الخميس، 2 يناير 2025

غزّة شأناً داخلياً إسرائيلياً

غزّة شأناً داخلياً إسرائيلياً 

وائل قنديل



وسط أجواء التفاؤل بنجاح الهدنة وإنجاز الصفقة، يقتل العدوان الصهيوني مائة فلسطيني في غزّة خلال ساعات نهار أمس، ويغرق الأحياء المتكدّسون في خيام مهترئة في مياه الأمطار، ويُقتاد الأطباء والمرضى إلى مسالخ التعذيب التي يقيمها الاحتلال في أطراف غزّة، فلا يصدر من عواصم العرب سوى الصمت، حتى الهمهمة الخجلى تعبيراً عن الغضب اختفت، فيما يجتمع وزراء صهاينة  لبحث "مستقبل قطاع غزّة وإيجاد بديل لحكم حركة حماس"، بحسب وكالات الأنباء.

لا يهتم العرب بمستقبل غزّة، كما ينشغل الاحتلال به، وكأنّ ثمّة إقرار صامت بأن غزّة شأن داخلي إسرائيلي، لا يقحم الرسميون العرب فيه، فلدى بعضهم قضايا مصيرية أكثر أهمية، تستحق الانشغال والتكاتف، مثل قضية اصطياد المعارض المصري الشاعر عبد الرحمن يوسف في بيروت، وانهمار مذكّرات تسليمه على العاصمة اللبنانية، كلّ يريد رأسه، أو قضية المعارض البريطاني (الكويتي سابقاً) سلمان الخالدي، الذي أوقفته بغداد وقدّمته إلى الكويت.
لا تظهر روح التضامن، وهذا الاستبسال الرسمي العربي، إلّا ضدّ المواطن العربي المعارض، ولا تظهر مشاعرهم الإنسانية إلّا في حالات رثاء زعيم أميركي أو أوروبي يرحل، كما هو الحال مع رحيل جيمي كارتر رئيس أميركا، صانع "كامب ديفيد"، الاتفاقية والمسار الذي أخضع العرب جميعاً لهيمنة الكيان الصهيوني على الشرق الأوسط، وحوَّل مجرى العداء من الاحتلال الإسرائيلي إلى كلّ من يقاوم هذا الاحتلال، ويعارض هذا المسار (التطبيع) بالبندقية أو بالقصيدة، أو بالهتاف في ميادين ثورات شعبية قامت ضدّ الاستبداد المستقوي بالاحتلال.

كتب حكام عرب مرثيات تنشع حزناً على فقد جيمي كارتر، لكن أحداً من العرب الحاكمين لم ينطق بكلمة عزاء واحدة في استشهاد يحيى السنوار وحسن نصر الله وصالح العاروري، وقبلهم إسماعيل هنيّة.

في وضع بهذا السوء، من الطبيعي ألّا ينشغل أحد باختطاف مدير مستشفى كمال عدوان في غزّة (بعد إحراقه) الدكتور حسام أبو صفية، واقتياده إلى سلخانة تعذيب صهيونية، حيث عُرّي ونكّل به وأهين، لكنّهم مهتمون للغاية بممارسة الضغوط على لبنان لكي يظفروا بالشاعر عبد الرحمن يوسف، للانتقام منه، تماماً كما ينتقم الاحتلال من أطبّاء غزّة وصحافييها، شهود جريمة الإبادة الجماعية التي تدور منذ 15 شهراً قبالة أعين حكومات عربية، تصادق العدو وتعادي المواطن، وتتفانى في تنفيذ أوامر رئيس أميركا الجديد قبل أن يتسلّم المنصب رسمياً.

أسوأ من هؤلاء الحكام العرب حاكم رام الله المعيّن بمشيئة إسرائيلية أميركية، محمود عبّاس، الذي يشنّ حرباً بلا هوادة على فصائل المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية، ويحارب قناة الجزيرة، على نحو يتجاوز الهمّة الصهيونية في إسكاتها ومنعها من تناول مأساة الشعب الفلسطيني بعيداً من الرواية الإسرائيلية. هو الآخر يبدو مُقرّاً بأن فلسطين كلّها شأن داخلي إسرائيلي.

الأسوأ من ذلك كلّه بلادة الاعتياد عند الجمهور العربي، الذي بات متصالحاً مستريحاً مع فكرة أن لا قدرة لديه على الضغط على حكوماته، المتصالحة المستريحة هي الأخرى مع فكرة أنها أصغر وأقلّ وأضعف من أن تقف في وجه الاحتلال، أو تفكّر في مقاطعته سياسياً واقتصادياً.

 مرّة أخرى، غزّة لا تقاوم ترسانة العدو الهمجي فقط، بل هي قبل ذلك في مرمى نيران الاعتياد المخجل، وادّعاء العجز أمام جبابرة مستبدّين نكتشف كلّ يوم أنهم أسوأ من سوء ظننا فيهم، يستأسدون على مواطنيهم، لكنّهم أمام العدو حملان وديعة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق