الأربعاء، 31 يناير 2024

بيني وبينك.. عرسٌ في مَأتم

بيني وبينك.. عرسٌ في مَأتم

لا شيءَ غيرَ الدّمار والموت، لا شيءَ غير الجوع والأسى، لو أنّ حجرًا على حجرٍ بَقِي في هذا الموضع أُسنِدُ عليه جسدي الذّبيح من أنْ يسقط لفعلتُ! ولكنّ الحجارة نفسَها دُمِّرتْ، ونزحَ هؤلاء كلُّهم إلى هذه البُقَع المفتوحةِ على السّماء من الجهات كلّها في خِيَمٍ لا تقي من مطرٍ وبرد، تلعبُ بها الرّيح في كلّ اتّجاه، وتذروها كما تُذرَى بقايا العَصْف في الفراغ!

لكنّ هذا الموتَ المُخيِّم على كلّ شيءٍ ليسَ حائِلًا بينهم وبينَ الحياة، ليسَ مع جبروته -الّذي يقصِمُ ظهور الجبابرةِ- قادِرًا على أنْ يقضي على حُبّهم للحياة، ومُضيِّهم في دروبِها الشّائكة.

بأعمدةٍ خشبيّة مُبَلّلة بفعل المطر رفعَ (أيهم) سقفَ الخيمة، وبِكُراتٍ بلاستيكيّة صفراء وحمراء جُمِعَتْ من هنا وهناك زَيَّنَ صدر الخيمة على هيئة نصفِ دائرة، وبمفارِشَ من الخَيْش غُطِّيَتْ بأقمشةٍ مُهترئِة لكنّها مُلوّنة فَرَشَ البيتَ الخيمةَ، ثُمّ هاهي العَرُوس (سلمى) الّتي تلبَسُ ثوبَها المُزركَشَ بألوانٍ في سوادٍ قاتِمٍ حملتْه معها مِنْ بيتها المُهدَّم في الشّمال تبدو فَرِحَةً رغم الحُزن الّذي يُغلِّفُ كلّ شيءٍ. وها هم (المعازيم) تضيقُ بهم ساحة الطّين أمام الخيمة يُغنّون أهازيجَ وطنيّة حماسيّة رغم رنّة الشّجن الّتي تنبعثُ منها.

وها هُما (أيهم) و(سلمى) يجلِسان على دَكّةٍ خشبيّة جُمِعَ بعضُها إلى بعضٍ بشكلٍ عشوائي وغُطِّيتْ بحِرامٍ مُستعارٍ من الجيران، ثُمّ يمدّ لها خاتم الزّواج الّذي اشترَيَاه قبل الحرب، يُلبِسُه لها وعيناه تُشرِقان بفرحةٍ مُطفَأة، وتُلبِسه له ببسمةٍ مسروقةٍ على الشّفاه تحملُ من الغَصّةِ أكثرَ من الفرحة. ثُمّ يمدّ يدَيه فيرفعُ عن وجهها ملاءةً بيضاءَ ليسمح للنّور بأنْ يتسلّل من ذلك الوجه الجميل فيهزم جُيُوش الظّلام، ويقول لها: إنّه الحُبّ وإنّها الحرب، وأنا اخترتُ الحُبّ على الحرب. وإنّه الحزن ولا سِواه في النَّكَبات، وأنا اخترتُ أنْ أبحثَ عن الفرحِ في متاهات هذه المآسي، وأصنعه وسطَ هذا الخراب من أجل عينيكِ!

أمّا المدعوّون فيُصفّقون، ويبدؤون بالدَّبَكات، وتدور على الجالسين كؤوس الشّاي في ورقٍ صار هو الآخَر عزيزًا. ثُمّ يُدعَون بعدَ الدّبَكات إلى الوليمة الفاخرة، صحونٌ بلاستيكيّة تستقرّ في وسطها قطعةُ حلوى صغيرة في فراغٍ كبير، ويأكل الجميع سُعَدَاء، سُعَدَاء لأنّ هناك فرقًا بين العُرسِ الّذي دُعُوا إليه والمأتم الّذي يعيشونه في كلّ لحظة، هو فرقٌ بسيطٌ جِدًّا، ولكنّه يسمح لخيطِ السّعادة أنْ يتسلّل بينهما فيملأ هذه الوجوه بإشراقةٍ غريبة. ثُمّ ها هما يدخلان عُشَّهما، عُشَّهما الّذي كان يُمكن أنْ يكون غير هذا لو كانتِ الحربُ قد رحلتْ أو لم تأتِ من الأساس، ولكنّ الحربَ لا تمنع الفرح، والموتَ لا يُوقِفُ الحياة. وغزّة تأتي بكلّ عجيبة.


AymanOtoom@

otoom72_poet@yahoo.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق