حلب.. تحت العنب أرواح..!
أحمد بن راشد بن سعيّد
المجازر في حلب ليست مفاجئة. إنها حلقة طبيعية من مسلسل شيطنة الثورة السورية واختطافها ووضعها في إطار «الحرب على الإرهاب»، ثم اللطم والولولة من البعبع المصطنع، لصرف الأنظار عن نقاء الثورة، ولإطالة أمد نزيفها.
فظيع ما يجري في الشهباء، رغم أن مدناً وقرى سورية شهدت أحداثاً لا تقل فظاعة: الحولة، التريمسة، القبير، حلفايا، تلبيسة، وغيرها. لكن المصائب يرقّق بعضها بعضاً، وتلك فظاعة أخرى؛ أن نتوقع مقتلة هذا اليوم، لأن مقتلة حصلت بالأمس. إنها الحرب وقودها الناس والذكرى والتاريخ أيضاً.
تعوّدنا سماع الأخبار الحزينة. ربما تعوّد الضحايا أيضاً، أو توقعوا مصيراً مشابهاً لضحايا من بني وطنهم سبقوهم إلى الموت بين الحطام والركام.
تكرار المذابح يجعلك «تألف» القتل وأنهار الدم.
كم مرة رأينا بحيرات الدماء تجري بالفعل في سوريا؟ رأيتها مرات في دوما وهي تمتزج بالمطر، ورأيتها في حلب ولكن من دون مطر. هذا التكرار يصيب الإحساس بالتبلّد.
هل شاهدت السوريّ مراراً وهو يموت تحت ركام منزله، أو غريقاً في المتوسط، أو معذّباً تعذيباً لا يحتمله بشر في السجون.
لا عليك. نم مطمئناً. افتح التلفزيون أو فيسبوك. طالع آخر الصور، كالطفلة الحلبية التي مزّقت صواريخ بوتِن وبشار جسدها، فما ترى لها رأساً ولا كتفين؛ كالطفل الذي يبكي بحرقة أخاه، وانتشرت صورته في الوسائط الاجتماعية، كوجوه الناجين من المجزرة وكأنهم في حفلة هالَوِين تنكرية، أو في فيلم «فامبايَر» هاليوودي.
يا الله! تأوّه قليلاً. لا عليك. ربما خففت الزفرة لوعة المكلوم.
هل أوجعك ما رأيت؟ شارك صديقك عبر واتساب صورة من القصف وانقر بأصابعك: «حسبنا الله».ربما سرّى عنك إفضاءُ المكنون.
هل ما زال الضيق يجثم على صدرك؟ لا بأس إذن بالبكاء، فهو يريح الأعصاب، وقد قيل إن الدموع مفيدة لصحّة العين.
هل استنفدت كل السبل، ومازلت مسكوناً بالأسى؟ إذن أعرض عن الأخبار بالكليّة. «شو بدّك بوجع الرأس»؟ «ليش عم بتسم بدنك بهيك أخبار»؟ بوسعك أن تقول لنفسك، وهي بالمناسبة نصيحة أمي لي، «ماذا بإمكاني أن أفعل غير الدعاء»؟ ادع الله إذن، واهنأ بعيشك، فلا يكلّف الله نفساً إلا وسعها.
هكذا تجري عملية «إقناع الذات» وفقاً لنظرية «التنافر/التوافق الإدراكي» التي تشير إلى أن الأشخاص الذين تواجههم مواقف لا تنسجم مع ميولهم أو مشاعرهم، يحدث لهم «تنافر إدراكي» أو انزعاج يُفقدهم التوازن، الأمر الذي يدفعهم إلى البحث عن تبريرات تزيح هذا الشعور بدلاً من السعي إلى تغيير الواقع نفسه، وهذه التبريرات تعيدهم بالفعل إلى حال من «التوازن» أو «التوافق الإدراكي».
أخبار المآسي تدفعنا إلى البحث عن تبريرات للعجز والخذلان سرعان ما نجدها في عبارات مثل: «العين بصيرة، واليد قصيرة»، «الكثرة تغلب الشجاعة»، أو حتى في آيات قرآنية نسيء تفسيرها مثل: «ولو شاء ربك ما فعلوه، فذرهم وما يفترون».
في غضون ذلك، تنسحق حلب بأحقاد الغزاة الباطنيين والصليبيين. تطحن القذائف بيوتها السكنية الملأى بالأهل والأحبّة، ومسجدها الأموي الكبير، وقلعتها التاريخية، وأسواقها المسقوفة التي يُقال إنها أطول الأسواق القديمة في العالم.
تموت أمام أعيننا واحدة من أقدم مدن الشرق، وأقدم المدن المأهولة في التاريخ التي تعاقبت عليها حضارات عدّة من الآرامية والأشورية إلى البيزنطية والإسلامية، وكانت ثالث مدينة عثمانية بعد إسطنبول والقاهرة، وضمّتها «اليونسكو» عام 1986 إلى قائمة التراث العالمي.
ماذا بوسعنا أن نفعل نحن الشعوب المكلومة؟
سنحتفل ببيانات الشجب والاستنكار الشحيحة والمصوغة بدبلوماسية، وسنفتّش بين سطورها عن بارقة أمل، وسنغنّي:
«يا رايحين لحلب حبي معاكم راح...يا محمّلين العنب، تحت العنب تفّاح»!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق