رواية «تغريبة معروف الإسكافي» (8)

الفصل الثامن
قال الراوي:
وصلت شهر زاد في حكايتها الأخيرة إلى الليلة الخامسة والتسعين بعد التسعمائة، فأخذت تحكي عن قافلة معروف التي أعدها أبو السعادات، والصدى الذي أحدثه خبر وصولها لدى الناس وخاصة صاحبه عليّ الذي رأى الزينة في شتى الأرجاء فسأل عن سببها، فقيل له: "إن صاحبك التاجر صهر الملك على أبواب المدينة ويتقدم حملته"، فهتف تلقائيا: الله أكبر.. الله أكبر!
ثم قال في نفسه: "ما هذه الداهية؟ إنه قد أتاني هارباً من زوجته وكان فقيراً فمن أين جاءت له حملة؟ لعل بنت الملك دبرت له حيلةً خوفاً من الفضيحة والملوك لا يعجزون عن شيء، أسأل الله تعالى أن يستره ولا يفضحه".
عمّ السرور سائر التجار لأنهم سيستردون أموالهم ويحصلون على أغلى الأقمشة.. وابتهج الفقراء وذوو الحاجات لأن الرجل الكريم الذي أعطاهم من قبل بغير حساب سيأتي، ويمنحهم مما أعطاه الله.
وجمع الملك عساكره وكبراء الدولة، وخرج لاستقبال معروف، الذي فهم من أبي السعادات بما جرى بين الملك والوزير من حوار. رأى الملك مشهدا مهيبا لموكب عظيم لا يقل عن مواكب الملوك وقافلة لم ير مثلها من قبل. صهره في البدلة الملكية فوق المحفة المرصعة بالجواهر والياقوت والماس، يتقدمه العساكر والخيول المطهمة والمزخرفة سروجها بالذهب، فحياه وأكابر الدولة بالسلام والاحترام، وعرف الناس أن معروفاً صادق وليس كذابا ولا نصابا كما أشاع الوزير، ودخل المدينة بموكبه الذي شدّ الأنظار، وأبهر الأبصار، وسعى إليه التجار وقبلوا الأرض بين يديه.
كان التاجر علي لا يصدق نفسه. أهو في حلم أم علم؟ إنه يعلم حقيقة صاحبه معروف جيدا، ويتعجب كيف صارت له حملة أو قافلة بهذا الحجم الهائل غير المسبوق وهو الفقير الذي لا يملك قوت يومه؟
لقد استقبله في كرمستان وهو بلا زاد ولا متاع غير أرغفة الخبز الساخنة التي حملها من المحروسة السعيدة ومعها قطعة الجبن، فكيف تهيأت له حملة بهذا الحجم؟ هل هو ساحر يسخر من عقول الناس أم...؟
وسط الزحام مال بمعروف جانبا وهمس في أذنه متهكما:
- كيف خرجت من المأزق يا شيخ النصابين؟
وسكت لحظة، ثم أضاف جادا:
- ولكنك تستحق، زادك الله من فضله،
فضحك معروف، وربّت كتفه، وقال:
- غدا تعرف كل شيء.
جلس معروف على كرسي فخم وطلب من الحراس أن يتقدموا بأحمال الذهب، وأمرهم قائلا:
- أدخلوا أحمال الذهب هذه (وأشار إلى بعضها) في خزانة سيدي وعمي جلالة الملك.. أما هذه فضعوها هنا (وأشار إلى مكان قريب بجواره).
وبعد برهة قصيرة قال لهم:
- هاتوا أحمال الأقمشة أمامي.
أخذوا يفتحونها حملاً بعد حملٍ ويخرجون ما فيها حتى فتحوا الأحمال السبعمائة وانتقى أطيبها وأشار نحو جناح الأميرة:
- أدخلوه إلى الأميرة لتعرضه على جواريها، وخذوا صندوق الجواهر هذا وقدموه لتوزعه عليهن وعلى الخدم..
أما التجار الدائنين له فوزع عليهم الأقمشة الثمينة مقابل ديونهم، وضاعف لهم العطاء.. من كان له ألف أعطاه قماشاً يساوي ألفين أو أكثر، وجاء الفقراء والمساكين فمنحهم أكثر مما كانوا يتوقعون..
كان الملك يشاهد ما يفعله معروف، ولا يستطيع الاعتراض على ما يفعل. بينما يهب معروف ويمنح، والملك ينظر بعينيه ولا يمكنه أن يعترض على ما يفعل، ولم يزل يعطي ويهب ويوزع حتى انتهى من توزيع الأحمال السبعمائة حمل.
خصص معروف للعساكر جواهر من الزمرد والياقوت واللؤلؤ والمرجان من غير عد أو حصر.. وتشجع الملك أخيرا، بعد أن رأي قوة المال وتأثيرها عليه وعلى الناس، وقال له:
- يكفي هذا العطاء يا ولدي، فلم يبق من الحملة إلا القليل.
فقال معروف بكل ثقة:
- الخير كثيرٌ يا مولاي. إن شاء الله.
غيّر الناس رأيهم في معروف ورأوا أن ما قيل عنه ليس صحيحا، فلم يعد في نظرهم كذابا ولا نصابا، ولم يعد هناك من يستطيع تكذيبه أو اتهامه. حتى الوزير الذي ما زال يفكر ويدبر لينال منه؛ لم يستطع أن يردد اتهاماته المتكررة.
ودخل الخازن على الملك سعيدا وحائرا، وقال:
- يا ملك الزمان، إن الخزانة امتلأت، وصارت لا تسع بقية الأحمال وما بقي من الذهب والمعادن كثير، فأين نضعه؟
فأشار الملك إلى مكانٍ آخر، ليوضع فيه ما فاض عن الخزانة مؤقتا، حتى يتم تدبير مكان آمن محكم، ولكنه كان يشعر بذهول مخلوطا بالتعجب: "كيف أصبح معروف غنيا وثريا بهذا الشكل؟ إن كرمه وسخاءه في بذل المال يذهبان بالعقل!".
ازداد فرح الأميرة بزوجها، وإن كانت ما زالت متعجبة مثل آخرين، وتتساءل فيما بينها وبين نفسها: "ترى من أين جاءه كل هذا الخير؟"، ودعا له التجار وسعدوا بما أعطاهم، وبقي صاحبه التاجر عليّ يرتاب في كيفية حصوله على هذا المال الكثير، ويفكر متسائلا: "كيف نصب وكذب حتى ملك هذه الجواهر والبضائع كلها، فإنها لو كانت من عند بنت الملك ما كان يوزعها على الفقراء بهذه الصورة".
اتجه معروف نحو جناح زوجته. كانت قد هيّأت نفسها له كأنها عروس في ليلة الزفاف، وبخّرت غرفتها وملأتها بأريج العطور المنعش، وجهّزت ألوانا من المأكولات والفواكه والمشروبات لتناسب اللقاء بحبيبها الذي اشتاقت إليه شوقا جارفا، وخاصة بعد أن رفع رأسها بين أبيها والوزير الخبيث وأهل المدينة.
نقر غرفتها، ففتحت له بابتسامة جميلة فيها الكثير من حسن تكوينها وسمتها وعينيها، وقبلت يده ضاحكة مستبشرة سعيدة، ثم استقامت شامخة، وذابا في عناق شوق طويل أنساهما كل شيء، ولم يدريا بمرور الزمان إلا بعد أن هدأ الشوق وعوّضا ألم البعاد!
جلسا يتسامران، وهما يتذوّقان بعض الفاكهة، فقالت له مستفسرة:
- هل كنت تسخر مني أو كنت تختبرني حين أخبرتني أنك فقير هاربٌ من زوجتك؟
ثم أضافت بدلال:
- الحمد لله، لم يقع مني في حقك تقصيرٌ، وأنت حبيبي وأعز عندي من كل شيء، سواء كنت غنياً أو فقيراً. ترى ماذا قصدت بأنك فقير هارب من زوجتك العرة؟
ضحك ضحكة صافية، وأجابها قائلا:
- أردت اختبارك يا قرة عيني، لأعرف هل محبتك خالصة أو من أجل المال وطمع الدنيا فظهر لي أن محبتك خالصة، وحيث إنك صادقةٌ في المحبة فحياتي ملك لك.
وأردف:
- أجل. لقد عرفت قيمتك.
ثم انتحى جانبا، وتأمل حال الناس وهم يتكالبون على الدنيا مع أنهم في بلد الكرم والمروءة، المال والذهب والجواهر تجعلهم يأخذون منها أساسا يفسرون به الأحداث، ويقيّمون الأفراد والجماعات. ومن أجل الدنيا تُزهق النفوس، وتُؤخذ الأرواح، وها هي المدينة كلها صارت طوع أمره، حين رأوا أحمال الجواهر والأقمشة. رضى الله عن الصحابي الجليل الذي وصف الدنيا بأنها قاطعة رقاب، وقال مخاطبا أصحابه: "كَيْفَ بِدُنْيَا تَقْطَعُ رِقَابَكُمْ؟ فَمَنْ جَعَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ فَقَدْ أَفْلَحَ، وَمَنْ لَا فَلَيْسَ بِنَافِعَتِهِ دُنْيَا!"، وسُئل أحدهم: ما هي الدنيا التي ذمها الله فى القرآن وينبغي للعاقل أن يتجنبها؟، فقال: " كل ما أصبت فى الدنيا تريد به الدنيا فهو مذموم، وكل ما أصبت منها تريد به الآخرة فليس منها". وصدق رسول الله- صلى الله عليه وسلم: "من أصبح آمنا في سربه، معافى في بدنه. عنده قوت يومه، فقد حِيزتْ له الدنيا بحذافيرها".
يفكر معروف: "إنني كنت راضيا آمنا مطمئنا في المحروسة السعيدة، مع فقري وقلة حيلتي، العرّة جعلتني أهجر وطني وأهرب من ملاذي الآمن. منها لله! إنني هنا مع المال والجواهر ومع ذلك فإني قلق مرصود من الإنس والجن، محسود ممّن حولي، الملك يتعامل معي بوصفي مصدرا للجواهر والمال، والوزير يتربص بي، وصاحبي علي ينظر إلي بارتياب وشيء من الحسد يبين في عينيه. لا يخلص لي إلا هذه الفتاة التي أشعرتني لأول مرة برجولتي وإنسانيتي، ويجب أن أكافئها على إخلاصها". أخرج في خلوته الخاتم الذي أعطاه له أبو السعادات، ودعكه فحضر في التو واللحظة، وسمعه يقول:
- لبيك يا سيدي، أؤمرْ تطعْ.
طلب منه ثوبا ملكيا وعِقْدا من أغلى الجواهر يشتمل على أربعين حلية جوهرةً يتيمةً، وحلى أخرى من أثمن الجواهر..
- سمعا وطاعة يا سيدي.
أحضر أبو السعادات ما طُلب منه وانصرف، فقام معروف من مجلسه وحمل الثوب والعقد والحلى، ودخل على زوجته الأميرة ووضعها بين يديها، وقال لها:
- خذي يا حبيبتي والبسي.
طار عقلها من الفرح وهي تنظر إلى الهدايا الثمينة، وازداد فرحها حين رأت خلخالين من الذهب مرصعين بالجواهر صنعا في بلاد بعيدة، وأساور وقرطاً وحزاماً لا يقدر ثمنها بمال، ارتدت الثوب والحلي وهي تتيه إعجابا وغبطة، ثم قالت:
- أريد يا سيدي أن أدخرها للمواسم والأعياد.
- بل البسيها دائماً فعندي كثير غيرها.
شهدت الجواري سيدتهن الأميرة، وهي في ثيابها الفاخرة وحليها النادرة فأقبلن عليها يباركن لها ويعبرن عن الفرح والسرور، ورحن يقبلن يدي معروف امتنانا وشكرا، فتركهن مع الأميرة، وانتقل إلى غرفة أخرى ليختلي بنفسه، ودعك الخاتم فحضر أبو السعادات، فأمره أن يحضر مائة بدلةٍ بمصاغها، فأحضرها على الفور. نادى معروف على الجواري، فوزع عليهن البدلات وصرن كأنهن الحور العين يدرن حول الأميرة التي بدت بينهن قمرا بين النجوم.
لم يكن الوزير في حال من الرضا عن معروف والملك والأميرة. كانت الضغينة تشتعل في داخله، ويسعى حثيثا لمعرفة من هو معروف، وكيف جاءته هذه الأموال والجواهر، وكيف أخلف ظنه حين عدّه نصابا وكذابا، وكان السهاد يجعله يصل الليل بالنهار، من أجل أن يظفر بالأميرة، ويقضي على منافسه. رأي أن من حقه أن يكون صاحب الكلمة الأولى عند الملك، وأن يستمع لمشورته وآرائه وحده، وأن يبعد هذا الدخيل الذي سلب عقله بجواهره وأمواله، واستولى على ابنته بالحب والوداد، بل إنه فكر في إزاحة الملك إذا اقتضى الأمر، لماذا لا يكون هو ملكا يهتف الناس باسمه، ويصفقون له في الاحتفالات والمواكب والمناسبات ويهتفون باسمه في كل وقت وآن؟ إنه يدبّر شئون المملكة ويحميها من هجمات قطاع الطرق واللصوص، ويخطط لإسعاد أهلها ورخائهم، ويقابل الرسل والمبعوثين ويعقد الاتفاقيات والتحالفات مما يعود بالنفع على المدينة وشعبها. صحيح أن الملك يبدو محبوبا من الناس، فهو كريم معهم، ويعدل بينهم، ويحل مشكلاتهم ويسعى دائما لعمل ما يريحهم ويفيدهم، بينما الوزير يقوم بالتخطيط والتنفيذ، ثم ينسب كل شيء إلى الملك. لقد حرمه من ابنته التي أرادها زوجة، وأعطاها لهذا الغريب الذي لا يعرف له أصل أو مهنة. لا بد من معرفة من هو حتى يمكن التخلص منه، ومن الملك إذا لزم الأمر. إن الملك يحكم ويحظى بمحبة الناس ويضيق على الوزير وأتباعه من القادة والكبراء، فيمنع ما يعود عليهم من منافع ومكاسب وأموال. يرى الوزير أنه لابد من الإطاحة به عاجلا أو آجلا. ويجب استغلال طيبته وتسامحه ورغيته في عدم إيذاء أحد لتنفيذ ذلك.
استدعى الوزير سرا أقرب خلصائه من القادة والكبراء وطرح الأمر عليهم، وسألهم أن يقترحوا الوسيلة المثلي للتخلص من معروف، وما يثيره من قلق.
قال له أحدهم:
- كيف نتخلص منه والملك يقرّبه منه، وكل يوم يزداد قربا منه؟
قال الوزير:
- إن لزم الأمر نتخلص من الملك أيضًا، وأعلن نفسي ملكًا.
- ولكن الأمر سيكون صعبا هكذا!
قال آخر:
- علينا أن نعرف سر معروف أولا.
- كيف؟
- إن الزوجة أقرب إلى زوجها كما تعلم، وهي من يعرف سره.
قال الوزير بعصبية:
- لقد وقفت معه من قبل، حتى استطاع الهروب، وعاد بالجواهر والأموال في حملة غير مسبوقة. وكنت على وشك القضاء عليه.
قال الأول:
- عليك أن تلح على الملك ليعرف سرّه، وتقنعه أن هذه الجواهر والأموال لا يمكن أن يملكها تاجر. البضاعة تبقى سنوات في المحلات والمخازن حتى يمكن بيعها وتحقق ربحا محدودا. ولكن ممتلكات معروف بغير حدود. وهل هناك من التجار من يبذل مثل هذا الكرم الذي يبذله؟ وهل يملك التجار عادة مثل هذه الجواهر والأموال التي لا يحوزها الملوك، ولا تعرف طريقها إلى قصورهم وخزائنهم؟
وأردف:
- قل للملك لا بد من سبب لهذا؟ ويمكن معرفة هذا السبب إذا استمعت لنصيحتي.
- وكيف ستكون النصيحة يا صديقي؟
- سأوضحها لك، فهي بسيطة على كل حال.
شعر الوزير أن ما قاله صاحبه عين الصواب بالنسبة لخطته، وأن النصيحة ستكون ذات جدوى، وعندها يمكن التخلص من معروف بسهولة شديدة.
وصادف أن الملك قد زار ابنته في جناحها فوجدها ترفل مع جواريها في ثياب وجواهر وحلي تبهر العين وتحير العقل، فعاد ليجلس على العرش وهو يفكر ساهما، ولم يلتفت في أول الأمر إلى دخول الوزير عليه، فأعاد الوزير السلام على مليكه، وانحنى بين يديه:
- سلمك الله يا سيدي من كل سوء. ما الذي يشغل بال مولاي؟
أشار الملك إلى الوزير ليجلس في مكان قريب منه. وقال له:
- إنني حائر في أمر معروف أيها الوزير. دخلت اليوم على ابنتي فوجدتها مع جواريها في ثياب وحلي وجواهر لا عهد للقصر بها.
ثم سكت لحظة، وأضاف:
- من أين له بكل هذا؟
- يعلم الله يا سيدي. ولا بد أن هناك سرا لهذا الثراء العجيب.
- ما هو هذا السرّ؟
- هذا تحتاج معرفته إلى تخطيط وتدبير.
- كيف؟
نظر الوزير يمينا وشمالا، ووضع يده على رأسه كـأنه عثر على فكرة ثمينة وقال للملك:
- لدي فكرة لو اقتنعت بها جلالتك يمكن أن تقودنا إلى هذا السرّ.
قال الملك بلهفة كأنه تلقى طوق نجاة:
- ما هي؟
- أن تتودد إليه بوصفه صهرك العزيز، وتتمنى له الخير والمزيد من الثراء، ثم تدعوه إلى الغداء في بستان القصر، وهناك تسقيه خمرا مع الطعام، فيغيب عقله، وينطلق لسانه...
- ولكني لا اشرب الخمر أيها الوزير؟ أنا رجل يخشى الله!
- الضرورات تبيح المحظورات يا مولاي. فقد يكون وراءه خطر كبير يهدد الدولة والناس، وقد يؤذي ابنتك أذي كثيرا. وإذا عرفنا السر أمكن أن نعلم هل هو رجل صادق يستحق منا الاحترام، أو كاذب متآمر يجب أن نعاقبه ونتخلص منه.
- ولكن ابنتي أيها الوزير.
- لن يصيبها سوء إذا كان وراءه شر، واستطعنا تفاديه.
- إذا..
- على بركة الله!
جلس الملك في ديوانه ينتظر أن يتم تنفيذ الخطة التي أعدها الوزير، وفوجئ ببعض الخدم والسياس يدخلون عليه وهم في كربٍ عظيم، فقال لهم وقد بدا عليه الاهتمام والانزعاج:
- ما الذي أصابكم؟ ماذا جرى لكم؟
ردوا قائلين:
- يا ملك الزمان، لقد هربت الخيول والبغال، وفتشنا الاصطبلات فلم نر أثرا لها، ودخلنا محل المماليك الذين كانوا معها فلم نجد منهم أحدا.
تعجب الملك وزادت حيرته تجاه معروف، فقد كانت الخيول والبغال والمماليك والحراس بأعداد كبيرة، فأنى لها أن تختفي فجأة؟ إن هذا لشيء عجاب! ثم توجه إلى الخدم والسياس باللوم:
- إنكم ملعونون! كيف تتركون ألف دابة وخمسمائة مملوك وغيرهم من الخدم والسياس يهربون دون أن تشعروا بهم؟
قالوا وهم يرتجفون خوفا وهلعا:
- لا ندري كيف حدث هذا!
- انصرفوا حتى يخرج سيدكم (يقصد معروفا) من جناحه وأخبروه بذلك.
فخرجوا وبدت عليهم الحيرة والاضطراب، وبينما هم كذلك، رآهم معروف وهم في حالة غمٍّ وهمٍّ، فسألهم:
- ما الخبر؟
فأعلموه بما جرى وحصل، فقال لهم:
- لا تهتموا. إن قيمة البغال والخيول ضئيلة. امضوا إلى حال سبيلكم.
وجلس يضحك، دون أن تبدو عليه آثار همّ أو غمّ نتيجة ما حدث. وحين لمحه الملك على هذه الحال نظر في وجه وزيره، وتساءل:
- أيّ رجل هذا؟ ليس للمال عنده قيمة، ولا بد لذلك من سبب!
ثم استقبل معروفا وأجلسه بجواره، وتودّد إليه بكلام طيب لين حميم، ثم دعاه إلى النزهة في البستان، فرحب بالدعوة، وقال:
- لا بأس يا مولاي.
توجه الملك والوزير ومعروف إلى البستان حيث رأوا فيه من كل فاكهةٍ زوجان. أنهاره دافقةٌ وأشجاره باسقةٌ وأطياره ناطقةٌ. يتوسّطه قصرٌ يزيل عن القلوب الحزن والهمّ والغمّ. جلسوا يتحدثون، والوزير يحكي غريب الحكايات ويأتي بالنكت المضحكات، والألفاظ المطربات ومعروف يصغٍي إلى الحديث يبتسم أحيانا، ويفكر في أحيان اخرى: "ماذا يريد هذا الوزير؟"، وحان موعد الغداء وامتدت سفرة الطعام فاخرة باذخة، مزوّدة بالمدام مع كئوس ذهبية ساحرة، وبعد أن أن انتهوا من الطعام، ملأ الوزير الكأس وأعطاه للملك فتردد قليلا ثم أفرغه في جوفه، وملأ الثاني وقال لمعروف:
- هاك كأس الشرب الذي تخضع لهيبته أعناق ذوي الألباب.
فقال معروف مستنكرا:
- ما هذا يا وزير؟
قال الوزير مصطنعا خفة الدم والمزاح:
- هذه البكر الشمطاء والعانس العذراء ومهدية السرور إلى السرائر..
وظل يلح عليه ويرغبه في الشراب، ويذكر له محاسنه، وينشده ما ورد فيه من الأشعار ولطائف الأقوال. وكان معروف يتمنع، ويرفض، والآخر يلحّ ويصرّ، حتى قال له:
- كأس واحدة فقط تساعدك على الهضم، ولا تشرب بعدها.
فأبى معروف، فترجّاه قائلا:
- بعض من كأس ليحلو الحديث والسمر، من أجل مولانا الملك.
فمال إلى ارتشاف ثغر القدح، وبعده أتي عليه كله، وراح يطلب المزيد، والوزير يملأ وهو يشرب، ويستلذ ويطرب، حتى غاب عن صوابه ولم يميز خطأه من صوابه،
وهنا أخذ الوزير يمهّد لضربته القاضية، فسأله:
- يا معروف إني متعجبٌ والله من أين وصلت إليك هذه الجواهر التي لا يوجد مثلها عند الملوك الأكاسرة؟
ثم أضاف في تملّق واضح ليوقعه تماما:
- ما رأينا طوال عمرنا تاجراً حاز أموالاً كثيرة مثلك ولا أكرم منك، فإن فعالك أفعال ملوك وليست أفعال تجار، فبالله عليك أن تخبرني حتى أعرف قدرك ومقامك.
وراح يلقي عليه كلمات المديح والتفخيم في مكر خفي وخداع عميق، ومعروف غائب عن الوجود والعقل. وأخيرا خرّ مستسلما، وقال:
- أنا لم أكن تاجراً ولا من أولاد الملوك. ولكني "صرماتي" أصلح الأحذية القديمة، وهربت من زوجتي فتحية العرّة، وراح يحكي حكايته بالتفصيل حتى التقي بأبي السعادات وإهدائه الخاتم المسحور الموروث عن باني إرم ذات العماد، وهو الخاتم الذي يحقق له كل ما يطلب ويريد!
دهش الملك وهو يسمع ما تفوه به معروف، والوزير سعيد بما باح به، وآمن بصواب رأيه الذي عرضه على الملك ولم يصدقه، بل وبخه عليه، واتهمه بالحقد والضغينة، ولكن الوزير الثعلب واصل استنطاق معروف ليعرف المزيد، ويحقق ما يريد، فقال له:
- يا سيدي معروف، بالله عليك أود أن أشاهد هذا الخاتم المسحور.
وفي استسلام الغائب عن الدنيا، خلع الخاتم، وقال له:
- خذ. تفرّج عليه.
فأخذه الوزير وقلبه بين يديه وسأله:
- هل إذا دعكته يحضر الخادم؟
قال:
- نعم. ادعكه يحضر لك وشاهد منظره!
يتبع...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق