الثلاثاء، 11 يونيو 2019

8- في البدء كانت القراءة


"السيرة الذاتية"  طفولة قلب


8- في البدء كانت القراءة

الاحد 7 شعبان 1426
 الموافق 11 سبتمبر 2005



د. سلمان بن فهد العودة
الجميع مختلفون في الطريقة التي يفهمون بها العالم من حولهم ، وتستخدم الأفهام للتواصل مع الآخرين ، وارتجاع الماضي ، والإبحار في عوالمه العجيبة . والكتاب مفتاح الزمن بأبعاده الثلاثة .
هو أحد الفتيان الذين عشقوا الكتاب، والتحموا معه، وعثروا على المتعة بمصاحبته ، فلعب دوراً رئيساً في تشكيل شخصيته ، وحاول أن يقتبس منه الآليات الدافعة للطموح ، والتي تتضمن الشغف ، والإيمان ، والإستراتيجية كوسيلة لتنظيم الموارد ، ووضوح القيم ، وتفعيل الطاقة ، والقدرة على الارتباط وتكوين علاقات مختلفة ، وإجادة فن الاتصال .
فالجهد المنظّم عائده مُضاعف ، ونتيجته مثمرة .
وبالاطلاع تؤسس معارف ، وتنمى ثقافة ، والفرص المواتية تولد الحظوظ!
يتذكر جيداً ذلك الصباح حين أبصر طائفة من الكتب الجديدة الجذابة.. ولسان حاله يقول :
فما هو إلا أن أراهَا فُجَاءةً        فأبهت لا عرف لدي ولا نكرُ !
عنوانات أخّاذة ، واسم شهير : الشيخ علي الطنطاوي .. فيقرأ منها " رجال من التاريخ " حيث الحماس والقدوة . و " قصص من التاريخ " حيث اللغة الآسرة والأسلوب القصصي ، لقد هّزت وجدانه بقوة ، كما أضحكته " صور وخواطر " وأغراه " هتاف المجد " و " في سبيل الإصلاح " حين سمع بأنها على قائمة الكتب الممنوعة ، وكل ممنوع مرغوب ، ومنها علم بأن الطنطاوي يقول الشعر ، نادراً، فها هو يخاطب الملك سعود في زيارته لباكستان فيقول:
أسعود باكستان أكبر دولة      ولأنت أكبر سيد وعميد ..
ويجد الطنطاوي يصف المنفلوطي بأنه " شيخ الكاتبين " فيقرأ كتب الأخير ، ولا غرابة ؛ فا "النظرات" مقرر لمادة المطالعة في المعهد ؛ ولكنه يعزف عنه ، لأنه مقرر ، ويقبل على " العبرات " ويسكب العبرات على قصة الحب المؤثرة " تحت ظلال الزيزفون" في حالة من المشاركة الوجدانية.
ويتغنى بما نظمه المنفلوطي :
ليت فرجيني أطاعت بولساً... الخ ،
ويتعرف على مصطفى صادق الرافعي ، فيقرأ " وحي القلم " الذي كانت مجلداته الثلاثة تزيّن رفوف مكتبته ، ثم " تحت راية القرآن " الذي كان وهج المعركة بادياً في سطوره ، ويستعصى عليه " أوراق الورد " و " المساكين " فقد أحس بأنها قطع من الصخر فلم يُسِغْها ، وحاول أن يحفظ سطوراً ثم تجاوزها مستثقلاً متبرماً .
ثم هو يصحو يوماً على مجموعة مختلفة ، فهنا " مذكرات الدعوة والداعية " الذي هو يوميات خفيفة وصادقة للشيخ حسن البنا ، ثم " رسائل الإمام الشهيد حسن البنا ".. أوراق داعبتها أنامله ، وأبحر فيها عقله ، واتقدت عاطفته.
بعد شهور يتسلم مجموعة كتب " توزع مجاناً "! " :نافذة على الجحيم " ، " لماذا أعدم سيد قطب وإخوانه ؟ " ، " وثيقة سرية تفضح مخطط الناصرية " .
لقد قرأها بِنَهَم ، وأحسن بأنه تناول طعاماً مراً ، صدمه من الأعماق ، وخدش هذا الإحساس الطفولي المرهف ، وغدت الخيالات المؤلمة لصور المعذبين أحافير في ذاكرته ، بما فيها من معاني القسوة، وإهدار الكرامة الإنسانية
نَمْ يَا صَغِيري ... إِنّ هَذَا المهْدَ يحرسه الرّجَاءْ...
مِنْ مُقْلَةٍ سَهِرَتْ لِآلَام تَثُورُ مَعَ المسَاءْ
أَشْدوا بِأُغْنِيَتي الحزِينَةِ ثُمّ يِغلِبُني البُكَاءْ..
وَأَمدُّ كَفّي لِلسّماء...لأستحث خطى السماء!
نَمْ.. لا تُشاَرِكْنِي المرَارةَ والحَزَنْ
فَلَسَوفَ أُرْضِعُكَ الجِرَاحَ مَعَ اللبَنْ ..
حَتَى أَنالَ عَلىَ يَدَيكَ مُنىَ وَهَبْتُ لَها الحياه ..
يَا مَنْ رَأَى الدّنيا..
وَلكِن لَنْ يَرى فِيهَا أَبَاه..
وحين اشترى كتاب " البوابة السوداء"؛ وجد المزيد من الرعب، والدماء..! بوابات كأنها سراديب الشيطان في بحر لجي يغشاه موج من فوق موج من فوق سحاب.
هذا الشعور حفزه على حفظ الأسماء، والصور، والقصص، والأشعار فـ " رسالة في ليلة التنفيذ " لهاشم الرفاعي ـ وهي درة القصيد الإسلامي ـ لا تزال منقوشة في ذاكرته ، وثم قصيدة أخرى مطلعها :
فاض القريض بخاطري فدعوني
أفضي لكم بفجائعي وشجوني
حفظها ، ثم علم بعدُ أنها من نظم د . يوسف القرضاوي .
مجموعة جديدة من طباعة " الدار السعودية للنشر والتوزيع "
هي مجموع ما كتبه الأستاذ سيد قطب ، لقد شغف بها وقرأها عن آخرها، بل حفظ بعض مقاطعها، وكانت النهاية الأليمة لهذا العلم العظيم، وأضرابه ملحمة تحكى ما كتبه في ظلاله عن أصحاب الأخدود، ولقد دهش صاحبنا حين جاء سؤال التعبير في السنة النهائية – وهو يعتمد من رئاسة المعاهد في الرياض - تعليقاً على كلمة سيد الشهيرة " أن كلماتنا وأفكارنا تظل جثثاً هامدة، حتى إذا متنا في سبيلها وغذيناها بالدماء انتفضت حية وعاشت بين الأحياء!!"
ومثله محمد قطب وآمنة وحميدة، وقد رآهم مجتمعين في كتاب " الأطياف الأربعة"
قرأ كل ما كتبوه عدا المؤلفات القديمة التي نفدت طبعاتها وحتى هذه حاول الحصول عليها، وظفر بكتاب " طفل من القرية " الذي كان أشبه بمذكرات لطفولة سيد ، ولفت نظره أن إهداءه كان لعميد الأدب العربي – كما سموه – طه حسين : إنها يا سيدي أيام كأيامك ..!
في بعضها من أيامك مشابه ، وسائرها عنها في اختلاف..!
يقول أحد الحكماء. " إن أفضل جندي هو الذي لا يقاتل ، والمقاتل المتمكن هو الذي ينجح بلا عنف ، وأعظم فاتح يكسب دون حرب ، وأنجح مدير يقود دون إصدار الأوامر ، إن هذا ما يسمى ذكاء عدم الهجوم ، وما يطلق عليه: سيادة الرجال "
أبو الحسن الندوي رجل هندي عربي الأرومة من سلالة الحسن رضي الله عنه . قرأ له كل ما انتهى إلى يده من مؤلفاته، وأعجب ببيانه وعاطفته.
كما أعجب بأبي الأعلى المودودي، وقرأ العديد من كتبه بيد أنه أحس بثقلها وكثافتها.
وقرأ العقاد في عبقرياته، وإسلامياته، على شعور بالجفاء؛ أحسه نتيجة الحراك الفكري السائد حينذاك، وثمرة للجفوة مع حواريه السابق "سيد قطب".
لقد تعلم من هذه الدوائر المتنوعة ، ومن المقروءات " المضنون بها على غير أهلها " أن الذي يبالغ في التمسك بآرائه، لا يجد من يتفق معه .
ويبقى أن أي شيء يوسع نطاق القدرات الذاتية ، ويبين للإنسان أنه يستطيع أن يفعل ما لم يكن يظنه ممكناً، شيء عظيم القيمة.
لقد ضم إلى كتبه المقروءة مصدراً آخر للمعرفة ، إنها المجلات الإسلامية التي كان يقرأها من الغلاف إلى الغلاف ؛ كا"لوعي الإسلامي" الكويتية و " الشهاب " اللبنانية و " المجتمع " و" البلاغ " و " الدعوة " السعودية يوم أن كانت جريدة، ثم مجلة و " المنهل "
البيت يشهد حركة نشطة لشراء الكتب، والجدية تدب في أوصال العلاقة الحميمة التي بدأت في المتوسطة، وامتدت إلى الثانوية ، وهو يجتاز سن الثالثة عشرة ، حتى الثامنة عشرة، وعندما يصل الأولاد إلى هذه المرحلة؛ يميل آباؤهم إلى اعتبارهم رجالاً صغاراً . ومن نواح متعددة هم كذلك ، حيث إن نمو قشرة المخ الأمامية " المسئولة عن الإدراك السامي " تقترب من الاكتمال في هذه السن، وهو جزء ضروري في المخ للتطوير والمزج بين المشاعر، والأفكار، والتحليل، والاستنتاج. اقتراب شديد للنضج واكتمال السمات الخاصة بالحالة المزاجية والنفسية، والتي هي أصدق تعبير عن الشخصية .
"اقرأ" كانت النداء الأول .. ولكنها النداء الدائم أيضاً.
وهو إذ وجد نفسه في الكتاب، فقد وجد الكتاب في نفسه، وصار يعد نفسه كتاباً مفتوحاً يصححه ويجدده، وهو يعلم أن لكل كتاب أجلاً، كما أن لكل أجل كتاب.

"السيرة الذاتية" 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق