الاثنين، 6 يناير 2025

حاجة السوريين إلى التدرج.. هل تكفلها الشريعة؟

حاجة السوريين إلى التدرج.. 

هل تكفلها الشريعة؟


ما أشدّ حاجتهم إلى التدرج والمرحلية في أسلمة الحياة! فهل تعطيهم شريعة الإسلام هذا الحق؟

الأصول التي يستند إليها القول بالتدرج

القول بمشروعية التدرج ينبني على أصول عريقة، أولها: أن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}، {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}، {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}، {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا}، وفي ضوء هذه الآيات وضع العلماء جملة من القواعد الكلية، تدخل جميعها تحت القاعدة الجامعة: “المشقة تجلب التيسير”؛ مثل: “لا واجب مع العجز ولا حرام مع الضرورة”، “الحاجة تنزل منزلة الضرورة”، “الميسور لا يسقط بالمعسور”، وغير ذلك من القواعد التي تنظم العمل بالأحكام الشرعية في حال الضرورة.

ثاني هذه الأصول: أنّ الاستقراء يثبت بيقين أن الشارع الحكيم أخذ الناس على تؤدة وأناة فعلمهم الإيمان والتوحيد وأصول الأخلاق وبعض الشعائر التعبدية ثم نقلهم شيئا فشيئا وصعد بهم في درج التشريع، قال تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا}، وعن عائشة رضي الله عنها: “إِنَّمَا نَزَلَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْهُ سُورٌ مِنَ المُفَصَّلِ، فِيهَا ذِكْرُ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الإِسْلاَمِ نَزَلَ الحَلاَلُ وَالحَرَامُ، وَلَوْ نَزَلَ أَوَّلَ شَيْءٍ: لاَ تَشْرَبُوا الخَمْرَ، لَقَالُوا: لاَ نَدَعُ الخَمْرَ أَبَدًا، وَلَوْ نَزَلَ: لاَ تَزْنُوا، لَقَالُوا: لاَ نَدَعُ الزِّنَا أَبَدًا، لَقَدْ نَزَلَ بِمَكَّةَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنِّي لَجَارِيَةٌ أَلْعَبُ: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ}، وَمَا نَزَلَتْ سُورَةُ البَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ إِلَّا وَأَنَا عِنْدَهُ”. وإذا كان التدرج في التشريع الذي وقع أولًا كان قَصْدُه التمكين للشريعة بتثبيت أحكامها على تؤدة وروية؛ لئلا ينقلب الناس عليها وينفروا منها، فإن القصد ذاتَهُ يَسْتَدْعِى التدرج في التطبيق إذا وُجِدتْ نفسُ الظروف ونفس العلل في أي زمان أو مكان، أي أن التدرج في التشريع دليل على مشروعية التدرج في التطبيق وأصل له.

ثالث هذه الأصول: أنّ التدرج في التطبيق مشروعٌ ابتداء؛ إذْ إنّه لما بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم معاذا إلى اليمن قال له: “إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ، فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ، فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ، فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ”.

إنّ التدرج في أسلمة الحياة لا يُنْقص الدين بعد تمامه وكماله، ولا يخلّ بمبدأ الاستسلام للشرع والدينونة بأحكامه كلها؛ لأن تطبيق بعض الأحكام وتأجيل بعضها ليس تحكيما للهوى على حساب الشرع، وإنما هو خطة لتعظيم الشرع والتمكين له في النفوس والمجتمعات، وحماية له من ارتداد الناس وخروجهم عليه، كما أنَّه ليس تعطيلا لما تأخر تطبيقه من الأحكام، وليس رفضًا للدخول في كافّة شرائع الإسلام، وإنما هو تهيئة وإعداد للمجتمعات لتستقبل الحكم الإسلاميّ برضا وتسليم، فيقع التوقير للشرع والتعظيم للأحكام، إضافة إلى تفادي المعوقات الخارجية التي يعلمها الكافّة.

آليات التدرج في تطبيق الشرائع

أولًا: البدء بالأمور التي تتفق فيها النظم المعاصرة مع الإسلام، والتي منها أنّ الأمة مصدر الشرعية السياسية للحاكم، وأنّ الحكم يقوم على أساس علاقة عقدية بين الحاكم والمحكوم، ومنها مبدأ الفصل بين السلطات واستقلال القضاء والهيئات الرقابية، ومما يعزّز قابلية النظام الإسلاميّ لهذا المبدأ أمور، أولها: أنَّ الحاكم ليس له أن ينقض قضاء القاضي؛ ثانيها: أنّه لا يجوز له أن يقلد القضاء شخصًا على أن يحكم بمذهب معين، ثالثها: أنّ الحاكم إذا مات أو عزل لم ينعزل القاضي بموته أو عزله؛ لأنّه عندما ولاه إنما ولاه بالوكالة عن الأمة، فإذا ذهب الوكيل بقي الأصيل، ومنها توقيت عقد رئاسة الدولة، وهو مبدأ تقبله الأحكام الشرعية المنظمة للحكم في الإسلام؛ لأنّ العلاقة علاقة تعاقد؛ وعليه فإنّ طرفي العقد لهما كامل الحق في الاشتراط، فإذا شرطت الأمة على الحاكم مدة معينة فلها ذلك.

ثانيا: البدء بالأحكام التي تحقق العدالة الاجتماعية، وذلك انطلاقا من القاعدة الدستورية: {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغْنِيَاءِ مِنْكُمْ}، ومن أمثلة ذلك أن يُخصَّص جزء من موارد الدولة الريعية التي لم يبذل أحد من الناس جهدًا كبيرًا وإنفاقًا عاليًا في إيجاد أصلها، والتي هي محض وهب لا كسب، وهي تشبه في تكييفها الفيء الذي لم يوجف عليه أحدٌ خيلًا ولا ركاباً، كالبترول أو الغاز أو السياحة، فيخصَّصُ جزءٌ منها للمحدودي الدخل ولإعادة بناء العشوائيات ولإصلاح مرافق البسطاء، ومن أمثلتها توظيف أحكام الزكاة والأوقاف الخيرية والأهلية بعد تحقيق استقلالها في تقديم خدمات تعليمية وصحية وإقامة مشاريع خيرية للمحدودي الدخل، إنّ الأحكام المحققة للعدالة الاجتماعية كثيرة ووفيرة، وكذلك الأحكام التي تحدد وظيفة الدولة اتجاه تحقيق العدالة الاجتماعية، فإذا بادرت الدولة بإقاماتها قبل التوجه إلى إقامة العقوبات على السارق، كان ذلك السلوك منها مبادرة إلى توثيق علاقتها بالشعب.

ثالثا: إنشاء مؤسسات المجتمع وتمتينها في المرحلة الانتقالية التي تسبق إقامة مؤسسات الدولة؛ وذلك لأنّ قوة مؤسسات المجتمع تتوازى مع قوة مؤسسات الدولة فتحدث التوازن، وتمنع من تغول الدولة، وتمثل ضمانة للحقوق والحريات، كما أنّ هذه المؤسسات كلما كانت قوية أدت من جهة إلى تماسك المجتمع، ومن جهة أخرى تكون قوتها في حقيقة الأمر قوة للدولة، من هذه المؤسسات المجتمعية: النقابات المهنية، والجمعيات الأهلية، والأوقاف بأنواعها، والأندية التخصصية.

رابعًا: إعمال المقاصد الشرعية، والاهتمام بالأحكام التي تحقق الصيانة لحقوق الإنسان، كحق الإنسان في الحرية وفي الأمن وحقوق الأقليات، ومن اللائق جدًّا أن تبادر القيادة ومعها الحكومة المؤقتة وبصحبتهما رموز علمائية وأكاديمية ومجتمعية إلى إعلان “الميثاق الإسلاميّ لحقوق الإنسان” وأن يصاغ صياغة منسجمة مع الشريعة من جهة، وفي الوقت ذاته يأتي ملبّيًا لفطرة الناس وحبهم للحريات والحقوق الطبيعية، وما من شكٍّ في أنّ هذا الميثاق سيكون إلى حدّ كبير منسجمًا مع كثير من المواثيق العامّة الدولية. والله الموفق.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق