"السيرة الذاتية" طفولة قلب
5- النفود
الثلاثاء 14 جمادى الأولى 1426
الموافق 21 يونيو 2005
د. سلمان بن فهد العودة
هذا هو اسم الحي المطل على مدينة بريدة من الغرب، حين دخلوه أول مرة، والذي كان جسراً إلى أساليب وأدوات جديدة للمعرفة، يظفر بها طفل في الثامنة من عمره، وصار الحي يعرف بعدُ باسم (حي الهلال)، حين استأجرت جمعية الهلال أحد بيوته.
البيت الطيني الجديد يحضن طفولة هؤلاء الصبية، وشبيبة آخرين إلى ما بعد الزواج والاستقلال.
إنه قصر فخم في نظر ابن القرية، يتكون من طابقين وعريش، يشبه عريش المدرسة التي درس فيها في قريته سنة وبعض أخرى، وتفتح على العريش العديد من الغرفات التي صبغت بعدُ بالجص والإسمنت لتبدو شيئاً يدعو للفخر والتيه لدى هؤلاء الصغار.
الفناء واسع تشترك معهم في سكناه نخلات تؤكد عمق الارتباط بالقرية، وهو ميدان فسيح يلعب فيه هؤلاء الصبية بجلد دائري الشكل، تتقاذفه الأيدي أحياناً، والأرجل أحياناً أخرى، ويسمونه ( الكرة ) وهو يختلف عن النسخة المطورة التي عرفها الصبيان بعدُ... وقد يشاركهم الجيران أو القرابة بعيداً عن عين الأب اللطيف المهيب الذي يدري، ويتظاهر بأنه لا يدري، ولكنه يتساءل مبتسماً عن سبب تكسر المصابيح الكهربائية، مرة بعد مرة!
إنها حيرة الأب الحريص أمام قضية جديدة تطرأ على حياة الأسرة، دون أن يتخذ بشأنها قراراً حاسماً، للتردد بين ما يألفه ويرتاح إليه، وبين ما يحس بأنه قدر من متغيرات الحياة, وضريبة لا بد منها لاختيار المدينة، فهو بحاجة إلى فترة من الأناة والصمت، لتفهم الموقف وتحديد رؤية واضحة عما يتعين عليه فعله، وهذا الأمر تكرر حين شغب الأطفال بحضور إحدى المباريات الكبيرة، ولعلها كانت المرة الأولى والأخيرة.
العلاقة مع الجيران تنمو بسرعة، والشارع يشهد صداقات جديدة, وعلاقات متدفقة, وفريقاً رياضياً يتشكل، وينشأ معه صراع على ( الرئاسة ) حيث تبدو هذه إحدى اللوازم المصاحبة للحياة حتى في أصغر حلقاتها.
هذه هي زعامات الأحياء، صغار عفاريت، يستولون على مشهد الشارع ويصنعون عنتريات، هي ( أباضات ) الشام، و ( فتوات ) مصر كما يحكيها أهل الحواري.
والمرأة تظل هي الأكثر اندماجاً والأسرع في التعارف وبناء الروابط.
لم تكن النقلة مقصورة على حركة الحارة فحسب، فها هو الأب ينظم وجوده المالي بافتتاح المتجر الجديد في المركز التجاري لبريدة ( الجردة )، ليحقق من خلاله ذاته الفطرية، ويجلب القوت لولده، ويؤمِّن بإذن ربه مستقبل أسرته، وإلى ذلك كان يقوم بالمزاد على الفواكه والخضار التي يجلبها الفلاحون من حقولهم.
لم يساور الأب قلق من النجاح، فهو يملك مثابرة جيدة وصبراً وثقة، وكما يقول اليابانيون: (المثابرة تَفُلُّ الحديد).
الصبية يتبعون أباهم ويندمجون معه في جهده العظيم، يلتزمون بالذهاب إلى الدكان في المساء، ليتعلموا كيف يكون التعامل، ومع أن النفس أحياناً لا تندفع للذهاب، إلا أنها حين تكون في الميدان يتملكها شعور مفعم بالحماسة والرغبة في التفوق، والأب يوزع المهام بذكاء فطري.
وفي الإجازات يذهبون صباحاً أيضاً في وجبة إضافية للعمل، تتخللها فرص للتفسّح والمتعة.
أولئك المسنون في ( مشالحهم = عباءاتهم ) القديمة وفرشهم البالية، هم قلب الحياة الاقتصادية النابض، ومستودع التجارب والمعارف والحكم.
كانت تلك فترة مليئة بالأحداث الصغيرة عند الكبار، الكبيرة عند الصغار، وكانت مدرسة حقيقية للتدرب على بناء العلاقة الودّية مع الآخرين من أهل المدينة، ومن الطارئين عليها من الأرياف والبوادي، خاصة وأن صاحب المحل كريم النفس، طيب الخلق، دائم البسمة، حتى حينما يتندّر عليه جيرانه، وكثيراً ما يشركه في غدائه وعشائه من تخلّفوا عن القفول إلى أهليهم، أو فاتهم ( البريد ) ولا غرو أن استطاع أن يستقطب حوله العديد من أهل الأرياف الذين من عادتهم أن يتعاملوا بمجموعهم مع صاحب محل واحد.
لقد كان قدر من تجارته بالدَّيْن، فلكل قرية دفتر ( يومية ), ولكل زبون حساب خاص.
ولعل معظم هذه الديون ظل إلى اليوم حبيس الدفاتر العتيقة، بخط الصبية، أو بخط الأب الذي كان يكتب حروفاً تعلمها عن كبر, فلا يكاد يفك خطه أحدٌ سواه!
لا زال الصبي يذكر ذلك الرجل الذي اغتنم خلو الدكان من سيده, ودلف بلهجة الحازم الجازم قائلاً بالأمر:
زن كذا من القهوة, وكذا من الهيل, و... و...
بينما كان يحاول أن يحمل على ظهره كيساً من الأرز, ثم آخر من السكر, أعطني كرتون شاي, ليملأ مركبته بما يحتاجه منزل مقفر مليء بالعيال، قائلاً بغير انتظار: سجلها على الحساب.
ويركب سيارته ويمضي تاركاً البائع الصغير والحيرة في عينيه, يقلب كفيه, ويخاطب نفسه؛ أي حساب؟
ومن تكون؟
أي حرج صنعته لي لو علم أبي بما جرى؟! وأدرك أنني لم أكن كفئاً للمسؤولية.
لم يكن متشجعاً على الرفض, فالبيع بالدين طريقة دارجة في هذا المحل, وأيضاً فهو لا يزال حزيناً لذلك الرجل الذي عيره وآذاه؛ لأنه رفض أن يبيعه إلا بالنقد.
ومر الموقف بسلام, وفات الأب أن يلحظ غياب بعض السلع دون تفسير على الورق, أو في الدرج الذي تحفظ فيه النقود.
هو بياع, لكنه طفل يقع له أن يختلس ـ كإخوته ـ شيئاً زهيداً يشتري به عصير التوت من (مصلح) أو الحلوى, أو الألعاب, أو بعض كتيبات المغامرات الطفولية التي تعرف عليها, ولكن ليس كل مرة تسلم الجرة, فها هو الوالد يضع يده على جيبه ليكتشف الاختلاس, ويعيده إلى محلِّه بلباقة, باعثاً برسالة تربوية عبر الأم, مفادها أنه يتفهم أن المال بقي في جيب الولد نسياناً وعفواً من غير قصد.
إلى جنب الدكان كانت (المكتبة العلمية) التي يديرها الشيخ (عبد الرحمن الجطيلي) - رحمه الله - وكانت إحدى أهم المغريات التي تحفز الجماعة إلى المتجر, حيث يتسللون إليها لواذاً، هرباً من حرارة الجو؛ فقد كان فيها مراوح كهربائيةلم تتوفر في الدكان بعد, وكان الشاي يسكب للرواد بين وقت وآخر, إضافة إلى تصفح الجرائد المحلية, والمجلات, وبعض القصص والروايات.
لقد وجد الصبي نفسه بعد زمن ملمّاً بالعديد من أسماء الكتب والمجلات والروايات, ومتصلاً بشخصيات بارزة في عالم الأدب والشعر, بفضل تلك الزيارات المنتظمة للمكتبة.
لقد فتحت النقلة إلى المدينة آفاقاً جديدة, شكلت حياة الصبي, وحددت وجهته, وزودته ببعض التجارب, وطورت لديه بعض الملكات.
صداقات الحي ظلت متصلة معه دون انقطاع, فالشيخ (صالح إبراهيم الشيبان) - رحمه الله- زميل الدراسة الأولى, والذي قضى في حادث سيارة, كان هو الفتى الذي يسكن في الحي ذاته, والصديقان يتقاسمان السكن والأسرة والحياة، والأمهات ثم القراءة والدعوة بعدُ، في ودٍّ لم يقطعه الموت.
والجلوس في المتجر كان تدريباً لطبيعة تأنس بالناس, وتسعد بصحبتهم ومحادثتهم, وتتعاطى معهم على تفاوت السن والثقافة.
والمكتبة العامة كانت نافذة إلى عالم القراءة التي غدت عشقه الأكبر, ولا غرو أن صار بعدُ, يحمل كتبه الخاصة إلى السوق يقرؤها وقت الفراغ, ويحفظ ما راق له من مقطوعات الشعر العربي, مما لا يزال يحفظه ويردده إلى اليوم.
لقد كان الصبي ثم الفتى يتنقل بين محلين متجاورين, لمنهومين لا يشبعان، دكان (طالب المال)، ودكان (طالب العلم).
وإن كان آثر حين صار الاختيار إليه الآخرَ على الأول، وصار لا يحسد صاحب المال، ولكنه يغبط طالب العلم.
"السيرة الذاتية" |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق