معركة لم نطلبها ولم نخترها
ا.محمد إلهامي
باحث في التاريخ والحضارة الإسلامية
يشبه الأمر كثيرا غزوة بدر من هذه الجهة، خرج المسلمون يريدون العير فأفلت العير منهم، ليس هذا فحسب، بل وجدوا أنفسهم أمام الجيش.. وبعد أن انتهت المعركة أنزل الله عليهم قرآنا يخبرهم أن الخير كان في ملاقاة الجيش لا في أخذ العير، فبذلك كان إحقاق الحق وإبطال الباطل.. وأخبرهم الله تعالى بأنه لو كان لهم الاختيار لما اختاروا المواجهة، ولكن الله أعلم بما ينفعهم ويُصلحهم فاختار لهم ما هو خير لهم.
إذا راجعنا تاريخ الثورة وجدنا أن الإسلاميين فعلوا كل ما بوسعهم لكي يحصلوا منها على مجرد حرية الوجود، لم يتمنوا سلطة ولم يفكروا في المنافسة عليها، وظلموا أنفسهم فوافقوا على أن هذه الثورة ليست إسلامية (بينما لم ينجح اعتصام التحرير ولم يفشل اقتحامه إلا بالإسلاميين، ومن كانوا يبيتون في الميدان وحدهم يعلمون أن الإسلاميين لو انسحبوا من الميادين لانتهى الأمر) وأنهم مجرد جزء منها كغيره من المكونات، ثم تركوا العلمانيين يتحدثون باسم الثورة كي لا يظهر حقيقتها الإسلامية، وأعلنوا من قبل سقوط مبارك أنهم لن ينافسوا على أغلبية البرلمان ولن يترشحوا للرئاسة.
إلا أن فجور العلمانيين وفجور النظام العسكري دفعهم دفعا للمواجهة، لقد أصرَّ العلمانيون على أن يكون الانتخاب بنظام القوائم بغرض تحجيم الإسلاميين، فاضطر الإسلاميون للنزول في قوائم تملأ المجلس ففازوا بالأغلبية الساحقة، وكان أكثر المنتفعين من نظام القوائم: السلفيون لا العلمانيون (وهذا برغم أن الإخوان حاولوا صياغة قوائم مع العلمانيين نجح فيها العلمانيون المتحالفون معهم).
ثم أصرَّ العسكر ألا يكون للبرلمان أي صلاحيات لا في تشكيل الحكومة ولا حتى في سحب الثقة منها وصارحوهم بأن الوزارات السيادية العشرة سيشكلها العسكر وبإمكانهم أن “يلعبوا” في باقي الوزارات، ودفعوا برجالهم: عمر سليمان وأحمد شفيق وعمرو موسى لانتخابات الرئاسة، مما جعل الخيار الحقيقي أمام الإخوان: القصر أو القبر، فاختاروا القصر وترشحوا للرئاسة، وآلت الأمور إلى فوز مرسي.
في الخارج اختار البيت الأبيض والخارجية الأمريكية (خلافا لوزراة الدفاع وتيار الكونجرس) أن يسمحوا بفوز الإسلاميين بغرض تدجينهم أو إفشالهم، وانتصر رأيهم، وسُمِح بفوز مرسي فلم يحدث الانقلاب على النمط الجزائري، ثم بدا للجميع أن استمرار مرسي يعني تغيرا في المشهد الإقليمي، ثم لم يستطيعوا الضغط على مرسي الذي اتضح أنه ليس كالغنوشي فكان الحل في انقلاب عسكري واضح وصريح.
وكان من آثار عملية الخداع الكبير التي تعرض لها قادة الإخوان من قبل السيسي أن أنزلوا شبابهم وجمهورهم إلى الشوارع قبل موعد الانقلاب بأكثر من عشرة أيام، في اعتصام رابعة، وبهذا الاعتصام الجماهيري أفلت قرار الانسحاب من يد القيادات لأن الجماهير الغاضبة لم تكن لتقبل ذلك. صحيح أن وجود القيادات المخدوعة شلَّ حركة الجماهير عن تغيير المعادلة لكن وجود الجماهير أيضا شلَّ قدرة القيادات على اتخاذ قرار الاستسلام.
وهكذا، وصل الإسلاميون في مصر إلى الرئاسة وإلى الحكومة ثم إلى مقاومة الانقلاب وهم مُجْبَرون مدفوعون بغير رغبتهم، صاروا أغلبية البرلمان من بعد أن أرادوا مجرد وجود آمن، وصاروا في الرئاسة من بعد ما فلسفوا للرئيس التوافقي وانتفاء إمكانية الرئيس الإسلامي، ثم صاروا في مواجهة الانقلاب العسكري بعد أن أغلق الانقلاب عليهم كل سبيل ورفض كل حل وسط وأسرف في الدماء والتعذيب والقتل فَسَدَّ على الجميع طرق الرجوع، فلم يعد من خيار إلا: الاستسلام التام أو الموت الزؤام!
إن الناظر من بعيد يرى أن الانقسام الحاصل في جماعة الإخوان لم يحدث بشكل حقيقي إلا بعد أن ظهرت أنياب المجموعات الثورية في 25 يناير 2015، وهي الأنياب التي لو كانت قد ظهرت في يوم الانقلاب لسقط بعد أيام، وهي الأنياب التي أعادت الملف المصري إلى حديث الساسة في الاتحاد الأوروبي وأمريكا، وانتبهوا حينها إلى “طرفيْن” يطالبونهما بضبط النفس، وهدَّد محمد إبراهيم –وزير الداخلية حينها- بتصفية المعتقلين في السجون إن لم تنتهِ هذه الموجة، وغير ذلك كثير تناقلته أروقة الساسة واتصالاتهم.
ساعتئذ خرجت قيادات من كهوفها التي دخلتها منذ يوم فض الاعتصام لتثير الإرباك في الصف من جديد، ويبدو أن الارتباك أحدث ثمراته فمرَّت ذكرى الانقلاب وذكرى الفض بغير شيء يُذْكَر، مع تعامل أمني عنيف استهدف تصفية كل من توصل إلى علاقة له بعمليات المقاومة.
المعضلة التي تثير الأزمة أن قيادات السلمية لا يستطيعون الحصول على شيء، أفضل وألين لهجات معسكر الانقلاب هي الاستسلام التام أولا ثم النظر في ملف المعتقلين والأحكام الصادرة عليهم مع نسيان العودة إلى الحياة السياسية.. وإذا كان هذا هو أحسن ما يُخاطَبون به فلك أن تتصور كيف هي لهجة باقي الرسائل! هذا وكل ما يصل من رسائل يأتي من مستويات دنيا ووسيطة لا تُلزم صانعي السياسة بأي شيء!
وهكذا صارت الثورة –عمليا- إسلامية خالصة، بعدما فشلت كل محاولات إلباس إسلامية الثورة قناعات التوافق وهوية اللاهوية، فجوهر الثورة منذ البداية إسلامي، وكل إفرازاتها الشعبية إسلامية (برلمان، رئيس) ثم لم يبق يدافع عنها في الشوارع إلا إسلاميون.. ولم يكن فيها من مؤدلجين بغير الإسلامية إلا عدد ضئيل لا يؤثر في شيء مهما تضخم تليفزيونيا!
والآن لم يترك النظام العسكري للإسلاميين من خيار إلا المقاومة، وصارت الحركة الإسلامية في مصر، ربما لأول مرة في تاريخها، مفروضٌ عليها معركة لا تملك إزاءها إلا إعلان الاستسلام والفشل أو اختيار المواجهة في بيئة شديدة الصعوبة محليا وإقليميا ودوليا.
تتمثل الصعوبات في الضربة الأمنية القاسية التي تلقتها الحركة الإسلامية وفصيلها الأكبر “الإخوان المسلمون” الذين كانوا يتعاملون طوال عصر مبارك على أنهم حزب علني لا جماعة سرية، فكانوا على الحقيقة جماعة مكشوفة للجهاز الأمني مما سهل عليه تنفيذ هذه الضربة الواسعة الكبيرة.
ثم ميزان القوى المنهار لصالح النظام، ثم هذا النظام مدعوم إقليميا ودوليا، وجهازه الأمني يتحرك بإشراف ومساعدة إقليمية ودولية. ثم عشرات الآلاف من المعتقلين الذين هم أسرى بيد النظام وورقة دائمة يلوح بتصفيتهم في كل حين.
ثم شبح التجارب السابقة الفاشلة في مواجهة الأنظمة، وأبرزها تجارب مصر والجزائر وسوريا. ثم الصعوبة والتركيبة النفسية لجماعة عاشت أمدا طويلا على الحركة الدعوية السلمية الملتزمة بخطوط النظام والمتجنبة للمواجهة، وحتى من تخلصوا من هذا العبء النفسي سيبدأون من الصفر بخبرات وإمكانيات محدودة في مواجهة نظام متغول عريق في التعامل مع الإسلاميين فضلا عما يتلقاه من دعم إقليمي ودولي.
لكن هذه البيئة تحفل كذلك بالفرص، فالساحة الإقليمية مشتعلة ومتأزمة في أكثر من منطقة: فلسطين وليبيا وسوريا والعراق واليمن ولبنان وأفغانستان، وبوادر تتحرك في الجزائر، ويلقي هذا كله بتأثيراته على السعودية والخليج والمغرب وتركيا وإيران وإسرائيل وباكستان.. ومثل هذه البيئة السائلة المتعددة الأطراف والاتجاهات والمتضاربة المصالح والمتشابكة الأهداف هي بيئة مثالية للطرف المغلوب المقهور ليكون فيها رقما في المعادلة.. فالاستسلام هو حكم على النفس بالفناء، بينما المقاومة هي ثمن الوجود بل وهي الضمانة الوحيدة للبقاء، فكيف والطرف المقهور يعاني أصلا لمجرد البقاء؟! إنه لا طريق آخر ولا خيار على الحقيقة.
ثم إن شبح التجارب الفاشلة يظل شبحا لمن لا يريد أن يعمل، فليس من عملٍ في الدنيا إلا وهو مظنَّة النجاح أو الفشل، وقد قال الشاعر:
ومن يتهيب صعود الجبال ..
يعش أبد الدهر بين الحُفَر
وقد بذلت الحركة الإسلامية كافة الطرق لكي تتجنب المواجهة ففشلت أيضا، وهي الآن في معركة بقاء، لذا فإن التجارب الفاشلة يمكن أن تكون شبحا ويمكن أيضا أن تكون رصيدا وخبرة متراكمة، فهي تحتاج إلى دراسة تستفيد من مواطن الخلل.
ثم لا ننسى معها التجارب الناجحة التي تحتاج كذلك إلى دراسة تستفيد من عوامل النجاح.
كذلك فإن تواصل المسلمين عبر الانترنت وانتقال المعلومات بينهم بلا حواجز هو فرصة كانت مفقودة في كل التجارب السابقة، وهي فرصة ثمينة يمكنها أن تغير كل المعادلة، لا يتصور المرء مدى ما يفعله التقاء مهندسين أو كيميائيين أو عسكريين سابقين أو غير ذلك من المواهب فيستطيعون إنتاج أفكار ووسائل إبداعية في المقاومة لم يكن ممكنا أن يحدث مثلها في التجارب السابقة.
ثم إن الزمن في هذه اللحظة هو في صالح الضعفاء، إن الأمة اليوم تعيش واحدة من أمجد لحظاتها في مدافعة الاستبداد (الذي هو قناع الاحتلال)، وإن تفويت هذه اللحظة لا يعني سوى مزيد من رسوخ هذه الأنظمة ورسوخ الاحتلال ثم هو يعني مزيدا من كلفة التحرر منها في اللحظة القادمة التي لن تأتي قبل أربعين سنة على الأقل، فالجيل الواحد لا يقوم بثورتين، وزمن الجيل هو أربعون سنة كما قرر القرآن الكريم في حديثه عن بني إسرائيل..
مع ما في هذه الأربعين من رسوخ الكفر والإلحاد والإباحية والانحلال والفساد بفعل سطوة ثقافة الغالب وعلو رموز الباطل.. وسيسقط فيها من الأرواح أضعاف أضعاف ما يسقط في لحظة الثورة بل وفي لحظة الحروب.
إن لحركات المقاومة والتحرر رصيد كبير من الكتابات والتجارب التي تحتاج النظر فيها ودراستها بعناية للتأسيس لمقاومة حقيقية ضد الهيمنة الغربية، فلسنا نبدأ من الصفر، ولنا في تاريخنا من دروس الثورات ما يثبت لنا أن المقاومة هي الوسيلة الوحيدة لإفشالهم، وواهمٌ من يحسب أن التحرر يكون سهلا ميسورا.
وينبغي أن نعلم أن تكاليف الصراعات الحضارية كبيرة، وانظر كم فقد الغرب من أرواح ليحقق نهضته، ثم كم فقد من أرواح ليحتل بلادنا ويسيطر عليها، حتى اليهود الذين هم أحرص الناس على حياة بذلوا الدماء الغزيرة في كل الساحات والأموال الغزيرة على كل الموائد لتقوم دولتهم على جثثنا.
ولئن قامت الحركة الإسلامية بدراسة إمكانياتها والتجارب السابقة ثم انتهت إلى العجز عن المواجهة في هذه اللحظة فلا بأس بذلك، لا بأس أن يعلن الإخوان حل جماعتهم في مصر، ويعلن باقي الإسلاميين هدنة طويلة.. إذ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، شريطة أن تكون هذه اللحظة هي لحظة “الإعداد”، فكما قال الفقهاء: لئن سقط واجب الجهاد فليس يسقط واجب الإعداد. (وللإعداد سنن أيضا) وحينئذ فلتوجه هذه الطاقات التي لا تستطيع شيئا في مصر لتكون في ساحة أخرى من ساحات الأمة. إنما البأس كل البأس في تزييف الوعي وخداع النفس.
لكن ينبغي أن يُعلم حينئذ أن الاستسلام لن يُخرج المعتقلين ولن يمنع الإعدامات ولن يغير من الحرب على الإسلام في مصر، فالحرب قائمة لا لإخراج الإسلاميين من ساحة السياسة بل لإخراج المسلمين من دينهم (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا، ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون).. وإنما ساعتها سنراهن على “تفكير العدو وأخلاقه” ونتمنى أن يكون معنا أحسن عقلا وأرفق سياسة وأفضل أخلاقا فيعفو عن الإعدامات ويفرج عن المساجين ويسمح لنا بالحياة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق