"السيرة الذاتية" طفولة قلب
9- في ضيافة الخليل!
السبت 3 شوال 1426
د. سلمان بن فهد العودة
ليس على طريق النجاح إشارات تحدد السرعة القصوى، وليس ثمة مستحيل طالما صدق العزم وتم التوكل .
بيد أن طريق الفشل هو الآخر لا يتطلب أكثر من خور الإرادة، أو فقدان التخطيط .
هنا صبي شد شراعه ليبحر في عالم الشعر حينما يكون البحر متقارباً، أو طويلاً، أو بسيطاً، لا حينما يكون أبيضاً متوسطاً أو أحمراً أو ميتا!، ويحاول الغوص في أعماقه، قراءة وتذوقًا، ثم يترقى ترديدًا وحفظًا، وينتهي به المطاف نظمًا!
وهو لا يستطيع أن يقول: بأنه شاعر متميز، بل شعره وسط، كما قيل عن شعر ابن حزم، أو شعر الفقهاء، أو فوقه بقليل!
والشعر صعب وطويل سلّمه، كما قيل!
في الحياة فرص كثيرة، منها الذاكرة الغضة المتوقدة في سن الطفولة والشباب، ومن الفرص أن يوفق الفتى بمن يشجعه على توظيفها، وتوظيفها فيما ينفع.
خلال سنوات المعهد العلمي الست كانت القراءة الأدبية شوقه ومتعته وإبحاره، تتفرع وتتوحد، وتحيطه بخيارات كثيرة، فالفائدة، والمتعة، والمعرفة، بعض فيضها.
والشعر يحاكي وجدانه، ويلهب عاطفته، لقد كان يراه واحةً يستظل بفيئها، ويجني أطايب ثمرها، فيقرؤه، ويتغنى به، ويحفظه، ويردده في سفره وسمره، ويستذكره بين الفينة والفينة كلما استطعمه الأصدقاء، أو استحلاه الأهل، فهو رفيقه في صخب الاجتماع، وهدآت الوحدة.
تعرف على الشعر القديم، وحفظ الكثير منه.
قرأ الشعر الجاهلي، والإسلامي، وحفظ للمشاهير من أعيان قصائدهم، فالمعلقات، وشعر حسان، والمتنبي، وشعراء الأندلس، وعيون الشعر المختارة كـالأصمعيات،والمفضليات و اليتيمة، وقصيدة ابن زريق، والجرجاني، ومالك بن الريب.
وطالع المجموعات الشعرية، راقيها وضعيفها، من ديوان الحماسة إلى جواهر الأدب، وما بين ذلك كمختارات من أدب العرب لأبي الحسن الندوي.
وتعرف على الشعر الحديث والمعاصر، وقرأ لأعلامه أيًا كانت مشاربهم وأغراضهم.
محمود غنيم، ومحمود حسن إسماعيل، وهاشم الرفاعي... من مصر، ولقد أغراه بهم وبأمثالهم الروح الإسلامية الحية، فلا غرو أن حفظ عشرات القصائد لهم، وزين بها حديثه ودرسه، وحفظ أبيانًا للرافعي ولم يعجبه نَفَسُه.
عمر أبو ريشة، وشفيق جبري، وعصام العطار... من الشام، ولا يزال يتغنى بالقصائد الطوال، والملاحم من شعرهم فقصيدة مثل:
أمتي هل لك بين الأمم...منبر للسيف أو للقلم
سارت مسير الشمس، وحاكاها مآت الشعراء، ولعله أحد من تقمصوا روحها حين يقول:
سبح الحق بتيار الدم...واشتوى باللهب المضطرم
زمزم فينا ولكن أين من...يقنع الدنيا بجدوى زمزم؟ ...
واغترابيات العطار تستدر عصي الدمع:
طال اغترابي وما بيني بمقتضب...والدهر قد جد في حربي وفي طلبي
وتوأمها الأخرى:
تطاول ليلي والسهاد مرافقي...وما أطول الليل البهيم لآرق...
تناءت به دار وأوحش منزل...وظلله هم مديد السرادق
وألقته أحداث على غارب النوى...فيا ليت شعري.. هل معاد لتائق؟
وهو لا يذيع سرًا إن قال إنه قرأ نزار قباني في دواوينه المتاحة، وأسر بشعره الجاد وحفظه ووظفه، من مثل شعر النكبة، وبعض التجليات الوطنية.
*****
فيا دمشق لماذا نبدأ العتبا؟
حبيبتي أنت فاستلقي كغانية...على ذراعي ولا تستوضحي السببا!
أنت النساء جميعًا ما من امرأة...أحببت بعدك إلا خلتها كذبًا
وليد الأعظمي، ومعروف الرصافي والجواهري، وأحمد الصافي النجفي، وبدر شاكر السياب من العراق.
وأتقن حروف السياب في معاناته مع المرض، وتذوقها كأحسن ما يكون الشعر، وللصافي يتذكر:
محمد هل لهذا جئت تسعى؟ وهل لك ينتمي همل مشاع؟
أ إسلام وتغلبهم يهود؟ وآساد وتقهرهم ضباع؟
أ يشغلهم عن الجلى نزاع؟ وهذا نزع موت لا نزاع
شرعت لهم طريق المجد لكن أضاعوا مجدك السامي فضاعوا
محمد إقبال قامة فكرية وأدبية سامقة، ولقد وجده وأحبه في (شكوى) و(جواب شكوى) ترجمها للعربية للأستاذ الصاوي شعلان، وحفظ مآت الأبيات منها، وعلى ضفافها قرأ (روائع إقبال) لأبي الحسن الندوي، وهو ترجمة نثرية لشاعر الهند العظيم.
ومن كتاب (منهج الفن الإسلامي) لمحمد قطب تعرف على عمر بهاء الدين الأميري وقرأ دواوينه وحفظ له قصائد.
قرأ لكثيرين من شعراء المملكة واليمن، وحفظ ما راق له من ذلك.
وفي تلك السن يكون الإعجاب بعاطفة القصيدة، قبل بنائها الفني، فلا غرابة أن يحفظ ليوسف العظم، أو وليد الأعظمي، أو قصيدة لشاعر مغمور لتوقد عاطفتها.
من جميل ما يتذكره للسنوسي:
لي وإنْ كنتُ كقطرِ الطَّلِّ صَافِي...قصفةُ الرعدِ وإعصارُ السوافي
أتحاشى الشَّر جهدي فإذا ما...لجَّ في عسفي تحداه اعتسافي
خــلقٌ وَرَّثَنِيِــهِ أحمد..فجرى ملءَ دِمائي وشِغافي
لم يغيره علـى طولِ المدى...بطشُ جبارٍ ولا كيدُ ضعافِ
ولمحمد الشبل:
يا عيد أنت على المدى أحدوثة النفس العليلة
وسعادة القلب الذي لم يلق في الدنيا سبيله
لكنها الأيام....
ولا غرو أن تجد في فوضى ذاكرته، قصائد ومقطوعات لمشاهير شعراء العربية كشوقي وحافظ، إلى البردوني والشابي، وإلى جوارها قصائد صادفها منشورة في جريدة، أومجلة أو ديوان لأحد الشعراء الناشئين، أو المدرسين الذين تنشر لهم الصحف وقتها دون تدقيق، من النظم أو شعر المناسبات.
لقد أحس بأن الشعر شلال يتدفق من ينابيع روحه، وتتهادى تفعيلاته على شفتيه، بين إيداع المعاني وجمال الصور.
وهو يجد أن محفوظه القديم في حصن من غائلة النسيان والفوات، مهما طال الهجر، بينما يعاني مع محفوظاته الجديدة، على ندرتها، والتي تنازعه الرحيل، وتتمنع منه، في دلال وغنج، وحين يتلوها يشعر أنه يسير في طريق دحض حافل بالمفاجآت.
سلام على أيام الصبا، حين كانت تلك القصائد كغزلان جميلة، سريعة الإلف، بعيدة النفار، طيعة مواتية، قانعة بالقليل من الجهد، راضية بالقليل من الوقت!
آه، لا يزال يذكر العديد من القصائد لشاعر فلسطيني أعجب بصياغته وديباجته وغموضه الرمزي من خلال ما كان ينشر له في مجلة (الشهاب)، إنه د. عبد الرحمن بارود، والذي كان يحتفظ بقصائده في مجموع خاص، ويخزن بعضها في الذاكرة، ويأسف أن يكون مصير هذا المجموع الأثير إلى نفسه الضياع (في ظروف خاصة!)، ويعجب أنه حين التقى الشاعر نفسه بعد سنين طويلة فوجئ بأن الشاعر قد نسي بعض بناته، وأن ديوانه الأصل ضاع هو الآخر منه (في ظروف خاصة!)، وبقي ما استعصى على الضياع من عصارة الذاكرة.
أبطئي والسير يا بقايا السحاب...صوحت أرضنا من الإجداب
والظما في عيوننا هائل قاسٍ...وصوت الفضاء سأمان كاب
يا بقايا السحاب... لا وابلاً نبغى...ولكن شيئًا من التسكاب
وإذا ما مررت من ربعنا يومًا...فحيّ منازل الأحباب
ثم يصدح بترنم حزين:
بو دادي لديك.. هون عليك الأمر...لابد من زوال المصاب
سوف يصفو لك الزمان...وتأتيك ضعون الأحبة الغياب
وليالي الأحزان ترحل...فالأحزان مثل المسافر الجواب
ويظل الشعر حادي الركب فهو كالحزن....، وأما الإنسان فهو المسافر الجوّاب! ؛ يرقص لجميل الشعر كما ترقص الإبل للحداء غير أن الإبل لا تسمع إلا دعاءً ونداء، والإنسان يسمع أدباً راقياً، وقيمة عالية، ومبدءاً ساميا
ولا يزال في جعبة الخليل ما يبل الغليل..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق