الأحد، 23 أكتوبر 2016

هبوط

هبوط


        الجمعة 20 محرم 1438 الموافق 21 أكتوبر 2016        




تشاجر مهاجران، سوري وعراقي، وبعدما فرغوا من سرد المفاخر القريبة قال الأخ السوري:

- يكفينا فخرًا أن آدم نزل فينا وعندنا على جبل الأربعين في أطيب بقعة على الأرض ريحًا وأصحّها هواءً، وأن إبليس اللَّعين نزل عندكم بـالأُبُلَّة.

وأضاف: نحن كنا بداية الوجود الإنساني، ونحن أيضًا نهايته، ففسطاط المسلمين يوم الملحمة بالغُوطة، وهي عقر دار الإسلام والمسلمين.


رد العراقي:


- ألم تعلم أن أول قتل في تاريخ البشر كان في قاسيون؟ وأن إبليس كان موجودًا يلهم قابيل طريقة القتل؟ ولعلك رأيتَ الدم على الحجر أمام المغارة التي تسمونها: مغارة الدم، وتزعمون أنه دم هابيل!


كنت في سيرلانكا ومررنا بجبل، فأشار صاحبي إليه وقال: هذا جبل آدم الذي أهبط عليه من الجنة، وحول الجبل زوار من كافة البلاد والأديان يتراءون ما يظنونه أثر قدم آدم عليه السلام!


روى الحاكم أن آدم عليه السلام مكث في الجنة مقدار ما بين العصر إلى الغروب. «المستدرك» (2/542)، وهذا لا يتعارض مع ما ذكره آخرون من أنه مكث مائة وثلاثين سنة، فلعل المقصود في رواية الحاكم- إن صحَّت- أن ما قضاه في الجنة يعادل ما بين العصر إلى الغروب بالنسبة إلى اليوم الكامل.

أمر الله آدم وحواء بالهبوط إلى الأرض التي خلقها لهم وخلقهم لها بعد أكلهم من الشجرة، وكان خروجهم من الجنة يوم الجمعة، كما في حديث: «خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ: يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ، وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا» (أخرجه مسلم (854) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه).


خروج آدم وحواء عليهما السلام من الجنة هو (خير) كما يوحي به سياق الحديث، والحياة نعمة، والعمر عطاء، وكيفما تحب الحياة تكون لك، ويوم الجمعة الذي خرج فيه آدم إلى الأرض هو يوم عيد للمسلمين!


لم يثبت حديث صحيح يحدِّد مكان هبوط الأبوين:


هل نزل آدم بجزيرة سرنديب من أرض الهند، وهي المعروفة بـسيلان أو سيرلانكا؟ أم على قمة إفرست من جبال الهملايا؟ والتي هي من أعلى القمم في العالم؟ أم بالشام؟ أم بالحجاز بين مكة والطائف؟ أم بالصفا عند المسجد الحرام؟


وهل نزلت حواء معه؟ أم في مكان آخر؟ هل هو جُدَّة؟ وهل التقيا بعرفات أم بالمزدلفة؟


كل ذلك مما لا يقين فيه ولا حجة في ترجيح قول على قول.


ولعلهما مرا بهذه المواضع الثلاثة وتركا فيها أثرًا ما، ولو كان أثرًا لغويًّا يتعلق بالاسم، وقد ذكر ابن بطوطة الرَّحَّالة قصته مع قدم آدم في الرحلة.


أهم من هذا استلهام الدرس: لا تستسلم للخطأ، الخطأ ليس فشلًا، هو التدريب الذي يمنحك الخبرة ويقوِّيك، وبإمكانك أن تكون بعد التصحيح خيرًا منك قبل الخطأ، أخطر ما في الخطأ أن يجعلك يائسًا أو قانطًا أو مستسلمًا.


في كل مرة بإمكانك أن تبدأ من جديد، آدم -عليه السلام- جعل هدفه السعي للرجوع إلى الجنة عبر عمارة الأرض وإصلاحها وفق منهج الله.


البداية الجديدة على الأرض أهَّلته لدرجة أعلى: النبوة.


مرة عبَّر القرآن بـ ﴿اهْبِطَا﴾ [طه: 123]، وهو إيحاء بعلو الجنة وتراجع منزلة الأبوين إثر خروجهم منها، ومرة عبَّر بالخروج ﴿كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ﴾ [الأعراف: 27]، ومرة عبَّر بـ ﴿اهْبِطُوا﴾ [البقرة: 36] بصيغة الجمع خطابًا للأبوين وإبليس، ولذا قال عقبه: ﴿بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ [البقرة: 36].

الهبوط كان في خطاب الله المباشر لآدم وحواء، والإخراج جاء في سياق الحديث عن فعل الشيطان، ومع تحذير القرآن المتكرِّر من كيد الشيطان، إلا أنه يُوحي بعدم المبالغة في تضخيم دوره: ﴿إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾ [النساء: 76].


وفي السنة لا تقل: تعس الشيطان؛ فإنك إذا قلت ذلك تعاظم حتى يكون مثل البيت، ويقول: بقوتي صرعته. ولكن قل: بسم الله، فإنك إذا قلت ذلك تصاغر حتى يكون مثل الذباب.


وقال أبو هريرة رضي الله عنه: «لَا تَسُبُّوا الشَّيْطَانَ، وَتَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ شَرِّهِ» أخرجه ابن معين في «الجزء الثاني من حديثه» (29). ورُوي مرفوعًا، ورجَّح الدارقطني وقفه. ينظر: «علل الدارقطني» (10/146)، و«السلسلة الصحيحة» (2422).


المعنى: عندما تتعرَّض لمشكلة أو تعثر فلا تسبَّه، لأنك بهذا تمنحه دورًا لا يستحقه، وعليك أن تسائل نفسك وتعمل وفق الأسباب.


هبوطه علَّمه قيمة الجنة، وبضدها تتميَّز الأشياء، والضد يظهر حسنه الضد.

ثم دروس نتعلمها من أضدادها، لم يخلق الإنسان ليكون صوابًا محضًا.

إقدام الأبوين على الأكلة الممنوعة، وإن كان منهيًّا، إلا أنه تعبير عن الجرأة، وهي صفة ضرورية لمَن خُلقوا للأرض، لم يكن معهما (كتالوج)، وكان أمامهما ألغاز كثيرة، كيف يلبسون؟ كيف يطبخون؟ كيف يوقدون النار؟ أين ينامون؟ كيف يتجنبون المخاطر والوحوش؟... حتى الكعبة التي وُضعت لهم ولذريتهم كانوا مهمومين بمعرفة الطريق إليها، فهي بيت الله في الأرض.


كان معهم التفكير والتعلم والبحث والمحاولة.

كانوا معتدلين في النظر إلى الأشياء، لم يبالغوا في تضخيم المخاوف: الخطر، الموت، المعصية، التجارب الفاشلة، الصراع، الفجيعة، مشكلات الأسرة...


لم يكن لديهم كمٌّ هائل من الرقباء والأوصياء، كان الله وحده هو الرقيب عليهم، كانوا يعبدونه وكأنهم يرونه، ولا غرابة فهم حديثو عهد بالجنة!

اليوم يفكِّر الإنسان بصوابية الفكرة أو خطئها مرة، ويفكِّر بموقف الناس منها وقبولها أو رفضها مرتين، وكم من الأفكار الصائبة وُئدت بضغوط البيئة.

هل ثَمَّ أحد يستطيع أن يقول إنه يتكلم بما يراه، وما يراه فحسب، دون أن يضع وزنًا واعتبارًا لكلام الناس؟

صحيح: «حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ» (أخرجه البخاري (127) من قول عليٍّ رضي الله عنه)، وليس مطلوبًا ولا ممكنًا تجاهل مَن حولك، ولكن لو أخذ هذا الأثر على إطلاقه لكان معناه أَلَّا نقدِّم للناس أي جديد خلاف ما ألفوا وتعلَّموا، وإنما رسالة الأنبياء والمصلحين والمجدِّدين تقوم على تغيير الواقع ومواجهة الناس بغير ما ألفوا، ولكن بحكمة وبصيرة وصبر وتدرج.

عبر الشبكات أصبحت الفكرة متاحة لكل أحد، سريعة الانتقال، يتناولها العدو والصديق والبعيد والقريب، ويوظِّفها أُناس ضدك ويوظفها آخرون لمصالحهم، ولذا أصبَحْتُ اليوم حذرًا أكثر من اللازم فيما أقدِّمه من أفكار.


يحتاج الإنسان إلى محفِّز لتكرار المحاولة والنزوع عن الخطأ والصبر على الطريق، التوبة التي وسعت آدم وزوجه رحمة إلهية قائمة وبابها واسع مفتوح آناء الليل وأطراف النهار حتى تغرغر الروح أو تطلع الشمس من مغربها.


أحلام الجنة الجميلة ظلت حية في خيالهما ورقيبًا لا يغفل وحافزًا لا يهدأ للعودة إلى الوطن الأول.

الجمعة 20 محرم 1438 الموافق 21 أكتوبر 2016

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق