعادلة إلى ارتباط وجوديّ عضويّ بين أركان هذا المحور.
لقد وضع الطامحون في الرياض وأبو ظبي كل رهاناتهم على نتنياهو وترمب، وكل منهما متغير واحتمالات زواله قائمة بشدّة. وإذا كان وجود السيسي مصلحةً إسرائيليةً صِرفةً، فإنّ بقاءه صار مسألة ضرورية بالنسبة لحلفاء "إسرائيل" الجدد في الرياض وأبو ظبي، وذلك ربما على خلاف ما كان عليه الحال في بعض المحطات بعد الانقلاب!
وإذا كانت هذه سياقات السيسي -وهو المتهم بسفك الدماء واقتراف آلاف الجرائم، وتبديد ثروات مصر ومقدّراتها، وترابها القومي ونيلها وغازها في المتوسط؛ وبلا تفسير واضح- فإنّه لا يمكنه أن يسمح بأي مدخل للتداول على السلطة، ولو كان محدودًا وداخل نادي العسكر نفسه.
فأيّ اختراق -مهما كان صغيرًا في المشهد المصري- من شأنه أن يكون بداية طريق محاكمة السيسي بالتهم السابقة كلّها، وحينها سيكون السيسي على استعداد لاعتقال كلّ من يفتح نافذة لهذه الاحتمالات، ولو كان بمكانة سامي عنان!
وإذن فبقاء السيسي على عرش مصر مسألة بالغة الخطورة، لكنها مسألة وجودية في الأساس بالنسبة للسيسي، وبالغة الأهمية لحلفائه في "إسرائيل" وأبو ظبي والرياض، وتظل قضية القدس موجودة في قلب ذلك كلّه!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق