الاثنين، 25 مايو 2015

الوعي ينزف من ثقوب الذاكرة: هل نعوى ككلاب الصحراء بلا جدوى؟!

الوعي ينزف من ثقوب الذاكرة:
هل نعوى ككلاب الصحراء بلا جدوى؟!



المفكر الإسلامي الدكتور محمد عباس

انتظرى كوسوفا … 
أنت تعانين منذ مائة عام … وازداد عناؤك منذ بضعة أعوام فلن يضيرك الانتظار…
انتظرى كوسوفا … واصبرى وادفعى من دمك و أشلاء أبنائك اليوم الثمن الذى سندفعه نحن غدا …
انتظرى كوسوفا … فلا أحد - ولا حتى أنا- ينتظر أن يكون لحديثى عنك أى فائدة فى الحاضر …
لقد كنت أرنو إلى المستقبل بعين حزينة … ولم أرجُ أو أطمح إلى أن نساعدك يا كوسوفا أو أن ننجدك … فأنا أعلم أننا أضعف بكثير…
لكننى كنت أرجو أن نستبقى لأنفسنا بعض شرف حين ينظر أحفادنا إلى تاريخنا علّهم لا يرون فينا ذلك الموقف النذيل … موقف الشقيق الأكبر الذى يرى إخوته يُقتّلون وشقيقاته يُغتصبن فيتظاهر أمام الناس أنهم ليسوا إخوانه ولا شقيقاته كى لا يتورط فى مساعدتهن وغوثهن ونجدتهن … وحتى لو لم يكونوا لحمه الحى فإن مفهوم الإنسان المجرد المطلق كان قمينا بدفعنا لاتخاذ موقف آخر غير الذى نتخذه الآن …
انتظرى يا كوسوفا أيضا - تحت ستار صمتنا المهين - التهديدات التى لا تتوقف من حلف الناتو بغوث لا يجئ … وقارنى ما يحدث لك بما يحدث للعراق وفلسطين وما يحدث لك … وبمنطق محايد مجرد على موجات النظام العالمى الجديد لا على موجات القرآن ولا الإسلام ولا حتى على موجات القيم المجردة فإن ما فعله الصرب معك هو ما فعله الصهاينة بفلسطين وما فعله العراق بالكويت : الاستيلاء والضم … فانظرى رد الفعل هنا وهناك … إسرائيل تكرم وتعضد والصرب تغمض الأعين عنهم أما فلسطين فقد حنطت قضيتها أما العراق فيسحق ويذبح كل يوم …
قارنى يا كوسوفا واكتشفى تلك الحقيقة المخزية: أن النظام العالمى الجديد مضبوط على أن يكون الضحايا دائما مسلمون … 
انتظرى يا كوسوفا … وسوف أعود إليك فى مقال قادم لأحكى للقراء كيف قامت أكبر صحفنا وأكثرها وقارا بتشويه قضيتك جاهلة أو متجاهلة أنها قضيتنا … سوف أعود لك ياكوسوفا لأعرض كيف فند الأستاذ محمد يوسف عدس أباطيل مراسلى الأهرام … الأهرام التى وصفها العلامة محمود شاكر بأن كل مسلم فى أرجاء العالم يرى القرآن كتابه، ويرى أدب العرب أدبه، ويرى الأهرام صحيفته..!! 
فانتظرى يا كوسوفا إذن فالداهية دهياء والمصائب عمياء ولتستمعى معى إلى مكالمات القراء … إلى ألم وعذاب لا يوصف… 
كان ثمة قارئ من أسيوط يصرخ :
هل قرأت ما كتبته الأهرام اليوم عن تصريحات وزير الدفاع الأمريكى اليهودى كوهين … إن لم تكن قد قرأت فاسمع : " إن ما تقوم به الطائرات الأمريكية مجرد رد فعل دفاعى لما تقوم به العراق (…) إننا نشعر بالقلق أيضا تجاه إيران ونطالبها بنبذ الإرهاب وعدم معارضة عملية السلام فى الشرق الأوسط وعدم السعى للحصول على أسلحة الدمار الشامل …" …
قطع القارئ قراءته بصرخة داوية :
- لم يبصق أحد فى وجه الصهيونى الأمريكى ولم يطرده من بلادنا أحد ولم يقل له أحد أنه وضع كلمة الإرهاب مكان كلمة الإسلام وأنهم لن يرضوا عنا حتى ننبذ الإسلام ونستسلم لإسرائيل ونترك لها فى سعادة وحبور قصب السبق النووى وكل أسلحة الدمار الشامل … لقد عاملوه بالتقديس والاحترام فكأنما أمريكا هى الله وكوهين رسوله … بل إننا لم نشهد أبدا منهم طاعة واستسلاما لله كذلك الذى يحملونه لأمريكا ولا احتراما لرسول الله كذلك الذى أبدوه لكوهين … كأنه ما ينطق عن الهوى وكأنما إنكار رسالته سيفتح علينا أبواب الجحيم … لم يبصق أحد فى وجهه وما طرده أحد … بل إن بقية الصفحة فى نفس الصحيفة كانت تتحدث عن مكافأتنا لكوهين بإبرام صفقة بأسلحة قيمتها أكثر من عشرة مليار جنيه … سوف يرسلون إلينا هذه الأسلحة ليدمروها إذا حاولنا استعمالها للدفاع عن أرضنا كما يفعلون مع العراق …
كان القارئ الآخر يصرخ على الهاتف فى غضب :
- دعنا من الإسلام والعروبة والشرف والشهامة والنخوة … دعنا من كل ذلك وفسر لى موقفنا … لماذا نبدو فى صف الصرب وضد الألبان … أو على الأقل نتجاهل الأمر برمته … لو أن الصرب كانوا متميزين فى أى شئ لالتمست لأولى الأمر عندنا عذرا … لو أنهم كانوا متميزين مثلا فى الصناعة والتصدير إلينا … أو أنهم كانوا سوقا يستورد منا … أو أن خلفيتهم الثقافية تجعلهم بشرا متميزين … كل ذلك غير صحيح … إنهم متخلفون مثلنا لا يصدرون إلينا ولا يستوردون منا … وعلى المستوى الإنسانى يسمونهم هناك خنازير أوروبا … فلماذا إذن هذا الموقف المنحاز منا إليهم على حساب الألبان المسلمين … لا يوجد سوى مبرر واحد … هو أن الألبان مسلمون و أننا ضد الإسلام كمسألة مبدأ …!! 
انتظرى كوسوفا إذن انقشاع ليل أليل …
عندما ناشدت وزير الخارجية على هذه الصفحات – فى مقال سابق - أن يبادر ويستقبل وفدا منك دون أى التزام … لمجرد إكرام الماضى وتوطئة لمستقبل لابد أن يجىء دون أى أمل فى الحاضر… أن يستقبلهم كما تستقبلهم فرنسا واليونان – أعدى أعداء كوسوفا بعد روسيا – فلا يليق بالوضع التاريخى لمصر أن تظل على الهامش كما لا يليق بها أن تتصرف تصرف المتنكر لإخوانه وشقيقاته … عندما ناشدته لم أفعل ذلك أملا فى تأثيره على الوضع فى كوسوفا بل لكى نستبرئ لأنفسنا أمام الله وأمام التاريخ 

كان قارئ آخر يتساءل فى دهشة :
لقد وجهت نداءك إلى وزارة الخارجية بأسلوب مهذب مفعم بالاحترام فهل رد عليك أحد …
أجبت بالنفى فسأل الرجل :
لماذا لم تذكرهم بأن الجيش المصرى تحت حكم المماليك حارب فى الهند وأرمينيا دفاعا عن الإسلام والمسلمين و أن محمد على حارب روسيا نفسها دفاعا عن الدولة الإسلامية …
لماذا لم تذكرهم بأن الظاهر بيبرس هو الذى حرر أرنون من الصليبيين فى 7 مارس عام 1268… أرنون التى حررها ثانية منذ أيام شباب لم يخضعوا لحكمة ولاة أمورنا ولا لثقافة كتلك التى تنشرها صحفنا … شباب لم يستطع أن يخون حين اتبع حكمة قلوب الجماهير وشعارها عن سليمان خاطر : ما تقولوش عليه مجنون … قولوا عليه ما قدرش يخون " …
لم يعطنى القارئ الفرصة لمجرد الرد حين واصل :
وهل رد شيخ الأزهر عن المقالة الدامية المروعة الرهيبة التى بدأت بها هذه السلسلة من المقالات فى الشعب حين ناشدته أن يعلن الجهاد دفاعا عن الإسلام والمسلمين فى كل العالم … ذلك النداء الذى وجهته إليه يوم السابع والعشرين من رمضان بعنوان : " يا شيخ الأزهر : بايعنا على الموت " …. 
أجبت بالنفى فصرخ القارئ : 
- هل نحن كلاب ككلاب الصحراء تعوى بلا جدوى؟؟!!… لماذا يتجاهلون قيم الدين ومشاعر الأمة لماذا ؟!… 
لم أحر إجابة يا كوسوفا فانتظرى …
حين بدأت أنظر لقضيتك يا كوسوفا -وهى جزء من قضيتنا - من خلال التاريخ فإننى لم أفعل ذلك ولا أفعله حبا مجردا فى العلم، ولا رغبة سامية فى الثقافة، ولا حتى لاستلهام العبر من الماضى من أجل الانطلاق للمستقبل…
ذلك كله يمكن أن يكون صحيحا، لكن ليس فى وضع زرى مثل وضعنا، رهيب مثل وضعنا، مجنون مثل وضعنا، بل إن التفكير بمثل هذه الطريقة يشبه أن تقول أنك تنقذ إنسانا من الحريق خيفة أن يحترق شاربه، أومن الغرق خشية أن تبتل ملابسه، أومن العطش كيلا تتغضن ملامحه، لا… أنت تنقذه لأنه مهدد بالتلاشى من الوجود… بالموت…. 
نحن لسنا حتى كسائق السيارة الذى ينبغى أن ينظر أمامه دون أن يغفل النظر فى المرآة – التاريخ – كى لا تدهمه من الخلف كارثة تودى به…. نحن لسنا كذلك السائق…. فنحن كسائق آخر كان يصعد منحدرا وعرا فعجزت آلات سيارته المتهالكة عن الصعود بعد أن أفسدت الأمور كلها رعونة سائق وسلبية ركاب كأنما الأمر كان لا يعنيهم، ثم أخذت تنزلق وتهوى إلى الوراء وقد أفلت جماحها وعَارَتْ كوابحها وتملص مقودها وانملست إطاراتها وتزلقت الأرض من تحتها، على القائد والركاب أن يعكسوا الآية الآن وأن يلتفتوا بأجسادهم كلها لينظروا إلى الوراء … كى يتدبروا أى هاوية رهيبة يهوون إليها …
أجل … الأمم الصحيحة تنظر إلى التاريخ كى تستلهم منه عبر المستقبل … أما نحن فالتاريخ مرآتنا … وما حدث فى الماضى لبعضنا سوف يعم علينا..
التاريخ مرآة مستقبلنا … ونذير الشؤم والخراب والهلاك إن ظللنا على غفلتنا وعمائنا…
لذلك … علينا أن ننظر إلى الخلف لأننا نتقدم إلى الوراء…
بالنظر إلى الوراء ومراجعة التاريخ يا قراء قد تنقشع الغاشية التى تسربل أعيننا ووعينا وعقلنا …. 
بالنظر إلى الوراء قد نفيق من الغيبوبة…
بالنظر إلى الوراء قد نفهم أن مشكلتنا ليست فى تكديس مزيد من السلاح فما لدينا منه والله ليس قليلا …. ولقد كان كفيلا – لو كنا نسير إلى الأمام – بتحقيق هيبتنا أمام العالم … وهزيمة إسرائيل ووقف أمريكا عند حدها … فنحن لم نهزم من قلة… بل نحن كغثاء السيل …. وليست أزمتنا أزمة نقص السلاح …. ولو كنا نعانى نقص السلاح حقا لما كان تحقيق حاجتنا أبدا بشراء السلاح من أمريكا … فسلاحها – سلاح قيصر – لا يحارب لنا عدوا بل يقتلنا نحن … ما من سلاح منهم حارب لنا عدوا أبدا.. أبدا … إما لاستنزاف المال أو لاستعماله ضد بعضنا البعض أو لمجرد الحصول على العمولة …. ولىّ أمرٍ عربى اشترى فى الآونة الأخيرة بثمانية مليارات حصل لنفسه منها على مليار عمولة… سلاحهم لن يحارب معنا بل ضدنا … أما المناورات معهم فليست تدريبا مشتركا معهم بل تدريبا منفردا لهم يكشف لهم المزيد من عوراتنا حتى يحسنوا التصويب حين يبدءون القصف … نحن لا نفتقد السلاح فمن كل أكداس السلاح عندنا لا تحارب إلا الكاتيوشا والبنادق على مساحة 850 كيلومترا من مساحة أراضينا الشاسعة … يحارب بها رجال حزب الله الإسلامى الذى تضن عليه وسائل إعلامنا بذكر اسمه الكامل فلا تذكر اسمه الكامل أبدا … دائما تحذف منه الإسلامى رغم أن وسائل الإعلام الغربية التى ننقل عنها كل شئ تذكر اسمه كاملا… أصبح الإسلام يخيفنا ربما بأكثر مما يخيف أعداءنا … نحن لا نفتقد السلاح ولا المال ولا الأرض ولا الثروة ولا العقول ولا الرجال …
 لا نفتقد أى شئ إلا العقل والكرامة … لا ينقصنا شئ نحاجّ به الله يوم القيامة كى يبرر خيانتنا … مساحة العالم العربى أكثر من 14 مليون كيلومتر مربع مقابل أقل من 21000 كيلومتر مربع لإسرائيل.. نسبتها إلينا أقل من 0، 15% … تعدادنا أكثر من مائتى مليون وتعدادها أقل من خمسة ملايين ( أقل من 2, 0 %)… إنتاجنا المحلى أكثر من 400 بليون دولار وإنتاجها 40 بليون دولار( 10%)، تعداد جيشنا العامل 2810310 وتعداد جيشها 174000 (2, 6 %) والاحتياطى 2264000 لنا و430000 لهم (19%) أما عدد القوات عند التعبئة فهو5074130 و604000 عندهم( 12%) …لدينا 3286 طائرة قتال ولديهم 638( أقل من 20%).. لدينا 539 هليوكبتر قتال ولديهم 77 (5, 14%) لدينا 11 طائرة للتزويد بالوقود فى الجو ولديهم 7( 64%) لدينا 12 طائرة إنذار مبكر ولديهم 4 ( 3, 33%) لدينا 19134 دبابة ولديهم 3860( 20%).. لدينا 26037 مدرعة ولديهم 10300 ( 40%) لدينا من قاصفات الصواريخ 14414 ولديهم 1590(11%) لدينا من الصواريخ م/د وم/ط 9469 ولديهم 250( أقل من 3%) لدينا من الصواريخ أرض -جو12477 ولديهم 930 ( 6%) ومن منصات الصواريخ أرض – أرض 355 ولديهم 12( 3, 4%)… 
هل تريد المزيد أيها القارئ ؟!..
فى القوات البحرية فإن النسبة لدينا أفضل حتى من كل ما سبق …
فهل عرفت أن السلاح لا ينقصنا 
وأن ما ينقصنا هو كثير من العقل وبعض من الكرامة …. وقليل من الوعى … وهى كما ترى جميعها أشياء لا يمكن استيرادها من أمريكا … قد يمكننا استيرادها من التاريخ الذى أسرده عليك …
هل تعلم ما ينقصنا أيضا …؟ 
القادة … 
وهؤلاء قد استوردناهم بالرغم منا فلم يفهموا أبدا أن سلاحا يأتى من هناك لا يمكن أن يحقق أمنا ولا أن يقود إلى انتصار ….
يا إلهى … نحن أقوياء جدا …. لكننا بلا عقل ولا وعى ولا كرامة ولا قادة…
نحن أقوياء للدرجة التى كانت تمكننا من التصدى والردع ورفض تلك المهانة والعار التى تبرر قصف العراق بأنه يهدد الأمن الأمريكى عندما يفتح راداراته لتكشف له عن الطائرات الأمريكية المغيرة عليه … وأقوياء للدرجة التى يمكن أن تمكننا من التهديد والتحذير والضغط بل والحرب من أجلك ياكوسوفا … من أجلك كجزء من قضيتنا الشاملة … من أجلك و من أجل العراق وفلسطين و.. و.. و..
لكننا تحت حكم حكامنا غير مسموح لنا أن نفتح أعيننا …
غير مسموح لنا أن نفتح أعيننا إلا لنبكى كما بكى الأستاذ محمد القدوسى فى قسم السرطان فى مستشفى الأطفال فى بغداد حين كتب بعد عودته يقول : " رأيت طفلة مصابة بسرطان الدم تحدق فى الفراغ، وأمها أمامها تحدق فيها ذاهلة وهى تذوى أمام عينيها، كانا كتمثالين، وبينهما جرت دموعى "… 
كنت أهاتف الأستاذ مجدى حسين نتبادل الألم فإذا به يخبرنى أن محمد القدوسى قد كتب ما حدث بحياء وكبرياء … فما حدث هو أن مشهد الأم وابنتها قد جسدا أمامه أزمة الأمة كلها … العجز المطلق … فالأم واثقة أن ابنتها تموت دون أى قدرة منها على فعل أى شئ … فلا تملك إلا أن تحملق فيها كى تملأ من ملامحها قلبا سوف يفريه الغياب والوحشة عما قليل … والإبنة على درجة من الوعى تجعلها تدرك أنها تموت وقد تقطعت الأسباب ذلك الانقطاع المطلق الشامل المانع الجامع الذى يمنع العقل حتى من أن يفكر فى أن هذا المشهد الفاجع لم يكن له أن يتم هكذا إلا لأن أمريكا تريد ذلك وحكام العرب والمسلمين يريدون ذلك وجموع شعوبنا كأنما مستها الصعقة فهى عاجزة عن أن تغير أو حتى تتغير … كانت الابنة تحملق فى وجه حبيب سيغيبها الموت عن حنانه … وكانت الأم أمة تعانى الجريض … كانت الابنة الأندلس وفلسطين وبغداد وكوسوفا …وكانت الأم نحن … لمس محمد القدوسى الحقيقة عارية كمن يلمس سلكا عاريا تسرى فيه الكهرباء وعاين الموت كمن يدفن فى ظلام القبر وهو حى … لم تكن كما كتب : " وبينهما جرت دموعى " بل أخذ ينتحب حتى أغمى عليه فحمله الرفاق وأفاقوه ….
دموع محمد القدوسى لن تفيد أبدا كعلاج لسرطان الدم ولا لسرطان الـروح ….
لن تطيل عمر الطفلة يوما ولن تخفف من حزن الأم مثقال حبة خـردل…
لكنها كانت فى الوقت نفسه دليلا على إنسانيته و إنسانيتنا … كانت وثيقة اعتذار عجزنا أن نقدمها بالدم فقدمناها بالدموع …
كانت استبراء لديننا وعرضنا ودمنا أمام الله يوم القيامة و أمام أجيال ستأتى بعدنا تتبرأ منا ….
كان القراء أيضا يستبرءون …
قارئ كان يصرخ على الهاتف :
ليست مشكلة العراق أو فلسطين أو كوسوفا … إنها مشكلة الأمة كلها… فى كل قطر من أقطار العالم الإسلامى … ليست مشكلتنا مع أمريكا وبريطانيا و إسرائيل والصرب لكن مشكلتنا مع صبيان زويمر وتلاميذ دنلوب وعسكر كرومر … ولولاهم ما بلغنا الحضيض الذى بلغناه…. 
صمت القارئ قليلا ثم واصل وهو يتفتت:
هل تتصور … أحضرت سارية ارتفاعها ستة أمتار … علقت عليها علم إسرائيل ثم علقتها على بيتى … انتظرت أن تنقلب الدنيا … أن تأتى أجهزة الأمن لتنكل بى … أن تأتى قنوات التليفزيون و مصورو الصحف ليصوروا و أن تأتى الإذاعة لتذيع… لكن لم يحدث شئ … لم يحدث أى شئ … اضطررت بعد شهر أن أنزل العلم لأضعه أمام مكتبى كى يدوسه كل من يزورنى بحذائه…
صمت القارئ قليلا ثم واصل فى تساؤل مفجع :
تصور : ماذا كان سيحدث لى لو أننى علقت علما عليه : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله … 
لم يكن وحده …
كان الحاج صابر على الهاتف من الرهاوى … مواطن بسيط عظيم طيب … لم يكن أبدا أميرا ولا وزيرا ولا رئيس وزراء ولا مفكرا تنشر الصحف تصريحاته أو تهتم بمشاعره … لم ينهش لحم الوطن ولا نهب خيراته مثلهم ولا هو قد تحول كما تحول جل ولاة أمورنا إلى ذئب الإسلام عدوه والأمة فريسته … ظل الإنسان النقى البسيط … راح يهاتفنى فى إعياء عاجز وهو يهمس : أكاد أجن.. أكاد أموت … أصحو فى جوف الليل مذعورا محاصرا بما يحدث لإخوتنا ولأمتنا فى كل مكان من هذا العالم فلا أملك إلا أن أبكى… أصبحت أحاذر قراءة الصحف حتى لا أنذبح مع من يذبحون ولا أحترق مع من يحترقون … وفى الطريق إلى عملى ومنه … فى السيارة … وأنا ذاهب إلى عملى أوعائد منه …. أتذكر ما حدث فى مخبأ العامرية وما يحدث فى كوسوفا والفتاة وأمها فى رسالة محمد القدوسى فأختنق … أصرخ … أطلب من السائق أن يتوقف لأغادر السيارة وأهيم على وجهى …. ثم يصرخ الحاج صابر : لا تكتب بعد الآن لأننى لن أقرأ بعد الآن … انتهى كل شئ ولم يبق لنا ثمة أمل إلا أن نموت… فتوقف عن الكتابة …
قارئ لم يذكر اسمه يخاطبنى من العريش … يتدفق الألم والعذاب … ينفجر الألم والعذاب … يقصفنى الألم والعذاب … يسائلنى فى غضب : لا أعرف إن كنت مخطئا أو مصيبا فى تكريس كل مقالاتك عن التاريخ أو العراق أو فلسطين أو كوسوفا … لكننى أقول لك أن الأمور فى أى بلد من بلادنا لا تقل خطورة … يصرخ الرجل : أنا أحب مصر والعرب والمسلمين … بل إن كلمة أحب لا تكفى … فليس فى قلبى سواهم… ثم أننى ممن تطلقون عليهم الإرهابيين … كل من يقاوم الشر والهلاك المحدق لديكم إرهابى … على مستوى الأفراد وعلى مستوى الجماعات وعلى مستوى الدول … خذها منى أنا المسلم العربى المصرى الذى ينسحق قلبه وتتفتت روحه من أجل الإسلام ومن أجل العرب ومن أجل مصر… خذها منى أنا الذى عانيت وطأة الاحتلال الإسرائيلى عشرين عاما … خذها منى… لولا أنهم يهود وصهاينة وأعداء … ولولا خوف الله لفضلت أن يحكمونا … لقد جربت السجن عندنا وعندهم … جربت مداهمة شرطتهم وشرطتنا … لم تنتهك شرطتهم حرماتنا ولم تحطم أثاث بيوتنا ولا هى حطمت كبرياءنا بإذلالنا وضربنا أمام أهلنا ولا هم روعوا الأطفال ولا انتهكوا أعراض النساء… لم يفعلوا ذلك ولكن شرطتنا فعلت … لقد عذبت هناك وعذبت فى بلادنا … هل تريد أن أقارن … ؟!
لم أحتمل … صرخت من الألم ….. ليست شرطتنا بل شرطة زويمر… 
صرخت من الألم …إن ما ذكرته بروتوكولات حكماء صهيون يتحقق بكل هذه السرعة والبراعة والإتقان في الشر، إن هذه البروتوكولات تعلن صراحة عن هدفها النهائى، وهو أن تدفع كل الشعوب إلى اليأس من حكامها وحكوماتها كى تلجأ إلى اليهود مطالبة بحكومة عالمية واحدة، يقول البروتوكول العاشر: " إن حكمنا سيبدأ في اللحظة التي يصرخ فيها الناس الذين مزقتهم الخلافات وتعذبوا تحت إفلاس حكامهم - وهذا ما سيكون مدبرا على أيدينا - فيصرخون هاتفين : اخلعوهم وأعطونا حكما يستطع أن يمنحنا السلام والراحة، لكن لكي يصرخ الجمهور بمثل هذا الرجاء لابد أن يستمر في كل البلاد اضطراب العلاقات القائمة بين الشعوب والحكام، اضطراب يستثمر العداوات والحروب والكراهية والموت استشهادا أيضا، هذا مع الجوع والفقر، وسيستمر كل ذلك إلى الحد الذي لا ترى شعوبهم الأمل في أي مخرج من المتاعب غير أن يلجئوا إلى الاحتماء بأموالنا وسلطتنا الكاملة ….
عندما أعدت قراءة بروتوكولات حكماء صهيون أصابني الذهول الذي ما برح يصيبني كلما قرأتها - رغم أنني أقرأها الآن مرات في العام الواحد-، أصابني الذهول، تقول البروتوكولات: " لن نسمح للصحافة بأن تصف الحوادث الإجرامية، إذ سيكون من اللازم أن يعتقد الشعب أن المنهج الجديد مقنع وناجح إلى حد أن الإجرام قد زال، وكون المؤلفين مسئولين أمام القانون سيضعهم في أيدينا، ولن يجد أحد يرغب مهاجمتنا بقلمه ناشرا ينشر له، وما من أحد سيكون قادرا دون عقاب على المساس بكرامة عصمتنا السياسية، وسنكون سادة الأرض ولن نبيح قيام أي دين غير ديننا، إنهم جاهلون ولا يستطيعون ولو رؤية النتائج العاجلة لما هم فاعلون، إنهم عموما لا يفكرون إلا في المنافع الوقتية العاجلة، ولا يفطنون إلى أن الفكرة الأصلية لم تكن فكرتهم، بل كنا نحن أنفسنا الذين أوحينا بها إليهم، إنكم لا تتصورون كيف يمكن دفع أمهرهم إلى حالة مضحكة من السذاجة والغفلة بإثارة غروره وإعجابه بنفسه، وكيف يسهل من ناحية أخرى أن نثبط عزيمته وشجاعته بأهون خيبة، وبذلك ندفعه إلي حالة خضوع ذليل ذل العبد.." 
هل قرأت يا أهرام …؟!
هل قرأتم يا ولاة أمورنا ؟!
فإن كنتم قد قرأتم …
وإن كنتم حين قرأتم قد فهمتم …
وإذا كنتم وزراءنا وحكامنا وصحفنا ولستم وكلاءهم …
فلماذا لا تسمعون وجيب قلوبنا.؟‍
لماذا تتركون الأمة تعوى ككلاب الصحراء بلا جدوى …؟!


مقالات الدكتور محمد عباس

الوعي ينزف من ثقوب الذاكرة

الوعي ينزف من ثقوب الذاكرة: هوًى غربىٌّ ؟..أم استكبار غبىٌّ ؟!..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق