خطر الدوغمائية على مآل “الميثاق الغليظ”
في المغرب!
يزداد انشغالي فكريًّا ووطنيًّا بما سيثيره مشروع “إصلاح” مدونة الأسرة في المغرب من تداعيات مرتقبة على منظومة الأسرة ومؤسّسة الزواج؛ بسبب اختزال التغيير في أربعة محاور قانونية ضيقة: منع تعدّد الزوجات، والحضانة، والطلاق، والإرث. ويكبر في رأسي سؤال فلسفي حيوي تفادَيْنا الخوض فيه لعقود ستة منذ استقلال المغرب عام 1956: هل لدينا نظرية مغربية للتطور المجتمعي، ونحن نتلمّس الخطى على طريق غير واضح بين ترميم المحافظة وتجديد التراث من ناحية، واقتباس الحداثة ومعاصرة القرن الجديد وتراشق بقية المفاهيم ومشاريع المساواة بين الجنسين عند الانضمام إلى العهود والمواثيق الدولية من ناحية أخرى؟
ما يزيد في حاجتنا لنظرية مغربية للتطور المجتمعي أن اختلاف التجمعات البشرية عبر التاريخ، وتباين تجارب التطور في شتى القارات، حالا دون بلورة “قانون عام” موحّد، يمكن الاحتكام إليه أو الاعتداد به عند الحاجة لبوصلة الطريق. وقد جادل محمد عابد الجابري بأن “جميع النهضات التي نعرف تفاصيل عنها قد عبّرت، أيديولوجيا، عن بداية انطلاقها بالدعوة إلى الانتظام في تراث، وبالضبط إلى العودة إلى الأصول، ولكن لا بوصفها أساس نهضة مضت يجب بعثها كما كانت، بل من أجل الارتكاز عليها في نقد الحاضر ونقد الماضي القريب، الملتصق به المنتج له المسؤول عنه، والقفز إلى المستقبل”، كما أوضح في كتابه ” إشكاليات الفكر العربي المعاصر”.
تتعدد أسباب الخشية لديّ شخصيًّا من تجاهل الحاجة لما كان ينبغي أن يكون مشروعًا مجتمعيًّا شموليًّا للتغيير، وتقليص الاهتمام في ترميم بنود قانونية تركز على الحسابات المادية أكثر من الدعائم البنوية والثقافية وميزان الاستقرار المجتمعي.
– أوّلا: وزيرٌ لا يعتدّ بالجدوى من التمحيص في مخرجات ما ينبغي أن يكون عصارة حوار مجتمعي بين كافة الأطياف الفكرية المحافظة والتقدمية وما بينهما، بل يتعهد ويتوعد بجرّة قلم متهوّرة بأنّ “المشروع دْيَالي وقناعاتي والقوانين.. غَانْغيّرها”، وكأنه يصرّ على تغيير نوعية العلف لقطيع ماشية في مزرعته الخاصة في موسم جديد. ويتناسى هذا الوزير المندفع بعناده الديماغوجي الذي لا ينمّ عن استيعاب متنوّر لفلسفة الحداثة أن مدونة الأسرة والقانون الجنائي وحرية المجال الرقمي، هذه الأشياء ليست لعبةً في علبة قمار أيديولوجي، بل إرادةُ شعبٍ وأمةٍ ومجتمعٍ وأجيالٍ مقبلةٍ. وتختفي هذه الأبعاد المجتمعية في حديث وزير معجب بحركات يديه وغمزات عينية في التأكيد على أنه حجة في “الوثوقية”، و”القطعية”، و”التوكيدية، و”اليقينية”. وهي معضلات يشترك فيها تيار التطرف العلماني وتيار التطرف الديني على حدّ سواء.
– ثانيا: كلّما زادت حماسة الوزير وإصراره على العناد أمام منتقديه، بدا أنه يوهم نفسه بأن الاعتداد برأيه هو استئثار بـ”الحقيقة”، وثقافة التسلط والانغلاق، وقصور البصر والبصيرة في مشروع الحداثة ذاتها التي يبني عليها ما يعتبره “نضالا حزبيا وسياسيا”، ولا يريد المرء أن يظلم قدراته الإدراكية باتّهامها بأنّها “فكرية”. والملاحظ أنه يحتكر “اليقين المطلق” بشأن حاجة المغرب لتلك التعديلات في قانون الزواج والطلاق، دونما تقديم براهين مستمدة من داخل المجتمع، وليس بموجب متطلبات اتفاقية دولية وحدها.
بدا حديث الوزير أمام الكاميرا تجسيدا لما قصده عالم النفس الأمريكي ميلتون روكش Milton Rokeach صاحب مفهوم “الدغمائية” بأنها “نظام مغلق من المعتقدات حول الواقع، يركز على السلطة المطلقة”. وأكّدت ضخامة الوزير العنادية (على وزن سعادة الوزير) عدم قدرته على تغيير جهازه الفكري عندما تتطلب الشروط الموضوعية ذلك، أي أنها لا تسمح لصاحبها بإجراء أي تغيير أو تعديل أو تبديل في تفكيره حتى عندما تكون هناك أسباب تستدعي إجراء مثل هذه المراجعة.
– ثالثا: تؤكّد نظريات التغير المجتمعي في الدّراسات السوسيولوجية ودراسات النزاع والسلام أن لا تغيير ولا حداثة ولا عدالة اجتماعية إلّا بتوافقٍ متّزنٍ بين البنية الثقافية والاقتصادية المحلية وأي مفاهيم أو معايير تأتي بها الاتفاقيات الدولية. ويكمن التحدي في تعثّر بوصلة التغيير بأنّ صديقنا يقود مشروعا في الاتجاه الخطأ، وهو يسعى جاهدًا لنقل مجتمع مغربي عربي أمازيغي صحراوي أندلسي متنور إلى حداثة بمقاييس حددتها منظمة “سيداو” لمكافحة أشكال التمييز ضد المرأة، ما يهدد بفرض حداثة تعسفية مشوّهة من علٍ، دون تبيئتها مع مجتمع محافظ ودون ضمان قالبيته المتدرجة من الأسفل. ويكون من الأجدى التفكير في الاتجاه الآخر: تبيئة المفاهيم والمعايير، وتقتضي هذه المرحلة الأولى التعرف عن قرب على تاريخ المفهوم الذي يُراد نقله وحركيته التاريخية في تطور البيئة المجتمعية التي قام فيها عبر قرون، ثم التّدقيق في كيفية إعادة استنبات ذلك المفهوم في المرجعية التي يراد نقله إليها، كما أوضح محمد عابد الجابري في كتابه “في نقد الحاجة إلى الإصلاح”.
– رابعا: عندما يبلغ الاستقطاب والتخندق مداه بين فريقين دون غيرهما: دعاةُ الحداثة والحركةُ النسائية من ناحية، والحركةُ المحافظةُ التي تعتدّ بالمرجعيات الدينية والتراثية والقومية المغربية من ناحية أخرى، فإن ما يدور نقاشٌ قد يُوحي بتقابلٍ فكريٍ تنافسيٍ بين من يعتدّون بأنّهم “مبشّرو” الانفتاح ومسايرة العصر، ومن يعتبرون أنفسهم “حماة” الثوابت والمؤسسات التي قام عليها المجتمع المغربي منذ عشرات القرون. وتختزل العبارة التالية من بيان جماعة العدل والإحسان الكثير مما توجهه حركات أخرى إلى حكومة أخنوش، إذ ورد في البيان: هذه الاستجابة تتجلى اليوم في أوضح صورها، فهاهم المتنفذون في هذا البلد “يوفون” بالعهد الذي قطعوه لــ “سيداو” (لجنة القضاء على كل أشكال التمييز ضد المرأة)، التي أمهلت السلطات المغربية إلى 2024 للجواب عن إملاءاتها”.
لكن جدلية “الحداثة” أو “المعاصرة” أو “المحافظة” أو “الماضوية”، وهي اصطلاحات تُستمدُّ من فحوى الانتقادات والدّمغات التي يسقطها أي فريق على الآخر، ينبغي ألّا تغيِّب رؤى تيارات أخرى تحيا في مغرب التعددية ومغرب الاختلاف، خاصة عندما لا يركّز مشروع الإصلاح على الأصل، ويكتفي بترميم الفرع فقط. وسؤال الأصل يستحضر كيف يمكن هندسة منظومة الأسرة بما يتماشى مع تبئية المفاهيم وآليات التغيير في جدلية التقابل بين ما هو محلي عرفًا وثقافةً ودينًا وتركةً أنثروبولوجية من ناحية، وما تسعى الرباط لأن تجاري به الاتفاقات والمعاهدات التي وقعتها مع الأمم المتحدة ومنظمات حكومية أخرى على مستوى المساواة وإلغاء أوجه التمييز ضد المرأة من ناحية أخرى.
أي تخيل لمشهد التقابل والتنافر بين تياري الحداثيين والتراثيين، وكأنهما يحتكران النسق الجدلي أو السجالي حول الموضوع، يمثّل مجازفة أخرى بتحويل مدونة الأسرة إلى حلبة صراع بين ملاكميْن يكره كل منهما الآخر بنفس السلبية. وقد عبّر عبد الله العروي عن خشيته من هذا الاستقطاب منذ أعوام عديدة، إذ قال “الغريب أن هذين الاتجاهين يخدعان المثقف ويُغريانه بنوع من الحرية الذاتية، يظن أنه يملك حرية الاختيار، وأنه قادر على أن ينتخب من إنتاج الغير أحسنه، هذه حرية شبيهة بحرية الرواقيين، الذين كانوا يظنون أنهم إن حرّروا القلب والذهن من تأثير الإنسان والكون جاز لهم أن يهملوا الأغلال التي تشد الأيدي وتقيد الأرجل”، كما جادل في كتابه “العرب والفكر التاريخي”.
لست أول من يشدد على مخاطر استبدال منظومة بأخرى بجرة قلم.. وينبغي أن يدرك أنصار الحداثة أنفسم أنها “استراتيجية شمولية، يتبعها العقل من أجل السيطرة على كل مجالات الوجود المعرفة والممارسة عن طريق إخضاعها لمعايير الصلاحية أو عدم الصلاحية. ومن المعلوم أن هذه المعايير تتزايد صرامتها ودقتها ومرونتها أكثر فأكثر من أجل فهم الواقع بشكل أكثر مطابقة وصحة ودقة؛ وبالتالي فلا يمكن أن نأخذ جزءًا من الحداثة أو نثرة متفرقة ونترك الباقي، لا يمكننا أن نقتطع منها موقفًا خاصًا أو نختار موضوعًا واحدًا أو نعطي الأولوية لبعض التساؤلات التي دشنتها الحداثة ونترك الباقي”، كما نبّه محمد أركون في كتابه “من فيصل التفرقة إلى فصل المقال: أين هو الفكر الإسلامي المعاصر”.
قد يتحمّس المدافعون عن مشروع “إصلاح” مدونة الأسرة الذي يشمل 139 تعديلا جديدا، بانتظار عرضها أمام البرلمان في الرباط، لاستعراض ما يبرر الحاجة لتقنين تعدد الزوجات وحضانة الأطفال والإرث والطلاق. لكنهم لا يقيمون حسابا ملموسا للبعد الإنساني، واعتبار كل من الزوج والزوجة والأطفال وحدة التحليل الرئيسية عند التفكير في أي تعديل أو استحداث منظومة قانونية جديدة. وثمة سياق تتحرك فيه مشاريع التعديل الحالية، خاصة في ظل حتمية أن تقدم الرباط رسميا ردودها بشأن التوصيات المتعلقة بنظام الأسرة، التي أقرّتها لجنة القضاء على التمييز ضدّ المرأة في تقريرها الصادر في يوليو 2022. واليوم لا تزال عيون اللجنة، التي تشمل 23 خبيراً مستقلاً في مجال حقوق الإنسان، تراقب مدى امتثال الدول لاتّفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة.
غياب المنحى الإنساني
أتمسّك بالنظر إلى الزواج كسلام مجتمعي، وإلى الطلاق على أنّه نزاع مجتمعي أكثر من مجرّد نزاع أو رغبة انفصالٍ بين امرأة ورجل، أو توزيع حضانة الأطفال، أو تقسيم الممتلكات المالية بين الطليقين، وأستحضرُ في هذا المقام فكر كاتبيْن من ذوي بعدُ النظر في آليات التطّور الاجتماعي، أحدهما غربي والآخر عربي.
أبدأ بأحد أبرز منظري تسوية النزاعات والسلام في القرن العشرين، وأحد الموقعين على ميثاق تأسيس الأمم المتّحدة في سان فرانسسكو عام 1945.. هو الأسترالي جون بورتن John Burton (1915-2010) الذي بلور نظرية الحاجيات البشرية الأساسية Basic human needs، التي كتب عنها أبراهام مازلو عام 1943، إلى نظرية محورية في علم الصراعات خاصة الصراعات داخل المجتمعSocietal conflicts .
في دراسة نشرها عام 1998 بعنوان Conflict Resolution: Human Dimension”” (تسوية النزاعات: البعد الإنساني)، استهلّ بورتن تحليله بالقول إنّ “تحديد مصدر النزاعات يتطلب الإجابة على سؤال أساسي لا يمكننا أن نتجنبه: أيُعزى على كافة المستويات الاجتماعية إلى العدوانية البشرية المتأصلة، وخاصة العدوانية الذكورية، والتي تنبع من عواقب التطور وصراعات البقاء للأقوى، أم إن النزاعات ترجع إلى ظهور مؤسسات ومعايير اجتماعية غير مناسبة تبدو معقولة في قدرة الإنسان على التغيير، والتي يواجه الإنسان صعوبة في التكيف معها؟”.
ويخلص بورتن إلى القول: “قد يكون من الممكن في أفضل الأحوال تصحيح المفاهيم، وتعديل السلوك الشخصي في حالات معينة. وإذا كانت الظروف الاجتماعية هي المشكلة، فإن حل النزاعات ومنعها سيكون ممكناً من خلال إزالة مصادرها، إذ يتم تعديل المؤسّسات والمعايير الاجتماعية بما يتناسب مع احتياجات الأفراد”. ويوضّح أنّه في ضوء الدراسات الأنثروبولوجية للعلاقات القبلية المباشرة، وفي ضوء المعرفة المعاصرة بالاحتياجات البشرية، “من المرجح أن الأنظمة العدائية تطورت بسبب المصالح المتنافسة، وعلى الرغم من التفضيل البشري القوي للعلاقات الاجتماعية التعاونية، التي ينبع منها الأمن الشخصي والهوية الشخصية. إذا كان هناك اكتساب مادي تنافسي من ناحية، ورغبة فردية في علاقات تعاونية من ناحية أخرى، فإن تفسير غلبة السلوكيات العدائية والعدوانية لا بد وأن يكون في الظروف التي فرضتها الأنظمة مع تطورها. وإذا كانت هذه هي الحال، فإن النزاعات على جميع المستويات الاجتماعية ترجع إلى الفشل الماضي في إدراج العنصر البشري الإنساني في المؤسسات وفي عملية صنع القرار، واستخدام الموارد الفكرية المتاحة باستمرار لإعادة تقييم المؤسسات والمعايير الاجتماعية، وبالتالي حل المشاكل فور ظهورها”.
ينبغي لهذا البعد الإنساني إزاء الزوجة والزوج والأطفال، والمعنيين بالحضانة والإرث وبقية التركات المادية وغير المادية، أن يكون الخيط الناظم ليس لأي تغيير في بنود الطلاق والحضانة والإرث فحسب، بل في كل إجراء تطويري لأي منظومة بشرية داخل المجتمع المغربي. ولا تغالط الدولة ذاتها، أو تجاري أنفة الوزير الدوغمائي بأن مسؤولية الزواج أو تبعات الطلاق تظل على كاهل الزوج أو الزوجة، بل ينبغي أن يحضر الطرف الذي يغيّب نفسه إراديا، وهو دور الدولة الاجتماعية، وشبكات حماية اللحمة العائلية وآليات استدامة الزواج، في بلد يشهد ارتفاعا في نسبة البطالة يصل إلى أكثر من 21 بالمئة، والعنوسة إلى 8 مليون فتاة، والأمية التي تنتشر بين 9 مليون من المغاربة، خاصة في القرى والمناطق النائية.
عندما يغيب منطق المقاصد!
أما الرافد الفكري الآخر الذي يستوقفني عند مناقشة “إصلاح” مدونة الأسرة فهو فكر المقاصد عند ابراهيم الشاطبي، الذي عاش في القرن الثامن الهجري خلال حقبة مهمة من عصر التنوير الأندلسي في ظل عقلانية ابن رشد، وأيضا علال الفاسي (1910-1974) الذي رفع لواء النقد الذاتي بين من يسمّون “رواد السلفية العلمية”. ويعتدّ الفاسي بأنّ “المُراد بمقاصد الشريعة: الغاية منها، والأسرار التي وضعها الشّارع عند كل حكم من أحكامها”. وهذا منطلق منهجي تحضيري ينبغي أن يراعيه كل من يريد تطوير المجتمع بين التراث ومجاراة قيم الغرب.
لا أستحضر المنحى المقاصدي بالذات لغاية فقهية بالضرورة، أو احتماءً بنصّ يعتبره البعض “سلفيا” لا يضاهي تنوير الحداثة المنشودة، وإنما لأهمية فحواه في فهم آليات التطور الاجتماعي. ويدعو الشاطبي لحصر شروط التأهل للاجتهاد في الاتصاف بفهم المقاصد، والقدرة على الاستنباط بناءً على ذلك الفهم، بقوله: “إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتّصف بوصفين: أحدهما فهم مقاصد الشريعة على كمالها، والثاني التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها”. والأهمّ أنّ الشاطبي كان يدرك مدى مقاومة التغيير، وأنّ البعض يرى في كل جديد منكرا، فهمس في أذن القارئ قائلا: “إن عارضك دون هذا الكتاب عارض الإنكار، وعمي عنك وجه الاختراع فيه والابتكار، وغر الظان أنه شيء ما سمع بمثله”، كما جاء في مقدمة كتاب “الموافقات”.
من تجلّيات تشبّع الشاطبي والفاسي بفهم متنور لفلسفة التطور أن تاريخ المجتمعات لا يظل جامدا على خط مستقيم، بل إن “تكاليف الشريعة ترجعُ إلى حفظ مقاصدها في الخلق، وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام عند الشاطبي: أحدها أن تكون ضرورية (من قبيل أن يتوقَّف عليها وجود الناس في الدنيا مثل حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ النسل، وحفظ المال)، والثاني أن تكون حاجية (ما يساهم في تأمين شؤون الحياة للناس بيسر وسهولة، وتدفع عنهم المشقة)، أو تسهيل المصلحة التي قال عنها الخوارزمي إنها المحافظة على مقصود الشرع بدفع المفاسد عن الخلق، والثالث أن تكون تحسينية”. ويشمل معنى هذه المقاصد التحسينية الأمور التي تتطلَّبها المروءة والآداب ومكارم الأخلاق، وهي أمور أساسية في علاقة الزواج وتعزيز أواصر الأسرة مع مرور الوقت.
تتواءم هذه المقاصد الثلاثة في مبدأ مرجعي تلخّصه في جلب المصالح ودرء المفاسد ضمن فلسفة “المصلحة المرسلة”. ويشدد علال الفاسي في كتابه “مقاصد الشريعة”على أن الغاية منها هي “مصلحة الإنسان كخليفة في المجتمع الذي هو منه، وكمسؤول أمام الله الذي استخلفه على إقامة العدل والإنصاف، وضمان السعادة الفكرية والاجتماعية، والطمأنينة النّفسية لكل أفراد الأمّة”. وتتأكد المرونة المجتمعية أيضا لديه عندما يتمسك بأهمية الاجتهاد باعتباره “العلم الذي وضعه الإسلام ليشرك به المجتهدين من الأكفاء في التشريع، وفي تفسير الخطاب الإلهي، وهو ما يجعل الشريعة الإسلامية قابلة للتطور والدوران مع المصلحة العامة والخاصة، في جميع العصور وفي جميع الجهات”.
ثمة تجسير بين مفهوم الاجتهاد ومفهوم المقاصد؛ إذ يقول علال الفاسي عن حجّية المقاصد: “هي في غير ما نص عليه بصراحة تؤخذ من مقاصد الشريعة، التي تنطوي على كل ما يمكن أن يقع من حوادث وأحكام… والمقاصد جزء من المصادر الأساسية للتشريع الإسلامي، والحكم الذي نأخذه بطريق المصلحة والاستحسان أو غير ذلك من ضروب المآخذ الاجتهادية يعتبر حكما شرعيا، أي خطابا من الله متعلّقا بأفعال المكلّفين، لأنه نتيجة الخطاب الشرعي الذي يتبين من تلك المقاصد التي هي أمارات للأحكام التي أرادها الله.”
بين الضرورة والحاجة والتحسين -أو التجويد- في تصنيف الاجتهاد المقاصدي، تكمن القناعة الضمنية بأن النصّ الشرعي ليس مطلقًا مغلقَ الأبواب على الاجتهاد بين حقبة زمنية وأخرى، حسب تبدّل الأحوال والأمصار.. ومن هنا يمكن الاستدلال على مرونته ليغدو مُلائما لكل زمان ومكان. وثمّة حاجةٌ اليوم للتمعن في سؤال المقاصد من تعديل بنود مدونة الأسرة، بالنظر إلى أن الشاطبي كان حريصا على استكمال الشطر الثاني من علم أصول الفقه بالتفصيل في المقاصد التشريعية، فاهتم بأسرار الشريعة ومقاصدها (من جهة وضع الشريعة ابتداءً، ووضع الشريعة للإفهام، ووضع الشريعة للتكليف، ووضع الشريعة للامتثال)، كما “وضع منهجًا لاستقراء طرق معرفة المقاصد، أو طرق الكشف عنها، والاستقراء هو استخلاص القواعد من الأحكام الجزئية”، كما يقول حمزة المجاطي في دراسته “أقسام المقاصد عند الشاطبي”.
أعود إلى مبدأ “جلب المصالح ودرء المفاسد” في سياق المقارنة بين فلسفة التغيير بين الشرق والغرب، ويقابلها في فكر الحداثة والمسؤولية المجتمعية في أوروبا وأمريكا الشمالية مبدأ مواز هو “Do no harm rule” (عدم التسبب في الضرر)، سواء في ممارسة الطب النفساني، أو فض النزاعات، أو إصدار تشريعات جديدة، أو بقية أشكال تدخل الدولة في تنظيم حياة المواطنين. ومن الأمثلة على مراعاة هذا المبدأ “”Religious Freedom Restoration Act (قانون استعادة الحريات الدينية)، الذي أقرّه مجلس النواب الأمريكي H.R. 2725; S. 1206 عام 2004، وهو العام نفسه الذي تبنّى المغرب فيه قانون مدونة الأسرة بعد تعديل قانون الأحوال الشخصية.
جاء القانون الأمريكي لاستعادة الحريات الدينية مصمماً “لحماية الحق الدستوري للمجموعات الدينية الأقلية في ممارسة معتقداتها الدينية بحرية. ويحظر على الحكومة الفيدرالية إثقال كاهل الشخص بممارسة دينه ما لم يكن ذلك هو الوسيلة الأقلّ تقييداً لتعزيز مصلحة حكومية ملحّة. وقد حظي القانون بتأييد تحالف واسع من المنظمات، بما فيها منظمات مجتمع الحقوق المدنية، التي رحبت بالقانون باعتباره درعاً مهماً ضد طغيان حكم الأغلبية”، حسب ما تقول حملة حقوق الإنسان (The Human Rights Campaign) في الولايات المتحدة.
مما يثير الاستغراب أن يكون وزير عدل في حكومة ترفع شعار الحداثة لا يعلم شيئا عن مفهوم “المصلحة المرسلة”، إلا عندما أشار عليه وزير آخر بالاطلاع عليها قبل أسابيع فقط. هو مفهوم أساسي من المفترض أن يعلم به أي كاتب عدل يخطّ ميثاق زواج، وأي محام يرافع في قضايا الطلاق والإرث، وأي قاض يقرّ حكما بالطلاق، بل وكل من ينتسب إلى وزارة العدل قد يعي أو لا يعي أنه في مجتمع يعتمد المذهب المالكي!
هناك تجسير تلقائي بين منطق المقاصد في الشريعة، و”البعد الإنساني” لدى جون بورتن وبقية المنظّرين في باب التطور المجتمعي، في ضوء نظرية “الحاجيات البشرية الاساسية”. وتتفق جميعها على غاية رئيسية هي مراعاة ما يحسّن فهم حاجيات الفرد وتركيبة المجتمع، ودون تعسف من البنية القانونية والسياسية القائمة، وأن تكون مصلحة الأفراد والعائلات هي وحدة التحليل المركزية.
هل لدينا نظرية مغربية للتطور المجتمعي؟
تثير سجالات “إصلاح” مدونة الاسرة حاليا السؤال عن معضلة الاستقطاب الراهن، وكأن المغاربة مجرّد “تراثيين تقليديين” أو “دعاة حداثة وعصرنة” الحياة العامة، دون بُعد نظر في أنه استقطاب تقزيمي يغيّب تيارات فكرية أخرى. وقد أسهب الجابري في التفصيل بين خيار القطيعة مع الغرب، وخيار التقليد، وخيار التوفيق. والأهمية في هذا الباب هي ممارسة النقد من أجل “التحرر من كل ما هو ميت أو متخشب في كياننا العقلي وإرثنا الثقافي، والهدف هو فسح المجال للحياة كي تستأنف فينا دورتها وتعيد فينا زرعها”، كما جاء في كتابه “تكوين العقل العربي”.
بعبارة أخرى، هل يفلح المغاربة وبقية العرب عند منعرجات التطور المجتمعي في هندسة خيار ثالث، أو طريق بديل لا يمعن في الجمود والتقليدانية، ولا يتهوّر في القفز دون رويّة إلى مفاهيم التحديث ومجاراة نظم الغرب. هل من رؤية مبتكرة تتفق مع “استراتيجية تقوم على التحرر من سلطة التراث العربي والحداثة الغربية على حّد سواء، ومن سلطتهما المرجعية، وبالتالي التعامل معهما بروح نقدية عقلانية في أفق إعادة بناء التراث وتأسيسه من الداخل، وذلك باتصال فاعل مع منجزات العقل الأحدث، وتأصيل قيمه الكونية في فكر وسلوك العرب والمسلمين بما يكفل لهم الانتظام في حداثة بمواصفات عربية، يتمّ فيها ردم الهوة بين الأصالة والمعاصرة، أي بين التراث والحداثة”، كما يختزل إدريس جيري في “سؤال الحداثة في الخطاب الفكري لمحمد عابد الجابري” (2013) .
قد تكون هرولةً غير متبصرة إلى تغيير مدونة الأسرة، دونما التدقيق من منظور اقتصادي ووضع المرأة بين رعاية منزل الزوجية وسوق العمل، ومنظور سوسيولوجي يتوخّى دعم استدامة اللحمة العائلية والاستقرار النفسي والمعنوي للزوجة والزوج والأطفال، ومنظور أنثروبولوجي يفقه طبيعة المجتمع المغربي وآليات تطوّره من الداخل، دون مغالاة في إسقاط مفاهيم ومقاسات تأتي من الخارج، وأيضا من منظور استشرافي واعٍ بالمنظومة النهائية التي ستستقر إليها بنية الأسرة مستقبلا، دون حاجة لإصلاح “إصلاح الإصلاح” عام 2044.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق