الأربعاء، 27 مايو 2015

بين قلمي وعقلك.. «طاحونة التصنيف» وأولوياتي

بين قلمي وعقلك.. «طاحونة التصنيف» وأولوياتي
إحسان الفقيه


قال العلّامة ابن منده: “قد عجبتُ من حالي، فإنّي وجدتُّ أكثر من لقيتُه إن صدّقتُه فيما يقولُه مُداراة له، سمّاني مُوافقًا، وإن وقفتُ في حرفٍ من قوله أو في شيءٍ من فعله، سمّاني مُخالفًا، وإن ذكرتُ في واحدٍ منهما أن الكتاب والسنة بخلاف ذلك، سمّاني خارجيًا، وإن قُرِئ عليّ حديث في التوحيد، سمّاني مُشبّهًا، وإن كان في الرؤية، سمّاني سالميًا“.

بهذه الكلمات، جسّد العالم الفذّ معاناته مع (طاحونة التصنيف) التي لا ترحم، وتكشف ما لهذا الداء الاجتماعي من تأثير على كل ذي فكرة أو قلم.

والعجب كل العجب، ممّن يُصنّف الكاتب من خلال سطر في إحدى مقالاته، أو من خلال تعليق له على حدث، ويضعه في خانة مُعيّنة، ويخلع عليه من الألقاب والنعوت، متجاهلًا مواقفه الأخرى تجاه الوقائع والأحداث.

وصدق الشافعي إذ قال: “رضا الناس غاية لا تدرك، ليس إلى السلام من الناس سبيل“.

وعلم الله أنني قد نشأتُ وقد عصمني من اعتناق أي فكرٍ أو منهجٍ يتعارض مع أصول الإسلام ونهجه، فما كنتُ يومًا علمانية أو ليبرالية أو اشتراكية أو يسارية، ولم أنتحل سوى منهج السنّة، والذي يعي من لديه قدْرٌ من العلم بالشريعة، أن شيئًا من التقصير الذي أُقرّ به، لا يُخرجني من ذلك الإطار.

ولمّا نذرت قلمي لنصرة الفكرة الإسلامية، تعرّضتُ لطاحونة التصنيف من فصائل التيار الإسلامي الدعوية والجهادية.

فأنا إخوانية عندما أُعارض الانقلاب الدمويّ في مصر، وأتعاطف مع شهداء رابعة، ومع المظلومين خلف قضبان السجون، وعندما أتحدث عن البنا وسيد قطب، أو أُدافع عن الإخوان المسلمين في بلدي عند مَظلمة أو لاعتقال أحدهم بلا جريمة.

وفي الوقت ذاته أنا داعشية، عندما أتّفق مع تنظيم الدولة الإسلامية في قتاله ضد القوات الحكومية والميليشيات الشيعية وأذناب إيران في العراق، وضد نظام الأسد وأعوانه في سوريا وعندما أُعادي أهلي وبلدي لموقفي الثابت الرافض ذلك التحالف الصهيوصليبي الصفويّ (المسخ) ضدّ المُجاهدين في العراق ممن ثُقبت جماجم إخوتهم واغتُصبت نساؤهم وصار ممنوعًا عليهم دخول مُدُنهم وبلداتهم دون كفيل (يُوالي إيران) أو يسجد على حجر من كربُلاء/ ضمن مخطّط دنيء حوّل العراق إلى ولاية إيرانية.

ويصفني بعض قومي (وليس الشيعة فحسب) بأنني وهّابية سلفية، عندما أعمل ضد المشروع الفارسي الصفوي الإيراني، ويقولون إنها طائفية تُحرّض على الدم وتسعى لشقّ الصفّ.

ومن المضحكات المبكيات أن بعضهم يُثني عليّ اليوم لأن كلماتي توافقت مع فكرته، ويُشيد بموقفي، ويغضّ الطرف عن تبرجي وسفوري، وفي اليوم التالي يُحذّر من متابعة ما أكتب، ويكاد أن يُخرجني من الملّة، ويقول ماذا تنتظرون من امرأة فرّطت في حجابها، لا لشيء إلا لأن كلماتي (في ذلك اليوم أو الموقف) لم تلامس هواه.

إن قضية الانتماء الجُزئي بالنسبة إليّ محسومة منذ البداية، فلا راية لي أرفعها سوى راية الإسلام، عليها معقد ولائي وبرائي، ويكفيني.

أبي الإسلام لا أبَ لي سواهُ       إذا افتخروا بقيسٍ أو تميمِ

وإحقاقًا للحق، ولوضع الأمور في نصابها، لا أنكر في العموم على الانتماءات الجُزئية طالما تحققت فيها ضوابطها وشروطها.

فالرسول صلى الله عليه وسلم سمّى المهاجرين والأنصار، والأوس والخزرج، طالما كان المسمى لا يشوّش على الانتماء لراية الإسلام الكبرى؛ ولذا عندما حدث المحظور، وبرزت في أحد المواقف سمة التعصّب لغير راية الإسلام، وتداعى البعض: يا للمهاجرين، ويا للأنصار، هذّبهم النبي صلى الله عليه وسلم وأعادهم إلى الجادة والصواب، وقال عن هذه الدعوى: (دعوها فإنها مُنتنة).

وكذا استفاد خالد بن الوليد رضي الله عنه من الانتماءات الجُزئية في معركة اليمامة، عندما اشتد القتال، وأراد بثّ الحماس والاستفادة من الانتماء القبلي؛ فقال: “امتازوا أيها الناس لنعلم بلاء كل حي ولنعلم من أين نؤتى”.

ويفقد هذا الانتماء مشروعيته إذا أصبحت راية الجماعة أو الكيان أو الحزب، هي معقد الولاء والبراء، أو أن تكون مبادئ وأفكار هذه الجماعة أو الكيان هي معيار الحق، أو أن يكون الانتماء لها غاية وليس وسيلة لنصرة الإسلام.

لكن، الانتماء الجزئي ليس هو الأصل؛ لذا آثرت ألا أرفع راية سوى راية الإسلام، وهكذا أجدُ نفسي حُرّة (كما ينبغي) وثابتة (كما يجب)، وبلا تناقُض.

أتحرّك  ضمن مساحات خضراء فسيحة، وعلى مسافات متقاربة مع الجميع، تطول أو تقصر وفقًا لموقعهم من قيم الحق والعدل والخير والجمال.

لكن البعض، لا يريد أن يستوعب توجّهي، ويُصِرّ على تصنيفي ووضعي في خانة معينة، لمجرد أن كتاباتي تختلف مع توجهاته أو أفكاره.

البعض لا يقبل فكرة أني لا أحب جُملة واحدة ولن أكره دُفعة واحدة، ولا يرضى مني بأن أشهد للمُحسن المُخالف بإحسانه، ولا للمُسيء المُتوافق بإساءته.

وكيف لا أفعل، وقد علمني القرآن ذلك المنهاج في النقد والتقويم، عندما تحدث عن اليهود وهم أهل خيانة وغدر، شهد بأن منهم من ليس على هذه الشاكلة:

{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران: 75].

وصدّق الله كلام امرأة كافرة في مقولة صدقٍ أطلقتها، هي ملكة سبأ عندما قالت لحاشيتها: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} [النمل: 34]، فلما كان قولها صدقًا، صدّقه الله فقال: {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}.

ولستُ هنا بصدد كتابة مقالة شرعية عن الانتماء، فلست من أهل العلم، ولكن ليس هناك ما يصنع للإنسان وجهته ويُشكل فكرته وموقفه، أفضل من الاستضاءة بنور الوحي.

فأن أُحبّ في أحد ما جانبًا وأُبغض جانبًا آخر، وأن أمتدح أحدًا ما في شيء، وأنتقده في آخر، فليس هذا بِدعًا من القول.

وأن أزن شخصًا أو كيانًا أو دولة بميزان الحق، ولا أهدر حسناتهم لِما أرى من إساءاتهم، فليس ذلك تملّقًا أو مداهنة أو عمالة.

أنا معك اليوم وقد أكون ضدك غدًا؛ بحسب موقفك من فكرتي. قد أكون معك وضدك في آنٍ واحدٍ، قد أقبل بعيوبك وأتضامن معك لمواجهة من هو أكثر منك شرًا.

فهكذا رتبتُ أولوياتي، وهذا قلمي وما يخُطّ، وهذا عقلكَ وإدراكه؛ فأيهما أعيا الآخر؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق