الأربعاء، 31 يناير 2024

قضية هند وليان... ومحمد الدرّة

قضية هند وليان... ومحمد الدرّة


وائل قنديل

في الثلاثين من سبتمبر/ أيلول عام 2000، كان استشهاد الطفل الفلسطيني محمد جمال الدرّة (11 عاما) في جريمة اغتيال موثّقة، ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي على مرأى العالم ومسمعه، في شارع صلاح الدين جنوبي مدينة غزّة.

صوّرت كاميرا المصوّر طلال أبو رحمة، وكان مراسل قناة فرنسية، الجريمة ونقلتها إلى العالم، حيث جرت عملية إطلاق النار على الطفل الشهيد الذي حاول والدُه أن يفتديه بجسده، لكنه أصيب بجراح خطيرة، فكانت هذه الواقعة سبباً في اندلاع طوفان من الغضب الشعبي اجتاح العواصم العربية، وأثار احتجاج الدوائر الرسمية العربية وألهب مشاعر المبدعين فكان إنتاج أوبريت "الحلم العربي" بمشاركة فنّانين من كل الوطن العربي، الذي كان يُذاع بانتظام في كل القنوات التلفزيونية، وتوفّرت له عناصر إنتاجٍ ضخمة، كانت وراءها، ويا لها من مفارقة دولة الإمارات، كما حضرت المأساة بقوة في عديد الأعمال الدرامية العربية.

بعد أكثر من 23 عاماً على صرخة الدرّة لحظة اغتياله في غزّة، تأتي جريمة اغتيال الطفلة ليان، ذات الـ15 ربيعاً في جنوب غزّة أيضاً، إذ سمع العالم كله صرختها الأخيرة لحظة إطلاق النار عليها بكثافة، إذ تحاول الاتصال بالصليب الأحمر طالبة النجدة لأختها الصغرى هند (تسعة أعوام) بعد أن حاصرتها المدرّعات الصهيونية، وهي تجري الاتصال من داخل سيارةٍ اختبأت فيها من القصف.

لم يُمهل العدو المُصاب بالسعار الشهيدة ليان لإيصال رسالتها إلى المُسعف، حتى غطّى صوت رصاص المدفع الرشّاش على صرختها فسكتت إلى الأبد، فيما لا يزال مصير شقيقتها الصغرى مجهولاً، ليخرُج بنيامين نتنياهو بعد الجريمة بساعاتٍ ليقول للساسة العرب الذين يناضلون من أجل حرية المجنّدات الإسرائيليات الأسيرات لدى المقاومة إن الاحتلال لن يُنهي هذه الحرب بأقل من تحقيق جميع أهدافها  بالقضاء على حركة حماس وعودة كل المختطفين، إن جيش الاحتلال لن يخرج من قطاع غزّة، ولن يطلق سراح آلاف الأسرى الفلسطينيين.

يأتي استشهاد ليان في لحظة عربية بائسة، صار فيها الوقوف على مسافة واحدة من العدو ومن يقاومون عدوانه، مما يباهي به بعضُهم ويعتبره فضيلة، وهي اللحظة ذاتها التي تطلق فيها إسرائيل النار على وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) بعد ابتزازها، بالطريقة نفسها التي تبتزّ بها الحكومات العربية، واتهامها بالإرهاب، فتبادر الأمم المتحدة على الفور بالرضوخ المشين لغطرسة الاحتلال ، فتسلُك كما لو كانت نظاماً عربيّاً مسكوناً بالقابلية للابتزاز  الصهيوني.

بين محمّد الدرّة وليان 23 عاماً من الانحدار العربي والسقوط في جبّ السلام الزائف، الذي لم يترُك العرب عرباً، بل سلخ منهم شريحة هائلة صارت صهيونيةً أكثر من الصهاينة أنفسهم، فبلغ بنا الحال أن الحلم العربي صار جريمة، حتى لو كان مجرّد أوبريت غنائي، إذ اختفى تماماً من أرشيفات التلفزة العربية، أو بالأحرى جرى إعدامه حرقاً، مثلما احترقت كل معاني الأخوة وانتحرت قيم مثل الكرامة والنخوة والعدل، فصارت العرب تتصارَع على من تكون الأسبق في القفز داخل قطار السلام الأميركي الصهيوني.

أسهمت هذه السنوات كذلك في تحويل الإنسان العربي إلى حالة من الضعف والاستكانة جعلت الشوارع العربية أجبن من أن تتحمّل أقدام متظاهرين غاضبين من أجل فلسطين، وجعلت الهتاف نشاطاً جوانيّاً مكتوماً، بحيث تصبح مأساة استشهاد أهون كثيراً من خسارة مباراة أو خروج مبكّر من بطولة كرة قدم.

قديماً، قال الزعيم الأفريقي نيلسون مانديلا: "نعلم جيّداً أن حرّيتنا منقوصة من دون الحرية للفلسطينيين"، وحديثاً صارت الحرية لفلسطين عبئاً يضيق به عربٌ اختاروا الحياد بين المجرمين والضحايا وهم يحسبون أنهم يُحسنون صنعاً.







ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق