الأربعاء، 22 مايو 2019

4- الحـبيب الأول

"السيرة الذاتية"  طفولة قلب


4- الحـبيب الأول


الثلاثاء 2 ربيع الثاني 1426

 الموافق 10 مايو 200


د. سلمان بن فهد العودة
الجو صائف, والرذاذ الخفيف يزيد روعة السحر جمالاً، العينان الصغيرتان لم تستغرقا في النوم هذه الليلة كالمعتاد، والمخيّلة الطفولية تعتصر زوايا النفس، وتحفز ذاكرة حديثة العهد لترسم أمانيها الحلوة، كشاشة عرض معلقة في سقف الصُفّة، وهي تحاول بخبرتها المحدودة أن تستقرئ أحداث هذا اليوم.
الأذن المصغية باهتمام تعمل كلاقط حساس، تسمع صوت المؤذن ينادي لصلاة الفجر؛ ليصب في عمق النفس إيماناً متجدداً، يتغلب على الرغبة ( الصلاة خير من النوم ).
حضور نفسي مكثف في انتظار اليوم الأول في مدرسة القرية، واليدان تتحسسان كيساً من القماش بات تلك الليلة إلى جوار الصبي في فراشه البسيط.
حان الوقت ليتسلّم مفاتيح الإثارة، وليشاهد بعينيه الأحداث التي ينقلها أخواه عن المدرسة وشخصياتها ونظامها...
اليوم تبدأ مسيرة الصحو المبكر، والدعوات الحانية، وقبلات التوديع...
اليوم سوف يقعد على ( كرسي ) الدراسة، وسيكون أمامه ( ماصة )، يشاركه فيها ثلاثة من نظرائه كما وصف له إخوته، وها هو الثوب الجديد المعد لهذه المناسبة، والطاقية المزركشة التي تضفي على المناسبة بعداً جديداً.
هرول إلى باب الغرفة الذي لم يغلق لعطب ألم به، وكانت الأم قادمة لإيقاظهم، فاصطدمت بصغيرها، وتعجبت من استيقاظه المبكر... كيف لو علمت أنه لم ينم إلا قليلا!
قد لا يدرك الأبوان قدرات طفلهما الجسمية والعقلية والانفعالية.
إنه يحمل الكثير من الدوافع، والاستعدادات الفطرية للمعرفة.
وقد لا يحسان بحركة النمو المتسارعة بانسجام، كذبذبات في متوالية بديعة منتظمة.
هذا الصبي، وهو يغالب أشواقه إلى المدرسة، وينسى مؤقتاً مخاوفه، يدلف إلى مرحلة الاستقلال الشخصي، حيث له ولكل طفل سمة وميزة تنطبع في أذهان الآخرين حول شخصيته.
فهذا طفل عبقري ..
وهذا مشاغب..
وهذا هادئ.
وهذا طفل اسفنجة.
وهذا تواق للمعرفة.
عاد الأب من صلاة الفجر، وتحلّقت الأسرة الصغيرة حول موقد النار، الكبار يشربون القهوة، والصغار يشربون الشاي، ولا شيء يسرق من الصبي فرحته، ولسان حاله يقول : ليس من الضروري أن تفهم كل شيء، حتى تكون قادراً على استخدام كل شيء!
يمضي الإخوة الثلاثة إلى مدرسة القرية في تآلف ظاهر، وصباح القرية ليس كصباح المدن، فنسمات الهواء تحرك عسبان النخيل وأغصان الشجر، والطيور تبث ألحانها الجميلة، وخرير المياه في السواقي يجدد معنى الحياة.
وعند باب المدرسة تلاشت الجرأة، وانكمشت الفرحة، وبدأت مرحلة القلق والتوتر والحذر.
أمسك بيد أخيه الأكبر بحركة تلقائية يحتمي به في التجاء ظاهر، وامتصاص للأمان، وتعزيز للثقة بالنفس، الذي كلما ارتفع ارتفع معه الأداء.
وأحس الأخ الأكبر بمسؤوليته وأخلص في القيام بها...
" افعل كل شيء بصورة لائقة ومنظمة "، " خلّك رجل!"
تلك العبارة كانت أقوى وأقصى مساندة لأخيه الصغير.
تتردد الخطوات، وتتعثر الأرجل في الأرض الرملية المحاطة بالعديد من الحجرات الطينية الصغيرة المنتظمة التي تسمى المدرسة!
إنه عالم جديد... طالما كان يرقبه من الخارج دون أن يتمكن من الولوج إليه، وها هو الآن في طريقه إلى أحد تلك الفصول، وسط حشد غير مألوف من أبناء القرية..
لماذا أشعر بالخوف؟ وها قد حانت اللحظة الموعودة.
كلا إنه ليس خوفاً، بل شعور آخر مختلف لا يملك التعبير عنه.
حاول التواصل مع نفسه بإشارات غير ملموسة، وتذكر أن هذا المكان الذي يحتويه الآن طالما احتواه قلبه وخياله... هنا البداية الثانية لتحصيل الزاد المعرفي والروحي.
أحب المدرسة، وأحب معلميه، كما أحب ( مطوّع ) القرية التقي الطيب، وإمام مسجدها الجامع ( عبد الله الناصر البرادي ) الذي صبر على نزق الطفولة، وعلمه كما علم الأطفال الآخرين قصار السور في المسجد، وكان ينفث عليه، ويتمتم بآيات القرآن كلما ألمت بالطفل وعكة.
وحين بكى الصبي من ألم شوكة انكسرت في رجله، ورفض الحضور لدى الشيخ للرقية، اكتفى الشيخ بالقراءة على كسرة من الملح، وأمر الأم أن تفرك بها الموضع حتى ينام، وحين استيقظ وجد الشوكة خارج الجلد!
المطوع له ميزة المساكنة والاتصال العائلي والتأثير التعبدي والوزن الاجتماعي، بينما لأساتذة المدرسة ميزة الحداثة والغربة، والنظام التعليمي الذي كان رمز مسايرة الحياة، وكان هو الطريق إلى المدينة.
لا يعكر صفاء علاقته بمحاضن التعليم سوى شوبٍ من قسوة صارت جزءاً من العملية، ضعفت فيها أساليب الإغراء والجذب والتشجيع، وتضخمت ذراع الضرب والتأديب والتأنيب، وأغفلت مسالك التربية بالرفق واللين والرحمة، وقوّت النصوص الضعيفة، حتى الصغار صاروا يسمعون ( ولا ترفع سوطك عنهم أدباً ) ( علقوا السوط حيث يراه أهل البيت)!
هذه القسوة جزء من التعليم في الأرياف العربية، من الكتاتيب إلى المدارس الرسمية، إلى المجالس التعليمية حيث ( العصا لمن أطاع أو عصا!).
وها هو يمضي سنته الأولى في مدرسة القرية، وهو يتطلع – ضمن الأسرة – إلى مغادرة القرية صوب المدينة حيث الحياة – في نظرهم – أجمل وأوسع، وحيث وعود الأب التي تكررت، وتبرم الطفل بالتأجيل الذي حال بينه وبين أمنية داعبت أحلامه.. أن يرى نفسه من سكان المدينة، وأن يعود إلى القرية يوماً زائراً؛ ليسلم على صبيانها ويتجول في أزقتها!
لقد تكامل بناء البيت الطيني الجديد في المدينة، وبدأ التهيؤ النفسي لدى الكبار، والصبر النافد لدى الصغار.
شهور مضت على السنة الثانية الابتدائية, جرت بعدها النقلة إلى (بريدة) وتحديداً (حي الموطأ)، والمنزل الجديد المبني من طابقين، والجيرة الجديدة، ومدرسة ( الحويزة ) بأساتذتها الفضلاء، الذين صدق عليهم، وعلى من سبقهم حديث الشاعر ( محمود غنيم ) :
حنانيكَ إني قد بُليتُ بصبيةٍ         أروحُ وأغدو كلَ يومٍ عليهمُ
صغارٌ نربيهم بملءِ عقولهم                 ونبنيهمُ .. لكننا نَتَهدمُ
لأوشكُ أن أرتدَّ طفلا؛ لطولِ ما     أمثِّل دَورَ الطفلِ بين يديهمُ
فصولٌ بدأناها، وسوف نعيدُها    دواليْكَ، واللحنُ المكرَّرُ يُسأمُ
فمن كان يرثي قلبُه لمعذب           فأجدَرُ شخصٍ بالرثاءِ المعلمُ
على كتفيه يبلغُ المجدَ غيرُه                فما هو إلا للتّسلّقِ سُلمُ
فهم كما يحب الجاحظ أن يقول : معلمو صبيان، تصابوا حتى تعلمنا، وتصاغروا حتى كبرنا، فكبروا في أعيننا.
ورضي الله عن الإمام الشافعي إذ يقول : الحر من راعى وداد لحظة، أو تمسك بمن أفاده لفظة.
تلك الخطى التي مشاها، وكتبت عليه بين البيت والمدرسة، وإن بدت كليلة، يلحقها التعثر والملال، بيد أنها كانت الانبعاث الأول البدائي نحو الفهم والعلم.
وكان هذا القلب، وكان هذا الحب، للمنزل الأول، مهما نقلت فؤادك من الهوى.

"السيرة الذاتية"  طفولة قلب

1- طفولة قلب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق