الثلاثاء، 30 يناير 2024

الدور المنتظر لأهل الحل والعقد

الدور 





المنتظر لأهل الحل والعقد










الدور المنتظر لأهل الحل والعقد



د. عطية عدلان

مدير مركز (محكمات) للبحوث والدراسات – اسطنبول



ينبثق “أهل الحل والعقد” من الأمة انبثاقًا يتجلى فيه معنى الوكالة 

والنيابة والتفويض، كما يتجلى فيه معنى الولاية والمسئولية 

والإمامة، والولاية هنا مبنيّةٌ على الرضى والاختيار من جانب، 

وعلى التَّقدم والسبق والمنَّة والشوكة من جانب آخر، فأهل الحل 

والعقد متقدمون في المجتمع المسلم بما لهم من منّة وشوكة، وبما 

يمتازون به من علم وحكمة وفضل وهيبة ووقار وتأثير، وهم بهذا 

التقدم والسبق أئمةٌ للأمة، عليهم تجاهها مسئولية الرعاية 

والاستصلاح والحماية والتوجيه، سواء مع قيام الدولة الإسلامية 

أو مع غيابها في عهود غربة الإسلام.


وتَعرف الأمةُ لهم ذلك، وتختارهم بناء على ما فيهم من الصفات 

التي تبرزهم، والتي يحددها الدستور المستمد من كتاب الله وسنة 

رسوله صلى الله عليه وسلم، فهم – إذن – كبارُ الأمة وصفوتُها، 

وهم كذلك نوابُها ووكلاؤها، والمفوَّضون من قِبَلِها بالنظر لها في 

الشأن العام، فهم – لذلك – يختارون الحاكم ويبايعونه ويولونه أمر

 المسلمين، ويقدمونه للأمة لِتُصادِقَ على توليتهم، وهم – لذلك 

أيضًا – يراقبون الحاكم ويحاسبونه ويقومونه إذا اعوج ويعزلونه 

إذا اقتضى الأمر ذلك، كل ذلك نيابة عن الأمة ونظرًا لها، ومنهم 

تنبثق السلطة التشريعية التي تقوم باستنباط الأحكام من القرآن

 والسنة، ووضعها موضع التنفيذ، ومنهم ينبثق مجلس الشورى

 الذي يشير على الحاكم فيما يستجد من الأمر العام، ويضمنون

 استقلال السلطة القضاية التي يقضي النظام الإسلاميّ بوضعها

 تحت سلطة الحاكم؛ من أجل تماسك النظام ووحدته.


وانبثاق هذه المؤسسة من الأمة يأتي على طريقتين، الأولى مؤقتة
 
عاجلة استثنائية، والثانية دائمة مستمرة مستقرة، فأمّا الثانية
 
الدائمة التي تتجدد كل عدة سنوات فإنّها تأتي باختيار الأمة، وفق 

قانون مستمد من الشريعة يراعي الشروط والضوابط التي تضمن 

أن يقع اختيار الأمة على من يمتازون بالتقدم والسبق والمنة 

والشوكة، كما يراعي التنوع الذي يغطي الجوانب المختلفة 

وبالنسب التي يقرر الاجتهاد الشرعيّ أنّها هي الأقوم والأعدل في 

الزمان والمكان والحال، وأمّا الطريقة الأولى المؤقتة فإنّها تكون 

في بداية عودة الأمة إلى طريق الاجتماع الرشيد بعد طول تشتت 

وضياع، فالانبثاق يومها يكون من واقع الصراع؛ حيث تُبْرز 

الأحداثُ كبارَ الأمةِ أصحابَ المواقف الذين لهم منّة وشوكة، مع 

العلماء الربانيين الكبار الذين يتميزون بمواقفهم العظيمة وثباتهم 

على الحق، وبعد بناء الدولة يصيرون أسوة الصفوة، يخضعون 

معهم لاختيار الأمة إن أرادوا أن يكونوا في المؤسسة الدائمة 

للأمة.


وقد تحدثت كتب الفقه وكتب السياسية الشرعية، وغيرها، عن

 جماعة أهل الحل والعقد، وسَلَّمَ علماء الأمة كافة بوجود هذه

 الجماعة، وبدورها الفعال في قيادة الأمة، وفي صناعة قراراتها،

 وتحديد وجهتها، هذه الجماعة الكبيرة التي استقرت عمليًّا في واقع

 الأمة الإسلامية من لدن الصحابة، واستقرت نظريًّا في الفقه

 الإسلامي من لدن الفقهاء الأوائل، واستمرت على هذا الوضع

 المستقر قرونًا عديدة تُعَدُّ أكبر وأوسع مؤسسات النظام السياسي

 الإسلامي، وأعمقها أثرًا في الحياة السياسية في الأمة الإسلامية،

 بل إنها تُعَدُّ مستودع جميع المؤسسات ومصدر جميع السلطات.


وتسمية هذه الجماعة بأهل الحل والعقد تسمية موفقة غاية التوفيق؛

 لأنها تحقق الانسجام بين المعنى اللغوي للحل والعقد وبين البعد

 الوظيفي لهذه الجماعة، فالحل في اللغة يأتي على معاني تدور

 حول الخروج من القيد، فيقال: حلّ الشيءُ أي صار مباحًا بعد أن

 كان حرامًا، وحَلَّت المرأةُ أي صارت إلى حال يجوز تزوجها بعد

 أن كان ممنوعة محظورة، وحَلَّ المحرمُ أي أُبيح له ما كان

 محظورًا بخروجه من إحرامه، وحَلَّ العقدة: فكَّ رباطها، وحَلَّلَ 

الشيء ردَّه إلى عناصره، وهذا المعنى اللغوي له علاقة بشق كبير

 من مهام أهل الحل والعقد وصلاحياتهم، فهم الذين يملكون حل ما

 عُقد ونقض ما أُبرم، وهو معنى يتصل اتصالا وثيقًا بمفهوم

 (الإلزام السياسي) والصلاحية لإلغاء القرار السياسي.


وقد عرفت الموسوعة الفقهية الكويتية أهل الحل والعقد بأنهم:

 «أهل الشوكة من العلماء والرؤساء ووجوه الناس الذين يحصل

 بهم مقصود الولاية وهو القدرة والتمكين»، وعرفهم المودودي

 بأنهم: «الحائزون لثقة العامة الذين يطمئن إليهم الناس لإخلاصهم

 ونصحهم وأمانتهم وأهليتهم»، والتعريف الذي أرتضيه هو أنهم:

«الصفوة الذين تضع الأمةُ فيهم ثقتَها، وتُنيط بهم أمرَها، وتسلم لهم

 زمامها، من العلماء والصلحاء والأمراء والخبراء وغيرهم من

 كبار المسلمين الذين يتمتعون بالهيبة بما لهم من مِنّة وشوكة،

 ويبتون في أمر الأمة بما لهم من ولاية وتقدم».


ومن هذه التعاريف ومن تتبع واستقصاء المواضع التي ذكر فيها

 أهل الحل والعقد في كتب الفقه عموما وفي كتب الفقه السياسي

 على وجه الخصوص يمكن أن نخرج بتصور عن أفراد أهل الحل

 والعقد، وهو: «أن أهل الحل والعقد هم أهل الزعامة الدينية

 والدنيوية في الأمة، وهم أصحاب الحل والعقد وذووه، ممن إذا

 رضوا رضي الناس، وإذا اجتمعت كلمتهم أو كلمة جمهورهم

 على الأقل اجتمعت باجتماعها كلمة الأمة، فمن لا حل عنده ولا

 عقد لديه فلا دخول له في هذه الطائفة».


ولا شك أن للعلماء في جماعة أهل الحل والعقد منزلة خاصة، فهم

 أصحاب الأمر استحقاقا، وولايتهم هي الأصل لأن غيرهم من

 أهل القدرة لا يطاعون إلا إذا أَمَروا بمقتضى العلم، إذ الطاعة لا

 تكون إلا في المعروف وفيما أوجبه العلم، فكما أن طاعة العلماء

 تبع لطاعة الرسول، فطاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء، فكانوا في

 الحقيقة أمراء الأمراء! 

ويمكن أن يدخل فيهم: «أهل النظر المتخصصون في المجالات

 المختلفة كأصحاب القضاء وقواد الجيش ورجال الاقتصاد ورجال

 السياسة وغيرهم ممن عرفوا في تخصصاتهم بكمال الرأي

 وعظيم الأثر».


لسنا بحاجة إلى التماس دليل على وجود جماعة أهل الحل والعقد

 في الأمة الإسلامية في صدرها الأول؛ لأن التاريخ خير شاهد،

 وقد ازدحمت على فم التاريخ الشواهد والأدلة؛ فالذين اجتمعوا في

 السقيفة ليبرموا أمر الأمة لم يكونوا كل الأمة الإسلامية ولا

 جمهورها، ولم يكونوا كذلك دخلاء عليها ولا مفتئتين على

 إرادتها، فمن يكونون – إذاً – إن لم يكونوا كبارَها وأولياءَ أمرها

 وأهلَّ الحل والعقد فيها؟ 

والذين دخلوا على أبي بكر وهو يودع الحياة فشاروهم وأشاروا

 عليه، وأشرفوا على تولية عمر بن الخطاب وعقدوا البيعة له من

 الخاصة ثم العامة، من يكونون إن لم يكونوا أهلَ الشورى وأهلَ

 الاختيار ؟ 

والذين تَرَك عمرُ الأمرَ شورى فيهم فسلَّمت لهم الأمة قيادَها؛

 فقادوها إلى بر الأمان بتسليم زمام الإمامة إلى عثمان، من

 يكونون إن لم يكونوا الصفوةَ والنخبة التي تضع الأمةُ فيهم ثقتَها

 وتُنيط بهم أمرَها ؟ والذين يوم أن غابوا خلف ضباب الفتنة يوم

 مقتل عثمان رضي الله عنه التمسهم الثوارُ الخارجون، وضربوا

 عليهم الأبواب، واقتحموا عليهم الحيطان، وصاحوا فيهم – برغم

 أنهم كانوا مستغنين عنهم بالسيف القاهر – قائلين: «أنتم أهل

 الشورى وأنتم تعقدون الإمامة، وأمركم عابر على الأمة، فانظروا

 رجلا تنصبونه»، فبايَعوا لعلِيٍّ، فبايع الناسُ بمبايعتهم، ولولا

 بيعتهم لعليِّ لما استقر أمر الأمة كلها على أحد؛ 

فمن يكون هؤلاء إن لم يكونوا – كما اعترف بذلك الخارجون – 

أصحاب الأمر العابر على الأمة؟!


ومع ذلك فلهذه الجماعة أصل لمشروعيتها في كتاب الله وفي سنة

 رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمن الأدلة الشرعية ما يلي:

1- قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ

 وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾[النساء: 59]، فهذه الآية الكريمة تأمر

 المسلمين بطاعة أولى الأمر، وهذا يعني أن لهم نفوذا وسلطانا،

 وأولوا الأمر: «أصحاب الأمر وذووه، وهم الذين يأمرون الناس،

 وذلك يشترك فيه أهل اليد والقدرة وأهل العلم والكلام؛ فلهذا كان

 أولوا الأمر صنفين: العلماء والأمراء»، يقول الإمام أبو بكر بن

 العربي: “والصحيح عندي أنهم الأمراء والعلماء جميعا، أما

 الأمراء فلأن أصل الأمر منهم والحكم إليهم. وأما العلماء فلأن

 سؤالهم واجب متعين على الخلق، وجوابهم لازم، وامتثال فتواهم

 واجب، يدخل فيه الزوج للزوجة، لا سيما وقد قدمنا أن كل هؤلاء

 حاكم، وقد سماهم الله تعالى بذلك فقال: ﴿يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ

 أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ﴾.. فأخبر تعالى أن النبي

 صلى الله عليه وسلم حاكم «والرباني حاكم»، والحبر حاكم،

 والأمر كله يرجع إلى العلماء؛ لأن الأمر قد أفضى إلى الجهال،

 وتعين عليهم سؤال العلماء؛ ولذلك نظر مالك إلى خالد بن نزار

 نظرة منكرة، كأنه يشير بها إلى أن الأمر قد وقف في ذلك على

 العلماء، وزال عن الأمراء لجهلهم واعتدائهم، والعادل منهم مفتقر

 إلى العالم كافتقار الجاهل”.


2- قول الله تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ

 وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ

 يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ

 إِلَّا قَلِيلًا﴾[النساء: 83]، وأولو الأمر هنا هم الأمراء والعلماء،

 يقول الإمام الجصاص: قوله تعالى: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وَإِلَى

 أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾. قال الحسن وقتادة

 وابن أبي ليلى: «هم أهل العلم والفقه»، وقال السدي: «الأمراء

 والولاة»، قال أبو بكر: يجوز أن يريد به الفريقين من أهل الفقه

 والولاة لوقوع الاسم عليهم جميعا، فإن قيل: أولوا الأمر من يملك

 الأمر بالولاية على الناس، وليست هذه صفة أهل العلم، قيل له:

 إن الله تعالى لم يقل «من يملك الأمر بالولاية على الناس» وجائز

 أن يسمى الفقهاء أولي الأمر لأنهم يعرفون أوامر الله ونواهيه

 ويلزم غيرهم قبول قولهم فيها، فجائز أن يسموا أولي الأمر من

 هذا الوجه كما قال في آية أخرى: ﴿لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا

 قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾، فأوجب الحذر بإنذارهم

 وألزم المنذرين قبول قولهم، فجاز من أجل ذلك إطلاق اسم أولي

 الأمر عليهم؛ والأمراء أيضا يسمون بذلك لنفاذ أمورهم على من

 يلون عليه.


3- قول الله تعالى من سورة المائدة: ﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي

 إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا﴾[المائدة: 12]، 

قال القرطبي: النقيب: كبير القوم القائم بأمورهم الذي ينقب عنها

 وعن مصالحهم فيها، وقال ابن كثير في معنى قوله تعالى: ﴿اثنى

 عشر نقيبا﴾. قال: عرفاء على قبائلهم بالمبايعة والسمع والطاعة،

 ثم قال بعدها: «وهكذا لما بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم

 الأنصار ليلة العقبة كان فيهم اثنا عشر نقيبا ثلاثة من الأوس

 وتسعة من الخزرج»، والشاهد من الآية قوله تعالى: ﴿وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ

 اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا﴾.فهؤلاء النقباء كانوا يمثلون اثني عشر قبيلة هي

 مجموع قبائل بني إسرائيل، ولا يعتبر هذا من شرع من قبلنا

 المختلف في حجيته؛ لأن شرعنا قد ورد فيه ما يؤيده، وهو أن

 رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للأنصار في بيعة العقبة:

 «أخرجوا لي منكم اثني عشر نقيباً ليكونوا على قومهم بما فيهم».


4- في صحيح البخاري: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ

 حِينَ جَاءَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ مُسْلِمِينَ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ

 وَسَبْيَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَحَبُّ الْحَدِيثِ

 إِلَيَّ أَصْدَقُهُ، فَاخْتَارُوا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ: إِمَّا السَّبْيَ، وَإِمَّا الْمَالَ، وَقَدْ

 كُنْتُ اسْتَأْنَيْتُ بِهِمْ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

 انْتَظَرَهُمْ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حِينَ قَفَلَ مِنْ الطَّائِفِ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ

 رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَيْرُ رَادٍّ إِلَيْهِمْ إِلَّا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ،

 قَالُوا: فَإِنَّا نَخْتَارُ سَبْيَنَا، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي

 الْمُسْلِمِينَ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ إِخْوَانَكُمْ

 هَؤُلَاءِ قَدْ جَاءُونَا تَائِبِينَ، وَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ، فَمَنْ

 أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يُطَيِّبَ بِذَلِكَ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ عَلَى

 حَظِّهِ حَتَّى نُعْطِيَهُ إِيَّاهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يُفِيءُ اللَّهُ عَلَيْنَا فَلْيَفْعَلْ، فَقَالَ

 النَّاسُ: قَدْ طَيَّبْنَا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَهُمْ، فَقَالَ

 رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّا لَا نَدْرِي مَنْ أَذِنَ مِنْكُمْ فِي ذَلِكَ

 مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ، فَارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعُوا إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ، فَرَجَعَ

 النَّاسُ فَكَلَّمَهُمْ عُرَفَاؤُهُمْ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه

 وسلم فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ قَدْ طَيَّبُوا وَأَذِنُوا»، في هذا الحديث اعتمد

 رسول الله صلى الله عليه وسلم رأي كبار القوم وأولياء أمرهم

 باعتبارهم ممثلين لمن وراءهم.

وقد أوردت الموسوعة الفقهية الكويتية صفات أهل العقد وهي:

“العدالة الجامعة لشروطها … العلم الذي يوصل به إلى معرفة من

 يستحق الإمامة … الرأي والحكمة … أن يكون من ذوي الشوكة

 الذين يتبعهم الناس، ويصدرون عن رأيهم … الإخلاص

 والنصيحة للمسلمين …


وفي الأحكام السلطانية للماوردي أن الشروط المعتبرة فيهم ثلاثة:

 أحدها العدالة الجامعة لشروطها، والثاني العلم الذي يتوصل به

 إلى معرفة من يستحق الإمامة … والثالث الرأي والحكمة …


وذكر الدميجي في الإمامة العظمي شروط أهل الحل والعقد وهي:

 شروط الولاية العامة: الإسلام العقل الحرية الذكورة العدالة،

 وشروط خاصة: العلم والرأي والحكمة


وقسَّم الدكتور عبد الله الطريقي شروط أهل الحل والعقد إلى

 أساسية وتكميلية، فأما الأساسية فهي: الإسلام والعقل والبلوغ

 والعدالة والعلم والرأي والحكمة والشوكة والذكورية، وأما

 التكميلية فهي الاجتهاد في الشريعة والخبرة والتجربة …


ونحن إن نظرنا إلى هذه الصفات التي يشترط توافرها في أهل

 الحل والعقد نجد أن منها ما لابد من تحققه كاملا بلا نقص،

 كشروط: الإسلام والعقل والبلوغ، ومنها ما لابد من تحققه ولكن

 بنسبة تتفاوت من زمان لآخر وتكفي في تميز أهل الحل والعقد

 عن سائر الناس وفي قيامهم بدورهم المنوط بهم، مثل العدالة

 والرأي والحكمة، ومنها ما لابد من تحققه في مجموعهم ولا

 يشترط تحققه في جميعهم كالعلم والشوكة.


وبالعودة إلى الآيتين من سورة النساء وإلى أقوال الأئمة

 كالجصاص وابن العربيّ وغيرهما نجد أنّ الأصل هو طاعة أولي

 الأمر من العلماء والأمراء ورد الأمر العام الذي يهم الشأن العام

 إليهم، هذا هو الأصل الذي تنتظم به الجماعة، وهو أصل يتوافق

 مع صيغة الجمع في الآيتين فأولوا الأمر على الحقيقة هم هؤلاء

 الكبار (أهل الحل والعقد) ولأنّ إدارة الشأن العام تحتاج رأسًا فإنّ

 هؤلاء الكبار ينيبون عنهم من يتولى قيادة الأمة، ويعقدون له عقد

 الأمامة، وهو عقد وكالة، الإمام نائب الأمة ووكيلها وأجيرها،

 “وتصرفه على الناس بطريق الوكالة لهم”، والذي يعقد له هذا

 العقد هم أهل الحل والعقد، الذين يبايعون له ثم تصادق الأمة على

 بيعتهم في البيعة العامّة، ويظل أمر أهل الحل والعقد قائمًا فوق

 الإمام؛ لأنّه الوكيل وهم الأصيل، «وسبيلهم معه كسبيله مع

 أمرائه وقضاته وسعاته وعماله؛ إن زاغوا عن سننه عدل بهم أو

 عدل عنهم»، فإذا شغر الزمان من الإمام (الوكيل) عاد الأمر إلى

 الأمة ممثلة في أهل الحل والعقد (الأصيل)، وهذا هو الأمر

 الطبيعيّ لأمّة لم تتركها الشريعة مبعثرة.


يقول الإمام الجوينيّ في الغياثي: 
«وقد قال العلماء: لو خلاالزمان عن السلطان؛ فحق على قطان كل

 بلدة، وسكان كل قرية، أن يقدموا من ذوي الأحلام والنهى وذوي

 العقول والحجا، من يلتزمون امتثال إشارته وأوامره، وينتهون

 عن مناهيه ومزاجره، فإنهم لو لم يفعلوا ذلك ترددوا عند إلمام

 المهمات، وتبلدوا عند إظلال الواقعات، ولو انتدب جماعة في قيام

 الإمام للغزوات، وأوغلوا في مواطن المخافات، تعين عليهم أن

 ينصبوا من يرجعون إلى رأيه؛ إذ لو لم يفعلوا ذلك تهاووا في

 ورطات المخافات، ولم يستمروا في شيء من الحالات»، 

هذا من حيث الجملة، ويتجه إلى التحديد أكثر وإلى بيان دور

 العلماء في هذه الأوقات؛ فيقول: «فإذا شغر الزمان عن الإمام

 وخلا عن سلطان ذي نجدة وكفاية ودراية، فالأمور موكولة إلى

 العلماء، وحق على الخلائق على اختلاف طبقاتهم أن يرجعوا إلى

 علمائهم، ويصدروا في جميع قضايا الولايات عن رأيهم، فإن

 فعلوا ذلك، فقد هدوا إلى سواء السبيل، وصار علماء البلاد ولاة العباد».


وإذا أراد العلماء أن يقوموا بهذا الواجب الكبير وهو واجب قيادة

 الأمة وتدبير الشأن العام، إذا أرادوا أن يقوموا بهذا الواجب الكبير

 في زماننا هذا؛ فلابد أن يتدرجوا في الوصول إلى المستوى الذي

 يؤهلهم لإزاحة الأنظمة المحاربة لله ورسوله وإحلال أنظمة

 شرعية، وذلك وفق مشروع واضح المعالم بَيِّن المراحل، وعلى

 ضوء رؤية مشعة تبدوا الأهداف من خلال نافذتها قريبةً ممكنة

 التحقيق، لا حلمًا بعيد المنال، وهذا المشروع وهذه الرؤية من

 صنعهم ووضعهم، أو على الأقل يصنعها بعضهم ويوافق عليها

 سائرهم.


ويجب أن يفهم الناس أننا لا نريد إحياء دور أهل الحل والعقد

 المزيفيين الذين ندينهم مثلهم ونبرأ إلى الله مما صنعوا، وإنّما الذي

 ننشده هو إحياء دور أهل الحل والعقد في زمن الخلفاء الراشدين،

 فالعهد الراشدي هو الذي تقوم به الحجة بعد الكتاب والسنة، وليس

 من العدل أن نحرم الأمة من الاقتداء بالنموذج الرائع الصحيح

 لمجرد أن ما جاء بعده من الانحرافات طال أمده، وليس في

 دورهم وصاية على الأمة، لأنّ الأمة هي التي تختار أهل الحل

 والعقد، ولا يفرضون أنفسهم عليها، كل ما في الأمر أن الدستور

 يحدد صفات هؤلاء الكبار لئلا يوجد في هذه المؤسسة إلا كبار

 الأمة القادرين على تحمل مسئوليتها، وأن هذا الاختيار يكون عبر

 المؤسسات التي تفرزهم بالشورى والانتخاب أيضًا؛ لئلا يتحكم

 رأس المال بأدواته الإعلامية في المشهد الانتخابي، وهؤلاء لا

 يفرضون الإمام فرضا على الأمة، وإنما يرشحون للأمة عددا

 تختار منهم، ويمكن أن تعرضهم واحدًا بعد آخر عبر استفتاء، فلو

 فرض أنّ الأمة رفضتهم جميعًا، وجب على أهل الحل والعقد أن

 يقدموا غيرهم، ويمكن أن ينص في الدستور – وهذا يحتمله

 الاجتهاد الشرعيّ – على ان أهل الحل والعقد إن أسائوا الترشيح

 بما يؤدي لرفض الأمة مرات معينة فإنّ هذا يسقط المؤسسة

 ويتوجب إعادة انتخابها، والمؤسسة التشريعية المنبثقة عن

 مؤسسة أهل الحل والعقد لا تفرض على الناس شريعة من عند

 نفسها، وإنما من خلال الشريعة، فإن خالفوا لم تنتخبهم الأمة مرة

 ثانية.


إنّ الخطوة الأولى لدفع قطار المشروع الإسلاميّ هي إحياء دور

 اهل الحل والعقد واستعادته، وهذا هو السهل الممتنع في

 المشروع، سهل لأنّ أعضاء هذه المؤسسة موجودون في الأمة

 بكثرة، ولأنّ صورتهم في السياسة الشرعية واضحة وجلية،

 وممتنعة على من لا يريد، وما أكثر الذين لا يريدون! وما ذاك إلا

 لأنّ الطبيعة البشرية تركن لأسهل من المهام، لكن إذا أدرك

 العلماء أهمية هذا الواجب، وإذا تاملت في كونه واجب كبير فإنّ

 محاولة الفرار منه تبدوا غير لائقة بالعلماء.



الكاتب: د. عطية عدلان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق