الأربعاء، 22 مايو 2019

2- بيت من الطين

"السيرة الذاتية"  طفولة قلب



2- بيت من الطين

الاثنين 11 صفر 1426

 الموافق 21 مارس 2005



د. سلمان بن فهد العودة
تتسلل النفس بعيداً قريباً، تحاول استعادة تلك الأطلال الساكنة، ويتقافز القلب كأيل صغير، ويلجم القلم أمام هديل المشاعر التي ينفثها ذلك الماضي الجميل.
هنا يد صغيرة تدفع باباً من الخشب القديم، لتدلف إلى دهليز ضيق، ذي جدران من الطين المعجون بالقش، وفي نهاية الرواق غرفة تمثل (الوجاهة) حيث (القهوة) –كذاك تسمى- التي يجلس فيها الرجال والضيوف، وتوقد فيها النار، وتصطف في زاويتها أباريق الشاي والقهوة.
وإلى جانبها فناء ينتهي بعريش لا زال يذكر أنهم يسمونه (المقدمة) حيث هو في واجهة الدار.
وأمامك (القبة) ذات الامتداد المستطيل، وهي تشبه استخدامات (الصالة) اليوم، حيث تفتح عليها غرف عديدة، فهذه صفة المخزن، وهذه صفة النوم.. وما أحلى ذكرياتها، خاصة في الشتاء، إذ ينام الأبوان مع الأطفال فيها طلباً للدفاء، وحيث تمسح الأم عليهم بيدها الحانية وتعوذهم، وتترنم بصوت حلو.. ليس يدري أهي تتلو القرآن .. أم تتغنى بأبيات من الشعر؟ يكفي أنه صوت الأم، ويكفي أن روحها الطيبة تملأ المكان!
تمنيت لو أفتديك بعمري           وأهدي إليك المنى والورود
حضنتك طفلاً يلوذ بصدري      حنوت عليك بقلب الودود
وقبالة هذه الغرف سلالم تسمى (الدرج)، طراز قديم اندثر، ثم عاد، يتصل بالروشن، الغرفة العلوية الوحيدة، التي يبدو أنها في نظر الأبوين تحتفظ بعبق الزوجية، وذكريات الأيام الأولى، ولا أدل من حزمة الملابس المعلقة بالوتد، حيث كان الطفل يخفي عن أهله بعض أشيائه الأثيرة!
وخلف الدار فناء آخر غير منتظم الأحوال، وكأنه بناء قديم، فرشت أرضه بروث البهائم، وهو متنفس للعب الصبية، وتقاذفهم بهذا الزبل، حتى الباب كانت خلفيته تشبه سبورة يكتب عليها إخوانه الكبار دروساً وهمية، حيث تخيلوا أنفسهم في مدرسة، وسجلوا أسماء الطلاب، وأجروا لهم اختبارات، وكونوا عن كل شخصية منهم انطباعاً خاصاً، كما لو كان أحد أبناء الجيران!
إنها صورة تقريبية لمعظم بيوت القرية، بل القرى.
أطلال بائدة
وأيام خوال
وأناس راحلون
إنها ليست مجرد صورة عابرة، بل روابط عاطفية تصل الحاضر بالماضي، تتطور الدنيا، وتنمو الحياة، وتنمو معها معالمنا الجسدية، وعلاقاتنا الاجتماعية.
الماء من تلك السواقي له مذاق خاص، والرمال الممتدة كانت مسرحاً للخيال، ومراحاً للنفس، والقمر الجميل كان يشهد ليالي السحر التي تجمع الصغار والكبار، وأهل القرية كأنهم أسرة واحدة، وإشراقة الفجر كانت إضاءة أمل، يدفئ شعاع شمسها برد الحياة.
الزرع حيث هو العمل المثمر لسكان القرية، أو الخب، حيث المكان المنبسط المحاط بتلال الرمل...
النخلات الباسقة تقف في شموخ، وذاك الرجل في أعلى النخلة يخرف التمر والرطب.. كم كنت أحك رأسي حين أرى علوه.. وأتساءل: كيف استطاع الوصول إلى هناك؟!
هل يا ترى كانت الحياة حقاً بسيطة وعفوية، أو حلاوة الذكرى تزين في عيوننا الماضي فنستلذ به؟
أو كان ذلك القلب البريء قادراً على تحويل ما يدخل إليه من مشاهد ومواقف إلى بهجة وفرح؟!
كقبضة اليد قلبي في مساحته                لكنه ساحة كبر لأحبابي
يضم دنيا عجيب أمرها .. وبها     لهوي وحزني وأفراحي وأوصابي
وتبقى العلاقة الإنسانية النبيلة هي الخليط المتين الذي يربط بين الماضي والحاضر والمستقبل، في سمو وترفع، في الوصال والفراق.
تلك الأزقة الضيقة المتعرجة تشهد ضجيج الأطفال وصخبهم، ومعابثاتهم الدائمة حتى وقت الظهيرة حيث يخلد الكبار إلى القيلولة، والغبار المتصاعد من تلك الأقدام الصغيرة يعبر عن الحياة والحركة.
المسجد قلب نابض للقرية، خاصة وأن (البصر) –اسم قريته- تحتضن المسجد الجامع الوحيد من بين القرى المجاورة، حيث تلقى خطبة مقروءة من ديوان متكامل قديم، وإذا كانت الخطبة الأولى دورية، فإن أختها تعاد أسبوعياً، فلا غرابة أن حفظ الكثير من كلماتها ودعواتها، وإن لم يفقه معناها بعد!
وهي مزية كبيرة في حمى التنافس القروي، ومصدر فخر في مجالس المنافرة، التي تذكرك بالطبيعة العربية، حيث لكل قبيلة شاعر، وهذا بعينه كان قائماً، فالشاعر (ابن جربوع) كان لسان أهل القرية في مجريات حياتهم، وشعره العذب الفطري المناسب يردد في مجالس النساء ومحافل الرجال ويحفظه بعض الصبية.
إنه تعبير أخاذ عن الفقر والجوع، وسهولة العلاقة بين الناس، والنكتة الطائرة، وسرعة البديهة، وطهارة الجيب.
وتلك المقطوعات السريعة كانت تدويناً للأحداث والأشخاص، حيث الناس في القرية يهتمون بالتفاصيل ولا ينسونها، فمحدودية المكان، وترابط السكان، والفراغ، والسمر، يعني أن زواج فلانة، وطلاق الأخرى، ووقوع أحد المراهقين في فخ التدخين، وتخلف زميله عن صلاة الفجر، والسفر والقفول ولو إلى (بريدة) التي كانوا يقصدونها بواسطة (البريد) يومياً.. هو حدث ذو أهمية، ولا بد أن يتم عرضه في برامج المساء! لكن قد يعز على من يسمع لتلك الأحاديث أن يسمع أسماء كانت اعتاد سماعها، فكل فرد أو أسره لها (لقب) تعير به، حل محل الاسم الأصلي، حتى نسخه فلا يعرف إلا في الوثائق الرسمية، أو في عدد الإمام الذي يتفقد الجماعة بعد صلاة الفجر يومياً.
هذه الألقاب تعبيراً غير رشيد عن الحميمية والقرب والمعرفة المباشرة ربما كانت
أو كانت للتمييز بين من يحملون ذات الاسم والعائلة.
أما نصيب الصغار، حيث لا تلفزة، ولا أفلام كرتون، فهو قصص السعالي والجن والعفاريت، والقطط السود المسكونة، و (الأقراص الحامية) التي تهدد بها الأمهات صبيانها، فهي تنزل من السماء على رأس من يكذب أو يخالف كلام والديه!
أهداف نبيلة، ووسائل مغرقة في الخطأ!
إنه تهديد يرتعد له قلب الطفل حين يتخيل عقله الطفولي أنه مستهدف بهذا الجرم الهائل الحارق، وربما اكتشف مع الوقت ألا حقيقة لهذا فلم يعد يعبأ بالتخويف.
تلك الأيام الغوامض من سني الطفولة هي فترة تأسيس الشخصية، وتحديد اتجاه الطفل نحو ذاته، وثقته بكفاءته، وتحديد حجم التفاعل بينه وبين أفراد أسرته ومجتمعه الصغير.
وثمت هنا نموذج مصغر للآباء في أولئك الأطفال يجتمعون حول التراب المبلول بالماء، ويسمونه (حكا)، لأنهم يشكلونه ويعبثون به أثناء سرد الحكايات، وأيديهم الصغيرة تبني منه بيوتاً وأسواراً، وترسم لوحات، وتعبد طرقاً ربما لم تراها بعد!
ولكنها مستمدة من المصدر ذاته، الجن والعفاريت والحيوانات المتجنسه!
وتشهد القرية حركة غير عادية، إنها مكينة لها صوت عال متواصل، وطقطقات متناغمة لاستخراج الماء من البئر، وصوتها المسموع في القرية كلها لهو دليل على التطور الذي تشهده البلدة!
البصر، والمنسي، والنخلات، والعاقول، والغماس.. مجموعة قرى، أو خبوب متجاورة متكاملة، وحين تتزوج البنت من قرية أخرى يكون محزناً للأم أن البنت ستكون بعيده عنها، وإن كانت الذاكرة تختزن سفر الأزواج بمفردهم سنين طويلة إلى الشام أو أنحاء الجزيرة.
(عبد الله) صاحب مزرعة في (المنسي)، وتجارة في البصر، وهو يبيع الثياب والطعام للبادية بالآجل نظير زيادة في الثمن ولأنه تزوج بأكثر من امرأة ظل هو الفرع النشط في ذرية (دخيل)، وبينما كان مستقر ذريته في البصر وما جاورها، كان آخرون في الأحساء، وليس واضح ما إذا كان أصلهم هنا كما يرجح كبار السن، أو كان في الأحساء، ثم نزحوا إلى هنا.
وكونهم من (آل دخيل) من (الجبور) من (بني خالد) ليس دليلاً على أنهم من القصيم أو من الأحساء، فالعائلات الخالدية منتشرة هنا وهناك.
والدكان الوحيد في القرية يملكه ابنه (فهد) الذي عاش مرارة اليتم والعيلة والترحال، حتى استقر به المقام في قريته التي ولد فيها، وتزوج من أسرة اللحيدان، حيث كانت تعرف بـ (نورة الهول).
هذا أبي، وتلك أمي.
رب أرحمهما كما ربياني صغيرا.
هذا بيت من الطين
وذاك بيت من الطين
هذا بناه الأب
وذاك بناه الرب
هذا من البشر
وذاك من المدر
ذاك معجون بنفحة من القش
وذاك معجون بنفخة من الروح.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق