وافدٌ جديد على الصف الثاني بمدرسة "الحويزة" الابتدائية، التي تقع في مبنى مستأجر وسط النخيل أسفل الوادي في منطقة تسمى : "البوطة" وتشتهر بأنها زراعية.
لا تختلف كثيراً عن مدرسته الأولى، سوى أنها أوسع فناءً، وأكثر فصولاً.
وافد جديد مفعم بالحيوية، التي لم تغادر إطاره الجسدي, يلفه الحياء رغماً عنه حين يجد نفسه في مجموعة جديدة من التلاميذ, إنهم أبناء المدينة, وهو ابن القرية, أو ما يسمونه بـ "الخَبّ"!
وما أدراك ما المدينة في قلب هذا الصبي؟
إن العالم كله والمتعة بحذافيرها تكمن في تلك البقعة من الأرض!
ومع ذلك؛ فهو واثق بقدرته الذاتية, أو ما يسميه الكبار بـ"الحكمة", ولأن تكون واثقاً خير من أن تصبح نادماً.
فلا بأس أن يظل وحيداً في فسحته لفترة قصيرة, ولو شعر بعارض من الخوف؛ لأن ذلك مقدمة للاحتكاك الهادئ والتعارف الرشيد.
أول تعارف كان مع زميله المجاور الذي يتقاسم معه الطاولة ذاتها "م. العايد".
ثم يشده الناجحون فيتحرك قلبه تجاه ذاك الطالب المتفوق (ع. هـ) الذي كان يطمع أن يكون رفيق عمره, ويشعر معه بانسجام شديد, لكن يبدو أنه من طرف واحد؛ وأن الآخر لا يشعر بالإحساس ذاته, ولقد ظل يسأل عنه حتى بعد الجامعة!
لا زال يذكر صوته الطفولي وصورته وقسماته حين طلب إليه أستاذ الأناشيد أن يتغنى بمقطوعة من المقرر, وقام الطفل بخفّة وحيوية يجوب الفصل، ويترنم بالأبيات بصوته العذب، وصاحبنا يغبطه على هذه الحظوة وهذه الشجاعة!
احتراف اللباقة، والاحتكاك بجيران الصف والحي جعله يغوص في العلاقات الاجتماعية, ويذوب في تيارها, حتى لم يعد يسمع صوت الحياة وهي تهمس في أذنيه بأن للعلاقات باباً فابحث عنه!
فعادة الوافدين الجدد ألا يفرقوا بين أبواب البيوت وظهورها.
لقد وجد الباب بفطرته دون كبير عناء، ودخل إلى هناك.
هو مشغوف بالمذاكرة والقراءة, يريد أن يقدم نفسه تلميذاً متفوقاً, ويزداد بصيرة بحاضره, ومن الحاضر يتطلع إلى المستقبل, وقد يحرم نفسه من بعض مرح الطفولة ولعب الصغار, مما ولّد عنده طبيعة تنافسية تدفعه للجري وراء تحقيق المزيد، وعدم الاكتفاء بما هو متحقق.
ومن يدري؟ فقد يكون ذلك التلميذ المتفوق الهب حماسه للتحدي
وما قضى أحد منا لبانته ولا انتهى أرب إلا إلى أرب
لكل مجهود ثمرته, فها هو يتسلم شهادته الشهرية, ويحملها بحبور, ويعرضها باغتباط لمن يلاقيه, ولسوء حظه تأثر طرفها تأثراً غير ملحوظ, وكان هذا أشبه بكارثة عندما قرأ أسفلها: أن أي كشط أو تغيير في الشهادة يلغيها.
هل سيذهب هذا التهتك الصغير في زاوية الشهادة بثمرة الجهد الطويل؟
لم يجرؤ على تقديمها للأستاذ, وتبرم من جوه الداخلي حيال بقائها معه خلافاً للمفترض.
واستمر يحملها معه ما بين المدرسة والبيت كمن يحمل جثماناً في حقيبته لا يهتدي للخلاص منه!
وفي النهاية قرر أنه لابد مما ليس منه بد, لقد استجمع شجاعته قبل نهاية السنة وقال لنفسه:
قل الحقيقة دائماً ثم وَلّ هارباً!
قدمها للأستاذ بيد مرتعشة وقلب وَجِلٍِ, مع أنه وطن ذاته على احتمال الصدمة التي ستكون مهولة بالطبع, نظر إليها الأستاذ ثم حدّق في وجهه, واكتفى بتوبيخ عابر على تأخير الشهادة, ولم تلحظ عينه التأثر في الشهادة, ولا التأثر على وجه الصبي الساذج الذي ظن أن الدنيا ستقف عند ذلك الحدث!
وانصرف الطفل ولسان حاله يقول: هانت!
إن لكل منا منطقة غامضة في شخصيته، عندما يتفحصها يكتشف بعض خفاياها، ويظل بعضها عصياً عليه, فهذا التلميذ يحار في تفسير ما يتفاعل داخل نفسه.
أستاذ العلوم يختاره، ويمدده أمام زملائه، ليجري عليه تجربة عملية للتنفس الصناعي, شعر حينها بحرج شديد, وأحس بأن عيون الصغار تأكله, وصور له ارتباكه أن الشفاه تَفْتَرُّ ضاحكة من مأزقه, هل تصبب عرقه؟
ربما, لكنه قرر بحزم دفع تلك المشاعر وعدم الاستسلام لسيطرتها, وجدد ثقته بنفسه, وكما يقول الإنجليز: ابدأ بمساعدة نفسك, ومن ثم يساعدك الله".
وأبلغ منه قول ربنا سبحانه في الحديث القدسي (من تقرب إليّ شبراً تقربت إليه ذراعاً, ومن تقرب إليّ ذراعاً تقربت إليه باعاً).
كان متميزاً في المواد الدينية, وتلك ثمرة الأيام الخوالي في القرية ومسجدها وبركة جلسات المنزل حين يقرأ بعد صلاة المغرب على والده شيئاً من الوعظ.
وقد علاه الحبور عندما جاء المدير ليسد غياب أستاذ القرآن، وقرأ لهم سورة الحاقة، وسأل عن مفرداتها مما هو خارج الدرس، فكان يجيب ويحظى بإشادة المدير الذي سأله عن اسمه .. ويا لها من كرامة!
تلميذ الصفوف الأولى أصبح طالباً في الصف الرابع، وهنا داخله شعور باختلاف المرحلة عن سابقها، لقد انضم إلى كتبه مقرر التجويد ومقرر الجغرافيا الذي يمتلئ غرابة في عنوانه قبل فحواه، وكأنه لغة مختلفة، وإذا كانت الأرواح جنوداً مجندة، فإنه لم يكتب له الانسجام مع هذا الدرس الذي ظل عصياً عليه.
المسابقة المدرسية تخطف اهتمامه، ويشارك في فريق المدرسة مقابل (المدرسة الفيصلية)...
والسؤال الموجه لهم عن تسمية أفريقيا بالقارة السوداء ؟
كان الأستاذ المرافق يمسح وجهه وكأنه يلهمهم الجواب، ولكن المحاولة باءت بالفشل، فالصغار على البراءة لا يفهمون خائنات الأيدي!
الإذاعة والنشاط المدرسي فرصة للتدريب وإسماع الآخرين صوتك، فلتحاول .
ها هي قصة مؤثرة لشاب قتل أمه وسقطت مضرجة في بركة من دمها النازف فيعجم لسانها، ويتكلم قلبها ويقول للولد الذي هم بالانتحار: ها يا بني لقد قتلت قلبي الأول، فلا تقتل قلبي الثاني.
كان يبكي حين يتخيل الواقعة ويردد مع نظم القصة:
أغرى امرؤ يوماً غلاماً جاهلاً عن أمّه كيما ينال به الوطر
قال ائتني بفـؤاد أمك يا فتـى ولك الجواهـر والدراهـم والدرر
فأتى فأغرز خنجراً في قلبهـا والقلب أخرجـه وعاد على الأثر
لكنه من فـرط سرعته هوى فتدحرج القـلب المعفّـر بالأثـر
ناداه قلبُ الأم وهـو معفّـر ولدي حبيبي هل أصابك من ضرر؟
واستل خنجره ليطعن قلبه طعناً فيبقى عبرة لمن اعتبر
ناداه قلب الأم كف يداً ولا تطعن فؤادي مرتين على الأثر
ضاعت ورقة المشاركة لدى الأستاذ في الزحام والأستاذ ينهر الطفل ويطالبه لتقديم ما لديه فينصرف تعلوه الكآبة، ويلفه الحزن.
وإذا كان للجدران آذان، فإن لها لساناً ناطقاً في تلك المدرسة حيث يقف الصبي أمام اللوحات الحائطية الجميلة، والصحف المنقوشة بخط أخّاذ وهي تشيد بإنجازات المدرسة... ! وكأنها صحفنا السيارة اليوم.
ولا يلهيه عن ذلك إلا لحظات للمقصف المدرسي وجلسة الشاي، ثم صوت الصافرة تنادي الطلاب إلى مقاعدهم.
هو طالب في الصف الخامس يتجول في الحراج ( المزاد )، فيجد الكتب التي تشده وتغريه...
هذا ( رياض الصالحين ) الذي ماكس حتى اشترى منه نسخة متآكلة، ولكنها سليمة.
وهذا كتاب ( الكبائر ) المنسوب للإمام الذهبي والذي شعر برعب حين مطالعته.
وهذا كتيب صغير اسمه ( الإسراء والمعراج لابن عباس ) وهو نسخة خيالية لا تمت للحقيقة والعلم بصلة، ولكنه قرأه بنهم، وما أن فرغ من قراءته حتى أحس بأنه قد التهم وجبة مسمومة أنّى له أن يتخلص من آثارها.
لقد صنعت له وسواساً في تلك السن المبكرة، حيث صورت له ملائكة في السماء نصف أجسادهم من النار والنصف الآخر من الثلج، فلا النار تذيب الثلج، ولا الثلج يطفئ النار، وصَعُبَ على عقله أن يستوعب هذه الصورة الغريبة، كما عزّ على ذاكرته نسيانها، وهو أمام خبر ديني ظنه صادقاً، ولم يخطر في باله أن مثل هذه الكتب تملؤها الروايات المكذوبة التي لا سند لها.
ولا يزال الكثيرون يقرؤون كما قرأ ويستسلمون للأساطير وتصنع لهم الوساوس الأبدية دون مرشد أو منقذ!
ظل مشدود الأعصاب حتى امتد الأمر إلى وضوئه وصلاته، وحاول البحث عن مخرج فلجأ للأوراد، واشترى كتاباً لأذكار الصباح والمساء، وصار يقرؤه لساعة أو تزيد ويستجمع طاقته وإرادته حتى تخلص من آثار تلك الوجبة المسمومة.
وصارت تلك الأذكار عادة لا يخلفها تحت أي ظرف، ولكنها تطول أو تقصر حسب الحال.
وإذا كانت القدوة الحسنة خيراً من العظة، فلقد اتصل الصبي بأساتذته عاطفياً، وأحبهم بوعي، واقترب منهم بشغف، وقبس من معارفهم، ولا زال يذكر مدرس الرياضيات الذي كانوا يعتبرونه رمز التفاني والإخلاص، ويتحملون ضربات (المِسْطعة) في صباح الشتاء على راحاتهم الطرية؛ لأنها ممزوجة بالانتماء لهذا الأستاذ، وتكفي فيه شهادة والد الفتى الذي يقول: (لولا أنه حليق اللحية لكان شيئاً آخر !).
في نهاية الشوط ينجح من السادسة الابتدائية بتفوق وتبدو عليه علامات الفرح... مما يبعث لدى الأهل تساؤلاً عن السر.
لقد ساعد أحد زملائه المعوزين بمعلومة وقعت في أذن المراقب الذي نهره ووبخه، ومن ثم خشي الفتى أن يكون سجلها عليه وألغى امتحانه.
أم هو طبع الإنسان مهما تكن مرحلته العمرية، ليقول هو بعد ذلك.
في تلك الإجازة مات زميله ( ح . ث ) بالزائدة الدودية، وخلف له حزناً وهماً وخوفاً، حتى كان يتساءل عن أوان الرحيل!
وتداعت إلى ذهنه خيالات المرض التي تحكيها الأم عن أولاد الجيران والقرابة، وكيف ماتوا ؟ وكيف أصيبوا ؟
وها هو يرى في منامه الرؤيا بعينها التي أخبرته أمه أنها علامة على قرب الأجل!
لكنه كلما أحس بالضيق لجأ إلى الذكر والمناجاة واستشعر رحمة الله تحوطه وتحميه.
وهاهو بعد الرؤيا بعقود يشعر بغرابة الرحلة وتجاوز حالات عدة ظن أنها الفراق!
وهو لا يزداد إلا استمتاعاً بالحياة وتطلعاً إلى جمالها!
وهكذا ودّع خمس سنوات من عمره في مدرسة كان اسمها (الحويزّة ) حيث أخذت الاسم بعفوية من البيئة التي تحيط بها.
ثم غادرت مبناها الأول إلى مبنى جديد، واختير لها الاسم الجديد (الأندلس ) حيث دخلها بعد طالباً في المراكز الصيفية، أو مستمعاً إلى محاضرات الشيخ الشهير (صالح بن إبراهيم البليهي) رحمه الله.
أياً كان الاسم تظل ذكريات الطفولة جميلة ببراءتها وصدقها، عذبة بآلامها وهمومها، وكأننا نعوض عن فقدانها باحتضان الصغار وقراءة الطيبة في عيونهم!
جادك الغيث إذا الغيث همى يا زمان الوصل بالأندلس
لم يكن وصلك إلا حلماً في الكرى أو خلسة المختلس
تبصر الورد غيوراً برما يكتسي من غيظه ما يكتسي
وترى الآس لبيباً فهما يسرق السمع بأذني فرس
لا عج في أضلعي قد أضرما فهي نار في هشيم اليبس
"السيرة الذاتية"
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق