الأربعاء، 20 مايو 2015

يا أم الشهيد.. شتان ما بين جواره وجوارنا

يا أم الشهيد.. شتان ما بين جواره وجوارنا

إحسان الفقيه


انحنى ذلك الشيخ الهندي الضرير على الأرض، وظل يتحسّس بأنامله قسمات ذلك الشاب المُمدّد على الأرض، والذي لم يكن سوى ابنه الذي لقي حتفه قتيلًا.

انهالت دموع الشيخ الطاعن في السن، وظل يرثي ولده بكلمات تفتت القلوب الصخرية، وينعي شبابًا ضاع في الريعان.

فقال الشيخ لأحدهم: “أتدري ما هو أثقل حِمْلٍ في الوجود؟

 إنه نعش الولد عندما يحمله والده“.

ذلكم مشهدٌ من فيلم هندي قديم، من تلك الأفلام التي غزت العالم العربي في الثمانينيات، عندما كنا صغارًا نجلس لمشاهدتها تطوّقنا أيادي الآباء والأمهات.

غاب الكثير من تفاصيل الفيلم عن ذهني، لكنه قد انتقشت فيه تلك العبارة التي لم تتبدد في ذكريات (الطفلة الشابّة الموجوعة) عن أثقل حمل في الوجود.

“نعش الولد عندما يحمله والده”.

تذكرت هذا المشهد، عندما ارتطمت عيناي بمرأى تلك الأم المصرية التي تقف والألم يقتات على زفرات قلب الوالدة الثكلى، ممسكةً ببقايا فلذة كبدها، بملابسه؛ بعدما نفّذت السلطات الجائرة فيه حكم الإعدام في قضية “عرب شركس”.

أيتها الأم حنانيك، فقد كويتِ بنار حزنك قلب أمّ مثلك، ولا أجد في رثائك وولدك سوى ما قاله أبو الحسن التهامي:

يـا كوكبـًا، مــا كانَ أقـصـرَ عـمـرَهُ .. وكـذا تكون كواكبُ الأسحارِ

وهلالَ أيَّامٍ مضى، لم يستدرْ بدرًا.. ولم يُمْهَلْ لوقــتِ سِـرارِ

فكأنَّ قلبي قبرُهُ، وكأنَّهُ في .. طـيِّــهِ سِــرٌ مــن الأســرارِ

إنْ تَحْتَقِرْ صغرًا؛ فربَّ مُـفـخَّـمٍ يـبـدو ..ضئيلَ الـشخـص للـنُّـظَّـارِ

إنَّ الكواكـبَ فـي عـلـوِّ محـلِّـهـا ..لَتُرى صِغـارًا وهي غيـرُ صـغـارِ

وَلَـدُ المعـزَّى بعـضُـهُ، فــإذا مضى ..بـعـضُ الفتـى؛ فالكـلُّ فـي الآثارِ

أبكيهِ، ثمَّ أقولُ معـتذرًا له .. وُفِّقْتَ حـيــنَ تــركـــتَ آلام دارِ

جاورتُ أعدائي، وجاورَ ربَّهُ .. شتَّـانَ بـيــن جــوارهِ وجـواري

نعم يا أمّنا، شتّان ما بين جواره وجوارنا.

ويح وطن يحاكم فيه الشباب أمام محكمة قاضيها وشاهدها وجلادها وسجانها واحد.

وماذا عساي أن أقول في رموز قضاء يوزع أحكام الإعدام جزافًا.

هالني منظر أولئك الشباب الذين نُفّذ فيهم حكم الإعدام، ثم عُقدت جلسة بعدها بيومين للنظر في شرعية إعدامهم ودعوى بطلان قرار الإعدام في سابقة هي الأولى من نوعها، ضمن مهزلة قضائية مصرية ليست هي الأولى من نوعها.

ويزيدنا ألمًا في القلب، أن يطالعنا ذلك السفاح قاضي الزور والبهتان وصاحب الفضائح الأخلاقية، بكل صفاقة ونفاق، وهو يدعي أنه قد أرضى الله بهذه الأحكام الإجرامية.

تخيلت هؤلاء الزهور في ليلة الإعدام.

ترى، كيف كان حالكم يا أبناء دمي؟

في ماذا كنتم تُفكّرون؟

كيف كنتم تتنفّسون؟

ووجوه من استحضرتُم؟

ومتى ماتت أحلامكم وأمنياتكم (إكلينيكيًّا في زنازين ترقّب لحظة تنفيذ الحكم الجائر)؟

تذكرت قصيدة هاشم الرفاعي “رسالة في ليلة التنفيذ” عن الليلة الأخيرة لأحد المعتقلين ظلمًا:

أبتاه ماذا قد يخط بناني         والحبل والجلاد ينتظراني

هذا الكتاب إليك من زنزانة        مقرورةٍ صخرية الجدرانِ

لم تبق إلا ليلة أحيا بها       وأحس أن ظلامها أكفاني

قد عشت أوقن بالإله ولم أذقْ     إلا أخيرًا لذة الإيمانِ

والصمت يقطعه رنين سلاسلٍ      عبثت بهن أصابع السجانِ

ما أكثر ما يحمل الآباء من أجساد أبنائهم فيك يا مصر، وما أكثر تلك الزهور التي سحقتها تلك الزمرة الانقلابية الصهيونية الطاغية.

قتل واعتقالات وأحكام قضاءٍ جائرٍ بالإعدام والمؤبد، تلك هي أبرز إنجازات الانقلاب؛ فخَلت الديار من الشباب؛ فقد صاروا جميعًا ما بين مقبور واراه الثرى، وبين سجين خلف القضبان تردد جدرانها صدى أنينه، وما بين مهاجر يلتفت إلى بلده يودعها بدموعه عند الرحيل لا يُمَنِّي نفسه بتذكرة العودة، وما بين ميت يمشي على ظهر الأرض قد استُلبت آماله وأحلامه.

بين فينة وأخرى، يطالعني بعض إخوتي المصريين بمآسي الشباب تحت حكم الانقلاب؛ تذيب القلب كمدًا عليهم.

مجموعة من الشباب الذين لم يتجاوزوا العشرين يجتمعون على السحور في رمضان الفائت؛ احتفالًا بخروج صديق لهم معارض للانقلاب من معتقل الطواغيت، فكانوا على موعد مع زوار الفجر، كما يطلق إخواننا المصريون على حملات المداهمة، ومنذ أيام؛ صدر بحقهم حكم بالسجن لمدة 15 عامًا فيما عرفت بقضية معتقلي السحور.

شباب صغار لم يتجاوزوا الرابعة عشر من عمرهم خلف القضبان…

فتيات جميلات عفيفات انتُهكت أعراضهن على يد زبانية الانقلاب…

شاب تعتقل والدته للضغط عليه لتسليم نفسه…

ولكم الله يا شباب مصر.

لكنني لست في هذا المقام أطرق أوضاع شباب التيار الإسلامي وحدهم، أتحدث عن كل شاب مصري انسدّت أمام عينيه آفاق التغيير لمستقبل أفضل وواقع أسمى.

شباب الثورة والحلم الذي ضاع

فجّر الشباب ثورة 25 يناير، وأرغموا الجميع على الاعتراف بهم، وبأهمية تمكينهم؛ فقلنا وقالوا: إنه عهد الشباب، سينطلق نحو بناء مصر الجديدة، ويحقق آماله ويمسح آثار عنائه، ويكفي مصر شبابها الذي ضاع عبر عقود مضت في ظل حكم العسكر.

ومارس الشباب لأول مرة حقه في التعبير عن رأيه، وأسهم في نجاح الاستحقاقات الانتخابية النزيهة لأول مرة في تاريخ مصر؛ إلا أن الحلم لم يدم كثيرًا؛ إذ سرعان ما أجهزت عليه قوى الظلام، وتعرض الشباب لطاحونة الاستقطاب والانقسام، ما بين مُطالب بحقوقه، وآخر مخدوع قد غُرّر به ليشارك في أكبر عمليات ذبح الحرية.

وبعد الانقلاب الغاشم، وقف ذلك القطاع المُغرّر به فاغرًا فاه، وهو يرى قصور الرمال التي خدعه بها زعيم الانقلاب تتحوّل إلى كثبان؛ فلا حرية ولا صوت مسموعًا، ولا تمكين للشباب، ولا قضاء على البطالة، ولا عيشة كريمة، ولا كرامة مصونة.

فتية الكهف لا مأوى لهم

“إنهم فتية آمنوا بربهم”، هكذا وصف القرآن أصحاب الكهف بأنهم فتية، شباب؛ فما من دعوة حق، أو حضارة، أو نهضة، تُقام إلا بجهود الشباب.

كانوا عماد دعوة النبي صلى الله عليه وسلم التي بلغت الآفاق…

ولّى النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد رضي الله عنهما إمارة جيش فيه كبار الصحابة، وهو لم يتجاوز بعد العشرين من عمره.

عبد الرحمن الداخل (صقر قريش) أقام دولته في الأندلس وهو في الخامسة والعشرين من عمره.

محمد الفاتح حقق حلم المسلمين وفتح القسطنطينية وهو لم يتجاوز الرابعة والعشرين.

الإسكندر المقدوني أقام إمبراطوريته خلال عشر سنوات من تنصيبه بعد أبيه وهو في العشرين من عمره.

نابليون بونابرت صار جنرال الجيش الفرنسي وهو في الرابعة والعشرين، ثم إمبراطورًا على فرنسا، وهو لم يبلغ عامه الرابع والثلاثين.

أحمد زوغو تولى رئاسة الوزراء في ألبانيا وهو لم يبلغ السابعة والعشرين، وبعد ثلاثة أعوام أصبح رئيسًا للبلاد وملكًا عليها طوال عشر سنوات.

فأين فتيانك يا مصر وهم بلا كهف لهم يؤويهم … ولا يد تمتدّ صادقة إليهم ولا عقل يُشير إلى الطريق؟

كيف ستنهضين يا مصر وشبابك قد ضيعهم اللئام؟

أبِالكهول والشيوخ والعجائز تبنى نهضة أو يُشيّد صرح؟

شباب مصر أُهدرت كرامتهم…

 سُلبت حريتهم…

 البطالة تحاصرهم….

 يدرسون وهم يعلمون أن الشهادات موضعها الجدران…

يبتكرون ويخترعون وهم يعلمون أن إنجازاتهم ستُدفن في أدراج المكاتب…

سل أي شاب مصري عن حلمه سيقول لك: الهجرة.

كيف يفلح وطن يعزف شبابه عن التصويت في الاستحقاقات الانتخابية لأنه يبصر مستقبلًا مظلمًا؟

كيف تنهض دولة لكل شاب فيها ثأر عند حكامها؟

فما من شاب إلا وقد مات أو اعتقل له صديق أو قريب أو عزيز.

لإيلاف قريش

قبل أن يضع عالم النفس ماسلو هرمه الذي يبين ترتيب الاحتياجات الإنسانية -وجعل في قاعدته الحاجات الفسيولوجية، ومنها الأمن الغذائي ثم الأمن النفسي بكل صوره وأشكاله- تحدث القرآن الكريم عن تلك الحاجات.

فامتنّ الله سبحانه على أهل قريش برحلتي الشتاء والصيف فقال: “لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف”، ثم رغّبهم في مقامات العبودية مذكرًا إياهم بإنعامه عليهم بالأمن الغذائي والنفسي قائلًا: “فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطمعهم من جوع وآمنهم من خوف”.

فتلك أبرز احتياجات الإنسان وأساساتها، وبدونها لا يقرّ للإنسان قرار، ولا تمتد طموحاته للإنجاز والبناء.

فكيف يتجه شباب مصر إلى البناء وهم يفتقدون تلك المقومات؟

بطالة وانهيار اقتصادي رغم المعونات الخارجية..

سرقة واستحواذ على خيرات وثروات البلاد وتركزها في يد فئة قليلة.

معدل متدنٍ للدخل السنوي للفرد المصري…

حكم بوليسي وعسكري قمعي يحجب الآراء ويزرع الخوف…

غياب الحريات واستهانة بدماء الشباب…

فكيف؟ كيف يا مصر؟

في الميدان مرة أخرى:

إن شباب مصر لن يسترد حقوقه مرة أخرى إلا من خلال العودة..

العودة إلى روح الثورة، ثورة 25 يناير…

العودة إلى الميادين بعد توحيد الصفوف…

والثورة باسم الرغيف لا تصنع وطنًا، قد تصنع مخبزًا وطابورًا؛ جرّبوا باسم الله ربّ الفُرن والخبّاز والخبز وسنابل القمح وستُرزقون المواسم كُلّها…

العودة إلى الاصطفاف الثوري مرة أخرى على أهداف مشتركة عامة تذوب فيها الخلافات لمواجهة العدو المشترك.

وهذه العودة يتحمل مسؤوليتها والتدشين لها قادة الرأي، وأصحاب الكلمة المسموعة من فرقاء الثورة، والذين لابد لهم من إدراك قيمة التصالح مع التيار الإسلامي؛ فلا أظن أن هنالك ثورة في مصر ستنجح دون جهود هذا التيار، رغم انخفاض مستوى شعبيته بفعل إعلام مسيلمة.

لك الله يا مصر التي نحب.

ولكم الله يا شباب مصر وأنتم في القلوب…

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق