السبت، 25 مايو 2019

7- في الطريق إلى النهضة

"السيرة الذاتية"  طفولة قلب


7- في الطريق إلى النهضة


     السبت 22 رجب 1426    
الموافق 27 أغسطس 2005  
د. سلمان بن فهد العودة
أمام المبنى المسلح القديم، الذي افتتح عام 1376هـ, وقف فتى ودّع اثني عشر عاماً من صباه تماماً كهذا المبنى، وخلّف وراءه طفولةً مشبعة بنسمات الحياة اللذيذة, التي لا زالت هبّتها تدبّ في جسده، ولهفة عينيه تسبق خطاه, فها هي الحياة تناديه؛ ليرسم معها دربا يسلكه في المسير والمصير، في موج مرحلة النضج والمراهقة، وبداية اكتساب مهارات التفكير المجرد " القدرة على التفكير في التفكير ", حيث الأولاد يتمتعون بوعي انفعالاتهم، ويصبح بإمكانهم تنظيمها بطريقة أفضل، وليسوا بمنأى عن المثيرات الاجتماعية، وإن كانت العناصر الأساسية للتنشئة الاجتماعية في هذه السن قائمة؛ متمثلة في الأسرة, ومجموعة الزملاء, والأنشطة.
يقدّم الفتى أوراقاً؛ يلتمس بها قبوله في المعهد الذي اكتسب صبغة دينية، يحدوه ميله الفطري لذلك, ورغبة والده من خلفه تدفعه رويداً رويدا.
الكثير يجدون أنفسهم يتصرفون مثل آبائهم؛ لأنهم سبقوا في اكتشاف الحياة، حيث يوجد مسوغ خفي وراء قيام الناس بتنفيذ ما يرونه من الكبار، أو يحسّون أنه يعجبهم.
على قدميه يقطع بضعة كيلومترات إلى المعهد جيئة وذهاباً قبل أن ينتظم في مجموعة نقل نتزاحم على مقاعد الوانيت كأعواد الثقاب.
هذا المعهد الذي ضم نخبة من المعلمين والمربين من مختلف الجنسيات مثل الشيخ صالح البليهي, الذي اختصّ به بعد, وأعجب بلطفه, وطرفته, ودماثة خلقه, وفقهه الفطري، والشيخ صالح السكيتي، والشيخ علي الضالع، والشيخ محمد الراشد..وغيرهم
ومعهم وقبلهم أساتذة ذوو شهرة لم يأخذ عنهم؛ كالشيخ: عبد الرزاق عفيفي، والشيخ عبد القادر شيبة الحمد، والشيخ محمد السبيل.
الأساتذة خليط من الشيوخ والمتقدمين, ممن تلقوا قدراً من العلم في حلقات الدرس في المساجد, وتميزوا بالفطرية والبساطة، ولم يتدربوا على الضبط الإداري والتعليمي؛ بيد أنهم يملكون بعفويتهم وإخلاصهم قدرة غير عادية على التأثير والتربية, ومن الأساتذة المتخرجين من الكليات، ممن هم أكثر تأهيلاً للتدريس والتربية والمتابعة، و(المتعاقدين) وغالبهم من أرض مصر الطيبة، أمثال الأستاذ " علي إسماعيل ", مدرس علم النفس, الذي كان مثالاً في الخلق, وإن لم يكونوا جميعاً بالمستوى ذاته.
دخل المعهد قبل أن يدرس فيه، لقد كانت الإجازة فرصة للتعرف على ( الشيخ حمد ), الذي أحبه أشد ما يكون الحب, وأصرّ على صحبته في زيارة إلى الرياض، الأمر الذي لم يرق للوالد, لكن عناد الطفولة بالإضراب عن الذهاب للمتجر, والبكاء, والتخريب؛ كانت أوراق ضغطٍ أدت إلى إذعان الأب، وذهبا مع سيارة أجرة ضمن آخرين، وعلى طول الطريق كان الغناء ينبعث من مسجل السيارة أو المذياع، لا يدري، لكنهما كانا منهمكين في حديث خاص، والشيخ يشرح آثار الانحراف الخلقي على الناس من الناحية البدنية.
ولا زال الفتى يتذكر تلك الصورة التي رسمها، صورة مرضى في مستشفيات معزولة, أجسادهم مهترئة, وقابلة للتفكك, كلما اجترّها أحد بسبب إدمان الجنس...
كانت موعظة مؤثرة، غير مباشرة ، وربما شديدة، على أسر وبيوت تحفها الطهارة ، ويلفها ا لحياء...
ومع إشراقة أول يوم دراسي؛ تَأمّل صاحبنا مستقبلاً خفي عليه، لكن تعلُّم الهدوء أورثه سلاسة مع نفسه، وأكسبه طمأنينة أراحته من البحث الدؤوب عن أولويات المستقبل؛ فالإنسان الذي يعتقد أن الحياة مكان خطير يمتلئ بالتهديدات؛ سيجد عالماً مليئاً بالخوف, والحزن, والإحباط, والإنسان الذي يؤمن بأن الحياة مليئة بالفرص الهائلة والأعاجيب التي يمكن للمرء الخوض فيها؛ سيجد هذا العالم نفسه مليئاً بتنوع وثراء وإشباع لا حدود له، فأي صورة ترى فيها الحياة فأنت تصنعها كذلك.
وكونك ولداً يعني: أن ثمت التزاماً صارماً بالمسؤولية. فحولك تلتف مجموعة من القواعد التي تحكم سلوكك، وهذا الجسد الذي تحمله أو يحملك إنما تعده لما هو أكبر، وما هبة المعهد التي تساوي (200) ريال شهرياً إلا بداية قياس المدارك.
لقد كان أول مورد مالي خاص به، مما أتاح له فرصة الاستقلالية بالمتطلبات الذاتية.
كذلك العلاقات ارتقت مع أناس، وتشعبت مع آخرين، وربما انقرضت مع آحاد، وكما هو ثابت في الدراسات التجريبية فإنَّ العلاقات بين الأولاد في هذه المرحلة لا تزال تركز على ممارسة الأنشطة الجماعية، وليس على وجودهم معاً.
البداية دائماً قوية؛ فقد كان مندفعاً لتحقيق أهدافه، إذ كان يشعر بهمّ التأثير على الطلاب، ونقلهم إلى عالمه، وحفز أصدقائه على القراءة، ويخاطب نفسه بالإحساس المبكر بالمسؤولية تجاههم، فيعيرهم بعض الكتب التي يقتنيها في الصندوق الذي سمّاه ( دولاباً) لأول وهلة، ثم بدا له أن يسميه ( المكتبة !) ، ويراقب بانتظام وغبطة اصطفاف الكتب على رفوفه وتزايدها! ، وقد وضع عليها ختماً بالاسم والرقم والتاريخ، أو يعرف الأصدقاء بالمكتبة التجارية الناشئة- النهضة – حيث الشيخ حمد ، وحيث تباع الكتب الإسلامية وكما تقول الحكمة التي كانت معنى في نفوسهم، لم يفصحوا عنه:
( بإمكان مجموعة من أصحاب الفكر والمبادئ أن يغيروا العالم).
وتبهجه الحياة حين يتصورها أفضل مما هي عليه، قبل أن يخوض غمارها ويعي تكاليفها دون أن يسأمها!
يتعارف الشباب في ذلك الموقع الناشئ في (شارع الخبيب)، قلب بريدة النابض وتقتطع اللقاءات الحميمة هناك جزءاً كبيراً من وقتهم، عقل مفتوح، ونفس متوثبة ما هي محصلته؟
هو الفتى عاشق الكتاب، يشارك في الإذاعة في سنته الأولى في المعهد، وينتقي ويقدم، يتحدث عبر ( مكبر الصوت )، نقطة انطلاقه غرفة صغيرة خصصت لـ( هيئة الإذاعة )،كما نطق بها أول مرة !!
ومن تلك الغرفة، يطيب لأحد الفتيان أن يطلق صفيراً أثناء الإذاعة، فيسمعه الطلبة في الفناء، والأساتذة في غرفة جلوسهم، ولأنه المسؤول عن الإذاعة؛ تتجه الأنظار إليه، فيوبخه الأستاذ، غير مراع لصغر سنه وجسمه، بالنظر إلى الآخرين، مصدر التشويش، والذين عيروه فيما بعد ( بهيئة الإذاعة البريطانية) ! وحقاً ما يقوله علماء النفس، إن هذه السن نمو مستمر, وشعور, ووصف جلي للانفعالات الأكثر تعقيداً؛ مثل: المهانة التي يشعر بها، والمسالمة التي انتقل إليها، والفخر الذي ناله, عندما اعتذر لأستاذه بأسلوب مدروس, ووضح له أنه يمقت المشاغبة التي حدثت، وكان يتحفظ حديث:« أَلاَ لاَ يَمْنَعَنَّ رَجُلاً هَيْبَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ إِذَا عَلِمَهُ »؛ ليخاطب به أستاذه الموقر!
أحب مكارمَ الأخلاق جهدي        وأكره أن أعيب وأن أُعابا
وأصفح عن سباب الناس حِلماً    وشر الناس من يهوي السبابا
ومن هابَ الرجالَ تهيبوه            ومن حقر الرجالَ فلن يُهابا
إن القدرة على تنظيم الانفعالات وضبطها هي علامة على النضج، وتشتمل: ملاحظة الانفعالات الإيجابية والسلبية، والتفكير في كيفية التعبير عنها بطريقة سليمة، وتلك الغرفة الإذاعية الصغيرة, التي يتندر عليها الفتيان: ( يا سلام هنا لندن )؛ كان يراها تحقق أهدافه الصغيرة التي تملأ عليه عالمه.
مجلة المعهد السنوية كانت ميداناً للسباق بين المتنافسين، وقد داخله فرح غامر؛ حين قرأ اسمه في أحد صفحات المجلة, التي نشرت له قصيدة عن: ( الهجرة ), ثم في العام الآخر (خماسيات) .
جمعية التوعية الإسلامية, التي بدأت بنشاط ، وحددت لكل سنة شيخاً ينثر على طلابه ما يحتويه عقله من أدب ومعرفة،كان هو أحد المنتسبين إليها أكثر من عام، وإن شعر أحياناً بضعف كفاءة الأستاذ المخصص, وتمنى غيره؛ لكن شعوره العميق بالانتماء الروحي لهذا اللون من النشاط جعله يتجاوز هذه الحالة الخاصة.
ربما كان ثمت تيارات فكرية إسلامية حركية وراء هذا النشاط، لقد كان يشهد، دون أن يدري، ميلاد حركات إسلامية، وأخرى يسارية.
والحق أن مآلات الأمور انتهت إلى غير ما كان يظن, وأنّى لسن كهذه أن تبصر ما خلف الكواليس بأفئدتها!
لقد كان يسمع حديثاً مكرراً عن المدرسة الثانوية, وأن الأمر فيها مختلف، وأن التيارات الناصرية تسيطر على طلابها.
الزمان وحده هو الذي وضح الصورة فيما بعد، لقد كانوا يؤكدون أن الاتجاه الفكري لا يسهل الرجوع عنه، وليس كالمراهقة السلوكية؛ بيد أن واقع الحال أكد غير هذا، ولم يعد يرى أحداً ممن كان البعض يعدهم ( خصوماً ) متشبثاً بما كان يزن به !
ولكن الفضل يعود لهذه الجمعية في إحكام العلاقة مع الطلاب الخيرين، وفئة من الأساتذة الأفاضل، ولم تكن مملة أو جامدة، إذ كانت تحتوي على طلعات برية، وجلسات منزلية، وتدارس علمي، واحتفالات مدرسية, وها هو يتفرس قسمات الأستاذ وينظر إلى وجهه وشعر لحيته باغتباط!.
قرءوا في الجمعية كتاب ( المخططات الاستعمارية لمكافحة الإسلام ) للشيخ محمد محمود الصواف، القادم من العراق ،على إثر اضطهاد حركة الإخوان المسلمين، ولا يزال يذكر أن الشيخ الصواف نفسه زار المعهد العلمي، وجمع له الطلاب في الفناء، وتحدث بحماس، ذكّره بما قرأه على لسان الشيخ على الطنطاوي, عن بلاغة الصواف, وحماسته في خطابه.
والفتيان بعدُ يتحدثون عما قال وما جرى ، ويحاولون أن يسبقوا الزمن، ويكبروا فوق مستوى أعمارهم، ليتكلموا في الأسرار والملحوظات والتقييم, لا يزال يذكر حواراً بين عدد من الأساتذة حول قدرة الطلاب على تقويم ( تقييم ) مدرسيهم ، وكان يعجب من شكِّهم في ذلك!
صغير يطلب الكبرا    " وشيخ " ودّ لو صغرا
وخالٍ يشتهي عملاً       وذو عمل به ضجرا
ورب المال في تعب        وفي تعب من افتقرا
ويشقى المرء منهزما         ولا يرتاح منتصرا
ويبغى المجد في لهف           فإن يظفر به فترا
أكان العقاد أبلغ حين يتحدث عن حاله بالأمس؟ أم عن حاله اليوم ؟ أم عنهما معاً؟...


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق